الأحد، 4 سبتمبر 2022

ج1.وج2.[ أبجد العلوم - القنوجي ]

 

1.

ج1.[ أبجد العلوم - القنوجي ]
الكتاب : أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم
المؤلف : صديق بن حسن القنوجي

المجلد الأول : الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم

(1/1)


[ مقدمة المؤلف ]

(1/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل العلم سلما إلى معارج المعلوم . والمعلوم فضلا مسلما عند عصابة المنطوق والمفهوم وسرح أبصار البصائر في رياض الفنون والمعارف رياض زهت فيها أزهار المعاني والبيان فتفتحت بنسائمها أنوار الفضل التالد والطارف . فاجتنت منها أيدي المنى فواكه القلوب وأقوات الأرواح واقتطفت منها جني الحقائق والدقائق من بين أقاحي الصباح فهو قوت الفؤاد ومراح الأشباح وروح جثمان الكمال وحادي النفوس إلى بلاد الأفراح . به فضل الذوق الروحاني على الماق الجسماني فضلا لا يعرفه إلا من تضلع منه أو ذاق ولا يدرك كنهه إلا من غاص في قعر بحاره وسبح في ثبج أنهاره ثم برع وفاق
والصلاة والسلام على سيد العلماء سند الفضلاء تاج الكملاء محمد النبي المصطفى أحمد الأمي المجتبى المؤيد من السماء الموحى إليه بالقرآن الذي فيه هدى وشفاء . الذي أكمل الله تعالى به علوم الأوائل والأواخر وخصه من بين خلقه بمزايا المعارف وخبايا المفاخر . فيا له من نبي رفيع القدر ما ترقى رقيه الأنبياء ورفيع كريم الذكر ما طاولته السماء . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وحزبه المتأدبين بآدابه الذين تفتحت لهم كمائم المنقول والمعقول . وتحلت بعقود علومهم أجياد الفحول حتى اشتفت نفوس الإسلام والمسلمين من داء الأعداء وزال كلب الكفر ومرض الإشراك بما أريق من دمائهم تحت أديم السماء على وجه الغبراء . فهم مخازن الفضائل والعوائد ومعادن الفواضل والفوائد ومجامع المكارم والمحامد ومناحي المعارف والمقاصد
لا زالت سحب الرحمة هاطلة على مراقدهم وتحايا الرضوان نازلة على معاهدهم . ما طلعت شموس العلوم من أفلاك الدواوين والدفاتر وسطعت نجوم الفنون من مشارق الأقلام والمحابر

(1/1)


وبعد : فهذا بث لما وقر في صدري من أحوال العلوم العالية وتراجم الفنون الفاخرة وأثر بعد عين في تحصيل ما نيطت به سعادة الدنيا والآخرة وردت من بحارها الطامية ماء عذبا فراتا حاليا وكرعت من أنهارها الصافية ما كان عن القذى طاهرا وعن الأكدار خاليا . حررته إحرازا لما تشتت من أحوال العلوم وتراجم أسمائها وسماتها وجمعته إفرازا للفنون مع بيان مباديها وأغراضها وغاياتها . مستمدا في ذلك من كتب الأئمة السادة وصحف الكبراء القادة بعد أن عرفت مجاريها وتعلمت الرمي من القوس وقد كنت باريها . لأني لما وقفت على كتاب ( عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر ) لقاضي القضاة مؤيد الدين أبي زيد عبد الرحمن ابن خلدون الأندلسي وجدت مؤلفه رحمه الله تعالى قد عقد في الكتاب الأول منه فصلا سادسا في العلوم وأنواعها وسائر طرقها وأنحائها وما يعرض في ( 1 / 5 ) ذلك كله من الأحوال

(1/1)


ثم رأيت خواجه خليفة زاده ملا كاتب الجلبي لخص منه تلك العلوم وأحوالها في مقدمة كتابه ( كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ) وأضاف إليه أشياء من ( مفتاح السعادة ) لأبي الخير
ثم اطلعت على كتاب ( مدينة العلوم ) للأرنيقي تلميذ قاضي زاده موسى بن محمود الرومي شارح ( جغميني ) وفيه بيان أنواع العلوم وتراجم بعض علماء الفنون
ثم عثرت على كتاب ( كشاف اصطلاحات الفنون ) للشيخ الفاضل محمد علي بن علي التهانوي الهندي وقد ذكر فيه أنواعا من العلوم المتداولة وطرقا من الفنون المتناولة
ورأيت المترفين قد عجزت هممهم عن معرفة هذه العلوم والفنون ووجدت العلماء قد قنعوا بالطل من الوابل الهتون فكل واحدة من هاتين القبيلتين في غنى عن جباتها وقصور عن بلوغ غايتها إلا ما شاء الله تعالى من شواذ القبائل وأفراد الإنسان

(1/5)


موضوع الكتاب الأول تاريخ أحوال العالم . وموضوع الكتاب الثاني جمع أسامي الكتب التي صفنها بنو آدم . فالأول ليس فيه ما خلا ذكر تلك العلوم في فصول خاصة إلا أحوال العمران وأمم الإنسان ( 1 / 6 ) ووقائع الدهور والأزمان . والثاني ليس فيه ما عدا تراجم تلك العلوم والخطب إلا الكشف عن أسامي الكتب . والثالث مقتصر على ذكر أنواع العلوم وتراجم المصنفين فيها . والرابع مختص بذكر اصطلاحاتها المتداولة في كتب الفنون
فأردت أن أفرد منها أحوال العلوم وتراجم الفنون في تأليف مختصر تقريبا للبعيد وتحصيلا للتجريد مضيفا إليه ما حصل الوقوف عليه في أثناء ملاحظة الكتب الشاذة وعطفها واجتناء ثمار الفوائد من الصحف الفاذة وقطفها . ليكون هذا السفر التام المقصود وكوكب المراد الطالع من أفق السعود سهل الحصول لمن رام الوصول إليه ويسير النتاج لمن أراد الحصول منه والتعويل عليه لأنه دراسات عديدة في كراريس محدودة وفراسات سديدة في قراطيس مشهودة تحلت بعون الله وحسن توفيقه بكل زين ورتبت على قسمين :
الأول : في بيان أحوال العلوم
والثاني : في تراجمها المنطوق منها والمفهوم
وكل قسم من هذين القسمين اشتمل على مقدمة وخاتمة وأبواب على أكمل وضع وأجمل أسلوب تسوق ناظريها من طلبة العلوم إلى أعز مقصود وأعز مطلوب

(1/5)


وأنت تعلم إن كنت ممن طالع الكتب المشار إليها واطلع عليها أن بعد هذا التجريد مما فيها لم يبق من المقاصد العلمية إلا القليل من تراجم ( 1 / 7 ) الكتب وأهليها
لكن الذي أهمني أني رأيت أبناء هذا الزمان لا تتوجه طبائعهم إلى إدراك العلوم ومبانيها واقتباس فوائد الفنون ولو بفهم بعض معانيها . فضلا عن أن يحيطوا بجميع المقاصد والغايات ويبلغوا من معرفتها وضبطها إلى النهايات . إلا واحدا من الألوف المؤلفة وفردا من الأحزاب المتحزبة ممن لهم همة شامخة وروية دارية في كسب المعارف والعلوم . أو دولة باذخة وقدرة سارية في جمع المقسوم . فإنه قد يرفع الرأس إلى معرفة العلم بدء وغاية وينحو إلى استعلام أمر الأول والنهاية
وكل الخلق وجلهم مغمورون في اللذات العاجلة الخاطئة الكاذبة الفانية . ويؤثرونها ولو كان بهم خصاصة على النعم الآجلة الدائمة الباقية . إلا من عصمه الله تعالى . فكأن الناس كلهم قد صاروا أجناسا بلا فصول أو إناثا بلا فحول . مع أن الإنسان إنما تميز عن الحيوان بالنطق والعلم والعرفان . ولو لم يكن العلم في البشر لكان هو وجميع الحيوانات سواسية في كل شان . فإنا لله على ذهاب العلم وأهليه وفشو الجهل وعلو ذويه

(1/6)


وبالجملة : فهذا المؤلف الذي جمع أحوال العلوم وتراجمها في كن واحد وأوعى أشتات الفنون في وعاء صامد . قد تجلى نوره في آخر الزمان من عمر الدنيا حين ولى شبابها ولم يبق من بحار حياتها إلا سرابها وتوالت فيها الآفات والفتن وعمت بأهلها البلوى والمحن . ولذلك كان أثرا بعد عين أو حديثا من خفي حنين
ومع ذلك قد جاء بحمد الله تعالى في بابه بديع المثال منيع المنال مبدئ العجب العجاب . إذا سئل أعطى وإذا دعي أجاب كأنه سماء علوم شرفت كواكبها عجائبها وأرض فنون أمطرت بالغرائب سحائبها ( 1 / 8 ) شامة في وجنات النكات تميمة في أجياد الفحول الأثبات جنة أشجارها مورقة حديقة أزهارها مونقة أكلها دائم وظلها قائم نعيمها مقيم ومزاجها من تسنيم . سفينة نجاة يعبر بها الأبرار بحارا بعيدة الأغوار وفلك مشحون يسيح العابرون في قاموسه المحيط التيار وحسبك به مطية يصل بها الراكب إلى رياض الجنان ويشرب هنالك الشارب من حياض العرفان . جمعته لتفنن خواطر الولدين الكريمين السعيدين وتمرن ضمائر الابنين الشريفين الحميدين : السيد نور الحسن الطيب والسيد على حسن الطاهر بارك الله لهم وفيهم وعليهم في الدنيا والدين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين وسلك بهم مسلك السلف الصالحين خصوصا ولمن عداهم من أهل العلم والفضل عموما

(1/7)


وسميت القسم الأول من هذا الكتاب : ( ( الوشي المرقوم ) ) . والقسم الآخر ( ( السحاب المركوم ) ) والكتاب نفسه ( ( أبجد العلوم ) )

(1/8)


وكان وضعه وجمعه في بلدة بهوبال المحمية في سنة تسعين ومائتين وألف الهجرية وطبعة وينعه في سنة خمس وتسعين ومائتين وألف القدسية في المطبعة المنسوبة إلى ذات المحامد السنية والمكارم العلية من أخجلت بجودها السحاب فصب عرقا وأرعدت بسياستها الرعد فارتعد فرقا لاح نور رأفتها من سواد بلاد مالوة الدكن كما لاح نور الباصرة من سواد البصر . فوصل كذلك إلى القريب والبعيد من أهل الوبر والمدر . من نزل بأعتابها نسي الأوطان والأصحاب ومن لاذ ببابها أتاه المطالب من كل باب
قد جمعت بين الصورة الملكية والسيرة الملكية وقرنت بين الحكمة الأيمانية والحكومة اليمانية . وهنا أنشدت مخاطبا للصبا والشمال على ما هو دأب أرباب الوجد والحال : ( 1 / 9 )
وصلت حمى بهوبال يا نفس فانزلي ... فقد نلت مأمول الفوائد المعول
ويا حبذا ساحاتها نلت إنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
تذكرت عهدا بالحمى وبمن به ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وما هو إلا حضرة العزة التي ... تخاطب تاج الهند عند الأماثل
معاذة أهل الفضل من كل حادث ... ملاذة أعيان العلاة الأفاضل
مغيثة أرباب الفواضل والحجى ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
هي البحر جودا فيضها شمل الورى ... وقد نال من معروفها كل سائل
هي الشمس إفضالا يعم نوالها ... جميع الرعايا من صنوف القبائل
أفادت كرامات بهمتها التي ... لها ليس مثلا عند كل مماثل
أفاضت فيوضا أخجلت جود حاتم ... أسالت إلينا هاطلا بعد هاطل ( 1 / 10 )
قفوا أخبرونا من يقوم مقامه ... ومن ذا يرد الآن لهفة سائل
قفوا أخبرونا هل لها من مشابه ... قفوا أخبرونا هل لها من مشاكل
فما هي إلا رحمة مستطابة ... تعم البرايا من غني وعائل
أدام لها رب البرايا مكارما ... تقصر عنها لك حاف وناعل
وزاد لها الإقبال إقبال عزة ... وكان لها عونا لدى كل نازل
أعني بها ملكية العالم أهل بيتي نواب شاهجان بيكم طابت أيامها ولياليها ونامت عيون الدواهي عن معاليها

(1/8)


هذا والله أسأل أن يصعد هذا الكتاب ذروة القبول ويجعله خالصا لذاته الكريمة وينفع به أهل العلم ومن أخلفه من السادة الفحول ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول
وحين بلغ القول مني إلى هذا المبلغ أخذت في سرد مقاصد الكتاب أبوابا ورفعت عن وجوه عرائس العلوم وتراجمها حجابا وأبديت فيه عللا وأسبابا ونزعت عن محيا فنونه جلبابا وسلكت فيه مسلكا غريبا واخترت من بين المناحي منهجا عجيبا
وبالله الاستعانة ومنه التوفيق في كل ما أحرر وأقول وعليه التعويل وله الحمد على كل حال وهو خير مسئول ومأمول : ( 1 / 11 )

(1/10)


القسم الأول
من كتاب أبجد العلوم في أحوالها المسمى بالوشي المرقوم
المقدمة : في بيان ما يطلق عليه اسم العلم ونسبته ومحله وبقائه وعلم الله تعالى
العلم بالكسر وسكون اللام : في عرف العلماء يطلق على معان منها الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا يقينيا أو غير يقيني وإليه ذهب الحكماء
ومنها التصديق مطلقا يقينيا كان أو غيره . قال السيد السند في ( حواشي العضدي ) : ( ( لفظ العلم يطلق على المقسم وهو مطلق الإدراك وعلى قسم منه وهو التصديق . إما بالاشتراك بأن يوضع بإزائه أيضا وإما بغلبة استعماله فيه لكونه مقصودا في الأكثر وإنما يقصد التصور لأجله
ومنها التصديق اليقيني في الخيالي . العلم عند المتكلمين ( 1 / 12 ) لا معنى له سوى اليقين وفي ( الأطول ) في باب التشبيه : العلم بمعنى اليقين في اللغة لأنه من باب أفعال القلوب ) ) انتهى
ومنها ما يتناول اليقين والتصور مطلقا في ( شرح التجريد ) :
( ( العلم يطلق تارة يراد به الصورة الحاصلة في الذهن ويطلق تارة ويراد به اليقين فقط . ويطلق تارة ويراد به ما يتناول اليقين والتصور مطلقا ) ) انتهى

(1/11)


قيل : هذا هو مذهب المتكلمين
ومنها التعقل
ومنها التوهم والتخيل . في ( تهذيب الكلام ) : ( ( أنواع الإدراك إحساس وتخيل وتوهم وتعقل والعلم قد يقال لمطلق الإدراك وللثلاثة الأخيرة وللأخير وللتصديق الجازم المطابق الثابت
ومنها : إدراك الكلي مفهوما أو حكما
ومنها : إدراك المركب تصورا كان أو تصديقا
ومنها : إدراك المسائل عن دليل
ومنها : نفس المسائل المبرهنة
ومنها : الملكة الحاصلة من إدراك تلك المسائل وبعضهم لم يشترط كون المسائل مبرهنة ) )
وقال : ( ( العلم يطلق على إدراك المسائل وعلى نفسها ( 1 / 13 ) وعلى الملكة الحاصلة منها . والعلوم المدونة تطلق أيضا على هذه المعاني الثلاثة الأخيرة
ومنها : ملكة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن فيها ويقال لها الصناعة أيضا ) ) كذا في ( المطول ) . في بحث التشبيه
ورده السيد السند ( ( بأن الملكة المذكورة المسماة بالصناعة إنما هي في العلوم العملية أي : المتعلقة بكيفية العمل كالطب والمنطق وتخصيص العلم بإزائها غير محقق كيف وقد يذكر العلم في مقابلة الصناعة . نعم إطلاقه على ملكة الإدراك بحيث يتناول العلوم النظرية والعملية غير بعيد مناسب للعرف ) ) انتهى

(1/12)


قال المتكلمون : لا بد في العلم من إضافة ونسبة مخصوصة بين العالم والمعلوم بها . ويكون العالم عالما بذلك المعلوم والمعلوم معلوما لذلك العالم . وهذه الإضافة هي المسماة عندهم بالتعلق فجمهور المتكلمين على أن العلم هو هذا التعلق إذ لم يثبت غيره بدليل فيتعدد العلم بتعدد المعلومات كتعدد الإضافة بتعدد المضاف إليه
وقال قوم من الأشاعرة : هو صفة حقيقية ذات تعلق . وعند هؤلاء فثمة أمران : العلم وهو تلك الصفة . والعالمية أي : ذلك التعلق . فعلى هذا لا يتعدد العلم بتعدد المعلومات إذ لا يلزم من تعلق الصفة بأمور كثيرة تكثر الصفة إذ يجوز أن يكون لشيء واحد تعلقات بأمور متعددة . ( 1 / 14 )
وأثبت القاضي الباقلاني العلم الذي هو صفة موجودة والعالمية التي هي من قبيل الأحوال عنده . وأثبت معها تعلقا فإما للعلم فقط أو للعالمية
فقط فهذه ثلاثة أمور : العلم والعالمية والتعلق الثابت لأحدهما وإما لهما معا فها هنا أربعة أمور : العلم والعالمية وتعلقاتهما

(1/13)


وقال الحكماء : العلم هو الموجود الذهني إذ لا يعقل ما هو عدم صرف بحسب الخارج كالممتنعات . والتعلق إنما يتصور بين شيئين متمايزين ولا تمايز إلا بأن يكون لكل منهما ثبوت في الجملة ولا ثبوت للمعدوم في الخارج فلا حقيقة له إلا الأمر الموجود في الذهن وذلك الأمر هو العلم وأما التعلق فلازم له . والمعلوم أيضا فإنه باعتبار قيامه بالقوة العاقلة علم وباعتباره في نفسه من حيث هو هو معلوم . فالعلم والمعلوم متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار . وإذا كان العلم بالمعدومات كذلك وجب أن يكون سائر المعلومات أيضا كذلك إذ لا اختلاف بين أفراد حقيقة واحدة نوعية . كذا في ( شرح المواقف ) قال مرزازاهد : هذا في العلم الحصولي . وأما في الحضوري فالعلم والمعلوم متحدان ذاتا واعتبارا ومن ظن أن التغاير بينهما في الحضوري أيضا اعتباري كتغاير المعالج والمعالج فقد اشتبه عليه التغاير الذي هو مصداق تحققهما بالتغاير الذي هو بعد تحققهما . فإنه لو كان بينهما تغاير سابق لكان العلم الحضوري صورة منتزعة من المعلوم وكان علما حصوليا

(1/14)


ثم اعلم أن محل العلم الحادث سواء كان متعلقا بالكليات أو بالجزئيات عند أهل الحق غير متعين عقلا بل يجوز عندهم عقلا أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر أراد من جواهر البدن لكن السمع دل على أنه القلب قال الله تعالى : ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ( 1 / 15 )
هذا وقال الحكماء : محل العلم الحادث النفس الناطقة أو المشاعر العشر الظاهرة والباطنة
وقد اختلف المتكلمون في بقاء العلم والعقل بعد الموت في الجنة
فالأشاعرة قضوا باستحالة بقائهما كسائر الأعراض عندهم . وأما المعتزلة فقد أجمعوا على بقاء العلوم الضرورية والمكتسبة التي لا يتعلق بها التكليف
واختلفوا في العلوم المكتسبة المكلف بها فقال الجبائي : إنها ليست باقية وإلا لزم أن لا يكون المكلف بها حال بقائها مطيعا ولا عاصيا ولا مثابا ولا معاقبا مع تحقق التكليف وهو باطل بناء على أن لزوم الثواب أو العقاب على من كلف به . وخالفه أبو هاشم في ذلك وأوجب بقاء العلوم مطلقا

(1/14)


قال شيخنا العلامة المجتهد المطلق قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني في فتاواه المسماة ( بالفتح الرباني ) : ( ( إنه وصل السؤال عن الكلام للحافظ الذهبي من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة ولا يبقى ( 1 / 16 ) لهم شعور بشيء منها فاقشعر جلدي عند الاطلاع على هذا الكلام من مثل الحافظ الذي أفنى عمره في خدمة الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن . وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية فلم أعبأ به لجهله بالكتاب والسنة فياليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة بمثل هذا . وعجبت ما أدخل هذا الحافظ في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريف في شعابها وهضابها ويتحمل هذا النقل الثقيل والعبئ الجليل . والحاصل أن الطوائف الإسلامية على اختلاف مذاهبهم وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية . وكيف يسلبون ما هو عندهم من أوفر النعم وأوفر القسم وهم في دار فيها ما تشتهيه النفس وتلذ به الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم وما اشتمل عليه من تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا وأوفر الخلائق فهما وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعيم قال : ( يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) [ يس : 27 ]

(1/15)


وورد مثل هذا المعنى في القرآن الذي رفع لفظه من المصحف كما ثبت في الصحاح من كتب الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ : ( ( بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) )
وكذلك ما ذكر من اجتماع أهل الجنة ومذاكرتهم بما كانوا فيه في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول : وفيها وفيها وفيها في آيات كثيرة . وذكر أن أهلها على سرر متقابلين وأنه ( 1 / 17 ) يطوف عليهم ولدان مخلدون . وثبت أنهم يدخلون الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب وكمال الخلق وحسن الهيئة مردا جردا أبناء ثلاث وثلاثين سنة . وأنهم يتخيرون في الجنة ما يشتهون . وكم يعد العاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة . ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذوو عقول صحيحة بالضرورة العقلية كما ثبت بالضرورة الدينية . ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوي عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تجدد لها من العلوم ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا مالا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى برهان ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة وصاروا مشابهين للدواب وأي نعمة لمن لا عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل بما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا بمسافات لا يقدر قدرها ولا يحاط بكنهها

(1/16)


وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس الظاهرة والباطنة ولو فقدوها لما تنعموا كما ينبغي . وكذا لو فقدوا بعضها لم يكن لهم شعور بالتنعيم الذي وصفه الله سبحانه وبالغ فيه . وأي فائدة لفاقد العقل وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله ولباسه الحرير والديباج وتحليته بالذهب والجواهر وأكله من أطيب المأكل وشربه من أنفس المشروب . وكذا لا نعمة تامة فضلا عن أن تكون فاضلة لمن كان أعمى أو أصم أو لا يفهم شيئا أو لا يذكر ما مضى له ولا يفكر فيما هو فيه
وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة بنسبة الدنيا شبابا وجمالا وقوة وفهما وذكرا وحفظا وسلامة من كل نقص
ولو لم يكن الأمر هكذا لم تكن لهم فائدة بما بولغ به في شأنهم من الصفات بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة هذا معلوم بالعقل والشرع لا يتمارى فيه قط . وأقل ( 1 / 18 ) الحال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا
والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية وهذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك . فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة بما ينغص نعيمهم ويشوش حالهم ويكدر صفوهم ويمحق ما أعد الله لهم ومن التجري على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم وتكديره وذهاب أثره ومحق بركته

(1/17)


وأنت تعلم أن مثل هذا الكتاب يستلزم الكفر الصراح . فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها وجميع ما فيها ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري المعدة لهم على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين كما ثبت في الأحاديث الصحيحة . ومع هذا فقد ثبت قرآنا أنهم على سرر متقابلين وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون . وثبت سنة أنهم يجتمعون ويتزاورون . فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له ولا فهم ولا فكر ولا ذكر
والحاصل أن التقول بمثل هذا القول هو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل وعلى رسوله وعلى شريعته . بما لم يكن منها وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين بما هو معلوم لكل من يعرف القرآن
وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار الآخرة فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة لو قيل لأحدهم : إنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها ومن النعيم البالغ ومن الرياسة التامة ولكن ستصاب بالجنون أو تفقد جميع المشاعر لقال : لا ولا كرامة ( 1 / 19 ) دعوني أعش صعلوكا فقيرا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي وأحب إلي مما جئتموني به :
خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم ... سأذهب عنه لا علي ولا ليا
وإنما أوردنا لك هذه الأمور لتعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له لا للحم ولا لدم ولا لعظم . فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان ( ( إنه حيوان ناطق ) ) أي : مدرك للمعقولات وليس ذلك للقالب الذي هو فيه

(1/18)


وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على اختلاف أنواعهم فهو أيضا إجماع أهل الشرائع كلها كما يحكى ذلك عن كتب الله المنزلة على رسله وتحكيه أيضا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة كما حكاه الكتاب العزيز وقد أوردنا من ذلك في ( المقالة الفاخرة في إثبات الدار الآخرة ) وفي ( إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات ) كثيرا من نصوص التوارة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات بني إسرائيل . ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن ميمون الأندلسي وقد تبرأ منه قدماء اليهود وأخرجوه من دينهم . بل ( 1 / 20 ) وكذلك النصارى وإن لم يكن من أهل ملتهم فقد صرحوا بخذلانه وزندقته قال النصراني في تاريخه :
( ( ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بإنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا ) ) انتهى

(1/19)


قلت : وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير من التوراة ما يدل على إلحاده وزندقته وقد رددت ما حرفه وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه وذلك لجهلهم بحقيقة الحال . وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم فهو أيضا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين والصابئين أتباع صاب بن إدريس كما رأيناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد ومنهم اليونانيون فإنهم جميعهم من عند أسقلينوس إلى عهد جالينوس مصرحة كتبهم بمعاد الأرواح عليه في دار المعاد
وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده كالفارابي ومن جاء بعده منهم كابن سينا فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب . وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية ) ) انتهى كلام الشوكاني - رحمه الله -
وإنما أوردناه ههنا بطوله لاشتماله على الفوائد الجليلة والشيء بالشيء يذكر

(1/20)


ثم اعلم أن علم الله سبحانه بذاته نفس ذاته فالعالم والمعلوم واحد وهو الوجود الخاص . كذا في ( شرح الطوالع ) أي : واحد بالذات أما بالاعتبار فلا بد من التغاير . ثم قال : وعلم غير الله تعالى بذاته وبما ليس بخارج عن ذاته هو حصول نفس المعلوم ففي العلم بذاته العالم والمعلوم واحد والعلم وجود العالم والمعلوم والوجود زائد . فالعلم غير العالم ( 1 / 21 ) والمعلوم والعلم بما ليس بخارج عن العالم من أحواله غير العالم والمعلوم والمعلوم أيضا غير العالم
فيتحقق في الأول أمر واحد . وفي الثاني اثنان . وفي الثالث ثلاثة . والعلم بالشيء الذي هو خارج عن العالم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم . فيتحقق أمور أربعة : عالم ومعلوم وعلم وصورة . فالعلم حصول صورة المعلوم في العالم ففي العلم بالأشياء الخارجة عن العالم صورة وحصول تلك الصورة وإضافة الصورة إلى الشيء المعلوم وإضافة الحصول إلى الصورة وفي العلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم حصول نفس ذلك الشيء الحاصل وإضافة الحصول إلى نفس ذلك الشيء
ولا شك أن الإضافة في جميع الصور عرض وأما نفس حقيقة الشيء في العلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم فإنه يكون جوهرا إن كان المعلوم ذات العالم لأنه تكون تلك الحقيقة موجودة لا في موضوع ضرورة كون ذات الموضوع العالم كذلك وإن كان المعلوم حال العالم يكون عرضا . وأما الصورة في العلم بالأشياء الخارجة عن العالم فإن كانت صورة لعرض بأن يكون المعلوم عرضا فهو عرض بلا شك وإن كانت صورة لجوهر بأن يكون المعلوم جوهرا فعرض أيضا ) ) انتهى

(1/20)


وهذا مبني على القول بالشبح . وأما على القول بحصول ماهيات الأشياء في الذهن فجوهر
وقال الصوفية : علم الله سبحانه صفة نفسية أزلية . فعلمه سبحانه بنفسه وعلمه بخلقه علم واحد غير منقسم ولا متعدد لكنه يعلم نفسه بما هو له ويعلم خلقه بما هم عليه . ولا يجوز أن يقال : إن معلوماته أعطته العلم من أنفسها - كما قال الشيخ محيي الدين ابن عربي - لئلا يلزم كونه استفاد ( 1 / 22 ) شيئا من غيره ولكنا وجدناه سبحانه بعد هذا يعلمها بعلم أصلي منه غير مستفاد مما هي عليه فيما اقتضته بحسب ذواتها غير أنها اقتضت في نفسها ما علمه سبحانه عليها فحكم له ثانيا بما اقتضته وهو ما علمها عليه . ولما رأى الإمام المذكور أن الحق حكم للمعلومات بما اقتضته من نفسها ظن أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات فقال :
( ( إن المعلومات أعطت الحق العلم من نفسها ) ) . وفاته أنها إنما اقتضت ما علمها عليه بالعلم الكلي الأصلي النفسي قبل خلقها وإيجادها فإنها ما تعينت في العلم الإلهي إلا بما علمها لا بما اقتضته ذواتها ثم اقتضت ذواتها . بعد ذلك من نفسها أمورا هي عين ما علمها عليه أولا فحكم لها ثانيا بما اقتضته وما حكم إلا بما علمها عليه فتأمل
فيسمى الحق عليما بنسبة العلم إليه مطلقا وعالما بنسبة معلومية الأشياء إليه وعلاما بنسبة العلم ومعلومية الأشياء إليه معا

(1/21)


فالعليم اسم صفة نفسية لعدم النظر فيه إلى شيء مما سواه إذ العلم ما تستحقه النفس في كمالها لذاتها . وأما العالم : فاسم صفة فعلية وذلك علمه للأشياء سواء كان علمه لنفسه أو لغيره فإنها فعلية يقال : عالم بنفسه أي : علم نفسه وعالم بغيره أي علم غيره فلا بد أن تكون صفة فعلية
وأما العلام فبالنظر إلى النسبة العلمية اسم صفة نفسية كالعليم . وبالنظر إلى نسبة معلومية الأشياء إليه اسم صفة فعلية ولذا غلب وصف الخلق باسم العالم دون العليم والعلام فيقال : فلان عالم ولا يقال عليم ولا علام مطلقا إلا أن يقال : عليم بأمر كذا ولا يقال علام بأمر كذا بل إن وصف به شخص فلا بد من التقييد فيقال : فلان علام في فن كذا وهذا على سبيل التوسع والتجوز وليس قولهم : فلان علامة من هذا القبيل لأنه ليس من أسماء الله تعالى فلا يجوز أن يقال : إن الله علامة فافهم . كذا في الإنسان ( 1 / 23 ) الكامل
ذكره في ( كشاف اصطلاحات الفنون ) أقول عفا الله عني : إن علم الله تعالى ذاتي كسائر صفاته . وإنما قلنا ذلك للرد على الحكماء القائلين بنفي الصفات وإثبات غاياتها وللرد على المعتزلة القائلين بأنه يعلم بالذات لا بصفة زائدة عليها وقال ابن سينا ( في الإشارات ) تبعا للفلاسفة : إن الله عالم بالكليات أي دون الجزئيات . وهو كفر بواح لا يقبل التأويل . وهذا أحد ما كفر أهل الإسلام الفلاسفة بها ولهم من أمثال ذلك الطامات الكثيرة المعضلات فلا يهولنك ما ينسب إليهم من المعارف ودقائق الأفكار فما منهم إلا المخالف أو على شفا جرف هار

(1/22)


وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من علماء الإسلام أدلة عقلية أيضا . على إثبات صفة العلم لله تعالى لا نطول الكلام بذكرها هنا
وأدلة ثبوت صفة العلم لله تعالى سمعا من الكتاب والسنة كثيرة جدا كقوله تعالى : ( عالم الغيب والشهادة ) ( الأنعام : 73 ) وقوله : ( أنزله بعلمه ) ( النساء : 166 ) قوله : ( إليه يرد علم الساعة ) ( فصلت : 47 ) وقوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) ( البقرة : 255 ) وقوله : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ( غافر : 19 ) إلى غير ذلك من آيات لا تحصى إلا بكلفة وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ( سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه ) ) وفي حديث ابن عمر : ( ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ) )
وصفة العلم له سبحانه إمام أئمة الصفات وقد أحاط بكل شيء علما ( 1 / 24 ) وعلمه قد تعلق بكل شيء من الأشياء من الجائزات والواجبات والمستحيلات فيجب شرعا أن يعلم أن علم الله غير متناه من حيث تعلقه . أما بمعنى أنه لا ينقطع فهو واضح وأما بمعنى أنه لا يصير بحيث لا يتعلق بالمعلوم فإنه يحيط بما هو غير متناه كالأعداد والأشكال . ونعيم الجنة فهو شامل لجميع المتصورات سواء كان واجبة كذاته صفاته العليا أو مستحيلة كشريك الباري تعالى أو ممكنة كالعالم بأسره الجزئيات من ذلك والكليات على ما هي عليه من جميع ذلك وأنه واحد لا تعدد فيه ولا تكثر وإن تعددت معلوماته وتكثرت

(1/23)


وأما وجوب عموم تعلقه سمعا فمثل قوله تعالى : ( والله بكل شيء عليم ) وقوله : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) وقوله : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ) إلى غير ذلك من الآيات القرآنية
وأما وجوب ذلك عقلا فلأن المقتضي للعالمية هو الذات إما بواسطة المعنى الذي هو العلم على ما هو مذهب الصفاتية والسلف وهو الحق أو بدونها على ما هو رأي النفاة . والمقتضي للمعلومية إمكانها ونسبة الذات إلى الكل على السواء فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لكان ذلك بمخصص وهو محال لامتناع احتياج الواجب في صفاته وسائر كمالاته إلى التخصيص لمنافاته لوجوب الوجود والفناء المطلق
ولم يذهب إلى تعدد علوم قديمة أحد يعتمد عليه إلا أبو سهل الصعلوكي من الأشاعرة وهو محجوج بالإجماع . ( 1 / 25 ) والحق أن علمه سابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ولا محو فيه ولا تغير ولا زيادة ولا نقصان . وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون وما لو كان كيف كان وأما ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ فهل يكون فيه محور وإثبات ؟ فيه قولان للعلماء . وأما الصحف التي بيد الملائكة فيحصل فيها المحو والإثبات . وما أطال به الحكماء وإفراغهم الكلام في بيان علم الله سبحانه وتعالى وما جاؤوا به . من الأدلة العقلية على إثبات عقائدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة وما تفوهوا به من أن الصفات زائدة على ذاته أو هي عين ذاته المقدسة وما نفوه من الصفات فكل ذلك مما لم يخض فيه السلف ولم يأت فيه حرف واحد من الشارع عليه الصلاة والسلام . فالخوض فيه وأمثاله من المسائل بعد عن الدين وقرب من الشياطين
وكم قد هلكوا وأهلكوا وضلوا وأضلوا الناس عن الصراط السوي ولا معصوم إلا من عصمه الله ورحمه . والكلام على مسألة العلم يطول وليس هذا موضع بسطه وفيما ذكر ما يكفي ويشفي . ( 1 / 26 )

(1/24)


الباب الأول : في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه وفيه فصول

(1/26)


الفصل الأول : في ماهية العلم

(1/26)


الاختلاف في ماهية العلم المطلق

(1/26)


اعلم أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق هل هو ضروري يتصور ماهيته بالكنه فلا يحد أو نظري يعسر تعريفه أو نظري غير عسير التعريف ؟

(1/26)


والأول :

(1/26)


مذهب جماعة منهم الإمام الرازي واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة . ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب

(1/26)


والثاني :

(1/26)


رأي قوم منهم إمام الحرمين والغزالي وقالوا : لا ( 1 / 27 ) طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال وهو متعقب كما بينه شيخنا الشوكاني في ( إرشاد الفحول )

(1/26)


والثالث :

(1/27)


هو الراجح وبه قال الجمهور

(1/27)


تعريفات ماهية العلم

(1/27)


ثم ذكروا له تعريفات :

(1/27)


الأول :

(1/27)


لبعض المتكلمين من المعتزلة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو مدخول لدخول التقليد المطابق للواقع . فزيد فيه قيد عن ضرورة أو دليل لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل . وبعبارة أخرى هو الذي يوجب لمن قام به اسم العالم ويخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقا

(1/27)


الثاني :

(1/27)


معرفة المعلوم على ما هو به وهو مدخول أيضا لخروج علم الله تعالى إذ لا يسمى معرفة أي إجماعا لا لغة ولا اصطلاحا ولذكر المعلوم وهو مشتق من العلم فيكون دورا ولأن معنى على ما هو به هو معنى المعرفة فيكون زائدا وهذا الثاني مختار القاضي أبي بكر الباقلاني

(1/27)


الثالث :

(1/27)


هو الذي يوجب كون من قام به عالما وهو مدخول أيضا لذكر العالم في تعريف العلم وهو دور

(1/27)


الرابع :

(1/27)


هو إدراك المعلوم على ما هو به وهو قول الشيخ أبي ( 1 / 28 ) الحسن الأشعري وهو مدخول أيضا لما فيه من الدور الحشو كما مر ولأن الإدراك مجاز عن العلم

(1/27)


الخامس :

(1/28)


هو ما يصح لمن قام به إتقان الفعل وهو قول ابن فورك . وفيه أنه يدخل القدرة ويخرج علمنا إذ لا مدخل في صحة الإتقان فإن أفعالنا ليست بإيجادنا وإن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه كالمستحيل

(1/28)


السادس :

(1/28)


تبيين المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة المذكورة والدور . مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء فيخرج عنه علم الله سبحانه وتعالى

(1/28)


السابع :

(1/28)


إثبات المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأيضا الإثبات قد يطلق على العلم تجوزا فيلزم تعريف الشيء بنفسه

(1/28)


الثامن :

(1/28)


الثقة بأن المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور مع أنه لزم كون الباري واثقا بما هو عالم به وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا

(1/28)


التاسع :

(1/28)


هو اعتقاد جازم مطابق لموجب إما لضرورة أو دليل وفيه أنه يخرج عنه التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد مع انه علم
ويخرج علم الله سبحانه وتعالى لأن الاعتقاد لا يطلق عليه ولأنه ليس بضرورة أو دليل . وهذا التعريف للفخر الرازي عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا . ( 1 / 29 )

(1/28)


العاشر :

(1/29)


حصول صورة الشيء في العقل أو الصورة الحاصلة عند العقل وفيه أنه يتناول الظن والجهل المركب والتقليد والشك والوهم . قال ابن صدر الدين : هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء وبعض المتكلمين
قلت : وفيه أن إطلاق اسم العلم عليها يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحا وعرفا وشرعا إذ لا يطلق على الجاهل جهلا مركبا ولا على الظان والشاك والواهم أنه عالم في شيء من تلك الاستعمالات . وأما التقليد فقد يطلق عليه العلم مجازا ولا مشاحة في الاصطلاح والمبحوث عنه في المنطق هو العلم بهذا المعنى لأن المنطق لما كان جمع قوانين الاكتساب فلا بد لهم من تعميم العلم . قاله في ( كشاف اصطلاحات الفنون )

(1/29)


الحادي عشر :

(1/29)


تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك وفيه ما في العاشر . وهذان التعريفان للحكماء مبينان على الوجود الذهني والعلم عندهم عبارة عنه . فالأول : يتناول إدراك الكليات والجزئيات . والثاني : ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات

(1/29)


الثاني عشر :

(1/29)


هو صفة توجب لمحلها تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيض وهو الحد المختار عند المتكلمين قال في ( كشاف اصطلاحات الفنون ) : ( ( أي لبراءته عما ذكر من الخلل في غيره وتناوله للتصور مع التصديق اليقيني ) ) انتهى
قلت : إلا أنه يخرج عنه العلوم العادية كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب إلى الآن ذهبا فإنها تحتمل النقيض لجواز خرق العادة . وأجيب عنه في محله وقد يزاد فيه بين المعاني الكلية وهذا ( 1 / 30 ) مع الغنى عنه يخرج العلم بالجزئيات . وهذا المختار عند من يقول : إن العلم صفة ذات تعلق بالمعلوم

(1/29)


الثالث عشر :

(1/30)


هو تمييز معنى عند النفس تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه وهو الحد المختار عند من يقول من المتكلمين : إن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم . وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية

(1/30)


الرابع عشر :

(1/30)


هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به . قال العلامة الشريف : ( ( وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي والتجلي هو الانكشاف التام
فالمعنى : إنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه فيخرج عن الحد الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب أيضا لأنه في الحقيقة عقدة على القلب فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة ) ) انتهى
وفيه أنه يخرج عنه إدراك الحواس فإنه لا مدخلية للمذكور به فيه إن أريد الذكر اللساني كما هو الظاهر . وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها فإنما أن يكون من الجمع . بين معنى المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز وكلاهما مهجور في التعريفات

(1/30)


الخامس عشر :

(1/30)


حصول معنى في النفس حصولا لا يتطرق ( 1 / 31 ) إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه وهو للآمدي قال : ونعني بحصول المعنى في النفس تمييزه في النفس عما سواه ويدخل في العلم بالإثبات والنفي والمفرد والمركب ويخرج عنه الاعتقادات . إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه انتهى

(1/30)


السادس عشر :

(1/31)


هو حكم لا يحتمل طرفاه أي المحكوم عليه وبه نقيضه وفيه أنه يخرج عنه التصور وهو علم

(1/31)


السابع عشر :

(1/31)


صفة يتجلى بها المدرك بالفتح للمدرك بالكسر وهو كالعاشر وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجورا في التعريفات ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة
هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها

(1/31)


قال شيخنا القاضي العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ) : ( ( والأولى عندي أن يقال في تحديده : هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر ) ) انتهى
وقد أطال في ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) في بيان الأقوال السبعة الأول في حد العلم إطالة حسنة ليس إيرادها في هذا المختصر من غرضنا فإن شئت الزيادة على هذا فارجع إليه وإلى مآخذه . ( 1 / 32 )

(1/31)


الفصل الثاني : فيما يتصل بماهية العلم من : الاختلاف والأقوال

(1/32)


اعلم أنه اختلف في أن العلم بالشيء هل يستلزم وجوده في الذهن كما هو مذهب الفلاسفة وبعض المتكلمين أو هو تعلق بين العالم والمعلوم في الذهن كما ذهب إليه جمهور المتكلمين ؟
ثم إنه على الأول لا نزاع في أنا إذا علمنا شيئا فقد تحقق أمور ثلاثة : صورة حاصلة في الذهن وارتسام تلك الصورة فيه وانفعال النفس عنها بالقبول . فاختلف في أن العلم أي هذه الثلاثة فذهب إلى كل منها طائفة . ولذلك اختلف في أن العلم هل هو من مقولة الكيف أو الانفعال أو الإضافة . والأصح أنه من مقولة الكيف على ما بين في محله

(1/32)


ثم اعلم أن القائلين بالوجود الذهني منهم من قال : إن الحاصل في الذهن إنما هو شبح للمعلوم وظل له مخالف بالماهية غايته أنه مبدأ لانكشافه . لكن دليل البحث لو تم لدل على أن للمعلوم نحوا آخر من الوجود لا كشبحه المخالف له بالحقيقة
ومنهم من قال : الحاصل في الذهن في نفس ماهية المعلوم لكنها ( 1 / 33 ) موجودة بوجود ظلي غير أصلي وهي باعتبار هذا الوجود تسمى صورة ولا يترتب عليها الآثار كما أنها باعتبار الوجود الأصلي تسمى عينا ويترتب عليها الآثار
فهذه الصورة إذا وجدت في الخارج كانت عين العين كما أن العين إذا وجدت في الذهن كانت عين الصورة أي شبح قائم بنفس العالم به ينكشف المعلوم وهي العلم وذو صورة أي ماهية موجودة في الذهن غير قائم به وهي المعلوم وهما متغايران بالذات . فعلى رأي القائلين بالشبح يكون العلم من مقولة الكيف بلا أشكال مع كون المعلوم من مقولة الجوهر أو مقولة أخرى لاختلافهما بالماهية
وأما على رأي القائلين بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ففي كونه منها أشكال مع أشكال اتحاد الجوهر والعرض بالماهية وهما متنافيان . وأجاب عنه بعض المحققين بأن العلم من كل مقولة من المقولات وإن عدهم العلم مطلقا من مقولة الكيف على سبيل التشبيه به ويرد عليه أنه يصدق على هذا على العلم تعريف الكيف فيكون كيفا . وبعض المدققين جوز تبدل الماهية بأن يكون الشيء في الخارج جوهرا فإذا وجد في الذهن انقلب كيفا كالملحة التي ينقلب الواقع فيها ملحا وهو مبحث مشهور

(1/32)


وفي أبي الفتح ( حاشية الحاشية الجلالية ) : أما القائلون بالوجود الذهني من الحكماء وغيرهم فاختلفوا اختلافا ناشئا من أن العلم ليس حاصلا قبل حصول الصورة في الذهن بداهة واتفاقا وحاصل عنده بداهة واتفاقا
والحاصل معه ثلاثة أمور :
الصورة الحاصلة وقبول الذهن من المبدأ الفياض وإضافة مخصوصة بين العالم والمعلوم ( 1 / 34 ) فذهب بعضهم إلى أن العلم هو الصورة الحاصلة فيكون من مقولة الكيف . وبعضهم إلى أنه الثاني فيكون من مقولة الانفعال . وبعضهم إلى أنه الثالث فيكون من مقولة الإضافة . والأصح المذهب الأول لأن الصورة توصف بالمطابقة كالعلم والإضافة والانفعال ويوصفان بها
لكن القول بأن الصورة العقلية من مقولة الكيف إنما يصح إذا كانت مغارة لذي الصورة بالذات قائمة بالعقل كما هو مذهب القائلين بالشبح والمثال الحاكمين بأن الحاصل في العقل أشباح الأشياء لا أنفسها
وأما إذا كانت متحدة معه بالذات مغايرة له بالاعتبار على ما يدل عليه أدلة الوجود الذهني وهو المختار عند المحققين القائلين بأن الحاصل في الذهن أنفس الأشياء لا أشباحها فلا يصح ذلك . فالحق أن العلم من الأمور الاعتبارية والموجودات الذهنية وإن كان متحدا بالذات مع الموجود الخارجي إذا كان المعلوم من الموجودات الخارجية سواء كان جوهرا أو عرضا كيفا أو انفعالا أو إضافة أو غيرها ) ) انتهى

(1/33)


قال الرازي : ( ( قد اضطرب كلام ابن سينا في حقيقة العلم فحيث بين أن كون الباري عقلا وعاقلا ومعقولا يقتضي كثرة في ذاته فسر العلم بتجرد العالم والمعلوم من المادة . ورد بأنه يلزم منه أن يكون كل شخص إنساني عالما بجميع المجردات فإن النفس الإنسانية مجردة عندهم . وحيث قرر اندراج العلم في مقولة الكيف بالذات وفي مقولة الإضافة بالعرض جعله عبارة عن صفة ذات إضافة
وحيث ذكر أن تعقل الشيء لذاته ولغير ذاته ليس إلا حضور صورته عنده جعله عبارة عن الصورة المرتسمة في الجوهر العاقل المطابقة لماهية ( 1 / 35 ) المعقول . وحيث زعم أن العقل البسيط الذي لواجب الوجود ليس عقليته لأجل صور كثيرة بل لأجل فيضانها عنه حتى يكون العقل البسيط كالمبدأ الخلاق للصور المفصلة في النفس جعله عبارة عن مجرد إضافة ) ) انتهى . ( 1 / 36 )

(1/34)


الفصل الثالث : في تقسيم العلم

(1/36)


قالوا : للعلم تقسيمات

(1/36)


الأول : إلى الحصولي والحضوري

(1/36)


فالحصولي : هو بحصول صورة الشيء عن المدرك ويسمى بالعلم الانطباعي أيضا لأن حصول هذا العلم بالشيء إنما يتحقق بعد انتقاش صورة ذلك الشيء في الذهن لا بمجرد حضور ذلك الشيء عند العالم
والحضوري : هو بحضور الأشياء أنفسها عند العالم كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها ومن هذا القبيل علمه تعالى بذاته وبسائر المعلومات
ومنهم من أنكر العلم الحضوري وقال : إن العلم بأنفسنا وصفاتنا النفسانية أيضا حصولي وكذلك علم الواجب تعالى وقيل :
علمه تعالى بحصول الصورة في المجردات فإن جعل التعريف للمعنى الأعم الشامل للحضوري والحصولي بأنواعه الأربعة من الإحساس وغيره وبما يكون نفس المدرك وغيره فالمراد بالعقل الذات المجردة ومطلق المدرك وبالصورة ما يعم الخارجية والذهنية أي ما يتميز به الشيء مطلقا ( 1 / 37 ) وبالحصول الثبوت والحضور سواء كان بنفسه أو بمثاله وبالمغايرة المستفادة من الظرفية أعم من الذاتية والاعتبارية وبقي معنى عندكما اختاره المحقق الدواني ولا يخفى ما فيه من التكلفات البعيدة عن الفهم وإن جعل التعريف للحصولي كان التعريف على ظاهره
والمراد بالعقل قوة للنفس تدرك الغائبات بنفسها والمحسوسات بالوسائط . وبصورة الشيء ما يكون آلة لامتيازه سواء كان نفس ماهية الشيء أو شبحا له والظرفية على الحقيقة

(1/36)


اعلم أن القائلين بأن العلم هو الصورة فرقتان :
فرقة تدعي وتزعم أن الصور العقلية مثل وأشباح للأمور المعلومة بها مخافة لها بالماهية . وعلى قول هؤلاء لا يكون للأشياء وجود ذهني بحسب الحقيقة بل بحسب المجاز . كأن يقال مثلا النار موجودة في الذهن ويراد به يوجد فيه شبح له نسبة مخصوصة إلى ماهية النار بسببها كان ذلك الشبح علما بالنار لا بغيرها من الماهيات ويكون العلم من مقولة الكيف ويصير العلم والمعلوم متغايرين ذاتا واعتبارا
وفرقة تدعي أن تلك الصورة مساوية في الماهية للأمور المعلومة بها بل الصور هي ماهيات المعلومات من حيث إنها حاصلة في النفس فيكون العلم والمعلوم متحدين بالذات مختلفين بالاعتبار . وعلى قول هؤلاء يكون للأشياء وجودان خارجي وذهني بحسب الحقيقة والتعريف ( 1 / 38 ) الثاني للعلم مبني على هذا المذهب . وعلى هذا قال الشيخ : الإدراك الحقيقة المتمثلة عند المدرك

(1/37)


الثاني : إلى أن العلم الحادث إما تصور أو تصديق

(1/38)


والعلم القديم : لا يكون تصورا ولا تصديقا

(1/38)


الثالث : إلى أن الأشياء المدركة أي المعلومة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات المدرك أي العالم وإلى ما يكون

(1/38)


أما في الأول : فالحقيقة الحاصلة عند المدرك هي نفس حقيقتها
وأما في الثاني : فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج بل هي إما صورة منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج كما في العلم الانفعالي أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء سواء كانت الخارجية مستفادة منها كما في العلم الفعلي أو لم تكن
وعلى التقديرين فإدراك الحقيقة الخارجية بحصول تلك الصورة الذهنية عند المدرك والاحتياج إلى الانتزاع إنما هو في المدرك المادي لا غير كذا في ( شرح الإشارات ) وفي ( شرح الطوالع ) : الشيء المدرك إما نفس المدرك أو غيره . وغيره إما خارج عنه أو غير خارج عنه . والخارج عنه إما مادي أو غير مادي
فهذه أربعة أقسام الأول : ما هو نفس المدرك
والثاني : ما هو غيره لكنه غير خارج عنه
والثالث : ما هو خارج عنه لكنه مادي
والرابع : ما هو خارج عنه لكنه غير مادي . والأولان منها إدراكهما بحصول نفس الحقيقة عند المدرك فيكون إدراكهما حضوريا والأول بدون الحلول والثاني بالحلول والآخران لا يكون إدراكهما بحصول نفس الحقيقة الخارجية بل بحصول مثال الحقيقة سواء كان الإدراك مستفادا من الخارجية أو الخارجية ( 1 / 39 ) مستفادة من الإدراك . والثالث إدراكه بحصول صورة منتزعة عن المادة مجردة عنها . والرابع لم يفتقر إلى الانتزاع

(1/38)


الرابع :

(1/39)


إلى واجب أي ممتنع الانفكاك عن العالم كعلمه بذاته وممكن كسائر العلوم

(1/39)


الخامس :

(1/39)


إلى فعلي ويسمى كليا قبل الكثرة وهو ما يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج كما نتصور السرير مثلا ثم نوجده . وانفعالي ويسمى كليا بعد الكثرة وهو ما يكون مسببا عن وجود العالم بأن يكون مستفادا من الوجود الخارجي كما نجد أمرا في الخارج كالسماء والأرض ثم نتصوره فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها . فالعلم الفعلي كلي يتفرع عليه الكثرة وهي الأفراد الخارجية . والعلم الانفعالي كلي يتفرع على الكثرة . وقد يقال إن لنا كليا مع الكثرة لكنه من قبيل العلم ومبني على وجود الطبائع الكلية في ضمن الجزئيات الخارجية
قال الحكماء : علم الله سبحانه بمصنوعاته فعلي لأنه السبب لوجود الممكنات في الخارج لكن كون علمه تعالى سببا لوجودها لا يتوقف على الآلات بخلاف علمنا بأفعالنا ولذلك يتخلف صدور معلومنا عن علمنا . وقالوا : إن علمه تعالى بأحوال الممكنات على أبلغ النظام وأحسن الوجوه بالقياس إلى الكل من حيث هو كل هو الذي استند عليه وجودها على هذا الوجه دون سائر الوجوه الممكنة وهذا العلم يسمى عندهم بالعناية الأزلية

(1/39)


وأما علمه تعالى بذاته فليس فعليا ولا انفعاليا أيضا بل هو عين ذاته بالذات وإن كان مغايرا له بالاعتبار . ( 1 / 40 )

(1/39)


السادس : إلى ما يعلم بالفعل وهو ظاهر وما يعلم بالقوة

(1/40)


كما إذا في يد زيد اثنان فسئلنا أزوج هو أم فرد ؟ قلنا : نعلم إن كل اثنين زوج وهذا اثنان فنعلم أنه زوج علما بالقوة القريبة من الفعل وإن لم نكن نعلم أنه بعينه زوج . وكذلك جميع الجزئيات المندرجة تحت الكليات فإنها معلومة بالقوة قبل أن يتنبه للاندراج . فالنتيجة حاصلة في كبرى القياس هكذا قال بعض المتكلمين

(1/40)


السابع : إلى تفصيلي وإجمالي

(1/40)


والتفصيلي كمن ينظر إلى أجزاء المعلوم ومراتبه بحسب أجزائه بأن يلاحظها واحدا بعد واحد والإجمالي كمن يعلم مسألة فيسأل عنها فإنه يحضر الجواب الذي هو تلك المسألة بأسرها في ذهنه دفعة واحدة وهو أي ذلك الشخص المسئول متصور للجواب لأنه عالم بأنه قادر عليه ثم يأخذ في تقرير الجواب فيلاحظ تفصيله ففي ذهنه أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل والتفرقة بين الحالة الحاصلة دفعة عقيب السؤال وبين حالة الجهل الثابتة قبل السؤال
وملاحظة التفصيل ضرورية وحدانية إذ في حالة الجهل المسماة عقلا بالفعل ليس إدراك الجواب حاصلا بالفعل بل النفس في تلك الحالة تقوى على استحضاره بلا تجشم كسب جديد فهناك قوة محضة
وفي الحالة الحاصلة عقيب السؤال قد حصل بالفعل شعور وعلم ما بالجواب لم يكن حاصلا قبله . وفي الحالة التفصيلية صارت الأجزاء ملحوظة قصدا . ولم يكن حاصلا في شيء من الحالتين السابقتين وشبه ذلك بمن يرى نعما كثيرة تارة دفعة فإنه يرى في هذه الحالة جميع أجزائه ضرورة وتارة بأن يحدق البصر نحو واحد فيفصل أجزاءه . فالرؤية الأولى إجمالية الثانية تفصيلية
وأنكر الإمام الرازي العلم الإجمالي والعلم ( 1 / 41 ) الإجمالي على تقدير جواز ثبوته في نفسه هل يثبت لله تعالى أو لا ؟ جوزه القاضي والمعتزلة ومنعه كثير من أصحابنا وأبو الهاشم . والحق أنه إن اشترط في الإجمالي الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى وإلا فلا

(1/40)


الثامن :

(1/41)


إلى التعقل والتوهم والتخيل والإحساس

(1/41)


التاسع : إلى الضروري والنظري

(1/41)


وعلم الله تعالى عند المتكلمين لا يوصف بضرورة ولا كسب فهو واسطة بينهما . وأما المنطقيين فداخل في الضروري
والفرق بين العلم بالوجه وبين العلم بالشيء من وجه أن معنى الأول حصول الوجه عند العقل . ومعنى الثاني أن لاشيء حاصل عند العقل لكن لا حصولا تاما فإن التصور قابل للقوة والضعف كما إذا تراءى لك شبح من بعيد فتصورته تصورا ما ثم يزداد انكشافا عندك بحسب تقاربك إليه إلى أن يحصل في عقلك كمال حقيقته
ولو كان العلم بالوجه هو العلم بالشيء من ذلك الوجه ما على ظنه من لا تحقيق له لزم أن يكون جميع الأشياء معلومة لنا مع عدم توجه عقولنا إليها وذلك ظاهر الاستحالة . كذا في ( شرح المطالع ) في بحث الموضوع . وقال عبد الحكيم ( في حاشية شرح المواقف ) في المقصد الرابع من مقاصد العلم في الموقف الأول : ( ( إنهم اختلفوا في علم الشيء بوجه وعلم وجه الشيء فقال من لا تحقيق له : إنه لا تغاير بينهما أصلا وقال المتقدمون بالتغاير بالذات إذ في الأول الحاصل في الذهن نفس الوجه وهو آلة ( 1 / 42 ) لملاحظة الشيء والشيء معلوم بالذات . وفي الثاني الحاصل في الذهن صورة الوجه وهو المعلوم بالذات من غير التفات إلى الشيء ذي الوجه

(1/41)


وقال المتقدمون بالتغاير بالاعتبار : إذ لا شك في أنه لا يمكن أن يشاهد بالضاحك أمر سواه . إلا أنه إذا اعتبر صدقه على أمر واتحاده معه كما في موضوع القضية المحصورة كان علم الشيء بالوجه . وإذا اعتبر مع قطع النظر عن ذلك كان علم الوجه كما في موضوع القضية الطبيعية ) ) انتهى
وأثبت أبو هاشم علما لا معلوم له كالعلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء والمعلوم شيء . وهذا أمر اصطلاحي محض لا فائدة فيه والله أعلم ( 1 / 43 )

(1/42)


الفصل الرابع : في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته

(1/43)


اعلم أن لفظ العلم كما يطلق على ما يرادفه وهو أسماء العلوم المدونة كالنحو والفقه فيطلق كأسماء العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يقال : فلان يعلم النحو . وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها . وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي ملكة استحضارها
وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد . والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم . وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة . فإطلاق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور . وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات ومن ذلك يقولون : أجزاء العلوم ثلاثة . وقد تطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه فإن فصل نفسه كان حدا اسميا وإن بين لازمه كان رسما اسميا . وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله أو بتصور التصديقات المتعلقة بها فإن حقيقة كل علم مسائل ذلك العلم أو التصديقات بها
وأما المبادئ وآنية الموضوعات ( 1 / 44 ) فإنما عدت جزءا منها لشدة احتياجها إليها وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة :

(1/43)


البيان الأول : في بحث الموضوع

(1/44)


اعلم أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علما واحدا وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه
فموضوع العلم ما تنحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية . فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر
فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز شيء آخر كالغاية والمحمول . وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم . وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى
فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضعها واحد وأن لكل علم موضوعا وغاية . وكل علم له جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا . إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية والثانية جهة وحدة عرضية . ولذلك تعرف العلوم تارة ( 1 / 45 ) باعتبار الموضوع فيقال في تعريف المنطق مثلا : علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه : آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر

(1/44)


ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء موحد أو أشياء مناسبة تناسبا معتدا به إما في أمر ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها كعلم الهندسة أو في أمر عرضي كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية كعلم أصول الفقه فنكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي
وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب : العدد إما زوج أو فرد أو إلى جزئي تحته كقولنا : الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي : الصورة تفسد وتخلف به لا عنه أو إلى عرض ذاتي له كقولنا : المفرد إما أول أو مركب
وأما العرض الغريب وهو ما يلحق الماهية بواسطة أمر عجيب إما خارج عنها أعم منها أو أخص فالعلوم لا تبحث عنه فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن أو المستقيم ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه وهو المقدار فإنهما يلحقان المقدار لا لأنه مقدار بل لوصف أعم منه كوجوده أو كعدم وجوده
وكذا الطبيب لا ينظر في أن الجرح مستدير أم غير مستدير لأن الاستدارة لا تلحق الجسم من حيث هو جريح بل لأمر أعم منه كما مر وإذا قال الطبيب هذه الجراحة مستديرة والدوائر أوسع الأشكال فيكون بطيء البرء لم يكن ما ذكره من علمه

(1/45)


ثم اعلم أن موضوع علم يجوز أن يكون موضوع علم آخر وأن يكون أخص منه أو أعم وأن يكون مباينا عنه لكن يندرجان ( 1 / 46 ) تحت أمر ثالث وأن يكون مباينا له غير مندرجين تحت ثالث لكن يشتركان بوجه دون وجه ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا فهذه ستة أقسام :

(1/45)


الأول : أن يكون موضوع علم عين موضوع علم آخر

(1/46)


فيشترط أن يكون كل منهما مقيدا بقيد غير قيد الآخر وذلك كأجرام العالم فإنها من حيث الشكل موضوع الهيئة ومن حيث الطبيعة موضوع لعلم السماء والعالم من الطبيعي فافترقا بالحيثيتين
ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول فلا بأس إذ يختلف بالبراهين كقولهم بأن الأرض مستديرة وهي وسط السماء في الصور والمعاني لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة غير البرهان من جهة الطبيعي

(1/46)


الثاني والثالث : أن يكون موضوع علم أخص من علم آخر أو أعم منه

(1/46)


فالعموم والخصوص بينهما إما على وجه التحقيق بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له مثل كون العام جنسا للخاص أو بأمر عرضي . فالأول كالمقدار والجسم التعليمي فإن الجسم التعليمي أخص والمقدار جنس له وهو موضوع الهندسة والجسم التعليمي موضوع المجسمات
وكموضوع الطب وهو بدن الإنسان فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي وهو الجسم المطلق والثاني كالموجود والمقدار فإن الموجود موضوع العلم الإلهي والمقدار موضوع الهندسة وهو أخص من الموجود لا لأنه جنسه بل لكونه عرضا عاما له

(1/46)


الرابع : أن يكون الموضعان متباينين

(1/46)


لكن يندرجان تحت أمر ثالث كموضوع الهندسة والحساب فإنهما داخلان تحت الكم فيسميان متساويين . ( 1 / 47 )

(1/46)


الخامس : أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه

(1/47)


مثل موضوعي الطب والأخلاق فإن لموضوعيهما اشتراكا في القوى الإنسانية . السادس : أن يكون بينهما تباين كموضوع الحساب والطب فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك ولا مساواة
تنبيه : اعلم أن الموضوع في علم لا يطلب بالبرهان لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية الموضوعة والشيء لا يكون عرضيا ذاتيا لنفسه بل يكون إما بينا بنفسه أو مبرهنا عليه في علم آخر فوقه بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضا ذاتيا لموضوعه إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى الذي موضوعه الموجود لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم والتصديق بهيئته بوجه ما . فكون علم فوق علم أو تحته مرجعه إلى ما ذكرنا فافهم

(1/47)


البيان الثاني : في المبادئ :

(1/47)


وهي المعلومات المستعملة في العلوم لبناء مطالبها المكتسبة عليها . وهي إما تصورية بحدود موضوعه وحدود أجزائه وجزئياته ومحمولاته إذ لا بد من تصور هذه الأمور بالحد المشهور . وإما تصديقية وهي القضايا المتألفة عنها قياساتها وهي على قسمين :

(1/47)


الأول : أن تكون بينة بنفسها وتسمى المتعارفة

(1/47)


وهي إما مبادئ لكل علم كقولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان أو لبعض العلوم كقول إقليدس : إذا أخذ من المتساويين قدران متساويان بقي الباقيان متساويين

(1/47)


الثاني : أن تكون غير بينة بنفسها لكن يجب تسليمها

(1/47)


ومن ( 1 / 48 ) شأنها أن تبين في علم آخر وهي مسائل بالنسبة إلى ذلك العلم الآخر
والتسليم إن كان على سبيل حسن الظن بالعلم تسمى أصولا موضوعة كقول الفقيه : هذا حرام بالإجماع . فكون الإجماع حجة من الأمور المسلمة في الفقه لأنها من مسائل الأصول . وإن كان على استنكار تسمى مصادرات كقوله : هذا الحكم ثبت بالاستحسان . فتسليم كونه حجة عند القوم من المصادرات . ويجوز أن تكون المقدمة الواحدة عند شخص من المصادرات وعند آخر من الأصول الموضوعة
وقد تسمى الحدود والمقدمات المسلمة أوضاعا وكل واحد منهما يكون مسائل في علم آخر فوقه إلى الأعلى لكن يجوز أن يكون بعض مسائل العلم السافل موضوعا وأصولا للعلم العالي بشرط أن لا تكون مبينة في العلم السافل بالأصول التي بنيت على تلك المسائل بل مقدمات بينة بنفسها أو بغيرها من الأصول وإلا يلزم الدور

(1/48)


وأيضا لا يجوز أن يثبت شيء من المقدمات الغير البينة من الأصول الموضوعة والمصادرات بالدليل إن توقف عليها جميع مقاصد العلوم للدور وإن توقف عليها بعض مقاصدها فيمكن بيانها في ذلك العلم
والأول : يسمى المبادئ العامة كون النظر مفيدا للعين . والثاني : المبادئ الخاصة كإبطال الحسن والقبح العقليين

(1/48)


البيان الثالث : في مسائل العلوم

(1/48)


وهي القضايا التي تطلب في كل علم نسبة محمولاتها بالدليل إلى موضوعاتها
وكل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد كما مر فتكون المسائل موضوع العلم أعني هيئته البسيطة وهي إنيتها
وموضوع المسألة قد يكون بنفسه موضوعا لذلك العلم كقول النحوي : كل كلام مركب من اسمين أو كقول النحوي : كل كلام مركب من اسمين أو اسم وفعل فإن الكلام هو موضوع النحو أيضا
وقد يكون موضوع المسألة موضوع ذلك العلم مع عرض ذاتي له
كقولنا في الهندسة : المقدار المباين لشيء مباين لكل مقدار يشاركه . فالموضوع في المسألة المقدار المباين والمباين عرض ذاتي له . وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع العلم كقولنا في الصرف : الاسم إما ثلاثي وإما زائد على الثلاثي . فإن موضوع العلم الكلمة والاسم نوعها

(1/48)


وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع مع عرض ذاتي له كقولنا في الهندسة : كل خط مستقيم وقع على مستقيم فالزاويتان الحادثتان إما قائمتان أو معادلتان لهما . فالخط نوع للمقدار والمستقيم عرض ذاتي له وقد يكون موضوع المسألة عرضا ذاتيا لموضوع العلم كقولنا في الهندسة كل مثلث زواياه مساوية لقائمتين . فالمثلث من الأعراض الذاتية للمقدار

(1/48)


خاتمة الفصل : في غاية العلوم

(1/48)


اعلم أنه إذا ترتب على فعل أثر فذلك الأثر من حيث إنه نتيجة لذلك الفعل وثمرته يسمى فائدة ومن حيث إنه على طرف الفعل ونهايته يسمى غاية . ففائدة الفعل وغايته متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار
ثم ذلك الأثر المسمى بهذين الأمرين إن كان سببا لإقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضا ومقصودا ويسمى بالقياس إلى فعله علة غائية . والغرض والعلة الغائية متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار . وإن لم يكن سببا للإقدام كان فائدة وغاية فقط فالغاية أعم من العلة الغائية كذا أفاده العلامة الشريف فظهر أن غاية العلم ما يطلب ذلك العلم لأجله . ( 1 / 50 ) ثم إن غاية العلو الغير الآلية حصولها أنفسها لأنها في حد ذاتها مقصودة بذواتها وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخر والتغاير الاعتباري كاف فيه . فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه

(1/48)


وأما غاية العلوم الآلية فهو حصول غيرها لأنها متعلقة بكيفية العمل فالمقصود منها حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمر آخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم . ( 1 / 51 )

(1/50)


الفصل الخامس : في بيان تقسم العلوم المدونة وما يتعلق بها

(1/51)


العلوم المدونة وهي التي دونت في الكتب كعلم الصرف والنحو والمنطق والحكمة ونحوها
اعلم أن العلماء اختلفوا فقيل : لا يشترط في كون الشخص عالما بعلم أن يعلمه بالدليل . وقيل : يشترط ذلك حتى لو علمه بلا أخذ دليل يسمى حاكيا لا عالما وإليه يشير كلام المحقق عبد الحكيم في ( حاشية الفوائد الضيائية ) حيث قال : ( ( من قال : العلم عبارة عن العلم بالمسائل المبرهنة جعل العلم بالمسائل المجردة حكاية لمسائل العلوم . ومن : قال إنه عبارة عن المسائل جعله علما ) ) انتهى
وبالنظر إلى المذهب الأول ذكر المحقق المذكور في ( حواشي الخيالي ) من ( ( أن العلم قد يطلق على التصديق بالمسائل وقد يطلق على نفس المسائل وقد يطلق على الملكة الحاصلة منها . وأيضا مما يقال : كتبت علم فلان أو سمعته أو يحصر في ثمانية أبواب مثلا هو المعنى الثاني ويمكن حمله على المعنى الأول أيضا بلا بعد لأن تدوين العلوم ( 1 / 52 ) بعد تدوين العلم عرفا . وأما تدوين الملكة فمما يأباه الذوق السليم ) ) انتهى

(1/51)


وما يقال : فلان يعلم النحو مثلا لا يراد به أن جميع مسائله حاضرة في ذهنه بل يراد به أن له حالة بسيطة إجمالية هي مبدأ لتفاصيل مسائله بها يتمكن من استحضارها . فالمراد بالعلم المتعلق بالنحو ههنا هو الملكة وإن كان النحو عبارة عن المسائل هكذا يستفاد من ( المطول ) و ( حواشيه )
وبالنظر إلى المذهب الثاني قال صاحب ( الأطول ) في تعريف علم المعاني أسماء العلوم المدونة نحو علم المعاني تطلق على إدراك القواعد عن دليل حتى لو أدركها أحد تقليدا لا يقال له عالم بل حاك ) ) ذكره السيد السند في ( شرح المفتاح )
وقد تطلق على معلوماتها التي هي القواعد لكن إذا علمت عن دليل وإن أطلقوا وعلى الملكة الحاصلة من إدراك القواعد مرة بعد أخرى أعني ملكة استحضارها متى أريد . لكن إذا كانت ملكة إدراك عن دليل وإن أطلقوا كما يقتضيه تخصيص الاسم بالإدراك عن دليل كما لا يخفى . وكذلك لفظ العلم يطلق على المعاني الثلاثة لكن حقق السيد السند أنه في الإدراك حقيقة وفي الملكة التي هي تابعة للإدراك في الحصول ووسيلة إليه في البقاء وفي متعلق الإدراك الذي هو المسائل إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية ( 1 / 53 ) أو مجاز مشهور
وفي كونه حقيقة الإدراك نظر لأن المراد به الإدراك عن دليل لا الإدراك مطلقا حتى يكون حقيقة ) ) انتهى

(1/52)


وقال أبو القاسم في ( حاشية المطول ) : إن جعل أسماء العلوم المدونة مطلقة على الأصول والقواعد وإدراكها والملكة الحاصلة على سواء وكذا لفظ العلم صح . ثم إنهم ذكروا أن المناسب أن يراد بالملكة ههنا كيفية للنفس بها يتمكن من معرفة جميع المسائل يستحضر بها ما كان معلوما مخزونا منها ويستحصل ما كان مجهولا لا ملكة الاستحضار فقط المسماة بالعقل بالفعل
إذ الظاهر أن من تمكن من معرفة جميع مسائل علم بأن يكون عنده ما يكفيه في تحصيلها يعد عالما بذلك العلم من غير اشتراط العلم بجميعها فضلا عن صيرورتها مخزونة . ولا ملكة الاستحصال فقط المسماة بالعقل بالملكة لأنه يلزم أن يعد عالما من له تلك الملكة مع عدم حصول شيء من المسائل . فالمراد بالملكة أعم من ملكة الاستحضار والاستحصال
قال في ( الأطول ) : المراد ملكة الاستحضار لا الملكة المطلقة وعدم حصول العلم المدون لأحد وهو يتزايد يوما فيوما ليس بممتنع ولا بمستبعد فإن استحالة معرفة الجميع لا ينافي كون العلم سببا لها . وتسمية البعض فقيها أو نحويا أو حكيما كناية عن علو شأنه في ذلك العلم بحيث كأنه حصل له الكل

(1/53)


وبالجملة : فملكة الاستحصال ليست علما وإنما الكلام في أن ملكة استحضار أكثر المسائل مع ملكة استحصال الباقي هل هو العلم أم لا ؟ فمن أراد أن يكون إطلاق الفقيه على الأئمة حقيقة مع عجزهم عن جواب بعض الفتاوى التزم ذلك وأما على ما سلكنا من أن الإطلاق مجازي فلا يلزم . ( 1 / 54 )
ثم اعلم أن العلم وإن كان معنى واحدا وحقيقة واحدة إلا إنه ينقسم إلى أقسام كثيرة من جهات مختلفة . فينقسم من جهة إلى قديم ومحدث ومن جهة متعلقه إلى تصور وتصديق ومن جهة طرقه إلى ثلاثة أقسام : قسم يثبت في النفس وقسم يدرك بالحس وقسم يعلم بالقياس . وينقسم من جهة اختلاف موضوعاته إلى أقسام كثيرة يسمى بعضها علوما وبعضها صنائع . وقد أوردنا ما ذكره أصحاب الموضوعات في حصر أقسامها :

(1/53)


التقسيم الأول :

(1/54)


ما ذكره صاحب ( كشاف اصطلاحات الفنون ) : ( ( اعلم أن ههنا - أي في مقام تقسيم العلوم المدونة التي هي إما المسائل أو التصدق بها - تقسيمات على ما في بعض حواشي ( شرح المطالع ) وقال السيد السند : إنها بمعنى ملكة الإدراك تناول العلوم النظرية

(1/54)


الأول : العلوم إما نظرية أي : غير متعلقة بكيفية عمل وإما عملية أي : متعلقة بها

(1/54)


فالمنطق والحكمة العملية والطب العملي وعلم الخياطة كلها داخلة في العملي لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل إما ذهني كالمنطق أو خارجي كالطب مثلا توضيحه أن العملي والنظري يستعملان لمعان :

(1/54)


أحدها : في تقسيم العلوم

(1/54)


مطلقا كما عرفته

(1/54)


وثانيها : في تقسيم الحكمة

(1/54)


فإن العملي هناك علم بما يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا . والنظري علم بما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا . ( 1 / 55 )

(1/54)


وثالثها : ما ذكر في تقسيم الصناعات

(1/55)


من أنها عملية أي يتوقف حصولها على ممارسة العمل أو نظرية لا يتوقف حصولها على ممارسة العمل بل يتوقف على النظر فقط . وعلى هذا فعلم الفقه والنحو والمنطق والحكمة العملية والطب العلمي خارجة عن العملي إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال بخلاف علوم الخياطة والحياكة والحجامة لتوقفها على الممارسة والمزاولة

(1/55)


والعملي بالمعنى الأول أعم من العملي المذكور في تقسيم الحكمة لأنه يتناول ما يتعلق بكيفية عمل ذهني كالمنطق ولا يتناوله العملي المذكور في تقسيم الحكمة لأنه هو الباحث عن أحوال ما لاختيارنا مدخل في وجوده مطلقا . أو الخارجي . وموضوع المنطق معقولات ثانية لا يحاذي بها أمر في الخارج ووجودها الذهني لا يكون مقدورا لنا فلا يكون داخلا في العملي بهذا المعنى
وأما العملي المذكور في تقسيم الصناعة فهو أخص من العملي بكلا المعنيين لأنه قسم من الصناعة المفسرة بالعلم بالمتعلق بكيفية العمل سواء حصل بمزاولة العمل أو لا . فالعملي بالمعنى الأول نفس الصناعة وبالمعنى الثاني أخص من الأول لكنه أعم من هذا المعنى الثالث لعدم المزاولة ثمة بخلافها هاهنا

(1/55)


الثاني : العلوم إما آلية أو غير آلية

(1/55)


لأنها إما أن لا تكون في نفسها آلة لتحصيل شيء آخر بل كانت مقصودة بذواتها أو تكون آلة له غير مقصودة في أنفسها الثانية تسمى آلية والأولى تسمى غير آلية . ( 1 / 56 )
ثم إنه ليس المراد بكون العلم في نفسه آلة إذ الآلية ذاتية لأن الآلية للشيء تعرض له بالقياس إلى غيره وما هو كذلك وليس ذاتيا بل المراد أنه في حد ذاته بحيث إذا قيس إلى ما هو آلة تعرض له الآلية ولا يحتاج في عروضها له إلى غيره . كما أن الإمكان الذاتي لا يعرض للشيء إلا بالقياس إلى وجوده . والتسمية بالآلية بناء على اشتمالها على الآلة فإن للعلم الآلي مسائل كل منها ما يتوصل له إلى ما هو آلة له وهو الأظهر إذ لا يتوصل لجميع علم إلى علم
ثم اعلم أن مؤدى التقسيمين واحد إذ التقسيمان متلازمان فإن ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره لا بد أن يكون متعلقا بكيفية تحصيله . فهو متعلق بكيفية عمل وما يتعلق بكيفية عمل لا بد أن يكون في نفسه آلة لتحصيل غيره فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي . وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد

(1/55)


ثم اعلم أن غاية العلوم الآلية أي العلة الغائية لها حصول غيرها وذلك لأنها متعلقة بكيفية عمل ومبينة لها
فالمقصود منها حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو مقصودا لأمر آخر يكون هو غاية أخيرة لتلك العلوم وغاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها وذلك لأنها في حد أنفسها مقصودة بذواتها . وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخرى فإن إمكان الترتيب الاتفاقي بل وقوعه لا ينافي كون المرتب عليه مقصودا بالذات إنما المنافي له قصد الترتب
والحاصل أن المراد بالغاية هي الغاية الذاتية التي قصدها المخترع الواضع لا الغاية التي كانت حاملة ( 1 / 57 ) للشارع على الشروع . فإن الباعث للشارع على الشروع في العلوم الآلية يجوز أن يكون حصولها أنفسها وفي العلوم الغير الآلية يجوز أن يكون زائدا على أنفسها . فإن قيل : غاية الشيء علة له ولا يتصور كون الشيء علة لنفسه فكيف يتصور كون غاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها ؟

(1/56)


قيل : الغاية تستعمل على وجهين أحدهما : أن يكون مضافا إلى الفعل وهو الأكثر يقال : غاية هذا الفعل كذا تكون الغاية مترتبة على نفس ذي الغاية وتكون علة لها . الثاني : أن يكون مضافا إلى المفعول يقال : غاية ما فعل كذا تكون الغاية مترتبة على فعله وعلة له لا لذي الغاية أعني ما أضيف إليه الغاية والغاية فيما نحن فيه من القسم الثاني لأن المضاف إليه للغاية ههنا المفعول وهو المحصل أعني العلوم دون الفعل الذي هو التحصيل . فالمراد بغايتها ما يترتب على تحصيلها ويكون علة له لا لها . هذا كله خلاصة ما في ( شرح المطالع ) وحواشيه

(1/57)


الثالث : إلى عربية وغير عربية

(1/57)


الرابع : إلى شرعية وغير شرعية

(1/57)


الخامس : إلى حقيقية وغير حقيقية

(1/57)


السادس : إلى عقلية ونقلية

(1/57)


فالعقلية مالا يحتاج فيه إلى النقل والنقلية بخلاف ذلك ( 1 / 58 )

(1/57)


السابع : إلى العلوم الجزئية وغير الجزئية

(1/58)


فالعلوم التي موضوعاتها أخص من موضوع علم آخر تسمى علوما جزئية كعلم الطب فإن موضوعه وهو الإنسان أخص من موضوع الطبيعي . والتي موضوعاتها أعم تسمى بالعلم الأقدم لأن الأعم أقدم للعقل من الأخص فإن إدراك الأعم قبل إدراك الأخص كذا في ( بحر الجواهر )

(1/58)


التقسيم الثاني :

(1/58)


للعلامة الحفيد وهو ( ( إن العلوم المدونة على نوعين :

(1/58)


الأول : ما دونه المتشرعة

(1/58)


لبيان ألفاظ القرآن أو السنة النبوية لفظا وإسنادا أو لإظهار ما قصد بالقرآن من التفسير والتأويل أو لإثبات ما يستفاد منهما أعني الأحكام الأصلية الاعتقادية أو الأحكام الفرعية العملية أو تعيين ما يتوصل به من الأصول في استنباط تلك الفروع أو ما دون لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة أعني الفنون الأدبية

(1/58)


النوع الثاني : ما دونه الفلاسفة

(1/58)


لتحقيق الأشياء كما هي وكيفية العمل على وفق عقولهم ) ) انتهى
وذكر في علوم المتشرعة : علم القراءة وعلم الحديث وعلم ( 1 / 59 ) أصوله وعلم التفسير وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصوله وعلم الأدب
وقال : ( ( هذا هو المشهور عند الجمهور ولكن للخواص من الصوفية علم يسمى بعلم التصوف . بقي علم المناظرة علم الخلاف والجدل لم يظهر إدراجهما في علوم المتشرعة ولا في علوم الفلاسفة لا يقال الظاهر أن الخلاف والجدل باب من أبواب المناظرة سمي باسم كالفرائض بالنسبة إلى الفقه لأنا نقول الغرض في المناظرة إظهار الصواب والغرض من الجدل والخلاف الإلزام
ثم إن المتشرعة صنفوا في الخلاف وبنوا عليه مسائل الفقه ولم يعلم تدوين الحكماء فيه فالمناسب عدة من الشرعيات والحكماء بنوا مباحثهم على المناظرة لكن لم يدونوا علم المناظرة فيما بينهم ) ) انتهى

(1/58)


التقسيم الثالث :

(1/59)


ما ذكره في ( الفوائد الخاقانية ) : ( ( اعلم أن ههنا تقسيمين مشهورين :

(1/59)


أحدهما :

(1/59)


أن العلوم إما نظرية أي : غير متعلقة بكيفية عمل . وإما عملية أي : متعلقة بها

(1/59)


وثانيهما :

(1/59)


أن العلوم إما أن لا تكون في نفسها آلة لتحصيل شيء آخر بل كانت مقصودة بذواتها وتسمى غير آلية . وإما أن تكون آلة له غير مقصودة في نفسها وتسمى آلية ومؤداهما واحد . فأما ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره لا بد أن يكون متعلقا بكيفية عمل وما يتعلق بكيفية عمل لا بد أن يكون في نفسه آلة لتحصيل غيره
فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي . وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد . ( 1 / 60 )

(1/59)


ثم إن النظري والعملي يستعملان في معان ثلاثة :
أحدها : في تقسيم مطلق العلوم كما ذكرنا فالمنطق والحكمة العملية والطب العملي وعلم الخياطة كلها داخلة في العملي المذكور لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل إما ذهني كالمنطق أو خارجي كالطب مثلا
وثانيها : في تقسيم الحكمة فإنهم بعد ما عرفوا الحكمة بأنه علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية قالوا : تلك الأعيان . أما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولا فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية
وثالثها : ما ذكر في تقسيم الصناعة أي العلم المتعلق بكيفية العمل من أنها إما عملية أي يتوقف حصولها على ممارسة العمل أو نظرية لا يتوقف حصولها عليها . فالفقه والنحو والمنطق والحكمة العملية والطب العلمي خارجة عن العملية بهذا المعنى إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال بخلاف علم الخياطة والحياكة والحجامة لتوقفها على الممارسة والمزاولة

(1/60)


التقسيم الرابع :

(1/60)


وهو مذكور فيه أيضا اعلم أن العلم ينقسم إلى حكمي وغير حكمي . والأخير ينقسم إلى ديني وغير ديني . والديني إلى محمود ومذموم ومباح . ووجه الضبط أنه إما أن لا يتغير بتغير الأمكنة ( 1 / 61 ) والأزمان ولا يتبدل بتبدل الدول والأديان كالعلم بهيئة الأفلاك أولا
فالأول : العلوم الحكمية ويقال لها : العلوم الحقيقية أيضا أي الثابتة على الدهور والأعوام
والثاني : إما أن يكون منتميا إلى الوحي ومستفادا من الأنبياء عليهم السلام من غير أن يتوقف على تجربة وسماع وغيرهما أولا
فالأول : العلوم الدينية ويقال لها الشرعية أيضا
والثاني العلوم الغير الدينية كالطب لكونه ضروريا في بقاء الأبدان والحساب لكونه ضروريا في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها فمحمودة وإلا فإن لم يكن له عاقبة حميدة فمذموم كعلم السحر والطلسمات والشعبذة والتلبيسات وإلا فمباح كعلم الأشعار التي لا سخف فيها وكتواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يجري مجراها . وهذا التفاوت بالنسبة إلى الغايات وإلا فالعلم من حيث إنه علم فضيلة لا تنكر ولا تذم . فالعلم بكل شيء أولى من جهله فإياك أن تكون من الجاهلين

(1/60)


التقسيم الخامس :

(1/61)


ما ذكره صاحب ( شفاء المتألم ) وهو : أن كل علم إما أن يكون مقصودا لذاته أولا
والأول : العلوم الحكمية وهي إما أن تكون مما يعلم لتعتقد فالحكمة النظرية أو مما يعلم ليعمل بها . فالحكمة العملية . ( 1 / 62 )
والأول : ينقسم إلى أعلى وهو العلم الإلهي وأدنى وهو الطبيعي وأوسط وهو الرياضي . لأن النظر إما في أمور مجردة عن المادة أو في أمور مادية في الذهن والخارج فهو الطبيعي أو في أمور يصح تجردها عن المواد في الذهن فقط فهو الرياضي وهو أربعة أقسام لأن نظر الرياضي إما أن يكون فيما يمكن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقى على حد مشترك بينهما أولا . وكل منهما إما قار الذات أولا . والأول الهندسة والثاني : الهيئة والثالث : العدد والرابع : الموسيقات
والحكمة العملية قسمان : علم السياسة وعلم الأخلاق . لأن النظر إما مختص بحال الإنسان أولا . الثاني : هو الأول وأيضا النظر فيه إما في إصلاح كافة الخلق في أمور المعاش والمعاد فذلك يرجع إلى علم الشريعة وعلومها معلومة . وإما من حيث اجتماع الكلمة الاجتماعية وقيام أمر الخلق فهو الأحكام السلطانية أي السياسة فإن اختص بجماعة معينة فهو تدبير المنزل

(1/61)


والثاني : وهو مالا يكون مقصودا لذاته بل آلة يطلب بها العصمة من الخطأ في غيرها . فهو إما ما يطلب العصمة عن الخطأ فيه من المعاني أو ما يتوصل به إلى إدراكها من لفظ أو كتابة . والأول : علم المنطق . والثاني : علم الأدب . وما يبحث فيه عن الدلالات اللسانية أو الدلالات البيانية
فالثاني : علم الخط . والأول : يختص بالدلالات الإفرادية أو التركيبية أو يكون مشتركا بينهما . والأول : إن كان البحث فيه عن المفردات فهو علم اللغة . وإن كان البحث فيه عنها من صيغها فعلم الصرف . والثاني : إما أن يختص بالموزون أولا . الأول : إن اختص بمقاطع الأبيات فعلم القافية وإلا فعلم العروض . والثاني : ( 1 / 63 ) إن كانت العصمة به عن الخطأ في تأدية أصل المعنى فهو النحو وإلا فهو علم البلاغة . والثالث : علم الفصاحة ثم علم البلاغة إن كان ما يطلب به العصمة عن الخطأ في تطبيق الكلام لمقتضى الحال فعلم المعاني . وإن كان في أنواع الدلالة ومعرفة كونها خفية أو جلية فعلم البيان . وأما علم الفصاحة فإن اختص بالعصمة عن الخطأ في تركيب المفردات من حيث التحسين فعلم البديع

(1/62)


التقسيم السادس :

(1/63)


ما ذكره صاحب ( المفتاح ) وهو أحسن من الجميع حيث قال : ( ( علم أن للأشياء وجودا في أربع مراتب : في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان . وكل سابق منها وسيلة إلى اللاحق لأن الخط دال على الألفاظ وهذه على ما في الأذهان وهذا على ما في الأعيان . والوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي وأما الأولان فمجازيان قطعا
ثم العلم المتعلق بالثلاث الأول آلي البتة . وأما العلم المتعلق بالأعيان فإما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل غيره أو نظري يقصد به حصول نفسه . ثم إن كلا منهما إما أن يبحث فيه من حيث إنه مأخوذ من الشرع فهو العلم الشرعي أو من حيث إنه مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي . فهذه هي الأصول السبعة ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه وتتبع ما فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعا ولعلي سأزيد بعد هذا ) ) انتهى . ( 1 / 64 )

(1/63)


فرتب كتابه على سبع دوحات لكل أصل دوحة . وجعل لكل دوحة شعبا لبيان الفروع

(1/64)


فما أورده في الأولى : من العلوم الخطية

(1/64)


علم أدوات الخط . علم قوانين الكتابة . علم تحسين الحروف . علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها . علم ترتيب حروف التهجي . علم تركيب أشكال بسائط الحروف . علم إملاء الخط العربي . علم خط المصحف . علم خط العروض

(1/64)


وذكر في الثانية : العلوم المتعلقة بالألفاظ

(1/64)


وهي : علم مخارج الحروف . علم اللغة . علم الوضع . علم الاشتقاق . علم التصريف . علم النحو . علم المعاني . علم البيان . علم البديع . علم العروض . علم القوافي . علم قرض الشعر . علم مبادئ الشعر . علم الإنشاء . علم مبادئ الإنشاء وأدواته . علم المحاضرة . علم الدواوين . علم التواريخ
وجعل من فروع العلوم العربية : علم الأمثال . علم وقائع الأمم ورسومهم . علم استعمالات الألفاظ . علم الترسل . علم الشروط والسجلات . علم الأحاجي والأغلوطات . علم الألغاز . علم المعمى . علم التصحيف . علم المقلوب . علم الجناس . علم مسامرة الملوك . علم حكايات الصالحين . علم أخبار الأنبياء عليهم السلام . علم المغازي والسير . علم تاريخ الخلفاء . علم طبقات القراء . علم طبقات المفسرين . علم طبقات المحدثين . علم سير الصحابة . علم طبقات الشافعية . علم طبقات الحنفية . علم طبقات المالكية . علم طبقات الحنابلة . علم طبقات النحاة . علم طبقات الأطباء

(1/64)


وذكر في الثالثة : العلوم الباحثة عما في الأذهان من المعقولات الثانية

(1/64)


( 1 / 65 ) وهي علم المنطق علم آداب الدرس . علم النظر . علم الجدل . علم الخلاف

(1/65)


وذكر في الرابعة : العلوم المتعلقة بالأعيان

(1/65)


وهي العلم الإلهي . والعلم الطبيعي . والعلوم الرياضية وهي أربعة : علم العدد . علم الهندسة . علم الهيئة . علم الموسيقى
وجعل من فروع العلم الإلهي علم معرفة النفس الإنسانية . علم معرفة النفس الملكية . علم معرفة المعاد . علم أمارات النبوة . علم مقالات الفرق
وجعل من فروع العلم الطبيعي علم الطب . علم البيطرة . علم البيزرة . علم النبات . علم الحيوان . علم الفلاحة . علم المعادن . علم الجواهر . علم الكون والفساد . علم قوس قزح . علم الفراسة . علم تعبير الرؤيا . علم أحكام النجوم . علم السحر . علم الطلسمات . علم السيميا . علم الكيمياء
وجعل من فروع الطب علم التشريح . علم الكحالة . علم الأطعمة . علم الصيدلة . علم طبخ الأشربة والمعاجين . علم قلع الآثار من الثياب . علم تركيب أنواع المداد . علم الجراحة . علم الفصد . علم الحجامة . علم المقادير والأوزان . علم الباه
وجعل من فروع علم الفراسة علم الشامات والخيلان . علم الأسارير . علم الأكتاف . علم عيافة الأثر . علم قيافة البشر . علم الاهتداء بالبراري والأقفار . علم الريافة . علم الاستنباط . علم نزول الغيث . علم العرافة . علم الاختلاج . ( 1 / 66 )

(1/65)


وجعل من فروع علم أحكام النجوم . علم الاختيارات . علم الرمل . علم القرعة . علم الطيرة
وجعل من فروع السحر علم الكهانة . علم النيرنجات . علم الخواص . علم الرقى . علم العزائم . علم الاستحضار . علم دعوة الكواكب . علم القلفطيرات . علم الخفاء . علم الحيل الساسانية . علم كشف الدك . علم الشعبذة . علم تعلق القلب . علم الاستعانة بخواص الأدوية
وجعل من فروع الهندسة علم عقود الأبنية . علم المناظرة . علم المرايا المحرقة . علم مراكز الأثقال . علم جر الأثقال . علم المساحة . علم استنباط المياه . علم الآلات الحربية . علم الرمي . علم التعديل . علم البنكامات . علم الملاحة . علم السباحة . علم الأوزان والموازين . علم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء

(1/66)


وجعل من فروع الهيئة : علم الزيجات والتقويم . علم حساب النجوم . علم كتابة التقاويم . علم كيفية الأرصاد . علم الآلات الرصدية . علم المواقيت . علم الآلات الظلية . علم الأكر . علم الأكر المتحركة . علم تسطيح الكرة . علم صور الكواكب . علم مقادير العلويات . علم منازل القمر . علم جغرافيا . علم مسالك البلدان . علم البرد ومسافاتها . علم خواص الأقاليم . علم الأدوار والأكوار . علم القرانات . علم الملاحم . علم المواسم . علم مواقيت الصلاة . علم وضع الإسطرلاب . علم عمل الإسطرلاب . علم وضع الربع المجيب والمقنطرات . علم عمل ربع الدائرة . علم آلات الساعة
وجعل من فروع علم العدد : علم حساب التخت والميل . علم الجبر والمقابلة . علم حساب الخطائين . علم حساب الدور والوصايا . علم ( 1 / 67 ) حساب الدراهم والدنانير . علم حساب الفرائض . علم حساب الهواء . علم حساب العقود بالأصابع . علم أعداد الوفق . علم خواص الأعداد . علم التعابي العددية
وجعل من فروع الموسيقى : علم الآلات العجيبة . علم الرقص . علم الغنج

(1/66)


وذكر في الخامسة : العلوم الحكمية العملية

(1/67)


وهي : علم الأخلاق . علم تدبير المنزل . علم السياسة
وجعل من فروع الحكمة العملية : علم آداب الملوك . علم آداب الوزارة . علم الاحتساب . علم قود العساكر والجيوش

(1/67)


وذكر في السادسة : العلوم الشرعية

(1/67)


وهي : علم القراءة . علم تفسير القرآن . علم رواية الحديث . علم دراية الحديث . علم أصول الدين المسمى بالكلام . علم أصول الفقه . علم الفقه
وجعل من فروع القراءة : علم الشواذ . علم مخارج الحروف . علم مخارج الألفاظ . علم الوقوف . علم علل القرآن . علم رسم كتابة القرآن . علم آداب كتابة المصحف
وجعل من فروع الحديث : علم شرح الحديث . علم أسباب ورود الحديث وأزمنته . علم ناسخ الحديث ومنسوخه . علم تأويل أقوال النبي عليه الصلاة والسلام . علم رموز الحديث وإشاراته . علم غرائب لغات الحديث . علم دفع الطعن عن الحديث . علم تلفيق الأحاديث . علم أحوال رواة الأحاديث . علم طب النبي عليه الصلاة والسلام . ( 1 / 68 )

(1/67)


وجعل من فروع علم التفسير : علم المكي والمدني . علم الحضري والسفري . علم النهاري والليلي . علم الصيفي والشتائي . علم الفراشي والنومي . علم الأرضي والسماوي . علم أول ما نزل وآخر ما نزل . علم سبب النزول . علم ما نزل على لسان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - علم ما تكرر نزوله . علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه . علم ما نزل مفرقا وما نزل جمعا . علم ما نزل مشيعا وما نزل مفردا . علم ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل . علم كيفية إنزال القرآن . علم أسماء القرآن وأسماء سوره . علم جمعه وترتيبه . علم عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه . علم حفاظه ورواته . علم العالي والنازل من أسانيده . علم المتواتر والمشهور . علم بيان الموصول لفظا والمفصول معنى . علم الإمالة والفتح . علم الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب . علم المد والقصر . علم تخفيف الهمزة . علم كيفية تحمل القرآن . علم آداب تلاوته وتاليه . علم جواز الاقتباس . علم ما وقع فيه . بغير لغة الحجاز . علم ما وقع فيه من غير لغة العرب
علم غريب القرآن . علم الوجوه والنظائر . علم معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسر . علم المحكم والمتشابه . علم مقدم القرآن ومؤخره . علم عام القرآن وخاصه . علم ناسخ القرآن ومنسوخه . علم مشكل القرآن . علم مطلق القرآن ومقيده . علم منطوق القرآن ومفهومه . علم وجوه مخاطباته . علم حقيقة ألفاظ القرآن ومجازها
علم تشبيه القرآن واستعاراته . علم كنايات القرآن وتعريضاته . علم الحصر والاختصاص . علم الإيجاز والإطناب . علم الخبر والإنشاء . علم بدائع القرآن . علم فواصل الآي . علم خواتم السور . علم مناسبة ( 1 / 69 ) الآيات والسور . علم الآيات المتشابهات
علم إعجاز القرآن . علم العلوم المستنبطة من القرآن . علم أقسام القرآن . علم جدل القرآن . علم ما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب . علم مبهمات القرآن . علم فضائل القرآن . علم أفضل القرآن وفاضله . علم مفردات القرآن . علم خواص القرآن . علم مرسوم الخط وآداب كتابته . علم تفسيره وتأويله وبيان شرفه . علم شروط المفسر وآدابه
علم غرائب التفسير . علم طبقات المفسرين . علم خواص الحروف . علم الخواص الروحانية من الأوفاق . علم التصريف بالحروف والأسماء . علم الحروف النورانية والظلمانية . علم التصريف بالاسم الأعظم . علم الكسر والبسط . علم الزايرجة . علم الجفر والجامعة . علم دفع مطاعن القرآن

(1/68)


وجعل من فروع الحديث : علم المواعظ . علم الأدعية . علم الآثار . علم الزهد والورع . علم صلاة الحاجات . علم المغازي
وجعل من فروع أصول الفقه : علم النظر . علم المناظرة . علم الجدل
وجعل من فروع الفقه : علم الفرائض . علم الشروط والسجلات . علم القضاء . علم حكم التشريع . علم الفتاوى
فيكون جميع ما ذكره من العلوم المتعلقة بطريق النظر ثلاثمائة وخمسة علوم
ثم إنه جعل الطرف الثاني من كتابه في بيان العلوم المتعلقة بالتصفية ( 1 / 70 ) التي هي ثمرة العمل بالعلم فلخص فيه كتاب ( الإحياء ) للإمام الغزالي ولم يذكر علم التصوف . فلله دره في الغوص على بحار العلوم وأبرز دررها
فإن قيل : إنه قصد تكثير أنواع العلوم فأورد في فروعها ما أورد كذكره في فروع علم التفسير ما ذكره السيوطي في ( الإتقان ) من الأنواع وهلا يرد عليه أنه إن أراد بالفروع المقاصد للعلم فعلم الطب مثلا يصل إلى ألوف من العلوم . وإن أراد ما أفرد بالتدوين فلم يستوعب الأقسام في كثير من المباحث التي أفردت بالتدوين وقد أخل بذكرها على أنه أدخل في فروع علم ما ليس منه قلت : نعم يرد لكن الجواد قد يكبو والفتى قد يصبو أو لا تعد إلا هفوات العارف ويدخل الزيوف على أعلى الصيارف

(1/69)


التقسيم السابع :

(1/70)


لصاحب ( مدينة العلوم ) ويأتي في أول القسم الثاني من هذا الكتاب وما أوفقه بهذا التقسيم كأنه هو
قف : ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب سيما الطويلة سهل ( 1 / 71 ) بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها كما يشاهد في الأبنية العظيمة والهياكل القديمة حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر
هذا جوابي عما يرد على كتابي أيضا . وقد كتب أستاذ العلماء البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصفهاني معتذرا عن كلام استدركه عليه ( ( إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده : لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل . وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر ) ) انتهى

(1/70)


هذا اعتذار قليل المقدار عن جميع الإيرادات والأنظار إجمالا وأما التفصيل فسيأتي في موضع كل علم مع توجيهه بإنصاف وحلم وربما زيد على ما ذكره من العلوم على طريق الاستدراك بتمكين مانح القريحة والذهن الدراك
( 1 / 72 )

(1/71)


الفصل السادس : في بيان أجزاء العلوم

(1/72)


قالوا : كل علم من العلوم المدونة لا بد فيه من أمور ثلاثة : الموضوع والمسائل والمبادئ . وهذا القول مبني على المسامحة فإن حقيقة كل علم مسائله وعد الموضوع والمبادئ من الأجزاء إنما هو لشدة اتصالهما بالمسائل التي هي المقصودة في العلم
أما الموضوع فقالوا : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وتوضحيه : إن كمال الإنسان بمعرفته أعيان الموجودات من تصوراتها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية
ولما كانت معرفتها بخصوصها متعذرة مع عدم إفادتها كمالا معتدا به لتغيرها وتبدلها أخذوا المفهومات الكلية الصادقة عليها ذاتية كانت أو عرضية وبحثوا عن أحوالها من حيث انطباقها عليها ليفيد علمها بوجه كلي علما باقيا أبد الدهر
ولما كان أحوالها متكثرة وضبطها منتشرة مختلطة متعسرا اعتبروا الأحوال الذاتية لمفهوم مفهوم وجعلوها علما منفردا بالتدوين وسموا ذلك المفهوم موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه فصارت كل طائفة من الأحوال المتشاركة في موضوع علما منفردا ممتازا في نفسه عن طائفة أخرى ( 1 / 73 ) متشاركة في موضوع آخر فجاءت علومهم متمايزة في أنفسها بموضوعاتها
وهذا أمر استحساني إذ لا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم ولا من أن تعد مسائل كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد علما واحدا ويفرد بالتدوين
فالامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنما هو للمعلومات بالأصالة وللعلوم بالتبع والحاصل بالتعريف . على عكس ذلك إن كان تعريفا للعلم وإن كان تعريفا للمعلوم فالفرق أنه قد لا يلاحظ الموضوع

(1/72)


ثم إنهم عمموا الأحوال الذاتية وفسروها بما يكون محمولا على ذلك المفهوم إما لذاته أو لجزئه الأعم أو المساوي فإن له اختصاصا بالشيء من حيث كونه من أحوال مقومه أو للخارج المساوي له سواء كان شاملا لجميع أفراد ذلك المفهوم على الإطلاق أو مع مقابله مقابلة التضاد أو العدم والملكة دون مقابلة السلب والإيجاب إذ المتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا اختصاص لهما بمفهوم دون مفهوم ضبطا للانتشار بقدر الإمكان
فأثبتوا الأحوال الشاملة على الإطلاق لنفس الموضوع والشاملة مع مقابلتها لأنواعه واللاحقة للخارج المساوي لعرضه الذاتي . ثم إن تلك الأعراض الذاتية لها عوارض ذاتية شاملة لها على الإطلاق أو على التقابل فأثبتوا العوارض الشاملة على الإطلاق لنفس الأعراض الذاتية والشاملة على التقابل لأنواع تلك الأعراض وكذلك عوارض تلك العوارض
وهذه العوارض في الحقيقة قيود للأعراض المثبتة للموضوع ولأنواعه إلا أنها لكثرة مباحثها جعلت محمولات على الأعراض . وهذا تفصيل ما قالوا : معنى البحث عن الأعراض الذاتية أن تثبت تلك الأعراض لنفس الموضوع أو لأنواعه أو لأعراضه ( 1 / 74 ) الذاتية أو لأنواعها أو لأغراض أنواعها
وبهذا يندفع ما قيل : إنه ما من علم إلا ويبحث فيه عن الأحوال المختصة بالمعادن والنباتات والحيوانات وذلك لأن المبحوث عنه في العلم الطبيعي أن الجسم ما ذو طبيعة أو ذو نفس آلي أو غير آلي وهي من عوارضه الذاتية والبحث عن الأحوال المختصة بالعناصر وبالمركبات التامة وغير التامة كلها تفصيل لهذه العوارض وقيود لها . ولاستصعاب هذا الإشكال قيل : المراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم كقول صاحب علم أصول الفقه : الكتاب يثبت الحكم قطعا
أو على أنواعه كقوله : الأمر يفيد الوجوب . أو على أعراضه الذاتية كقوله : يفيد القطع . أو على أنواع أعراضه الذاتية كقوله : العام الذي خص منه يفيد الظن

(1/73)


وقيل : معنى قولهم يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أنه يرجع البحث فيه إليها بأن يثبت أعراضه الذاتية له أو يثبت لنوعه ما هو عرض ذاتي لذلك النوع أو لعرضه الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك العرض أو يثبت لنوع العرضي الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك النوع . ولا يخفى عليك أنه يلزم دخول العلم الجزئي في العلم الكلي كعلم الكرة المتحركة في علم الكرة وعلم الكرة في العلم الطبيعي لأنه يبحث فيها عن العوارض الذاتية لنوع الكرة أو الجسم الطبيعي أو لعرضه الذاتي أو لنوع عرضه الذاتي
ثم اعلم أن هذا الذي ذكر من تفسير الأحوال الذاتية إنما هو على رأي المتأخرين الذاهبين إلى أن اللاحق للشيء بواسطة جزئه الأعم من أعراضه الذاتية المبحوث عنها في العلم فإنهم ذكروا أن العرض ( 1 / 75 ) هو المحمول على الشيء الخارج عنه وأن العرض الذاتي هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته بأن يكون منتهاه الذات كلحوق إدراك الأمور الغريبة للإنسان بالقوة أو يلحقه بواسطة جزئه الأعم كلحوق التحيز له لكونه جسما أو المساوي كلحوق التكلم له لكونه ناطقا أو يلحقه بواسطة أمر خارج مساو كلحوق التعجب له لإدراكه الأمور المستغربة
وأما ما يلحق الشيء بواسطة أمر خارج أخص أو أعم مطلقا أو من وجه أو بواسطة أمر مبائن فلا يسمى عرضا ذاتيا بل عرضا غريبا

(1/74)


والتفصيل أن العوارض ستة لأن ما يعرض الشيء إما أن يكون عروضه لذاته أو لجزئه أو لأمر خارج عنه سواء كان مساويا له أو أعم منه أو أخص أو مبائنا فالثلاثة الأول تسمى أعراضا ذاتية لاستنادها إلى ذات المعروض أي لنسبتها إلى الذات نسبة قوية وهي كونها لاحقة بلا واسطة أو بواسطة لها خصوصية بالتقديم أو بالمساواة
والبواقي تسمى أعراضا غريبة لعدم انتسابها إلى الذات نسبة قوية . وأما المتقدمون فقد ذهبوا إلى أن اللاحق بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الغريبة التي لا يبحث عنها في ذلك العلم وعرفوا العرض الذاتي بالخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته أو لما يساويه سواء كان جزءا لها أو خارجا عنها
قيل : هذا هو الأولى إذ الأعراض اللاحقة بواسطة الجزء الأعم تعم الموضوع وغيره فلا تكون آثارا مطلوبة له لأنها هي الأعراض المعينة المخصوصة التي تعرضه بسبب استعداده المختص ثم في عد العارض بواسطة المباين مطلقا من الأعراض الغريبة نظرا إذ قد يبحث في العام الذي موضوعه الجسم الطبيعي عن الألوان مع كونها عارضة له ( 1 / 76 ) بواسطة مبانيه وهو السطح
وتحقيقه أن المقصود في كل علم مدون بيان أحوال موضوعه أعني أحواله التي توجد فيه ولا توجد في غيره ولا يكون وجودها فيه بتوسط نوع مندرج تحته فإن ما يوجد في غيره لا يكون من أحواله حقيقة بل هو من أحوال ما هو أعم منه
والذي يوجد فيه فقط لكنه لا يستعد لعروضه ما لم يصر نوعا مخصوصا من أنواعه كان من أحوال ذلك النوع حقيقة . فحق هاتين الحالين أن يبحث عنهما في علمين موضوعهما ذلك الأعم والأخص وهذا أمر استحساني كما لا يخفى

(1/75)


ثم الأحوال الثابتة للموضوع على الوجه المذكور على قسمين :
أحدهما : ما هو عارض له وليس عارضا لغيره إلا بتوسطه وهو العرض الأولي
وثانيهما : ما هو عارض لشيء آخر وله تعلق بذلك الموضوع بحيث يقتضي عروضه له بتوسط ذلك الآخر الذي يجب أن لا يوجد في غير الموضوع سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه إما مساويا له في الصدق أو مباينا له فيه ومساويا في الوجود
فالصواب أن يكتفي في الخارج بمطلق المساواة سواء كانت في الصدق أو في الوجود فإن المباين إذا قام بالموضوع مساويا له في الوجود ووجد له عارض قد عرض له حقيقة لكنه يوصف به الموضوع كان ذلك العارض من الأحوال المطلوبة في ذلك العلم لكونها ثابتة للموضوع على الوجه المذكور
واعلم أيضا أن المطلوب في العلم بيان إنية تلك الأحوال أي : ثبوتها للموضوع سواء علم لميتها أي علة ثبوتها له أو لا
واعلم أيضا أن المعتبر في العرض الأولي هو انتفاع الواسطة في ( 1 / 77 ) العروض دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم . يشهد بذلك أنهم صرحوا بأن السطح من الأعراض الأولية للجسم التعليمي مع أن ثبوته بواسطة انتهائه وانقطاعه وكذلك الخط للسطح والنقطة للخط
وصرحوا بأن الألوان ثابتة للسطوح أولا وبالذات مع أن هذه الأعراض قد فاضت على محالها من المبدأ الفياض . وعلى هذا فالمعتبر فيما يقابل العرض الأولي أعني سائر الأقسام ثبوت الواسطة في العروض
وإن شئت الزيادة على ما ذكرنا فارجع إلى ( شرح المطالع ) وحواشيه وغيرها من كتب المنطق

(1/76)


فائدة قالوا : يجوز أن تكون الأشياء الكثيرة موضوعا لعلم واحد لكن لا مطلقا بل بشرط تناسبها بأن تكون مشتركة في ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي للهندسة فإنها تشارك في جنسها وهو المقدار أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات للطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية القصوى في ذلك العلم
فائدة : قالوا : الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين . وقال صدر الشريعة : ( ( هذا غير ممتنع فإن الشيء الواحد له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض . منها ألا ترى أنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعة ) ) وفيه نظر ( 1 / 78 )
أما أولا : فلأنهم لما حاولوا معرفة أحوال أعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضها الذاتية فحصلت لهم مسائل كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع . وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علما واحدا يفرد بالتدوين والتسمية . وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع . فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع . فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع بشيء أو أشياء متناسبة فيبحث عن جميع عوارضه ولا معنى لتمايز العلوم . إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذلك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر . وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة والموضوع معلوم بين الموجود وهو الصالح سببا للتمايز

(1/77)


وأما ثانيا : فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة فلكل أحد أن يجعله علوما متعددة بهذا الاعتبار مثلا يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علما ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك . فيكون الفقه علوما متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف
فائدة : قال صدر الشريعة : ( ( قد تذكر الحيثية في الموضوع ) ) . وله معنيان
أحدهما : أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال : الموجود من حيث إنه موجود أي : من هذه الجهة . وبهذا الاعتبار موضوع ( 1 / 79 ) العلم الإلهي فيبحث فيه عن الأحوال التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما . ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية أي حيثية الوجود لأن الموضوع ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية لا ما يبحث عنه وعن أجزائه
وثانيهما : أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء عوارض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم من نوع منها
فالحيثية بيان لذلك النوع فيجوز أن يبحث عنها فقولهم : موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض . وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى . الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد الأول لم يبحث عنها

(1/78)


قيل : ولقائل أن يقول : لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع بل قيد لموضوعيته بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية . وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع لا بيانا للأعراض الذاتية على ما هو ظاهر كلام القوم لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع ولم يلزم للقوم ما لزم لصدر الشريعة - رحمه الله - من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار
وأما الإشكال بلزوم عدم كون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما يعرض للموضوع من جهة نفسها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه مثلا : ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض فالمشهور في جوابه : أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض وهذا ليس من الأعراض المبحوث عنها
والتحقيق أن ( 1 / 80 ) الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث عنه في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض إنما يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها أي : يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحقوها للموضوع بواسطة هذه الحيثية البتة . وتحقيق هذه المباحث يطلب من ( التوضيح ) و ( التلويح )

(1/79)


وأما المسائل فهي القضايا التي يطلب بيانها في العلوم وهي في الأغلب نظريات وقد تكون ضرورية فتورد في العلم إما لاحتياجها إلى تنبيه يزيل عنها خفاءها أو لبيان لميتها لأن القضية قد تكون بديهية دون لميتها ككون النار محرقة فإنه معلوم الإنية أي : الوجود مجهول اللمية كذا في ( شرح المواقف ) وبعض حواشي ( تهذيب المنطق ) وقال المحقق التفتازاني - رحمه الله - : ( ( المسألة لا تكون إلا نظرية ) ) وهذا مما لا اختلاف فيه لأحد وما قيل من احتمال كونها غير كسبية فهو ظاهر
ثم للمسائل موضوعات ومحمولات أما موضوعها فقد يكون موضوع العلم كقولنا : كل مقدار إما مشارك للآخر أو مبائن والمقدار موضوع علم الهيئة وقد يكون موضوع العلم مع عرض ذاتي كقولنا : كل مقدار وسط في النسبة فهو ضلع ما يحيط به الطرفان فقد أخذ في المسألة المقدار مع كونه وسطا في النسبة وهو عرض ذاتي . وقد يكون نوع موضوع العلم كقولنا : كل خط يمكن تصنيفه ( 1 / 81 ) فإن الخط نوع من المقدار
وقد يكون نوعا مع عرض ذاتي كقولنا : كل خط قام على خط فإن زاويتي جنبتيه قائمتان أو مساويتان لهما فالخط نوع من المقدار وقد أخذ في المسألة مع قيامه على خط وهو عرض ذاتي . وقد يكون عرضا ذاتيا كقولنا : كل مثلث فإن زواياه مثل القائمتين فالمثلث عرض ذاتي للمقدار وقد يكون نوع عرض ذاتي كقولنا : كل مثلث متساوي الساقين فإن زاويتي قاعدته متساويتان

(1/80)


وبالجملة : فموضوعات المسائل هي موضوعات العلم أو أجزاؤها أو أعراضها الذاتية أو جزئياتها . وأما محمولاتها فالأعراض الذاتية لموضوع العلم فلا بد أن تكون خارجة عن موضوعاتها لامتناع أن يكون جزء الشيء مطلوبا بالبرهان لأن الأجزاء بينه الثبوت للشيء . كذا في ( شرح الشمسية )
اعلم : أن من عادة المصنفين أن يذكروا عقيب الأبواب ما شذ منها من المسائل فتصير مسائل من أبواب متفرقة فترجم تارة بمسائل منشورة وتارة بمسائل شتى كذا في ( فتح القدير ) وأكثر ما يوجد ذلك في كتب الفقه
وأما المبادئ فهي التي تتوقف عليها مسائل العلم أي تتوقف على نوعها مسائل العلم أي التصديق بها إذ لا توقف للمسألة على دليل مخصوص . وهي إما تصورات أو تصديقات . ( 1 / 82 )
أما التصورات : فهي حدود الموضوعات أي : ما يصدق عليه موضوع العلم لا مفهوم الموضوع كالجسم الطبيعي وحدود أجزائها كالهيولي والصورة وحدود جزئياتها كالجسم البسيط وحدود أعراضها الذاتية كالحركة للجسم الطبيعي . وخلاصته تصور الأطراف على وجه هو مناط للحكم

(1/81)


وأما التصديقات : فهي مقدمات إما بينة بنفسها وتسمى علوما متعارفة كقولنا في علم الهندسة : المقادير المتساوية لشيء واحد متساوية . وإما غير بينة بنفسها سواء كانت مبينة هناك أو في محل آخر أو في علم آخر يتوقف عليها الأدلة المستعملة في ذلك العلم سواء كانت قياسات أو غيرها من الاستقراء والتمثيل وحصرها في المبينة فيه والمبينة في علم آخر وفي أجزاء القياسات كما توهم محل نظر
ثم الغير البينة بنفسها إما مسلمة فيه أي في ذلك العلم على سبيل حسن الظن وتسمى أصولا موضوعة كقولنا في علم الهندسة : لنا أن نصل بين كل نقطتين بخط مستقيم أو مسلمة في الوقت أي : وقت الاستدلال مع استنكار وتشكك إلى أن تستبين في موضعها وتسمى مصادرات لأنه تصدر بها المسائل التي تتوقف عليها كقولنا فيه : لنا أن نرسم على كل نقطة وبكل بعد دائرة . ونوقش في المثال بأنه لا فرق بينه وبين قولنا : لنا أن نصل الخ في قبول المتعلم بهما بحسن الظن
وأورد مثال المصادرة قول إقليدس : إذا وقع خط على خطين وكانت الزاويتان الداخلتان أقل من قائمتين فإن الخطين إذا أخرجا بتلك الجهة التقيا . لكن لا استبعاد في ذلك إذ المقدمة الواحدة قد تكون أصلا موضوعا عند شخص مصادرة عند شخص آخر . ( 1 / 83 )
ثم الحدود والأصول الموضوعة والمصادرات يجب أن يصدر بها العلم وأما العلوم المتعارفة فعن تصدير العلم بها غنية لظهورها وربما تخصص العلوم المتعارفة بالصناعة إن كانت عامة وتصدر بها في جملة المقدمات كما فعل إقليدس في كتابه

(1/82)


واعلم أن التصدير قد يكون بالنسبة إلى العلم نفسه بأن يقدم عليه جميع ما يحتاج إليه وقد يكون بالنسبة إلى جزئه المحتاج لكن الأول أولى
هذا وقد تطلق المبادئ عندهم على المعنى الأعم وهو ما يبدأ به قبل الشروع في مقاصد العلم
كما يذكر في أوائل الكتب قبل الشروع في العلم لارتباطه به في الجملة سواء كان خارجا من العلم بأن يكون من المقدمات وهي ما يكون خارجا يتوقف عليه الشروع فيه ولو على وجه البصيرة أو على وجه كمال البصيرة ووفور الرغبة في تحصيله بحيث لا يكون عبثا عرفا أو في نظره كمعرفة العلم برسمه المفيد لزيادة البصيرة ومعرفة غايته أو لم يكن خارجا عنه بل داخلا فيه بان يكون من المبادئ أعم من المقدمات أيضا فإن المقدمات خارجة عن العلم لا محالة بخلاف المبادئ والمبادئ بهذا المعنى قد تعد أيضا من أجزاء العلم تغليبا . وإن شئت تحقيق هذا فارجع إلى ( شرح مختصر الأصول ) وحواشيه . ( 1 / 84 )
ومنهم من فسر المقدمة بما يعين في تحصيل الفن فتكون المقدمات أعم كذا قيل : يعني : تكون المقدمات بهذا المعنى أعم من المبادي بالمعنى الأول لا من المبادي بالمعنى الثاني وإن اقتضاه ظاهر العبارة إذ بينها وبين المبادئ بالمعنى الثاني هو المساواة إذ ما يستعان به في تحصيل الفن يصدق عليه أنه مما يتوقف عليه الفن إما مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه كمال البصيرة

(1/83)


وبالجملة : فالمعتبر في المبادئ التوقف مطلقا قال السيد السند : ( ( مبادئ العلم ما يتوقف عليه ذات للمقصود فيه أعني : التصورات التي يبتنى عليها إثبات مسائله وهي قد تعد جزءا منه . وأما إذا أطلقت على ما يتوقف عليه المقصود ذاتا أو تصورا أو شروعا فليست بتمامها من أجزائه فإن تصور الشيء ومعرفة غايته خارجان عنه ولا من جزئيات ما يتضمنه حقيقة لدخوله في العلم قطعا ) ) انتهى . ( 1 / 85 )

(1/84)


الفصل السابع : في بيان الرؤوس الثمانية

(1/85)


قالوا : الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء : الرؤوس الثمانية

(1/85)


أحدها : الغرض من تدوين العلم أو تحصيله

(1/85)


أي : الفائدة المترتبة عليه لئلا يكون تحصيله عبثا في نظره

(1/85)


وثانيها : المنفعة

(1/85)


وهي ما يتشوقه الكل طبعا وهي الفائدة المعتدة بها ليتحمل المشقة في تحصيله ولا يعرض له فتور في طلبه فيكون عبثا عرفا . هكذا في ( تكلمة الحاشية الجلالية ) . وفي ( شرح التهذيب ) و ( شرح إشراق الحكمة ) : إن المراد بالغرض هو العلة الغائية فإن ما يترتب على فعل يسمى فائدة ومنفعة وغاية فإن كان باعثا للفاعل على صدور ذلك الفعل منه يسمى غرضا وعلة غائية وذكرا لمنفعة إنما يجب إن وجدت لهذا العلم منفعة ومصلحة سوى الغرض الباعث وإلا فلا . وبالجملة فالمنفعة قد تكون بعينها الغرض الباعث

(1/85)


وثالثها : السمة

(1/85)


وهي : عنوان الكتاب ليكون عند الناظر إجمال ( 1 / 86 ) ما يفصله الغرض . كذا في ( شرح إشراق الحكمة ) وفي ( تكملة الحاشية الجلالية ) : السمة هي عنوان العلم وكأن المراد منه تعريف العلم برسمه أو بيان خاصة من خواصه ليحصل للطالب علم إجمالي بمسائله ويكون له بصيرة في طلبه . وفي ( شرح التهذيب ) : السمة العلامة وكأن المقصود الإشارة إلى وجه تسمية العلم وفي ذكر وجه التسمية إشارة إجمالية إلى ما يفصل العلم من المقاصد

(1/85)


ورابعها : المؤلف

(1/86)


وهو : مصنف الكتاب ليركن قلب المتعلم إليه في قبول كلامه والاعتماد عليه لاختلاف ذلك باختلاف المصنفين . وأما المحققون فيعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال ولنعم ما قيل : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال . ومن شرط المصنفين أن يحترزوا عن الزيادة على ما يجب والنقصان عما يجب وعن استعمال الألفاظ الغريبة المشتركة وعن رداءة الوضع وهي تقديم ما يجب تأخيره وتأخير ما يجب تقديمه

(1/86)


وخامسها : أنه من أي علم هو ؟

(1/86)


أي من اليقينيات أو الظنيات من النظريات أو العمليات من الشرعيات أو غيرها ليطلب المتعلم ما تليق به المسائل المطلوبة

(1/86)


وسادسها : أنه أية مرتبة هو ؟

(1/86)


أي بيان مرتبته فيما بين العلوم إما باعتبار عموم موضوعه أو خصوصه أو باعتبار توقفه على علم آخر أو عدم توقفه عليه أو باعتبار الأهمية أو الشرف ليقدم تحصيله على ما يجب أو يستحسن تقديمه عليه ويؤخر تحصيله عما يجب أو يستحسن تأخيره عنه . ( 1 / 87 )

(1/86)


وسابعها : القسمة

(1/87)


وهي بيان أجزاء العلم وأبوابه ليطلب المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به ولا يضيع وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به كما يقال : أبواب المنطق تسعة كذا وكذا . وهذا قسمة العلم وقسمة الكتاب كما يقال : كتابنا هذا مرتب على مقدمة بابين وخاتمة . وهذا الثاني كثير شائع لا يخلو عنه كتاب

(1/87)


وثامنها : الأنحاء التعليمية

(1/87)


وهي : أنحاء مستحسنة في طرق التعليم

(1/87)


أحدها : التقسيم

(1/87)


وهو : التكثير من فوق إلى أسفل أي من أعم إلى ما هو أخص كتقسيم الجنس إلى الأنواع والنوع إلى الأصناف والصنف إلى الأشخاص

(1/87)


وثانيها : التحليل

(1/87)


وهو : عكسه أي التكثير من أسفل إلى فوق أي من أخص إلى ما هو أعم كتحليل زيد إلى الإنسان والحيوان وتحليل الإنسان إلى الحيوان والجسم . هكذا في ( تكملة الحاشية الجلالية ) و ( شرح إشراق الحكمة ) وفي ( شرح التهذيب ) كان المراد من التقسيم ما يسمى بتركيب القياس وذلك بأن يقال : إذا أردت تحصيل مطلب من المطالب التصديقية فضع طرفي المطلوب واطلب جميع موضوعات كل واحد منهما وجميع محمولات كل واحد منهما سواء كان حمل الطرفين عليها أو حملها على الطرفين بواسطة أو بغير واسطة . وكذلك اطلب جميع ما سلب عنه الطرفان أو سلب هو عن الطرفين
ثم انظر إلى نسبة الطرفين إلى الموضوعات والمحمولات فإن وجدت من محمولات موضوع المطلوب ما هو موضوع المحمول فقد حصل المطلوب من الشكل الأول أو ما هو محمول على محموله فمن الشكل الثاني أو من موضوعات موضوعه ما هو موضوع لمحموله فمن الشكل الثالث ( 1 / 88 ) أو محمول لمحموله فمن الرابع . كل ذلك بحسب تعدد اعتبار الشرائط بحسب الكيفية والكمية والجهة . كذا في ( شرح المطالع )

(1/87)


فمعنى قولهم : وهو التكثير من فوق أي من النتيجة لأنها المقصود الأقصى بالنسبة إلى الدليل . وأما التحليل فقد قيل في ( شرح المطالع ) ( ( كثيرا ما تورد في العلوم قياسات منتجة للمطالب لا على الهيئات المنطقية اعتمادا على الفطن العارف بالقواعد . فإن أردت أن تعرف أنه على أي شكل من الأشكال فعليك بالتحليل وهو عكس التركيب فحصل المطلوب . فانظر إلى القياس المنتج له فإن كان فيه مقدمة يشاركها المطلوب بكلا جزئيه فالقياس استثنائي . وإن كانت مشاركة للمطلوب بأحد جزئيه فالقياس اقتراني
ثم انظر إلى طرفي المطلوب فتتميز عندك الصغرى عن الكبرى فإن ذلك الجزء إن كان محكوما عليه في النتيجة فهي الصغرى أو محكوما به فهي الكبرى . ثم ضم الجزء الآخر من المطلوب إلى الجزء الآخر من تلك المقدمة فإن تألفا على أحد التأليفات الأربع فما انضم إلى جزئي المطلوب هو الحد الأوسط وتتميز لك المقدمات والأشكال وإن لم يتألفا كان القياس مركبا فاعمل بكل واحد منهما العمل المذكور أي ضع الجزء الآخر من المطلوب والجزء الآخر من المقدمة كما وضعت طرفي المطلوب أولا أي في التقسيم فلا بد أن يكون لكل منهما نسبة إلى شيء ما في القياس وإلا لم يكن القياس منتجا للمطلوب
فإن وجدت حدا مشتركا بينهما فقد تم القياس وإلا فكذا تفعل مرة بعد أخرى إلى أن ينتهي إلى القياس المنتج للمطلوب بالذات وتتبين لك المقدمات والشكل والنتيجة . فقولهم : التكثير من أسفل إلى فوق أي إلى النتيجة ) ) . انتهى

(1/88)


وثالثها : التحديد

(1/88)


أي فعل الحد أي إيراد حد الشيء وهو ( 1 / 89 ) ما يدل على الشيء دلالة مفصلة بما به قوامه بخلاف الرسم فإنه يدل عليه دلالة مجملة
كذا في ( شرح إشراق الحكمة ) وفي ( شرح التهذيب ) كان المراد بالحد المعرف مطلقا وذلك بأن يقال : إذا أردت تعريف شيء فلا بد أن تضع ذلك الشيء وتطلب جميع ما هو أعم منه وتحمل عليه بواسطة أو بغيرها وتميز الذاتيات عن العرضيات بأن تعد ما هو بين الثبوت أو ما يلزم من مجرد ارتفاعه ارتفاع نفس الماهية ذاتيا وما ليس كذلك عرضيا . وتطلب جميع ما هو مساو له فيتميز عندك الجنس من العرض العام والفصل من الخاصة . ثم تركب أي قسم شئت من أقسام المعرف بعد اعتبار الشرائط المذكورة في باب المعرف

(1/88)


ورابعها : البرهان

(1/89)


أي الطريق إلى الوقوف على الحق أي اليقين إن كان المطلوب نظريا وإلى الوقوف عليه والعمل به إن كان عمليا كأن يقال : إذا أردت الوصول إلى اليقين فلا بد أن تستعمل في الدليل بعد محافظة شرائط صحة الصورة . أما الضروريات الست أو ما يحصل منها بصورة صحيحة وهيئة منتجة وتبالغ في التفحص عن ذلك حتى لا يشتبه بالمشهورات والمسلمات والمشبهات وغيرها بعضها ببعض وعد الأنحاء التعليمية بالمقاصد أشبه فينبغي أن تذكر في المقاصد . ولذ ترى المتأخرين كصاحب ( المطالع ) يعدون ما سوى التحديد من مباحث الحجة ولو أحق القياس . وأما التحديد فشأنه أن يذكر في مباحث المعرف . كذا في ( شرح التهذيب )
واعلم أنهم إنما اقتصروا على هذه الثمانية لعدم وجدانهم شيئا آخر يعين في تحصيل الفن ومن وجد لك فليضمه إليها . وهذا أمر استحساني لا يلزم من تركه فساد على مالا يخفى هكذا في ( تكملة الحاشية الجلالية ) ( 1 / 90 )

(1/89)


واعلم أنهم قد يذكرون وجه الحاجة إلى العلم ولا شك أنه ههنا بعينه بيان الغرض منه . وقد يذكرون وجه شرف العلم ويقولون : شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة فإنها أشرف من الدباغة . فإن موضوع الصياغة الذهب والفضة وهما أشرف من موضوع الدباغة التي هي الجلد . وإما بشرف غرضها مثل صناعة الطب فإنها أشرف من صناعة الكناسة لأن غرض الطب إفادة الصحة وغرض الكناسة تنظيف المستراح . وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب إذ ما من واقعة في الكون إلا وهي مفتقرة إلى الفقه إذ به انتظام صلاح الدنيا والدين . بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات . والمراد بذلك بيان مرتبة العلم على ما يفهم مما سبق ويؤيده ما قال السيد السند في ( شرح المواقف )
وأما مرتبة علم الكلام أي شرفه فقد عرفت أن موضوعه أعم الأمور وأعلاها . . . الخ . ( 1 / 91 )

(1/90)


الفصل الثامن : في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به

(1/91)


وفيه : إعلامات

(1/91)


الإعلام الأول : في شرفه وفضله

(1/91)


واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل . قال الله تعالى : ( ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ) وقال تعالى : ( ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) )
وقال تعالى : ( ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ) ) . فانظر كيف ثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وإجلالا ونبلا
وقال : ( ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) )
وقال : ( ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) )
وقال : ( ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به ) ) فيه تنبيه على أنه اقتدر عليه بقوة العلم . ( 1 / 92 )
وقال : ( ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ) ) . بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم
وقال : ( ( وما يعقلها إلا العالمون ) )
وقال : ( ( لعلمه الذين يستنبوطنه منهم ) )
وقال : ( ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ) )
وقال : ( ( فلنقصن عليهم بعلم ) )
وقال : ( ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) )
وقال : ( ( خلق الإنسان علمه البيان ) ) . إلى غير ذلك

(1/91)


وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والتزين عند الأخلاء يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم ويقتدي بفعالهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلي في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام هو إمام والعمل تابعه ( 1 / 93 ) ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء )
أورده ابن عبد البر في كتاب ( جامع بيان العلم ) بإسناده وقال : هو حديث حسن جدا وفي إسناده ضعف . وروي أيضا من طرق شتى موقوفا على معاذ . وقد يقال : الموقوف في مثل هذا كالمرفوع فإن مثله لا يقال بالرأي

(1/92)


وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم
وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) رواه مسلم
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي . ( 1 / 94 )

(1/93)


وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الخير ) . رواه الترمذي
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ) رواه الترمذي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها ) . رواه الترمذي وقال : غريب
وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث ورواه ابن ماجة . والمراد بالحكمة في هذا الحديث السنة دون الحكمة اليونانية بدليل قوله سبحانه : ( ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) )
وقد سافر أهل الحديث - كثر الله تعالى سوادهم - في طلبها إلى أقطار الأرض وكانوا أحق بها وأهلها حيث وجدوها بعد الفحص الكثير والبحث الشديد في بلاد شاسعة ومدائن بعيدة فجمعوها في دواوين الإسلام وامتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو . فجزاهم الله تعالى عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء

(1/94)


وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 1 / 95 ) : ( فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) . رواه الترمذي وابن ماجة . والمراد بالفقه في هذا الحديث وغيره : فهم الكتاب والسنة دون الفقه المصطلح اليوم
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ ) . رواه ابن ماجة ورواه البيهقي في ( شعب الإيمان ) إلى قوله ( مسلم ) وقال : هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف . وقد روي من أوجه كلها ضعيف
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) . رواه الترمذي والدارمي
وعن سخبرة الأزدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من طلب العلم كان كفارة لما مضى ) . رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي : هذا حديث ضعيف الإسناد وأبو داود الراوي يضعف

(1/94)


وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة ) رواه الترمذي . والمراد بالخير : العلم . وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد وأن عاقبة طلب العلم الجنة . وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم . جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )
- يعني ريحها - رواه أحمد ( 1 / 96 ) وأبو داود وابن ماجة . وإذا كان هذا القضاء في حق طالب العلم المحمود فما ظنك بطالب العلم المذموم من علوم اليونان
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) . رواه البيهقي في كتاب ( المدخل ) مرسلا
وعن الحسن مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة ) . رواه الدارمي

(1/95)


اللهم إنك تعلم بطلبي العلم من بدء الشعور إلى هذه الغاية وسأطلبه إن شاء الله تعالى إلى آخر العمر والنهاية . وما مرادي به إلا إحياء السنة المطهرة وإماتة البدعة وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين . وأنا سمي خليفة رسولك أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدرجة الصديقية تلو الدرجة النبوية فصدقني في هذا الرجاء وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين . وقد أحببت رسولك وأصحابه وأئمة السلف وأهل الحق من الخلف الذين قالوا بقول رسولك ولم يشركوا ولم يبدعوا فاحشرني معهم واجعلني في جوارهم في دار النعيم والمرء مع من أحب وإن لم يعمل عمله ولم يجهد جهده في الطاعة . اللهم آمين
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم الرجل الفقيه في الدين - أي العالم بالكتاب والسنة - إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه ) . رواه رزين . ( 1 / 97 )
وعن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر ) رواه الدارمي

(1/96)


وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله عز وجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع ) . رواه البيهقي في ( شعب الإيمان )
وعن ابن عباس قال : ( تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائه ) . رواه الدارمي
وفي حديث ابن عمرو مرفوعا : ( إنما بعثت معلما ) . رواه الدارمي
وعن الأعمش مرفوعا : ( آفة العلم النسيان ) . رواه الدارمي مرسلا
والأخبار والآثار في شرف العلم وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جدا لا يسعها هذا المقام . وقد ألف الحافظ الإمام الحجة هادي الناس إلى المحجة محمد بن أبي بكر القيم كتابه ( مفتاح دار السعادة ) في مجلدين في فضائل العلم وما يليها وهو كتاب نفيس عزيز المقاصد من الله تعالى به علي وأحسن إلي

(1/97)


والمراد بالعلم في الأحاديث المذكورة علم الدين والشرع المبين ( 1 / 98 ) وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة لا ثالث لهما . وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالم قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان وخاضوا فيها خوضا منعهم عن النظر في علوم الإيمان وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان حتى صار علم القرآن مهجورا وعلم الحديث مغمورا وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد وهي كل يوم في ازدياد فإنا لله وإنا إليه راجعون
هذا وقد تكفل كتاباي ( الحطة بذكر الصحاح الستة ) و ( الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة ) ببيان فضيلة علم السنة فإن شئت الزيادة على هذا المقدار فارجع إليهما يزيدانك بصيرة كاملة في هذا الباب والله أعلم بالصواب
وقال الشافعي : ( من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن ) قال الأحنف : ( كل عز ولم يؤيد بعلم فإلى ذل مصيره )

(1/97)


ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان . والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما
ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية
ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة
ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية . ( 1 / 99 )
ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة . وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته . ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية . ( 1 / 100 )

(1/97)


الإعلام الثاني : في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها

(1/100)


وفيه : تعليمات

(1/100)


التعليم الأول : في لذته

(1/100)


اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته لذيذ لغيره فيطلب لأجله
أما الأول : فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء . بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية . ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم : ( ( أين أبناء الملوك من هذه اللذة ) ) سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء . ( 1 / 101 )
ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله

(1/100)


وأما اللذائذ الحاصلة لغيره : أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل . فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذا أفضل الأعمال . وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة
بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها حتى إنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان

(1/101)


التعليم الثاني : في نفعه

(1/101)


اعلم : أن السعادة منحصرة في قسمين : جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دنيوي وديني فالأقسام أربعة :

(1/101)


الأول : هو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية

(1/101)


وهو خفي وخلقي
أشار إلى نفعه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق : ( فإن تعلمه لله خشية إلى آخره . . . )
وإلى نفعه الثاني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة )

(1/101)


الثاني : وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية

(1/101)


وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي والوجداني : إما راحة أو استيلاء والراحة إما ( 1 / 102 ) من مشقة وجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس . وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي

(1/101)


فالراحة أربعة أقسام :

(1/102)


وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وهو الأنيس في الوحشة ) إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب
وقوله : ( والصاحب في الغربة ) إشارة إلى الثاني فانه يقر من الغريب عينه ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها لفقد سرور الأهل والوطن
وقوله : ( والمحدث في الخلوة ) إشارة إلى الثالث لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده وهو ألم ذاتي لأهل الكمال وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة
وقوله : ( الدليل على السراء والضراء ) أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي أي أن العلوم تقوم مقام الرأي السديد إذا استبشر إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس لفقد نور البصيرة فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان

(1/102)


والاستيلاء قسمان :

(1/102)


أحدهما : استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر
وإليه أشار قوله : ( والسلاح على الأعداء ) فبالعلم يزهق الباطل وتندفع الشبهة والجهالة . قيل : لبعض المناظرين فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر إيضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا
وثانيهما : استيلاء يجلب الخير ويذهب الضر
وإليه أشار قوله : ( 1 / 103 ) ( ( والزين عند الأخلاء ) ) أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل :
العلم زين وكنز لا نفاد له ... نعم القرين إذا ما عاقلا صحب

(1/102)


القسم الثاني : ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله سبحانه وتعالى وإما عند الملأ الأعلى وإما عند الملأ الأسفل

(1/103)


الأول : أشار إليه قوله : ( ( يرفع الله سبحانه وتعالى به أقواما ) ) أي يعلي مقامهم ورتبتهم فيجعلهم في الخير قادة وأئمة أي شرفاء الناس وسادتهم والقادة جمع قائد وهو الذي يجذب إلى الخير إما مع الإلزام كالقاضي والوالي اللذين إلزامهما على الظاهر وكالخطيب والواعظ اللذين إلزامهما على الباطن وكالأئمة الذين بعلمهم يهتدي وبحالهم يقتدي
والثاني : أشار إليه قوله : ( ترغب الملائكة في خلتهم ) أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم فرغبوا في محبتهم وأنسوا بملازمتهم وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم
والثالث : أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( يستغفر لهم كل رطب ويابس ) ) فشمل الناطق والنافس . قيل : سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليه في صدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم
القسم الثالث : ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان :
الأول : جلب المصالح والمقاصد ودفع المعائب والمفاسد وإليه . ( 1 / 104 )
أشار قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( به توصل الأرحام ) ) أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم
والثاني : مضرة اجتلاب المفساد برفض القانون الشرعي العاصم . من كل ضلال وإليه أشار قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( وبه يعرف الحلال والحرام ) ) أي بالعلم يتبين أحدهما من الآخر وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام . ( 1 / 105 )

(1/103)


الإعلام الثالث : في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما

(1/105)


اعلم : أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع . لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه
فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة
ومنها : أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا
ومنها : أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم ( 1 / 106 ) بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا : ( كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها
ومنها : أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهانا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم . وما أحسن قول أفلاطون : ( إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد ) . ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه
ومنها : أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات . والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده
ومنها : ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل : المرء عدو لما جهله . أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي ( 1 / 107 ) أوردها ( أصحاب التهافت ) وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل . وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع . ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في ( الإحياء ) : ( ( إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة
الأول : أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له
الثاني : أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم
الثالث : الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية . . ) ) إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما . ( 1 / 108 )

(1/105)


الإعلام الرابع : في مراتب العلوم من التعليم

(1/108)


ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني . ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه . ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور :
إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح
وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق
وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو
وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب . وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على الصرف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس
ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصاب ( 1 / 109 ) والأمصار من العلماء فرب مصر لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان ويوجد فيه عشرون فقيها فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه
واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية
والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه
وإزالة الشبهة ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان . وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد . وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها
في هذا الباب كتاب ( أدب الطلب ) لشيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - أبان فيه طريق العلم والتدرج فيه وهو كتاب لم يؤلف قبله مثله وإنه نفيس جدا ( 1 / 110 )

(1/108)


الإعلام الخامس : في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه

(1/110)


اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات
وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه
واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات
فأما أهل المغرب : فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة
وهذا ( 1 / 111 ) مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم . وأما أهل الأندلس : فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم
وأما أهل إفريقية : فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك . وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ( 1 / 112 ) ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان . وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة . ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا ( 1 / 113 ) لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب ( رحلته ) إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس : قال لأن الشعر ديوان العرب . ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة
ثم قال : ( ( ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه ) )
قال : ( ( ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ) )
ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط
هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة ( 1 / 114 ) فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه
ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه ) ) . وهو أحكم الحاكمين ( 1 / 115 )

(1/110)


الإعلام السادس : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم

(1/115)


وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة
ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس عاد في أسفل السافلين
وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
واعتبره في كل من يملك أمره عليه
ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور : التخابث والكيد وسببه ما قلناه
فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب
وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين ( 1 / 116 ) والمتعلمين : ( ( لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ) ) ومن كلام عمر رضي الله عنه : ( ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) ) حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال : ( ( يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين
أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة ) ) والله أعلم ( 1 / 117 )

(1/115)


الإعلام السابع : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته

(1/117)


( ( أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من ( 1 / 118 ) العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله
ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن
وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن ( 1 / 119 ) بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره
وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة
وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب
قف : اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة
وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته
فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه
هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه ( 1 / 120 ) قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض
فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها
ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب
فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك
فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها . ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة
ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق
ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب ( 1 / 121 ) بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون
فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه
ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها
ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى
وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر
فاعتبر ذلك واستمطر رحمة ( 1 / 122 ) الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى ) )
قف : ( ( اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين :
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار
فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها
وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن ( 1 / 123 ) تحصيل الجميع على هذه الصورة
فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها
فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له ) ) 1 ( 1 / 124 )

(1/117)


الإعلام الثامن : في آداب المتعلم والمعلم

(1/124)


آداب المتعلم

(1/124)


أما المتعلم : فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن ينظم تفاريقها عشر جمل :

(1/124)


الأولى : تقديم طهارة النفس عن رذائل الخلاق ومذموم الأوصاف

(1/124)


إذ العلم عبادة القلب وصلاح السر وقربة الباطن إلى الله تعالى
فلا تصح هذه العبادة إلا بعد طهارة القلب عن خبائت الأخلاق وأنجاس الأوصاف

(1/124)


الثانية : أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن

(1/124)


فإن العلائق شاغلة وصارفه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر
والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع

(1/124)


الثالثة : أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم

(1/124)


بل يلقي إليه ( 1 / 125 ) زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته

(1/125)


الرابعة : أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس

(1/125)


سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه من الإدراك والاطلاع
بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحترز منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله بعد في عمى الحيرة وشبه الجهل

(1/125)


الخامسة : أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعها

(1/125)


إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض
ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب . جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا
قال تعالى : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم )
فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود ( 1 / 126 ) والقوامون بها حفظة كحافظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى

(1/125)


السادسة : أن لا يأخذ في فن من فنون العلم دفعة

(1/126)


بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم
فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقنه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة فيه عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان الصديق رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح

(1/126)


السابعة : أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله

(1/126)


فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طرق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه
وبنبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه : ( ( لا تعرف الحق بالرجال . اعرف الحق تعرف أهله ) ) . ( 1 / 127 )

(1/126)


الثامنة : أن يعرف السبب الذي به يدرك شرف العلوم

(1/127)


وأن ذلك يراد به شيئان :

(1/127)


أحدهما : شرف الثمرة

(1/127)


والثاني : وثاقة الدليل وقوته
وذلك : كعلم الدين وعلم الطب

(1/127)


التاسعة : أن يكون قصد المتعلم في الحال تخلية باطنه وتحميله بالفضيلة

(1/127)


وفي الحال القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ العلى من الملائكة والمقربين
ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومجاراة السفهاء ومباهاة الأقران . وإذا كان هذا مقصده - طلب لا محالة - الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة
ومع هذا فلا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم كالنحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك

(1/127)


العاشرة : أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد

(1/127)


كما يؤثر القريب الرفيع على البعيد الوضيع والمهم على غيره
ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون

(1/127)


وأما : وظائف المعلم المرشد

(1/127)


فالأولى : الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه

(1/127)


ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين . ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة كما أن الوالد سبب الوجود الحاضر الفاني
والمراد معلم علوم ( 1 / 128 ) الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا . فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاكه نعوذ بالله منه

(1/127)


الثانية : أن يقتدي بصاحب الشرع

(1/128)


فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ولا يقصد به جزاء ولا شكرا بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة لهم بل يرى الفضل لهم وثوابه في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا التعلم ما ثبت هذا الثواب فلا يطلب الأجر إلا من الله تعالى

(1/128)


الثالثة : أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا

(1/128)


وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي
ثم ينبهه على أن يطلب العلوم للقرب إلى الله دون الرئاسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده . فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك
فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها : تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون الله وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلم الطالب وقصده الدنيا فلا بأس أن يتركه

(1/128)


الرابعة : وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق

(1/128)


بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح وبطريق الرحمة ( 1 / 129 ) لا بطريق التوبيخ فإن التصريح بهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار

(1/128)


الخامسة : أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه

(1/129)


كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير ذلك نقل محض وسماع بحت وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول : ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن
فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعليم في غيره وإن كان متكفلا بعلوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة

(1/129)


السادسة : أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه

(1/129)


ولا يلقي إليه مالا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله كما قيل : كلموا الناس على قدر عقولهم
وأشار علي عليه السلام إلى صدره ( ( إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة ) )

(1/129)


السابعة : أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به

(1/129)


ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله

(1/129)


الثامنة : أن يكون المعلم عاملا بعلمه

(1/129)


فلا يكذب قوله فعله فإن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر فإذا ( 1 / 130 ) خالف العمل العلم منع الرشد
وكل من تناول شيئا وقال للناس : لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم عليه فيقولون : لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به
هذا خلاصة ما في ( الإحياء ) وقد أطال في تقرير كل أدب ووظيفة من هذه الآداب والوظائف إطالة حسنة . وعقد الباب السادس من كتاب ( العلم ) في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء . والله تعالى أعلم بالصواب
وللشيخ العالم برهان الإسلام الزرنوجي تلميذ صاحب ( الهداية ) كتاب سماه ( تعليم المتعلم طريق التعلم ) وجعله فصولا قال فيه : ( ( إنه لا يفترض على كل مسلم طلب كل علم وإنما يفترض عليه طلب علم الحال أي علم ما يقع له في حاله من الصلاة والزكاة والصوم والحج . ولا بد له من النية في زمان تعلم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ( إنما الأعمال بالنيات ) ) وينوي بطلب العلم رضاء الله تعالى والدار الآخرة وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال وإحياء الدين وإبقاء الإسلام فإن بقاء الإسلام بالعلم

(1/129)


ولا يصح الزهد والتقوى مع الجهل . ولا ينوي به إقبال الناس إليه ولا استجلاب حطام الدنيا والكرامة عند السلطان وغيره . ولا يذل نفسه بالطمع ويتحرز عما فيه مذلة العلم وأهله . ويختار من كل علم أحسنه ويقدم علم التوحيد والمعرفة وإن كان إيمان المقلد صحيحا ويختار العتيق دون المحدثات ولا يشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد ( 1 / 131 ) انقراض الأكابر من العلماء . وأما اختيار الأستاذ فيختار الأعلم والأورع والأسن
والمشاورة في طلب العلم أهم وأوجب . وينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة ولا ينال ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره
ولا بد لطالب العلم من الجد والمواظبة والملازمة وإليه الإشارة في القرآن الكريم ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) و ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) قيل : اتخذ الليل جملا تدرك به أملا
ويواظب على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك والكسل من قلة التأمل في مناقب العلم وفضائله

(1/130)


والعلم النافع يحصل به حسن الذكر ويبقى ذلك بعد وفاته فإنه حياة أبدية . ويوقف بداية السبق على يوم الأربعاء وهكذا كان فعل أبو حنيفة - رحمه الله - بل كان الشيخ أبو يوسف الهمداني يوقف كل عمل من أعمال الخير على يوم الأربعاء وهذا لأنه يوم خلق فيه النور وهو يوم نحس في حق الكفار فيكون مباركا للمؤمنين . وينبغي أن يكون قدر السبق للمبتدئ قدر ما يمكن ضبطه بالإعادة مرتين بالرفق ويزيد كل يوم كلمة وقد قيل : السبق حرف والتكرار ألف
قال الأستاذ شرف الدين العقيلي : الصواب عندي في هذا ما فعله مشائخنا وإنهم كانوا يختارون للمبتدئ صغارات المبسوط لأنه أقرب إلى الفهم والضبط وأبعد عن الملالة وأكثر وقوعا بين الناس قيل : حفظ حرفين خير من سماع وقرين وفهم حرفين خير من حفظ وقرين . فينبغي أن لا يتهاون في الفهم . ( 1 / 132 )

(1/131)


ولا بد من المذاكرة والمناظرة والمطارحة لكن بالإنصاف والتأني والتأمل دون الشغب والغضب وهي أقوى من فائدة مجرد التكرار . قيل : مطارحة ساعة خير من تكرار شهر
ويشتري بالمال الكتب ويستكتب فيكون عونا على التعلم والتفقه وينبغي أن لا يكون لطالب العلم فترة فإنها آفة
ويتوكل في طلب العلم ولا يهتم لأمر الرزق ولا يشغل قلبه بذلك
ووقت التعلم من المهد إلى اللحد دخل حسن بن زياد في التفقه وهو ابن ثمانين سنة
وأفضل الأوقات شرخ الشباب ووقت السحر وما بين العشاءين . وينبغي أن يستغرق جميع أوقاته فإذا مل من علم يشتغل بعلم آخر . كان ابن عباس إذا مل من علم الكلام قال : ( ( هاتوا ديوان الشعر ) ) ويكون مستفيدا في كل وقت حتى يحصل له الفضل
وطريق الاستفادة أن يكون معه في كل وقت محبرة حتى يكتب ما يسمع من الفوائد قيل : ما حفظ فر وما كتب قر
وأقوى أسباب الحفظ الجد والمواظبة وتقليل الغذاء وصلاة الليل وقراءة القرآن نظرا والسواك وشرب العسل وأكل الكندر مع السكر وأكل ما يقلل البلغم والرطوبات يزيد في الحفظ وكل ما يزيد في البلغم يورث النسيان ومن أسبابه اقتراف المعاصي وكثرة الذنوب والهموم والأحزان في أمور الدنيا وكثرة الأشغال والعلائق

(1/132)


وأما أسباب نسيان العلم : فأكل الكسبرة الرطبة وأكل التفاح الحامض والنظر إلى ( 1 / 133 ) المصلوب وقراءة ألواح القبور والمرور بين قطار الجمال وإلقاء القمل على الأرض والحجامة على نقرة القفا كلها تورث النسيان
وارتكاب الذنب سبب حرمان الرزق خصوصا الكذب يورث الفقر وكذا نوم الصبح وكثرة النوم تورث فقد العلم إلى غير ذلك
ومما يزيد في الرزق التسبيح بعد الفجر وبعد المغرب . ومما يزيد في العمر البر وترك الأذى وتوقير الشيوخ وصلة الرحم والاحتراز عن قطع الأشجار الرطبة إلا عند الضرورة وإسباغ الوضوء والصلاة بالتعظيم والخشوع والقرآن بين الحج والعمرة وحفظ الصحة
ولا بد أن يتعلم شيئا من الطب ويتبرك بالآثار الواردة في الطب الذي جمعه الشيخ الإمام أبو العباس المستغفري في كتابه المسمى ب ( طب النبي ) صلى الله عليه وسلم يجده من يطلبه
هذا خلاصة ما ذكره الزرنوجي - رحمه الله -
وكتاب : ( جواهر العقدين في فضل الشرفين : شرف العلم الجلي والنسب العلي ) للشيخ الإمام العلامة : علي ابن الشيخ : جمال الدين السمهودي الشافعي - رحمه الله - قد اشتمل على جملة كافية من بيان شرف العلم وآداب العالم والمتعلم وطريق الدرس واقتناء الكتب وغيرها اشتمالا نافعا فمن شاء الزيادة فعليه به وبالله التوفيق . ( 1 / 134 )

(1/132)


الفصل [ . 1 ] التاسع : في حالة العلماء

(1/134)


اعلم أن العلم له حقائق لغوية : وهو ضد الجهل
واصطلاحية : وهي كما قيل : من جمع بين علم المعقول والمنقول
وكما قيل : من تمكن من إثبات المسائل بأدلتها عن علم وثبت
وعرفية : وهي كل من اشتغل بتحصيل العلم ولو كان على جهة التقليد أو الشروع في التحصيل
فيطلق العالم على من تعلم النحو والصرف أو الفقه أو جميعها
وليس مرادي إلا من تمكن من إثبات المسائل بأدلتها عن علم وثبت
فيشمل من عرف جميع الآلات وعرف الكتاب والسنة فإنه يتمكن من إثباتها على ذلك الوجه

(1/134)


وعلوم العقل لا دخل لها في الشريعة وإن العالم بها لا يدخل في مفهوم ( ( العلماء ورثة الأنبياء ) ) والله تعالى قد أغنانا عن الكتب السابقة التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام بما أنزله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع فيه كل خير واحتوى على كل فضيلة لفظا ومعنى وعلما وحكمة وغير ذلك فكيف نرجع إلى كتب الحكماء لا نعلم أذلك عنهم من ذات أنفسهم أو عن وحي إلى رسول منهم ؟ وأول ما خرج ذلك في دولة بني العباس وأكثر من أخرجه ( 1 / 135 ) المأمون ووقع الاشتغال به والمحن والفتن وهلك به جماعة أوقعهم في الكفر والزندقة واشتغل به المأمون حتى إنه أرسل إلى ملك الإفرنج وذكر له أن مراده في الكتب التي لديهم وعربوها له ونبش لحد كسرى من أجل أنه قيل له : إن في قبره تابوتا فيه من كتب القدماء
على أنه لو كان لا بد منه في العلم لكان الصحابة كلهم ليسوا بعلماء لأنهم لم يعرفوا علوم المعقول وكذا من بعدهم من التابعين ومن تبعهم ولا قائل به في العالم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) )

(1/134)


وأما العرف فغير معمول به لأنه إذا اشتغل بفن وعرفه سمي في العرف عالما وليس هو من العلم في شيء لأنه لا ينتفع به في الدين أصلا ولا يقدر أن يعمل بفرع من فروع الشريعة بنفس ذلك الفن كالنحو وغيره
وإنما تلك الفنون آلة للكتاب والسنة فمن اشتغل بها ولم يتوصل بها إلى تلك الأمور فهو كمن أحكم السلم ولم يرتق عليه إلى محل مرتفع ولا فائدة له فيه
وكذا المقلد فإنه لا يعلم ما الحق في المسألة ولا مع من هو ولا قاله من قلده أصواب هو أم خطأ
وهذا لا يصح إطلاق العالم عليه حتى قال النووي : ( ( إنه إجماع ) ) وقالوا في أصول الفقه : إنه لا عبرة بالمقلد في إجماع العلماء لأنه ليس بعالم لأنهم حدوه : من يقبل قول من أفتاه من دون أن يطالبه بحجة
وقد أوضح هذا بما لا مزيد عليه الشيخ الفاضل علي بن محمد ولد شيخنا الشوكاني - رحمه الله - ( 1 / 136 ) في ( ( القول السديد في نصح المقلد وإرشاد المستفيد ) )
وأما المشتغل فيما يثبت له ذلك إلا إذا ثبت له الملكة في الآلات وأمكنه معرفة الكتاب والسنة كما ينبغي لأنه عند شروعه يريد تحصيل ما به الوصول إلى معرفة العلم الذي يطلق على من قام به اسم العالم فإذا أطلق عليه عند الشروع فإنما هو مجاز بعلاقة الأول والقرينة الواقعة
فإذا عرفت هذا علمت أن العلم من أشرف المطالب لا يساويه مساو ولا تبلغ غايته غاية ولا فضيلة سواه
ولقد صدق القائل : من فاته العلم ماذا أدرك ومن أدرك العلم ماذا فاته

(1/135)


قال الشافعي : إذا لم يكن العالم العامل وليا فما لله ولي . والصحيح أن العالم له رتبة كبيرة وهي كونه وارث الأنبياء عليهم السلام وكونه ممن قال صلى الله عليه وسلم فيه : ( ( لأن يهدي الله رجلا على يديك خير مما طلعت عليه الشمس ) )
وكونه ممن يصدق عليه قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . وقوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) . وقوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس )
ثم إن العلم له فوائد منها : أنه يؤجر على تعلمه وتعليمه والإفتاء به والقضاء بما دل عليه والتصنيف وإهداء الناس ويكون مما يتبع بعد الموت كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ( أو علم ينتفع به ) ) وكما قال : ( ( العلماء على منابر من نور يوم القيامة ) ) وكما قال : ( ( إن أنبياء بني إسرائيل يتمنى أحدهم أن يكون كعلماء هذه الأمة ) ) وكما قال : ( ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ) ( 1 / 137 )
والفقه فهم الكتاب والسنة وكما قال : ( ( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) )
فأثبت لهم الخيرية المطلقة

(1/136)


وهذه بعض الأدلة فيهم والفضائل المسرودة في الكتب هي الكثير الطيب لولا خوف الإطالة لاحتاجت إلى مجلد
وقد جمع فيما ورد فيهم وفضائلهم بعض علماء مكة المكرمة مجلدا وسماه ( العلم ) فثبت أن العلماء لهم المحل الأسنى وآدم عليه السلام لما ألهمه الله تعالى الأسماء وجعل له تلك الحالة رفعه على الملائكة وله حالة الرياسة على الملائكة حالة إنبائهم كالحالة التي تثبت للشيخ على التلميذ
فلما صارت له تلك الفضيلة وبلغ تلك المنزلة عظم على الملائكة وأمرهم الله سبحانه بالسجود له لأنه قد صار له حق المشيخة وإن كانت ماهية الملائكة أشرف وصفاتهم أعلى وأفضل من صفات الآدمي إلا أن هذه حالة خاصة ولا مانع من أن يأمر الله سبحانه بعض خلقه بالسجود لبعض
ولا فائدة للتمحلات لأن المنهي عنه وهو السجود لغير الله سبحانه إنما هو في شريعته صلى الله عليه وسلم لوقوعه في شرع من قبله كسجود يعقوب وزوجته ليوسف عليهم السلام حين دخلا عليه كما حكاه الله سبحانه
ولو سلمنا أنه منهي عنه في كل شريعة فهذا خاص لكون الآمر به هو الله سبحانه وتعالى وهو الباعث للرسل والموجب للشرائع وقد حكاه عن نفسه ولا فائدة فيما قيل : إنه إنما جعل آدم قبلة لهم لأنه ينافيه قوله ( اسجدوا لآدم ) ولو كان كذلك لقيل لهم : اسجدوا إلى آدم
وكذا إنما أمروا بالسجود لله ولكن نسب إلى آدم ( 1 / 138 ) وهذا ينافيه اللفظ أيضا

(1/137)


وبالجملة فكأن السجدة له عليه السلام تعظيما لعلمه
وقد اختلف في كيفية التعليم فقيل : بالاستعداد والإلقاء من الله تعالى إليه
وقيل : بالإلهام ويدل عليه قوله تعالى في داود ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) فإنه ألهمها إلهاما لا تعليما حقيقة
والذي يظهر لي أنه أطلعه الله سبحانه على اللوح المحفوظ لأن فيه كل ما كان وما سيكون فجميع الأسماء والأشياء فيه وصفاتها وأحوالها فطبق تلك الكيفية التي رآها في اللوح على المسميات
وقد قال تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول )
أو أنه خلق له قدرة يقتدر بها على التعبير عن تلك الأمور عند الأمر له بإنباء الملائكة ويكون معنى ( علم ) أقدر
وهذا مما يدل أكمل دلالة على أن علم الله تعالى لا نسبة بينه وبين علم مخلوقاته وعلى أن علم المخلوق ولو بلغ الغاية القصوى والنهاية العليا لا يدرك كنه الأمور ولا ينكشف له المصالح كلية الانكشاف
وبهذا تعرف قدر الشيخ وأنه لما صارت له تلك الفضيلة وهي العلم كان الجزاء فيه السجود وإن كان التلميذ شريفا في النسب فإن شرف التعليم له زائد على شرفه كما كان ابن عباس يمسك بركاب شيخه وكان ينام في بابه ينتظر لخروجه حتى يطير عن ثوبه التراب الذي تلقيه الرياح
وكذلك أمسك الإمام أحمد ركاب الشافعي

(1/138)


فيجب على التلميذ أن يجل الشيخ ويعظمه لما أسدى إليه ولا يكفر نعمته فيهلك كإبليس لما أذنب هلك وأقل أحوال هلاك التلميذ ذهاب رونق علمه وعدم قبول فائدته مع تغير أحوال الدنيا عليه وكم شاهدنا ( 1 / 139 )
وكفى بهذا دليلا فإن الملائكة عليهم السلام لما عرفوا الأسماء ثبت لآدم عليه السلام ذلك الحق عليهم بعد أن كان عندهم لا يصلح للخلافة فصار صالحا للإفادة وأبى اللعين فكان سبب هلاكه وهلاك ذريه ومن تبعه لأنه أصر على ما ظهر له أنه الصواب
وإبليس وإن كانت ماهيته غير ماهية الملائكة وهو من الجن لكنه أطلق عليه ذلك الاسم ودخل في مسماهم وعوقب على عدم الامتثال لكونه قد صارت له أحوال الملائكة وقرب كقربهم وأودع فيه من النور ما شابه به الملائكة
فلما أصر واستكبر وعاد إلى الماهية الأصلية نال ما نال وعوقب بما عوقب
وهذا أحسن ما تفسر به الآية الكريمة
وإن كان قد قيل في تفسيرها أمور أخر كلها صرف اللفظ عن ظاهره بغير قرينة ولا مرجح وما جعلوه مانعا من أن الملائكة لم يقع منهم الاستنكار وإنما هو على جهة العرض يأباه قطعهم بان آدم وذريته سيفسدون ويسفكون الدماء

(1/138)


فهذا مما يبين أن كل مخلوق لا بد له من الخطأ فإن الملائكة قد قص الله علينا أمرهم هذا والأنبياء كذلك
وكل ذلك إنما وقع منهم في الاجتهادات لا في الأوامر والتشريعات فلما وقع ذلك منهم وقد ثبتت لهم العصمة نبهوا على الخطأ فقد وقع ذلك لسيد ولد آدم وخير الخلق وأقربهم إلى الله صلى الله عليه وسلم ونبه وكذا الملائكة
وكفى بهذا رادعا وزاجرا للعلماء عن إثبات الشريعة بالرأي والقياسات الواهية غير ما كانت علته منصوصة أو منبها عليها
وأما فحوى الكتاب وقياس الأول فهو داخل في مفهوم اللفظ ليس من باب القياس وإنما القياس الممنوع الذي يكون باعتبار الأقيسة الأخرى التي توسعوا فيها مثل السبر والتقسيم والإحالة وغير ذلك ( 1 / 140 )
وإذا اعتقد أنه شرع وأوجب على غيره اتباعه أو أفتى به أو قضى عليه فقد تقول على الله سبحانه بما لم يقله
فليكن هذا على ذكر منك فإنه من أعظم الأمور التي يكون بها الهلاك فما أحق العالم أنه إذا لم يجد علة منصوصا عليها ولا منبها عليها أن يترك التشريع وهذا المقيس بالرأي إنما عسر الشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم يسرها

(1/139)


وهذه نصيحة مني لمن يريد الله به خيرا ليس الموجب لها إلا حب إخواني من علماء المسلمين المتبعين
وأما المقلد أو مجتهد المذهب فليس من مبحوثنا ولا دخل في نصيحتنا لأنه ممنوع عن التكلم محجور عن التعرض حتى يصدق عليه اسم العالم لما عرفت
ومن أراد تحقيق ذلك فعليه بكتب شيخنا الشوكاني وكتب أئمة السنة ابن تيمية وابن القيم وابن الوزير والسيد الأمير ومن حذا حذوهم وبتكميل الحجة والبيان وشرح بيتي إمام الزمان ففيها ما يغني ويقني
وإنما جرى القلم بهذا في هذه وإن كان المبحوث عنه سواه لأن له دخلا فيها

(1/140)


ولما نظرت هذه الفضيلة التي ثبتت لآدم باعتبار العلم عدلت إلى أن هؤلاء العلماء الذين عرفت أنهم المقصودون هنا وزع الله بينهم الفضائل وجعلهم أنواعا
النوع الأول : علماء الصحابة الحافظين للشريعة المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلمين لمن دخل في الدين القائمين بنشرها المجاهدين لمن خالفها
النوع الثاني : التابعون لتلك الفضائل القافون أثر الأوائل . ( 1 / 141 )
الراحلون لتنفيذها إلى البلاد المبلغون إلى من بعدهم من العباد وهم دون النوع الأول من الرتبة
النوع الثالث : تابعو التابعين وهم على نهجهم في تلك العناية ومتبعون لهم في الفضائل والشرف حتى كانوا خلفهم في القيام بذلك المنصب وفعلوا كفعلهم في إحراز ذلك المطلب
ثم من بعده كثرت الروايات وانتشرت في جميع الأقطار بفتح البلاد وفشا الكذب وعم التقليد الذي منع منه الأئمة المجتهدون وحذر منه السلف الصالحون
النوع الرابع : العلماء البالغون إلى رتبة الاجتهاد المطلق وهم كثيرون غير الأربعة المشهورين كما صرح بذلك أهل السير والطبقات في كتبهم وكانوا لا يقلدون أحدا ولا ينسبون أنفسهم إلى أحد ولم يكونوا متمذهبين كما يزعم من لا علم له بأحوال العلماء
النوع الخامس : وهو من اشتغل بطلب جمع الأحاديث حتى حفظ منها مالا يقدره طباعنا ولا يتصوره حواسنا
فمنهم من حفظ ألف ألف أي عشرة لكوك في العرف
ومنهم من حفظ عشرة آلاف ألف بمعنى مائة لك
ومنهم من حفظ أحمال جمال من المائة فما دون وما فوق ورحل في طلب ذلك إلى مشرق الأرض ومغربها جنوبا وشمالا
وذلك بسبب أن الله تبارك وتعالى خلق ( 1 / 142 ) للسنة المطهرة خلقا مثل هؤلاء فسعوا في طلبها وبذلوا نفوسهم وملاذهم في تحصيلها وداروا الأقطار ووصلوا الليل والنهار وأحرزوها وبثوها في الناس وقضوا ما كان عليهم وبقي ما كان لهم فجزاهم الله عن الإسلام جزاء خير على التمام

(1/140)


والسنة صنو القرآن الكريم وإنما فارقها لكونه للتحدي وهي مشاركة له في التشريع وقد تدارك الله بحفظ الكتاب ويلزم منه حفظ السنة لكونها وضعت بأنها وحي
ثم بعدهم
النوع السادس : وهو أنه لما كثرت الزيادة فيها وفشا الكذب وظهر أهل الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كل حين وكل وقت في زيادة واحتالوا بإدخال الأحاديث الموضوعة والمكذوبة في أسانيد الأثبات الثقات أوجد الله لها هذا النوع فزبروها وعرفوا صحيحها من سقيمها وبينوا موضوعها ومكذوبها وغير ذلك وفحصوا وداروا الأقطار وسألوا الكبار وأخرجوا ما دسه الأشرار وأوضحوا ذلك أوضح منار وعرفوا كل واحد من رواتها باسمه ولقبه وبلده وكنيته وحرفته ومشائخه والآخذين عنه ومجالسه ومن حضر ومن ذهل في حال الإملاء عليهم في ذلك المجلس وما قدر ذهوله وبينوا أسباب القدح من وضع وكذب وتدليس وإبهام وسوء حفظ ولين ومختلط في عقله وصدوق وشيخ وغير ذلك
ولهم في ذلك اصطلاحات يعرفها من عرف علم السنة فإنه لا بد من معرفتها ثم دونوا للرجال كتبا ذكروا فيها أحوالهم وما سبب القدح فيهم وما يقبلون فيه وما لم ( 1 / 143 ) يقبلوا فيه إذا كان له حالات وما يعرض لهم وعمن رووا ومن روى عنهم
ثم دونوا كتبا في المكذوبات والموضوعات والضعاف والحسان والصحاح
ومنهم من جمع الجميع

(1/142)


ولما كان لا يؤمن بعد أعصارهم أن لا تكون تلك الكتب ولا الأقوال أقوالهم أوجد الله تعالى من بعدهم في كل عصر علماء وهم
النوع السابع فشرحوا كتبهم وأوضحوا مرادهم وبينوا للناس مقاصدهم وعرفوا الناس بصحة نسبة ذلك إليهم وأنه كتاب فلان بإحراز أسانيده وكل خلف عن سلف معروف معلوم مشهور إلى عند المصنف وأبدوا صناعات تطرب الألباب واخترعوا أساليب معونة للطلاب فمنها ما فعلوه على أبواب الفقه ورووا فيه كل ما يصلح للاحتجاج من تلك المجموعات وتكلموا على سنده وقربوه لطلبته كلية التقريب وأزالوا عنه النصب ومنحوه أوفر نصيب وما أنتجته أفكارهم السليمة وأفهامهم المستقيمة من الفوائد العجيبة والنكت الغريبة والأساليب البديعة ولم يتهوروا في الرأي ولا تبعوا ما لم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن نقلوا ما قاله أهل المذاهب من المسائل التي لم تكن موافقة للدليل ودونوا ما حكوه عنهم من تلك العجائب فلا يخل إما أن يكون لقصد البيان وإظهار أن خلاف كلامه هو الصواب فهذا هو الميثاق الذي أخذه الله على أهل الكتاب ومنهم من يكون من باب قوله :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر يقع فيه ( 1 / 144 )
ومنهم من يذكر ما قالوه بقصد أنهم إذا عرفوا أنه يعرف ما عندهم وقد ذكر الدليل أو رجح فلا يظنوا أنه فعل ذلك وهو جاهل لما عندهم وهذا مأجور وأن كان قصده إنما هو ليعرفوا أنه عالم فقط فهذا معجب بنفسه . ومنهم من يظهر بذلك لأهل مذهبه أنه لم يخالفهم وأنه باق على وفق قول إمامهم وهذا الفعل يخالف أخذ الميثاق وأمر العلماء بالبيان وخشية الله منهم وكونهم ورثة الأنبياء

(1/143)


ولهذا البحث مزيد فائدة في ( القول السديد ) وقد جرت عادة الله سبحانه أن فاعل ذلك لا بد أن يبقى مضطهدا خائفا محروم العلم لا ينفعه ذلك في الدنيا وفي الآخرة شيئا وأن فاعل الحق ومتبعه والمتظهر بنصره والقيام لخدمته والبيان لما خالفه والرد على قائله في أعلى رتب الشرف وأرفع درجات الكمال مجلل مبجل مهاب وكان الفرد المنظور إليه بعين العلم وإن كلامه هو الحق والصواب متبع في الناس معمول بما قاله وإن خولف في مدة حياته كبعض العلماء الكبار . فتنظر بعد موته وإذا كلامه عند المخالف والموالف مقبول ويستدل به كل أحد . وتنظر وإذا كل مؤرخ إذا ذكره جعل ترجمته أكبر التراجم ويذكر من فضله ونبله ما يخلع قلوب مخالفيه ولا يقدر أحد على جحد فضائله ولا كتم مناقبه بل يشهد له بها المخالف كابن حزم وابن تيمية وغيرهما في كل عصر

(1/144)


ثم إن لهم فضائل غير هذه منها : الصدع بالحق ونصره ودفع الباطل وإظهار ما وجب . ولذا ترى كثيرا من الصحابة ( 1 / 145 ) يقولون : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ( من كتم علما ) ) الحديث . وسمعت قول الله تعالى : ( ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ) ما حدثتك
فكم للعلماء مواقف عند أمراء الجور وسلاطين الظلم يسطع فيها بالحق ويتكلم بما يوافق الشرع ولا تأخذه في دين الله لومة لائم ولا يردعه عن إظهار الحق رادع ولذا تنظر ما كان لهم من الأجر الجزيل والجزاء الجليل في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( وأفضل من ذلك كله كلمة حق عند سلطان جائر ) ) فتنظر وإذا القائل بالحق كلامه المصدق وقدره المبجل وشأنه عندهم المعظم وتنظر من داهن أو وافقهم على مرادهم رجاء لقربه منهم ودنو مودتهم له يكون عندهم مدحورا مذموما مردودا على أن يصير علم الثاني سخرية وضحكة ويبقى في أيدي الناس لعبة ويطرح عندهم إلى الغاية ويناله من الإهانة النهاية
وكم في كل زمان من أهل هذا الشأن فالأول فاز وكان من أهل السعادة في الدارين . والثاني هلك وكان أرباب الشقاوة في الحالتين وصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( أنه من الثلاثة الذين تسعر بهم النار وأولهم دخولا فيها ) ) نسأل الله سبحانه الهداية والصلاح وأسباب الألطاف التي تكون موجبة للفلاح والنجاح

(1/144)


ومنها : الصبر على التعليم والتهذيب لمن وصل إليهم واشتغال أوقاتهم بالتدريب لهم وبذل مجهودهم في إخلاص نصحهم في إفادتهم
ومنها : إفادة الناس فيما يحتاجون إليه من الفتيا ودفع الخصومات ( 1 / 146 )
وإظهار الحق ودفع الباطل والقيام على الظالم والنصر للمظلوم وإيصال الخصم بما يستحقه من خصمه
ومنها : أنهم أمان أهل الأرض عند إتيان الساعة وقرب حلولها فإن ارتفاع العلم من علاماتها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس المراد ارتفاع نفس العلم وإنما هو قبض حامليه حتى تضرب أكباد الإبل في مسألة ولا يجدون من يفتي فيها

(1/145)


ثم لما كان للعالم والعلم هذه الفضائل وهذه الأحوال كان من قام به كما ينبغي من أهل السعادة ومن ترك ما يليق وتبع ما يجانب العلم ويخالف المراد منه كان من أهل البلاء والشقاوة ولذلك أسباب :
الأول : أنه لا يقصد بالتعلم والتعب إلا الله سبحانه وما يوافق مراده
الثاني : أنه لا يكون قصده بعد أن حصل له العلم إلا أن يعمل ويخدم ويقرر ما صح عنه صلى الله عليه وسلم ويرد ما خالف سنته كائنا ما كان
الثالث : أن لا يعمل ولا يترك إلا وقد قام له دليل على العمل أو الترك من الكتاب والسنة أو استنباط جلي منهما . ولا يجعل لرأيه دخلا في إثبات الشريعة ولا يكلف الناس بمجرد ما خطر بباله إذا لم تكن له عليه حجة تكون له بها النجاة إذا سئل بما أثبت ذلك الحكم وما كلف به العباد
الرابع : ترك التعصبات كلها . وهي أقسام وقد حقق ذلك شيخنا الإمام في ( أدب الطلب ) فمن أراد الاطلاع عليها فعليه به . ( 1 / 147 ) وليس للعالم مسرح في التشريع ولا كل ما قاله صواب بل هو مجوز عليه الخطأ والصواب فكيف يقع منه التعصب لقول عالم أو لقول صدر منه

(1/146)


الخامس : أن لا يرى لنفسه حقا وأن لا يعتريه عجب وكبر لأنه محل الضعف والزلل والخطأ وكم مثله من العلماء وكم وأي رتبة قد بلغ إليها . فإنه إذا نظر في أبناء كل زمان وأبناء زمانه نظر وإذا فيهم من لا يبلغ قدره ولا ينال من الحظ والمعرفة ماله . بل إذا نظر إلى من هو أحقر منه يجد عنده من الفوائد ما لم يكن عنده ولم يبلغ رتبة الكمال من الخلق فرد ولو بلغ إلى النهاية القصوى ففوقه من هو أعلى منه رتبة وأرفع منه كعبا . على أنه إذا تفكر في أمر علم أنه لا يحسن منه ذلك وهو أنه اشترك هو وجميع النوع الإنساني في الماهية وفي سائر الصفات ومنحه الله سبحانه وفتح عليه بالمعرفة مع أنه هو والعامي والجاهل سواء . فهل يكون ذلك داعيا لأن ينظر لنفسه حقا وأن يفتخر ويعتريه العجب وهل تقابل تلك المنحة بهذا

(1/147)


السادس : أن يصون العلم عما يدنسه فالعلم جوهر شفاف نوري يكدره أدنى مكدر ويذهب برونقه أيسر شيء وما ذاك إلا لشرفه ولذا قيل : ( ( إن عيب ذي الشرف مذكور وعيب الجاهل مغمور ) ) فيصير عند كل راء وسامع أضحوكة وسخرية فكيف بمن علم تحريم المحرمات كالخمر والزنا والربا وأكل أموال الناس بالباطل والارتشاء ثم أقدم على أحدها ؟ فهل تكون لعلمه فائدة ؟ وهل تصير له ثمرة ؟ وهل كان إلا نكالا ووبالا وسببا لهلاكه وداعيا لأهل البطالة إلى عدم الإقلاع عن تلك ( 1 / 148 ) الأفعال ومجريا لهم إلى ملازمة الفساد لأنهم قد نظروه بعين العلم فيكون عليه وزره وأوزارهم ؟ فكيف إذا انضم إلى فعله التحليل لهم والتحريم من المسامحة والموافقة في مخالفة الشرع ؟ فهو أشد من كل بلية وأعظم من كل فتنة لأنه أضله الله على علم ثم لم يكتف بذلك حتى أضل غيره فيكون من أهل الشقاوة

(1/147)


السابع : أن لا يفتي إلا عن ثبت إذ لو أفتى من دون ثبت كان إثم الذي أفتاه عليه وإثمه على الإقدام على الفتيا من دون معرفة وكان كالحاكم الذي حكم بالحق وهو لا يعلمه وهو من أهل النار كما حكم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم
الثامن : أن لا يفتي من ذات نفسه برأيه فهو محرم عليه لأنه مجتهد والمجتهد هو من استفرغ الوسع لتحصيل ظن بحكم ظني فإذا أفتى من دون استنباط ولا معرفة لما يكون هذا الفرد لاحقا به فهو من التقول على الله بما لم يقل
التاسع : أن يجل جميع العلماء ولا يستحقر أحدا منهم ويعظمهم فإن وافق أقوالهم الصواب كان لهم رتبة العلم ورتبة الموافقة وإن خالف فإن كان عن جهل وعدم استفراغ الوسع فقد أخطأ وعليه وزر الخطأ وإن كان عن التباس فهو مخطئ معذور وله أجر فينبهه على خطئه
العاشر : أن يبذل نفسه ووسعه ويفرغ أوقاته لمن أراد التعلم عليه وينصح الطالب ويلقي عليه ما يجب عليه من الفوائد والنكت إن كان أهلا لذلك ويعرفه ما هو الحق والصواب وما يجب عليه اتباعه واجتنابه فما فائدة العلم والتعليم سوى ذلك ولم يجب علينا طلب العلم إلا للإفادة ( 1 / 149 ) به لمن طلبه . والعالم يكون كالشاهد لكونه قد عرف والطالب يكون كالغائب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( ليبلغ الشاهد الغائب ) ) ثم إن له على التعليم الأجر العظيم والمقام الكريم

(1/148)


الحادي عشر : أنه لا يكتم الحق وأن يصدع به ولا يخاف لومة لائم ويجعل ذلك لله سبحانه وهو الناصر له والحافظ وهو الواجب على كل عالم
الثاني عشر : أن يكون على حال الرسول وحال الصحابة من حسن الخلق وكرم السجية والرفق شعاره والتقوى دثاره لا يفارقه لأنه لا يكون عالما إلا بذلك والعلم شرف لا يقوم إلا بمن شرف
فهذه حالة العالم التي يجب عليه القيام والتحلي بها . وهذه الأمور هي أسباب السعادة وعكسها سبب الشقاوة

(1/149)


والذي يجب على الطالب أمور :
الأول صلاح النية في طلبه فلا يكون قاصدا بذلك حرفة من حرف الدنيا كأن يكون مدرسا أو مفتيا أو حاكما أو يماري به العلماء أو لأجل أن يكون له شرف أو غير ذلك من الأسباب التي تخالف أن يكون الفعل لله سبحانه
الثاني : أن يتوجه مع العزم على أنه يريد العلم الذي يوصل إلى الجنة ويكون سبب السعادة ورضاء الرب سبحانه
الثالث : يلتجئ بباب الرب بأن يفتح عليه بالعلم النافع وأن يقدره على ذلك وأن يمن عليه بالغاية في الطلب والإلطاف وأن يصرف عنه شياطين الإنس والجان . ( 1 / 150 )
الرابع : أن يكون مطلوبه علما يصدق عليه بعد معرفته أن من ورثة الأنبياء
الخامس : أن يفحص ويكمل في إحراز المعاني ونيل تلك المعاني ويجعل ذلك أعظم شغله وأجل قصده ويترك ما سواه لأجله
السادس : أنه إن احتاج إلى الكشف عن حقيقة مسألة فلا يقنع إلا بما قام عليه الدليل إن كان قد صارت له قدرة على ذلك وإلا فعليه بسؤال العلماء الكبار عما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم
السابع : أن لا يقنع باليسير من العلم ولا يرضى بالقليل حتى يبلغ إلى ما في وسعه ودخل تحت قدرته
الثامن : أن يجل العلماء ويتواضع لهم ويعظمهم وينظر لهم الحق الوافر على الإطلاق فإذا صار أهلا للنقد عرف لكل فرد منهم المرتبة التي تليق به
التاسع : أن يعظم شيوخه ويجلهم ويكون لهم بمثابة الرقيق فقد قيل : ( ( إن للشيخ حقا مثل ما للأب ) ) بل أزيد لأن الشيخ سبب الحياة الدنيوية والأخروية والأب إنما هو سبب الحياة الدنيوية فقط والعلم حياة والجهل موت وقد قيل في تفسير الآية : ( ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) ) إن المراد يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم
العاشر : أن لا ينظر وقد شارف على أول فائدة وقرب إلى معرفة أدنى مرتبة فيظن في نفسه الظنون ويخطر بباله أن قد فاز بالقدح المعلى وبلغ الغاية القصوى فالعلم محتاج إلى تقرير وثبت وإلا فهو قد اقنع نفسه بالجهل وهو لا يشعر وتعلق به قلة العقل بل وإن داوم على جمع العلوم ( 1 / 151 ) وتلك العقيدة باقية فيه لا تظهر لعلمه فائدة ولا يعود عليه ذلك الطلب بعائدة بل يبقى ممحوق البركة ذاهب الرونق وكم قد شاهدنا ممن قبلنا وفي زماننا وكم قد حكت ذلك التواريخ في العالم
الحادي عشر : أن لا يكون سؤاله ولا تكلمه إلا لأربعة أنواع :
إما لعدم فهمه لذلك
أو أنه قد ظهر له اختلال في كلام المصنف ولكن لاعن مجازفة وتخيلات
أو عدم معرفة لأصل البحث
أو أنه قد ظهر له أن قد سبق إلى ذهن الشيخ غير ما دل عليه كلام المصنف

(1/149)


فهذه أحوال الطالب . ولكل من العالم والطالب أحوال أخر لكن هذه أجلها وأشدها حاجة وأعظمها ماسة فإذا قام العالم بتلك الأحوال وقام الطالب بأحواله كان سبب السعادة والفوز
وعلى فضل العلم والعلماء أدلة كثيرة واسعة تركتها اختصارا
واعلم أن العلماء تتفاوت مراتبهم وأحوالهم وإن كان قد صدق عليهم مسمى العلم وأحرزوا تلك الأمور والتفاوت إنما هو بقوة الاستنباط وصحة قريحة الاجتهاد فالاجتهاد ملكة تحصل للعالم عند جمعه لتلك العلوم وقد لا تحصل فحصولها متوقف على جمع تلك العلوم ولا يلزم من جمعها حصولها لأنها كالآلة مثل آلة النجار فإنه قد يعرف كيفية النجارة ويتصورها ويجمع آلاتها ولا يمكنه أن يحكم الصناعة كلية ( 1 / 152 ) الإحكام
فالعالم قد يجمع جميع العلوم وتحصل له تلك الكيفية التي هي الملكة ولا يمكنه العمل بتلك الملكة أو يمكنه العمل في بعض ولا يمكنه العمل الكامل . ولذا كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يعرفون جميع ما قام بلسان العرب وعرفوا السنة والكتاب ولم يمكنهم ذلك مثل أبي هريرة وأمثاله وترى ابن عباس من صغار الصحابة وصار بحر الأمة وكانت له اليد الطولى والسهم المعلى وفي كل عصر هكذا فهي عطايا وحظوظ وقد عثر المتأخر على أدلة قد عجز عنها الأوائل وصنع في التصانيف مالا يقدر عليه الأماثل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

(1/151)


وأما أسباب المهالك فهي أيضا كثيرة :
منها أن يريد أن يكون له بذلك العلم رفعة وشأنا وينظره الناس بذلك ويقال في حقه عالم أو نحرير أو مبرز لا يماري
ومنها أن يكون ناصر البدعة سواء علم واستدام على ذلك عجرفة أو عرف ما هو الحق ولم يصغ إليه أو نصر قولا له قد سبق على خلاف الحق فانكشف له الحق أو لم يسمع من المعرف له بالحق أو قام برياسة فأراد أن يجبر الناس على قوله وإن كان صوابا لكن المخالف له معه دليل لا يؤدي مخالفته لما قاله إلا التنكيل به والعقاب له
ومنها أن يكون قد فتح عليه وكان قبل ذلك مقلدا لأحد الأعلام فلا يزال يتعصب له بعد معرفته بأن الحق خلافه عمدا وعنادا
ومنها أن يكون ممن له شغل بالعلم ولكن لم تكن له اليد الطولى وصار يفرع ويلحق مسائل متخيلة ويكمل الشريعة ويوجب ويحلل ويحرم . ( 1 / 153 )

(1/152)


فهذه الأمور ما مع سبق في غضون الكلام في تفصيل هذا المقام إذا تتبعها الذي يريد النجاح وعمل بها فاز بالفلاح وإلا أهلك نفسه وصار من حزب النار نعوذ بالله من ذلك
ولهذه الأمور بسطة بسطها الشيخ الفاضل العلامة علي بن محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - في كتابه ( الدرر الفاخرة الشاملة لسعادة الدنيا والآخرة ) فمن أراد الاطلاع عليه فليراجعه . ( 1 / 154 )

(1/153)


الباب الثاني : في منشأ العلوم والكتب

(1/154)


وفيه : فصول

(1/154)


الفصل الأول : في سببه

(1/154)


وفيه : إفهامات

(1/154)


الإفهام الأول : في أن العلم والتعليم : طبيعي في العمران البشري والبشر محتاج إليه

(1/154)


وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء وغير ذلك من اللوازم وإنما يمتاز عنها بالفكر وإدراكه الكليات التي يهتدي بها لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيئ لذلك التعاون وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل واتباع صلاح أخراه فهو مفكر في ذلك كله دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر
وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع ثم لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه ( 1 / 155 ) لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه ويرجع إلى ما استفاد عنه إما من الأفواه أو من الدوال عليه

(1/154)


فهذا ميل طبيعي من البشر إلى الأخذ والاستفادة فمنهم من ساعده فهمه ومنهم من لم يساعده مع ميله إليه
وأما عدم الميل فلأمر عارضي كفساد المزاج وبعد المكان عن الاعتدال ولا اعتداد به . ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد آخر ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا . فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر

(1/155)


الإفهام الثاني : في أن العلم والكتابة : من لوازم التمدن

(1/155)


اعلم أن نوع الإنسان لما كان مدنيا بالطبع وكان محتاجا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره وفهم ما في ضمير الغير اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دوال يخف عليه إيرادها ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبعية فقاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت وتقطيع النفس الضروري بالآلة الذاتية إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض باعتبار مخارجها وصفاتها حتى يحصل منها بالتركيب كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير فيتيسر لهم فائدة التخاطب والمحاورات والمقاصد التي لا بد منها في معاشهم
ثم إن تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة حصل لهم ألسنة مختلفة ولغات متبائنة وعلوم متنوعة
ثم إن أرباب الهمم من بني الأمم لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة ( 1 / 156 ) هذه النعم لاختصاصها بالحاضرين سمت همتهم السامية إلى إطلاع الغائبين ومن بعدهم على ما استنبطوا من المعارف والعلوم وأتعبوا أنفسهم في تحصيلها لينتفع بها أهل الأقطار ولتزداد العلوم بتلاحق الأفكار ووضعوا قواعد الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وبحثوا عن أحولها من الحركات والسكنات والضوابط والنقاط وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المعاني فنشأ من ذلك الوضع جملة العلوم والكتب

(1/155)


الإفهام الثالث : في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية

(1/156)


وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي تميز بها عن الحيوان
وأيضا فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد فتقضى الحاجات وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع وإنها تابعة للعمران ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرؤون ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصرا وقراءته غير نافذه ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقا لاستحكام الصنعة فيها

(1/156)


كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد ( 1 / 157 ) وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم وتأتي ملكته على أتم الوجوه وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال
وقد كان الخط العربي بالغا مبالغة من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبايعة لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين وكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر يقال : إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية ويقال : حرب بن أمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم :
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخط والقلم
وهو قول بعيد لأن إيادا وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة والخط من الصنائع الحضرية وإنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال
وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعلمها إلا ( 1 / 158 ) بإذنهم ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو والصناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر

(1/156)


وكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد أو نقول : إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول
وأما مضر فكانوا أعرق في البدو أبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها

(1/158)


ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه كما يقتفي لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا وأين نسبة ذلك من الصحابة فيا كتبوه فاتبع ذلك وأثبت رسما ونبه العلماء بالرسم على مواضعه ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط
وإن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه ويقولون في مثل زيادة الألف في ( لا أذبحنه ) إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع وفي زيادة الياء في ( بأييد ) إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض وما حملهم ( 1 / 159 ) على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح

(1/158)


واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها وليست الأمية كمالا في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا
ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه وتداولوه فترقت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد

(1/159)


ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك وافتتحوا إفريقية والأندلس واختط بنو العباس بغداد وترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية وكان الخط البغدادي معروف ( 1 / 160 ) الرسم وتبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد ويقرب من أوضاع الخط المشرقي وتحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد
وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه
ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت تناقص ذلك أجمع ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد وله بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع ولقد لقنها حسا وحذق فيها دربه وكتابا وأخذها قوانين علمية فتجيء أحسن ما يكون

(1/159)


وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر وتغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدول اللمتونية إلى هذا العهد وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع وتعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق ( 1 / 161 ) الأندلس وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس ولا تمرسوا بجوارهم إنما كان يفدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قيل من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها
وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إياهم سائر الدولة ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف فصارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول والله أعلم

(1/160)


قف : إن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب وذلك أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانية وتستكمل حينئذ وجودها . فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة
فلهذا كانت الحنكة ( 1 / 162 ) في التجربة تفيد عقلا والملكات الصناعية تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها
وهذه كلها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف سائر الصنائع . وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس ويكون ذلك دائما فيحل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال
ولذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة والكيس ( ديوانه ) أي شياطين وجنون . قالوا : وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة . ويلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل . والله أعلم بالصواب

(1/161)


الإفهام الرابع : في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب

(1/162)


اعلم أنه يقال : إن آدم عليه الصلاة والسلام كان عالما بجميع اللغات لقوله سبحانه وتعالى : ( ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ) قال الإمام الرازي : المراد أسماء كل ما خلق الله سبحانه وتعالى من أجناس المخلوقات بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم وعلم أيضا معانيها وأنزل عليه ( 1 / 163 ) كتابا وهو كما ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : ( ( يا رسول الله أي كتاب أنزل على آدم ؟ قال : كتاب المعجم قلت : أي كتاب المعجم ؟ قال : أ . ب . ت . ث . ج قلت : يا رسول الله كم حرفا ؟ قال تسعة وعشرون حرفا . ) ) الحديث
وذكروا أنه عشر صحف فيها سور مقطعة الحروف وفيها الفرائض والوعد والوعيد وأخبار الدنيا والآخرة وقد بين أهل كل زمان وصورهم وسيرهم مع أنبيائهم وملوكهم وما يحدث في الأرض من الفتن والملاحم

(1/162)


ولا يخفى أنه مستبعد عند أصحاب العقول القاصرة وأما من أمعن النظر في ( الجفر ) ولا حظ شموله على غرائب الأمور فعنده ليس ببعيد سيما في الكتب المنزلة . هكذا قيل ولكن في صحة كتاب ( الجفر ) كلام كما بيناه في ( لقطة العجلان )
وروي أن آدم عليه السلام وضع كتابا في أنواع الألسن والأقلام قبل موته بثلاثمائة سنة كتبها في الطين ثم طبخه فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه من خطه فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي وكان ذلك من معجزات آدم عليه السلام . ذكره السيوطي في ( المزهر ) وهذا أبعد مما قبله
وفي رواية أن آدم عليه السلام كان يرسم الخطوط بالبنان وكان أولاده تتلقاها بوصيته منه وبعضهم بالقوة القدسية القابلة وكان أقرب عهد إليه إدريس عليه ( 1 / 164 ) السلام فكتب بالقلم واشتهر عنه من العلوم ما لم يشتهر عن غيره ولقب بهرمس الهرامسة والمثلث بالنعمة لأنه كان نبيا ملكا حكيما
وجميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عنه في قول كثير من العلماء وهو هرمس الأول أعني إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن شيث ابن آدم عليه السلام المتمكن بصعيد مصر الأعلى

(1/163)


وقالوا : إنه أول من تكلم في الأجرام العلوية والحركات النجومية وأول من بنى الهياكل وعبد الله تعالى فيها وأول من نظر في الطب وألف لأهل زمانه قصائد في البسائط والمركبات وأنذر بالطوفان ورأى أنه آفة سماوية تلحق الأرض فخاف ذهاب العلم فبنى الأهرام التي في صعيد مصر الأعلى وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم صفات العلوم والكمالات حرصا على تخليدها ثم كان الطوفان وانقرض الناس فلم يبق علم ولا أثر سوى من في السفينة من البشر وذلك مذهب جميع الناس إلا المجوس فإنهم لا يقولون بعموم الطوفان
ثم أخذ يتدرج الاستئناف والإعادة فعاد ما اندرس من العلم إلى ما كان عليه مع الفضل والزيادة فأصبح مؤسس البينان مشيد الأركان لا زال مؤيدا بالملة الإسلامية إلى يوم الحشر والميزان . والله تعالى أعلم . ( 1 / 165 )

(1/164)


الفصل الثاني : في منشأ إنزال الكتب واختلاف الناس وانقسامهم

(1/165)


وفيه : إفصاحات

(1/165)


الإفصاح الأول : في حكمة إنزال الكتب

(1/165)


اعلم أن الإنسان لما كان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من نوعه في إقامة معاشه والاستعداد لمعاده وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو له ويحصل بالتعاون ما ليس له من الأمور الدنيوية والأخروية
وكان في كثير منها مالا طريق للعقل إليه وإن كان فيه فبأنظار دقيقة لا تتيسر إلا لواحد بعد واحد اقتضت الحكمة الإلهية إرسال الرسل وإنزال الكتب للتبشير والإنذار وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا
فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة والطريق الخاص الذي يصل به إلى هذه الهيئة هو المنهاج والشريعة فالشريعة ابتدأت من نوح عليه السلام والحدود الأحكام ابتدأت من آدم وشيث وإدريس عليهم السلام وختمت بأتمها وأكلمها
فمن الناس من آمن بهم واهتدى ومنهم من اختار الضلالة على الهدى فظهر اختلاف الآراء والمذاهب من الكفار والفرق الإسلامية ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ( 1 / 166 )

(1/165)


الإفصاح الثاني : في أقسام الناس بحسب : المذاهب والديانات

(1/166)


اعلم أن التقسيم الضابط أن يقال : إن من الناس من لا يقول بمحسوس ولا بمعقول وهم السوفسطائية فإنهم أنكروا حقائق الأشياء
ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعية كل منهم معطل لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ولا يرشده ذهنه إلى معاد قد ألف المحسوس وركن إليه وظن أن لا عالم وراء العالم المحسوس ويقال لهم الدهريون أيضا فإنهم يثبتون معقولا
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود ولا أحكام وهم الفلاسفة فكل منهم قد رقى عن المحسوس وأثبت المعقول لكنه لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ويظن أنه إذا حصل له المعقول وأثبت للعالم مبدأ ومعادا وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه فيكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه وشقاوته بقدر جهله وسفاهته وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة . وهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وطبيعية وإلهية لا الذين أخذوا علومهم عن مشكاة النبوة

(1/166)


ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود الأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصابئة فهم قوم يقرب من الفلاسفة ويقولون بحدود وأحكام عقلية ربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيد بالوحي
إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم وما تعدوا إلى الآخر وهؤلاء هم الصابئة الأولى الذين قالوا بغازيمون وهرمس وهما شيث وإدريس عليهما السلام ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . ( 1 / 167 )
ومنهم من يقول هذه كلها شريعة ما وإسلام ولا يقول بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم المجوس والنصارى واليهود
ومنهم من يقول بهذه كلها وهم المسلمون وكانوا عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقيدة واحدة إلا من كان يبطن النفاق
ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولا في أمور اجتهادية وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين كاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة وفي موته - صلى الله عليه وسلم - وفي موضع دفنه وفي الإمامة وفي ثبوت الإرث عنه - صلى الله عليه وسلم - وفي قتال مانعي الزكاة وفي خلافة علي ومعاوية وكاختلافهم في بعض الأحكام الفرعية ثم يتدرج ويترقى إلى آخر أيام الصحابة - رضي الله عنهم -
فظهر قوم خالفوا في القدر ولم يزل الخلاف يتشعب حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من معجزاته ولكن كبار الفرق الإسلامية ثمان وهم المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية ويقال لهم أهل السنة والجماعة هذا ما ذكروه في كتب الفرق

(1/166)


الإفصاح الثالث : في أقسام الناس بحسب : العلوم

(1/167)


اعلم أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان : قسم اعتنى بالعلم فظهرت منهم ضروب المعارف فهم صفوة الله من خلقه وفرقة لم تعتن بالعلم عناية يستحق بها اسمه
فالأولى : أمم منهم أهل مصر والروم والهند والفرس والكلدانيون واليونانيون والعرب والعبرانيون . ( 1 / 168 )
والثانية : بقية الأمم لكن الأنبه منهم الصين والترك . وفي ( الملل والنحل ) : ( ( إن كبار الأمم أربعة : العرب والعجم والروم والهند ثم إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية . والعجم والروم يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية . ) ) انتهى
وفي بيان هذه الأمم : تلويحات

(1/167)


التلويح الأول : في أهل الهند

(1/168)


اعلم أن لون الهندي وإن كان في أول مراتب السودان فصار بذلك من جبلتهم إلا أنه سبحانه وتعالى جنبهم سوء أخلاق السودان ودناءة شيمهم وسفاهة أحلامهم وفضلهم على كثير من السمر والبيض وعلل ذلك بعض أهل التنجيم بأن زحل وعطارد يتوليان بالقسمة لطبيعة الهند فلولاية زحل اسودت ألوانهم ولولاية عطارد خلصت عقولهم ولطفت أذهانهم فهم أهل الآراء الفاضلة والأحلام الراجحة لهم التحقق بعلم العدد والهندسة والطب والنجوم والعلم الطبيعي والإلهي
فمنهم براهمة : وهي فرقة قليلة العدد ومذهبهم إبطال النبوات وتحريم ذبح الحيوان . ومنهم صابئة وهم جمهور الهند ولهم في تعظيم الكواكب وأدوارها آراء ومذاهب والمشهور في كتبهم مذهب السندهند أي دهر الدهر ومذهب الأرجهيز ومذهب الأركند ولهم في الحساب والأخلاق والموسيقى تأليفات ( 1 / 169 )

(1/168)


التلويح الثاني : في الفرس

(1/169)


وهم أعدل الأمم وأوسطهم دارا وكانوا في أول أمرهم موحدين على دين نوح - عليه السلام - إلى أن تمذهب طهمورث بمذهب الصابئين وقسر الفرس على المتشرع به فاعتقدوه نحو ألف سنة إلى أن تمسجوا جميعا بسبب زرادشت ولم يزالوا على دينه قريبا من ألف سنة إلى أن انقرضوا ولخواصهم عناية بالطب وأحكام النجوم ولهم أرصاد ومذاهب في حركاتها واتفقوا على أن أصح المذاهب في الأدوار مذهب الفرس ويسمى سني أهل فارس وذلك أن مدة العالم عندهم جزء من اثني عشر ألفا من مدة السند هند وهي أن السيارات وأوجاتها وجوز هراتها تجتمع كلها في رأس الحمل في كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرة واحدة ولهم في ذلك كتب جليلة وفي كتاب ( الفهرس ) يقال : إن أول من تكلم بالفارسية كيومرث وتسميه الفرس ( كل شاه ) أي ملك الطين وهو عندهم آدم أبو البشر - عليه السلام

(1/169)


وأول من كتب بالفارسية بيوراسب المعروف بالضحاك وقيل أفريدون وقال ابن عبدوس في كتاب ( الوزراء ) : ( كانت الكتب والرسائل قبل ملك كشتاسب قليلة ولم يكن لهم اقتدار على بسط الكلام وإخراج المعاني من النفوس ولما ظهر ملك زرادشت صاحب شريعة المجوس وأظهر كتابه العجيب بجميع اللغات وأخذ الناس بتعلم الخط والكتاب فزادوا ومهروا ) وقال ابن المقفع : لغات الفارسية : الفهلوية والدرية والفارسية والخوزية والسريانية . ( 1 / 170 )
أما الفهلوية : فمنسوبة إلى فهلة اسم يقع على خمسة بلدان وهي : أصفهان والري وهمذان ونهاوند وأذربيجان
وأما الدرية : فلغة المدائن وبها كان يتكلم من بباب الملك وهي منسوبة إلى الباب لأن الباب بالفارسية در والغالب عليها من لغة أهل خراسان والمشرق لغة أهل بلخ
فأما الفارسية : فيتكلم بها الموابذة والعلماء وهي لغة أهل فارس
وأما الخوزية : فبها كان يتكلم الملوك والأشراف في الخلوة مع حاشيتهم
وأما السريانية : فكان يتكلم بها أهل السواد والمكاتبة في نوع من اللغة بالسرياني فارسي
وللفرس ستة أنواع من الخطوط وحروفهم مركبة من : ( أبجد هوزي كلمن سف رش ثخذغ ) فالتاء المثناة والحاء المهملة والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والقاف سواقط

(1/169)


التلويح الثالث : في الكلدانيين

(1/170)


وهم أمة قديمة مسكنهم أرض العراق وجزيرة العرب منهم النماردة ملوك الأرض بعد الطوفان وبخت نصر منهم ولسانهم سرياني ولم يبرحوا إلى أن ظهر عليهم الفرس وغلبوا مملكتهم وكان منهم علماء وحكماء متوسعون في الفنون ولهم عناية بأرصاد الكواكب وإثبات الأحكام والخواص
ولهم هياكل وطرائق لاستجلاب ( 1 / 171 ) قوى الكواكب وإظهار طبائعها بأنواع القاربين فظهرت منهم الأفاعيل الغريبة من إنشاء الطلسمات وغيرها ولهم مذاهب نقل منها بطليموس في ( المجسطي )

(1/170)


ومن أشهر علمائهم : أبرخس واطصفن وفي ( الفهرس ) أن النبطي أفصح من السرياني وبه كان يتكلم أهل بابل وأما النبطي الذي يتكلم به أهل القرى فهو سرياني غير فصيح وقيل : اللسان الذي يستعمل في الكتب الفصيحة بلسان أهل سوريا وحران
وللسريانيين ثلاثة أقلام أقدم الأقلام ولا فرق بينه وبين العربي في الهجاء إلا أن الثاء المثلثة والخاء والذال والضاد والظاء والغين كلها معجمات سواقط وكذا اللام ألف وتركيب حروفها من اليمين إلى اليسار

(1/171)


التلويح الرابع : في أهل يونان

(1/171)


هم أمة عظيمة القدر بلادهم بلاد روم إيلي وأناطولي وقرامان وكانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام وكان الإسكندر منهم الذي أجمع ملوك الأرض على الطاعة لسلطانة وبعده البطالسة إلى أن غلب عليهم الروم وكان علماؤهم يسمون فلاسفة إلهيين أعظمهم خمسة : بندقليس كان في عصر داود - عليه السلام - ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطون ثم أرساطاطاليس . ( 1 / 172 )
ولهم تصانيف في أنواع الفنون وهم من أرفع الناس طبقة وأجل أهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية وجميع العلوم العقلية مأخذوة عنهم ولغة قدمائهم تسمى الإغريقية وهي من أوسع اللغات
ولغة المتأخرين تسمى اللطيني لأنهم فرقتان : الإغريقيون واللطينيون وكان ظهور أمة اليونان في حدود سنة ثمان وستين وخمسمائة من وفاة موسى - عليه السلام - وقبل ظهروا الإسكندر بخمس وأربعين وثمانمائة سنة

(1/171)


التلويح الخامس : في الروم

(1/172)


وهم أيضا صابئة إلى أن قام قسطنيطين بدين المسيح وقسرهم على التشرع به فأطاعوه ولم يزل دين النصرانية يقوى إلى أن دخل فيه أكثر الأمم المجاورة للروم وجميع أهل مصر وكان لهم حكماء علماء بأنواع الفلسفة وكثير من الناس يقول : إن الفلاسفة المشهورين روميون والصحيح أنهم يونانيون ولتجاور الأمتين دخل بعضهم في بعض واختلط خبرهم وكلا الأمتين مشهور العناية بالفلسفة إلا أن لليونان من المزية والتفضيل مالا ينكر وقاعدة مملكتهم رومية الكبرى . ولغتهم مخالفة للغة اليونان
وقيل لغة اليونان الإغريقية ولغة الروم اللطينية وقلم اليونان والروم من اليسار إلى اليمين مرتب على ترتيب أبجد وحروفهم : ( ايج وزطي كلمن شعفص قرشت ثخ ظغ ) فالدال والهاء والحاء والذال والضاد ( 1 / 173 ) ولام ألف سواقط ولهم قلم يعرف بالساميا ولا نظير له عندنا فإن الحرف الواحد منه يحيط بالمعاني الكثيرة ويجمع عدة كلمات
قال جالينوس في بعض كتبه : ( كنت في مجلس عام فتكلمت في التشريح كلاما عاما فلما كان بعد أيام لقيني صديق لي فقال : إن فلانا يحفظ عليك في مجلسك أنك تكلمت بكلمة كذا وأعاد علي ألفاظي فقلت من أين لك هذا ؟ فقال : إني لقيت بكاتب ما هر بالساميا فكان يسبقك بالكتابة في كلامك وهذا العلم يتعلمه الملوك وجلة الكتاب ويمنع منه سائر الناس لجلالته . ) كذا قال النديم في ( الفهرس )
وذكر أيضا : ( أن رجلا متطببا جاء إليه من بعلبك سنة ثمان وأربعين وزعم أنه يكتب بالساميا قال : فجربنا عليه فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغى إليها ثم كتب كلمة فاستعدناها فأعادها بألفاظنا . ) انتهى

(1/172)


قف : ذكر في السبب الذي من أجله يكتب الروم من اليسار إلى اليمين بلا تركيب أنهم يعتقدون أن سبيل الجالس أن يستقبل المشرق في كل حالاته فإنه إذا توجه إلى المشرق يكون الشمال عن يساره فإذا كان كذلك فاليسار يعطي اليمين فسبيل الكاتب أن يبتدئ من الشمال إلى الجنوب وعلل بعضهم بكون الاستمداد عن حركة الكبد على القلب

(1/173)


التلويح السادس : في أهل مصر

(1/173)


وهم أخلاط من الأمم إلا أن جمهرتهم قبط وإنما اختلطوا لكثرة ( 1 / 174 ) من تداول ملك مصر من الأمم كالعمالقة واليونانيين والروم فخفي أنسابهم فانتسبوا إلى موضعهم وكانوا في السلف صابئة ثم تنصروا إلى الفتح الإسلامي
وكان لقدمائهم عناية بأنواع العلوم ومنهم هرمس الهرامسة قبل الطوفان وكان بعده علماء بضروب الفلسفة خاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والمرايا المحرقة والكيمياء
وكانت دار العلم بها مدينة منف فلما بنى الإسكندر مدينة رغب الناس في عمارتها فكانت دار العلم والحكمة إلى الفتح الإسلامي . فمنهم الإسكندرانيون الذين اختصروا كتب جالينوس وقيل : إن القبط اكتسب العلم الرياضي من الكلدانيين

(1/173)


التلويح السابع : في العبرانيين

(1/174)


وهم بنو إسرائيل وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع وسير الأنبياء فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليقة وعنهم أخذ ذلك علماء الإسلام لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة
ولغتهم تنسب إلى عابر بن شالخ والقلم العبراني اليمين إلى اليسار وهو من ( أ بجد ) إلى آخر ( قرشت ) وما بعده سواقط وهو مشتق من السرياني

(1/174)


التلويح الثامن : في العرب

(1/174)


وهم فرقتان : بائدة وباقية والبائدة : كانت أمما كعاد وثمود ( 1 / 175 ) انقرضوا وانقطع عنا أخبارهم
والباقية : متفرعة من قحطان وعدنان ولهم حال الجاهلية وحال الإسلام
فالأولى : منهم التبابعة والجبابرة ولهم مذهب في أحكام النجوم لكن لم يكن لهم عناية بأرصاد الكواكب ولا بحث عن شيء من الفلسفة
وأما سائر العرب بعد الملوك فكانوا أهل مدر ووبر فلم يكن فيهم عالم مذكور ولا حكيم معروف وكانت أديانهم مختلفة وكان منهم من يعبد الشمس والكواكب ومنهم من تهود ومنهم من يعبد الأصنام حتى جاء الإسلام
ولسانهم أفصح الألسن وعلمهم الذي كانوا يفتخرون به علم لسانهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار

(1/174)


قال الهمداني : ( ليس يوصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان ومن وقع في ا لبحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند والهند وفارس ومن سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعا لأنه كان في ظل الملوك السيارة
والعرب أصحاب حفظ ورواية ولهم معرفة بأوقات المطالع والمغارب وأنواء الكواكب وأمطارها لاحتياجهم إليه في المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق والتدرب في العلوم . وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله سبحانه وتعالى شيئا منه ولا هيأ طباعهم للعناية به إلا نادرا . ) وقد ذكرنا في ( لقطة العجلان ) أحوال الأمم الماضية على سبيل الإيجاز فإن شئت فارجع إليه . ( 1 / 176 )

(1/175)


الفصل الثالث : في أهل الإسلام وعلومهم

(1/176)


وفيه : إشارات

(1/176)


الإشارة الأولى : في صدر الإسلام

(1/176)


اعلم أن العرب في آخر عصر الجاهلية حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تفرق ملكها وتشتت أمرها فضم الله سبحانه وتعالى به شاردها وجمع عليه جماعة من قحطان وعدنان فآمنوا به ورفضوا جميع ما كانوا عليه والتزموا شريعة الإسلام من الاعتقاد والعمل
ثم لم يلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلا حتى توفي وخلفه أصحابه - رضي الله عنهم - فغلبوا الملوك وبلغت مملكة الإسلام في أيام عثمان بن عفان من الجلالة والسعة إلى حيث نبه - عليه الصلاة والسلام - في قوله : ( ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) ) . فأباد الله تعالى بدولة الإسلام دولة الفرس بالعراق وخراسان ودولة الروم بالشام ودولة القبط بمصر
فكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبصناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طرا إليها وذلك منهم صونا لقواعد الإسلام وعقائده ( 1 / 177 ) عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والإحكام حتى يروى انهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد

(1/176)


وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين ثم حدث اختلاف الآراء وانتشار المذاهب فآل الأمر إلى التدوين والتحصين

(1/177)


الإشارة الثانية : في الاحتياج إلى التدوين

(1/177)


اعلم أن الصحابة والتابعين لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرب العهد إليه ولقلة الاختلاف والواقعات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام حتى إن بعضهم كره كتابة العلم واستدل بما روي عن أبي سعيد الخدري أنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابة العلم فلم يأذن له
وروي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة وقال : إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة
وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال : إني كتبت كتابا أريد أن أعرضه عليك فلما عرض عليه أخذ منه ومحا بالماء فقيل له : لماذا فعلت ؟ قال : لأنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم
واستدل أيضا بان الكتاب مما يزاد فيه وينقص ويغير والذي حفظ لا يمكن تغييره لأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي يخبر عن الكتابة يخبر بالظن والنظر . ( 1 / 178 )

(1/177)


ولما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وحدثت الفتن واختلاف الآراء وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء أخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن واشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع والاصطلاحات وتبيين المذاهب والاختلافات
وكان ذلك مصلحة عظيمة وفكرة في الصواب مستقيمة فرأوا ذلك مستحبا بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور مع قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ( العلم صيد والكتابة قيد قيدوا - رحمكم الله تعالى - علومكم بالكتابة ) ) الحديث . قلت : ولعل هذا الحديث لم يصح

(1/178)


الإشارة الثالثة : في أول من صنف في الإسلام

(1/178)


اعلم أنه اختلف في أول من صنف فقيل : الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة وقيل أبو النضر سعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة ست وخمسين ومائة ذكرهما الخطيب البغدادي
وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة قاله أبو محمد الرامهرمزي ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة المنورة وعبد الله بن وهب بمصر ومعمر وعبد الرزاق باليمن وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة وهشيم بواسط وعبد الله بن مبارك بخراسان وكان مطمح نظرهم ومطرح ( 1 / 179 ) بصرهم بالتدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما

(1/178)


الإشارة الرابعة : في اختلاط علوم الأوائل والإسلام

(1/179)


اعلم أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية ولما ظهر آل العباس كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان - رحمه الله تعالى - مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة وخاصة في النجوم محبا لأهلها
ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون بن الرشيد تمم ما بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بقوة نفسه الشريفة وعلو همته المنيفة فداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم
وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن ثم كلف الناس قراءتها ورغبهم في تعلمها إذ المقصود من المنع هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام وقد حصل وانقضى على أن أكثرها مما لا تعلق له بالديانات
فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره وكذلك سائر الفنون فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة ومهدوا أصول الأدب وبينوا منهاج الطلب ثم أخذ الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وجمع الشمل أخرى إلى أن كاد يرتفع جملة

(1/179)


وكذا شأن سائر الصنائع والدول ( 1 / 180 ) فإنها تبتدئ قليلا قليلا ولا يزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاد النسيان
والحق أن أعظم الأسباب في رواح العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم فإنا لله وإنا إليه راجعون . ( 1 / 181 )

(1/179)


الفصل الرابع : في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع

(1/181)


وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق ذلك الفن المتناول حاصلا
وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدئ فيه وبين العامي الذي لم يحصل علما وبين العالم النحرير والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي
والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر وغيره كالحساب والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل
ويدل أيضا على أن تعليم العلم صناعة لاختلاف الاصطلاحات فيه فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم وإلا لكان واحدا عند جميعهم
ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح ( 1 / 182 ) المتقدمين والمتأخرين وكذا أصول الفقه وكذا العربية وكذا كل علم تتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم والعلم واحد في نفسه

(1/181)


وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتتاقض الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر
وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة
فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادا منها ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل
وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي
كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام شارح ( مقدمة ابن الحاجب ) وتلميذه
وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة وفي مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع ( 1 / 183 ) سندهم
ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقن تعليمهم وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة . وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد ونزل ببجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل

(1/182)


وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم
وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم
ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم . وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك
ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين وهذه المدة بالمدارس على التعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة الأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك . ( 1 / 184 )

(1/183)


وأما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه وأما الفقه بينهم فرسم خلي وأثر بعد عين وأما العقليات فلا أثر لها ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران وتغلب العدو على عامتها إلا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها والله غالب على أمره
وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أبدل فيها بأمصار أعظم من تلك وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب فلم تزل موفورة وعمرانها متصلا وسند التعليم بها قائما
فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصنائع حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل الغرب وأنهم أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب . ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع
وليس كذلك وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس ( 1 / 185 ) على نسبتها كما مر
وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما في تقدم الصنائع ونزيده الآن تحقيقا وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم

(1/184)


ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جيدا تستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل لسرعة الإدراك للمعارف
ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها
وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك
ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاقه في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي
فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها الكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس ( 1 / 186 ) كذلك فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم فإن لها آثارا ترجع إلى النفس
وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السموات والأرض

(1/185)


قف : إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسبب في ذلك أن تعليم العلم من جملة الصنائع وأن الصنائع إنما تكثر في الأمصار وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش
فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها
واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتى أربوا على المتقدمين وفاقوا المتأخرين ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة وفقد العلم بها والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام . ( 1 / 187 )
ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارته مستحكمة منذ آلاف من السنين فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت ومن جملتها تعليم العلم وأكد ذلك فيها حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا
وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك وكباته فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال
فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها والله يخلق ما يشاء وهو العليم الحكيم . ( 1 / 188 )

(1/186)


الباب الثالث : في المؤلفين والمؤلفات والتحصيل

(1/188)


وفيه : ترشيحات

(1/188)


الترشيح الأول : في أقسام التدوين وأصناف المدونات

(1/188)


اعلم أن كتب العلم كثيرة لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين :
الأول : إما أخبار مرسلة وهي كتب التواريخ وإما أوصاف وأمثال ونحوها قيدها النظم وهي دواوين الشعر
والثاني : قواعد علوم وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف :
الأول : مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة
والثاني : مبسوطات تقابل المختصرات وهذه ينتفع بها للمطالعة
والثالث : متوسطات وهذه نفعها عام

(1/188)


ثم إن التأليف على سبعة أقسام : لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها وهي إما ( 1 / 189 ) شيء لم يسبق إليه فيخترعه أو شيء ناقص يتممه أو شيء مغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه
وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد : استنباط شيء كان معضلا أو جمعه إن كان مفرقا أو شرحه إن كان غامضا أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل
وشرط في التأليف : إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله من غير زيادة ولا نقص وهجر اللفظ الغريب وأنواع المجاز اللهم إلا في الرمز والاحتراز عن إدخال علم في علم آخر وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه لئلا يلزم الدور
وزاد المتأخرون اشتراط : حسن الترتيب ووجازة اللفظ ووضوح الدلالة وينبغي آن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة فمتى كانت الخواطر ثاقبة والإفهام للمراد من الكتب متناولة قام الاختصار لها مقام الإكثار وأغنت بالتلويح عن التصريح وإلا فلا بد من كشف وبيان وإيضاح وبرهان ينبه الذاهل ويوقظ الغافل
وقد جرت عادة المصنفين بأن يذكروا في صدر كل كتاب تراجم لتعرب عنه سموها الرؤوس وهي ثمانية : الغرض وهو الغاية السابقة في الوهم المتأخرة في الفعل والمنفعة ليتشوق الطبع
والعنوان الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله وهو قد يكون بالتسمية وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى براعة الاستهلال والواضع ليعلم قدره ونوع العلم وهو الموضوع ليعلم مرتبته وقد يكون الكتاب مشتملا على نوع من العلوم وقد يكون جزءا من أجزائه وقد يكون مدخلا - كما سبق في بحث الموضوع - ومرتبة ذلك الكتاب أي متى يجب ( 1 / 190 ) أن يقرأ وترتيبه ونحو التعليم المستعمل فيه وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية

(1/188)


وأنحاء التعليم : خمسة
الأول : التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم قسمة العام إلى الخاص وقسمة الكل إلى الجزء أو الكلي إلى الجزئيات وقسمة الجنس إلى الأنواع وقسمة النوع إلى الأشخاص وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي وقد يقسم الكلي إلى الذاتي والعرضي والذاتي إلى العرضي والعرضي إلى الذاتي والعرضي إلى العرضي والتقسيم الحاصر هو المردد بين النفي والإثبات
والثاني : التركيب وهو جعل القضايا مقدمات تؤدي إلى المعلوم
والثالث : والتحليل وهو إعادة تلك المقدمات
والرابع : التحديد وهو ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية
والخامس : البرهان وهو قياس صحيح عن مقدمات صادقة وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية وأما ما عداها فيكتفي بالإقناع

(1/190)


الترشيح الثاني : في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه

(1/190)


اعلم أن كل من وضع كتابا إنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة :
الأمر الأول : كمال مهارة المصنف فإنه لجودة ذهنه وحسن ( 1 / 191 ) عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز كاف في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن ههنا شرح بعض العلماء تصنيفه
الأمر الثاني : حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة فأغفل علل بعض القضايا فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لم يعط المصنف
الأمر الثالث : احتمال اللفظ لمعان تأويلية أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف مالا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك فيحتاج أن ينبه عليه

(1/190)


ثم إن أساليب الشرح على ثلاثة أقسام :
الأول : الشرح ب ( قال أقول ) ك ( شرح المقاصد ) و ( شرح الطوالع ) للأصفهاني و ( شرح العضد ) وأما المتن فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه وقد لا يكتب لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز
الثاني : الشرح بقوله ك ( شرح البخاري ) لابن حجر والكرماني ونحوهما وفي أمثاله لا يلتزم المتن وإنما المقصود ذكر المواضع المشروحة ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما إما في الهامش وإما في المسطر فلا ينكر نفعه . ( 1 / 192 )
والثالث : الشرح مزجا ويقال له : ( شرح ممزوج ) تمزج فيه عبارة المتن والشرح ثم تمتاز إما بالميم والشين وإما بخط يخط فوق المتن وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين وغيرهم لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط

(1/191)


ثم إن من آداب الشارح وشرطه : أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه بقدر الاستطاعة ويذب عما قد تكفل إيضاحه بما يذب به صاحب تلك الصناعة ليكون شارحا غير ناقض وجارح ومفسرا غير معترض اللهم إلا إذا عثر على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح متمسكا بذيل العدل والإنصاف متجنبا عن الغي والاعتساف لأن الإنسان محل النسيان والقلم ليس بمعصوم من الطغيان فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة
وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه سالما من العيب محفوظا له عن ظهر الغيب حتى يلام في خطئه فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا ويكني بمثل : ( قيل وظن ووهم وأعترض وأجيب وبعض الشراح والمحشي أو بعض الشروح والحواشي ) ونحو ذلك من غير تعيين
كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين فإنهم تأنقوا في أسلوب التحرير وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين بأمثال ما ذكر تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم وتعظيما لحقهم وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين لا من الراسخين
وإن لم يمكن ذلك قالوا : لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة وأجابوا عن لمز بعضهم بأن ألفاظ ( كذا وكذا ) ألفاظ فلان بعبارته بقولهم : إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك فإن تصانيف المتأخرين بل المتقدمين ( 1 / 193 ) لا تخلو عن مثل ذلك لا لعدم الاقتدار على التغيير بل حذرا عن تضييع الزمان فيه وعن مثالبهم بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم بأنه إن أتفق فهو من توارد الخواطر كما في تعاقب الحوافر على الحوافر

(1/192)


الترشيح الثالث : في أقسام المصنفين وأحوالهم

(1/193)


اعلم أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان :
الأول : من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب وفهم ثاقب فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي ك ( النصير والعضد والسيد والسعد والجلال وأمثالهم ) فإن كلا منهم يجمع إلى تحرير المعاني تهذيب الألفاظ وهؤلاء أحسنوا إلى الناس كما أحسن الله سبحانه وتعالى إليهم وهذه لا يستغني عنها أحد
والثاني : من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة طالع الكتب فاستخرج دررها وأحسن نظمها وهذه ينتفع به المبتدئون والمتوسطون . ومنهم ( 1 / 194 ) من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة فلا حجر عليه بل يرغب إليه إذا تأهل فإن العلماء قالوا : ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخرج والتصنيف فيما فهمه منه إذا احتاج الناس إليه بتوضيح عبارته غير مائل عن المصطلح مبينا مشكله مظهرا ملتبسه كي يكسبه جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر

(1/193)


فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله إذا شرع ويصرف إليه كل شغله قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف . ثم إذا تم لا يخرج ما صنفه إلى الناس ولا يدعه عن يده إلا بعد تهذيبه وتنقيحه وتحريره وإعادة مطالعته فإنه قد قيل : الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه جنسه ما لم يضع كتابا أو لم يقل شعرا
وقد قيل : من صنف كتابا فقد استشرف للمدح والذم فإن أحسن فقد استهدف من الغيبة والحسد وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف . قالت الحكماء : من أراد أن يصنف كتابا أو يقول شعرا فلا يدعوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل أو أشعار فإن رأى الأسماع تصغي إليه ورأى من يطلبه انتحله وادعاه وإلا فليأخذ في غير تلك الصناعة

(1/194)


قف : ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار ولله در القائل في نظمه :
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثا ... وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد وتصرفات ( 1 / 195 ) الأنظار لا تنتهي إلى غاية بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين
فلا تغتر بقول القائل : ( ( ما ترك الأول للآخر ) ) بل القول الصحيح الظاهر : ( ( كم ترك الأول للآخر ) ) فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه
ويقال : ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم ما ترك الأول شيئا لأنه يقطع الآمال عن العلم ويحمل على التقاعد عن التعلم فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر وهو خطر عظيم وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ( أمتي أمة مباركة لا يدري أو لها خيرا وآخرها ) ) وقال ابن عبد ربه في ( العقد ) ( ( إني رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب أهذب لفظا وأسهل لغة وأحكم مذاهب وأوضح طريقة من الأول لأنه ناقض متعقب والأول باد متقدم ) ) انتهى

(1/194)


وروي أن خواجه زاده كان يقول : ( ( ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد الشريف الجرجاني بنية الاستفادة ) ) وذكر صاحب ( الشقائق ) في ترجمة ( 1 / 196 ) شمس الدين الفناري : ( ( أن الطلبة إلى زمانه كانوا يعطلون يوم الجمعة يوم الثلاثاء فأضاف إليهما يوم الاثنين للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني - رحمه الله - وتحصيلها ) ) انتهى

(1/195)


الترشيح الرابع : في بيان مقدمة العلم ومقدمة الكتاب

(1/196)


اعلم أن المقدمة - بكسر الدال المشددة وفتحها - تطلق على معان : منها ما يتوقف عليه الشيء وسواء كان التوقف عقليا أو عاديا أو جعليا وهي في عرف اللغة صارت اسما لطائفة متقدمة من الجيش وهي في الأصل صفة من التقديم بمعنى التقدم . ولا يبعد أن يكون من التقديم المتعدي لأنها تقدم أنفسها بشجاعتها على أعدائها في الظفر
ثم نقلت إلى ما يتوقف عليه الشيء وهذا المعنى يعم جميع المعاني الآتية . ومنها ما يتوقف عليه الفعل يؤيد ذلك ما قال السيد السند في ( حاشية العضدي ) في مسائل الوجوب في بحث الحكم ( ( المقدمة عند الأصوليين على ثلاثة أقسام : ما يتوقف عليه الفعل عقلا كترك الأضداد في فعل الواجب وفعل الضد في الحرام وتسمى مقدمة عقلية وشرطا عقليا . وما يتوقف عليه الفعل عادة كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه كله وتسمى مقدمة عادية وشرطا عاديا
وما لا يتوقف عليه الفعل بأحد الوجهين لكن الشارع يجعل الفعل موقوفا عليه وصيره شرطا له كالطهارة للصلاة وتسمى مقدمة شرعية وشرطا شرعيا ) ) انتهى . ( 1 / 197 )

(1/196)


ومنها ما يتوقف عليه صحة الدليل بلا واسطة كما هو المتبادر فلا ترد الموضوعات والمحمولات . وأما المقدمات البعيدة للدليل فإنما هي مقدمات لدليل مقدمة الدليل
ومنها قضية جعلت جزء قياس أو حجة وهذان المعنيان مختصان بأرباب المنطق ومستعملان في مباحث القياس صرح بذلك المولوي عبد الحكيم في ( حاشية شرح الشمسية ) وهي على قسمين : قطعية تستعمل في الأدلة القطعية وهي سبع : الأوليات والفطريات والمشاهدات والمجربات والمتواترات والحدسيات والوهميات في المحسوسات وظنية تستعمل في الإمارة وهي أربع : المسلمات والمشهورات والمقبولات والمقرونة بالقرائن كنزول المطر بوجود السحاب الرطب كذا يستفاد من ( شرح المواقف )
والمراد بالقياس ما يتناول الاستقراء والتمثيل أيضا وإردافه بلفظ أو حجة لدفع توهم اختصاص القياس بما يقابلهما . وقيل : أو للتنبيه على اختلاف الاصطلاح فقيل إنها مختصة بالحجة وقيل : يشمل ما جعلت جزءهما
وهذا المعنى مبائن للمعنى السابق . وقيل : أخص من الأول كما يستفاد من بعض حواشي ( شرح المطالع )

(1/197)


ومنها ما يتوقف عليه الباحث الآتية فإن كانت تلك المباحث الآتية العلم برمته تسمى مقدمة العلم وإن كانت بقية الباب أو الفصل تسمى مقدمة الباب أو الفصل . وبالجملة تضاف إلى الشيء الموصوف كما في ( الأطول )
وقد اشتهر بينهم أن مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع في ذلك العلم والشروع في العلم لا يتوقف على ما هو جزء منه وإلا لدار بل على ( 1 / 198 ) ما يكون خارجا عنه . ثم الضروري في الشروع الذي هو فعل اختياري توقفه على تصور العام بوجه ما وعلى التصديق بفائدة تترتب عليه سواء كان جازما أو غير جازم مطابقا أو لا لكن يذكر من جملة مقدمة العلم أمور لا يتوقف الشروع عليها كرسم العلم وبيان موضوعه والتصديق بالفائدة المرتبة المعتد بها بالنسبة إلى المشقة التي لا بد منها في تحصيل العلم وبيان مرتبته وشرفه ووجه تسميته باسمه إلى غير ذلك
فقد أشكل ذلك على بعض المتأخرين واستصعبوه فمنهم من غير تعريف المقدمة إلى ما يتوقف عليه الشروع مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه زيادة البصيرة ومنهم من قال : الأولى أن يفسر مقدمة العلم بما يستعان به في الشروع وهو راجع إلى ما سبق لأن الاستعانة في الشروع إنما تكون على أحد الوجوه المذكورة ومنهم من قال :
لا يذكر في مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع وإنما يذكر في مقدمة الكتاب وفرق بينهما بأن مقدمة العلم ما يتوقف عليه مسائله ومقدمة الكتاب طائفة من الألفاظ قدمت أمام المقصود لدلالتها على ما ينفع في تحصيل المقصود سواء كان مما يتوقف المقصود عليه فيكون مقدمة العلم أو لا فيكون من معاني مقدمة الكتاب من غير أن يكون مقدمة العلم

(1/197)


وأيد ذلك القول بأنه يغنيك معرفة مقدمة الكتاب عن مظنة أن قولهم : المقدمة في بيان حد العلم والغرض منه وموضوعه من قبيل جعل الشيء ظرفا لنفسه وعن تكلفات في دفعه
فالنسبة بين المقدمتين هي المباينة الكلية والنسبة بين ألفاظ مقدمة العلم ونفس مقدمة الكتاب عموم من وجه لأنه اعتبر في مقدمة الكتاب التقدم ولم يعتبر التوقف واعتبر في مقدمة العلم التوقف ولم يعتبر التقدم وكذا بين مقدمة العلم ومعاني مقدمة الكتاب عموم ( 1 / 199 ) من وجه . وقال صاحب ( الأطول ) : ( ( والحق أنه لا حاجة إلى التغيير فإن كلا مما يذكر في المقدمة مما يتوقف عليه شروع في العلم هو إما أصل الشروع في العلم أو شروع على وجه البصيرة أو شروع على وجه زيادة البصيرة . فيصدق على الكل ما يتوقف عليه شروع ولحمل الشروع على ما هو في معنى المنكر مساغ أيضا كما في : ادخل السوق ) ) انتهى
وههنا أبحاث تركناها مخافة الإطناب فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بالرجوع إلى شروح ( التلخيص )

(1/198)


قال الشيخ رفيع الدين الدهلوي في رسالته في هذا الباب : ( ( المقدمة تطلق على أمور جزء من أجزاء الكتاب عنون بهذا اللفظ وجزء كذلك يعنون مثله به وإن لم يعنون بذلك اللفظ وما يستحق أن يقدم سواء قدم وعنون بها أو لا
وهذا يسمى بمقدمة العلم والأول بل الأولان بمقدمة الكتاب فيفسر مقدمة الكتاب بما يفسر به الكتاب من الألفاظ والمعاني والنقوش وإن كان الثالث مجازيا في مثل : ( ( اشتريت الكتاب ) ) . و ( ( هذا كتاب فلان ) ) ولا يلتفت إليه في مثل : ( ( صنفت الكتاب ) ) و ( ( قرأته ) ) و ( ( هذا كتاب جيد متين ) ) و ( ( متن وشرح ( 1 / 200 ) وحاشية ) ) وتفسر مقدمة العلم بما يفسر به العلم من الإدراك والمدركات فيتحقق بينهما نسب مختلفة كالمتباين صدقا أو الكلية والجزئية أو العموم والخصوص المطلق
كما إذا اشتمل مقدمة الكتاب على غير مقدمة العلم أيضا والعموم من وجه إذا لم يقدم مقدمة العلم وقدم شيء من غيرها

(1/199)


هذا هو الكلام على العرف المشهور والذي يقتضيه النظر الصحيح أن يسمى بمقدمة الكتاب ماله دخل في خصوص الكتاب وبمقدمة العلم ماله دخل في العلم مطلقا . ويجتمعان إذا لم يكن مدخل في خصوص الكتاب إلا لما له دخل في العلم . وتحقيقهما باعتبار هذا النظر أن يقال : قد تبين في العلم الأعلى أن العلم التام بالأشياء ذوات الأسباب إنما يحصل بمعرفة عللها التامة وهي مجموع العلة الفاعلية والغائية والمادية والصورية وسائر ما يتوقف عليه حصول الشيء من الشروط والآلات والمعدات القريبة ونحو ذلك فيما يوجد فيه جميعها وبعضها فيما يوجد فيه
بعضها فنقول : إن المتقدمين لما أفرزوا من نتائج أفكارهم الأحكام المتعلقة لشيء واحد وحدة ما من جهة واحدة علوما متفرزة وشحنوا بها كتبهم وأرادوا بقاءها على مر الأعصار وعلموها تلامذتهم قرنا بعد قرن حتى وصلت إلينا فاستحسنوا تقديم بعض مبادئها عليها ليكون تسهيلا لطالبيها وتبصرة لشارعيها
وقد علمت وجه الضبط فاعلم أن ههنا أمرين أحدهما : العلم بما هو هو وذلك عبارة عن مسائل مخصوصة ومطالب معينة . وثانيهما : الكتاب وهو عبارة عن ألفاظ مقررة ومعان مرتبة . وربما كان كتاب واحد في علوم متعددة أو كتب متعددة في علم واحد ورب علم لم يدون ( 1 / 201 ) في كتاب أو كتاب لم يشتمل على علم بل على مسائل متفرقة وأحاديث ملهية من نظم أو نثر . وأيضا هما يختلفان في أمور كثيرة : كالمنفعة والمضرة والجودة والرداءة والضعف والقوة وغيرها

(1/200)


ونسبة الكتاب بمعانيه إلى العلم كنسبة العلم إلى الواقع بالمطابقة واللامطابقة فلكل منهما مبادئ متغايرة . فالأحق أن يجعل لكل منهما مقدمة مغايرة لمقدمة الآخر ويجعل مقدمة العلم من مقاصد الكتاب
ولكن من الناس من يجمعهما ومنهم من يكتفي بأحدهما ومنهم من يذكر مقدمة الكتاب في الديباجة ومقدمة العلم في جزء من الكتاب يصدر بالمقدمة ويذكر في كل ما يهمه ويتفق له . . ولكن مقدمة العلم ومقدمة الكتاب في الأغلب داخلتان في الكتاب وذلك لعدم إفرازهما بعناية النظر
ونحن نذكر مبادئ كليهما مع نوع ضبط فنقول : من المبادئ الفاعل أما فاعل العلم حقيقة فأول من أخرجه من القوة إلى الفعل ودونه وفصله كأرسطاطاليس لحكمة المشائين والمنطق وينوب منابه المهرة الذين هم أهل استنباط وتحقيق لقواعده
وأما فاعل الكتاب حقيقة فمصنفه وينوب منابه من عليه الاعتماد في روايته وتوجيهه وإصلاحه . ومنها الغاية وهي بيان الحاجة الماسة إلى تدوينه وتصنيفه
أما العلوم فلها غاية عامة هي تكمل النفس في القوة العلمية بمعرفتها وغاية خاصة تذكر في كل فن فن . وأما الكتب فلها أيضا غاية عامة وهي تسكين وهج القلب بإيراد ما يختلج فيه وإرادة الترويح والإبقاء كما قيل :
كل علم ليس في القرطاس ضاع ... ( 1 / 202 )
وغاية خاصة من توضيح مجمل أو تلخيص مطول أو تعميم انتفاع أو كتم عن رعاع أو إبانة حق أو إزالة شك أو إرضاء عظيم أو تبكيت لئيم إلى غير ذلك

(1/201)


ثم إن الغاية في الأفعال الاختيارية تتم بأمرين :
معرفة المطلوب حذرا من طلب المجهول المطلق . ومعرفة فائدته فرارا عن العبث . فوضعوا للأول معرفة الاسم ووجه التسمية للكتاب والرسم أيضا للعلم
والثاني : بيان الفائدة والمضرة ترغيبا في تحصيله ومعالجة عن إفساده ومنها المادة والصورة وعلمهما بالحقيقة إنما يكون بعد إتمام تحصيل العلم والكتاب لأن الصورة جزء آخر للمعلول والمادة مقارنة لها بل حصولهما هو عين حصول المعلول وذلك مناف لغرض المقدمة
فأقاموا مقامها شيئين آخرين : أما مقام المادة فللعلم بيان موضوعه الذي تنتهي إليه موضوعات مسائله كأنها شعب وتفصيلات ولواحق عارضة له وبيان حيثية البحث الذي تنتهي إليه محمولات المسائل كذلك . والكتاب بيان لغة ألفاظه أنها عربية أو فارسية وهي كثيرا ما تكون قليلة الجدوى . وبيان العلم الذي هو فيه فإن التحرير والتقرير إنما يقع فيه على صور شتى ووجوه مختلفة . وأما مقام الصورة فللعلم بيان أبوابه والإشارة إلى كليات أصوله وفروعه وللكتاب بيان ترتيبه وتفصيل أجزائه من المقالات والأبواب والفصول وغيرها وفهرستها

(1/202)


ومنها الشروط فبعضها عامة لكل علم في المعلم والمتعلم وزمان ( 1 / 203 ) التعليم والتصنيف . وقد حرر فيه رسائل تسمى آداب المتعلمين وآداب المصنفين . وبعضها خاصة فلكل طائفة من العلوم معلومات ما لم تعلم لم يعلم ولم يصح الجزم به مالم تستعمل وتسمى بالحدود . والعلوم المتعارفة والمصادرات والأصول الموضوعة . ولبعض الكتب رموز واصطلاحات ما لم تعلم أشكل فهم الكتاب
ومنها الآلات فإن الفاعل القريب لاكتساب العلوم هي الأفكار ولها طرق ووجوه يسهل التحصيل بها يسمى الأنحاء التعليمية وهي : التقسيم والتحليل والتحديد والبرهان . وللكتب شروح وحواش يسهل فهمها بأعمالها ومنها المعدات القريبة فيبين مرتبة العلم لتأخر عما يجب وتقدم على ما يجب وكذلك مرتبة الكتاب وبيان الكتب التي منها مأخذ الكتاب والعلوم التي يحصل منها استعداد العلم المطلوب . فهذا وجه لضبطها . وسائر المصنفين يكتفون ببعضها لما مر ولأن منها ما يكفي مؤنة غيرها ولكن توسعة للأمر قد يحث على استيفائها والعلم عند الله تعالى ) ) انتهى كلامه - رحمه الله

(1/202)


الترشيح الخامس : في التحصيل

(1/203)


قال الشيخ العلامة رفيع الدين الدهلوي في ( التكميل ) : ( ( غلب في تحصيل المجهولات التعلم على التفكر ولم يكن له قانون فدون والدي العارف الواصل والنحرير الكامل الشيخ ولي الله ابن الشيخ عبد الرحيم العمري لمزاولة الكتب تعليما ضوابط فأضفت إليه ما وفقني الله سبحانه وهي هذه ( 1 / 204 ) :
فتح فن التحصيل موضوعه العلوم المدونة من حيث تستفاد وتفاد . وغايته الخوض فيها على بصيرة والنجاة عن سوء الفهم لقاصدها وتمييز لبابها عن ذبابها وكسب الاقتدار والمهارة فيها وتفريق كامل الكتاب والمعلم من نقاصهما فليرسم بأحدهما وتكمل الناس في العلوم بدونه لا ينفي فائدته كمجتهدي الأمة وأساطين الحكمة ومدققي الهنود والإفرنج من المنطق ونظره في خمسة فإن التعلم بالتقرير ممن ينكر عليه مناظرة وممن يذعن له تدريس وتتلمذ وبالتحرير تصنيف ومطالعة

(1/203)


بسط المناظرة : توجه الخصمين في مطلب لإظهار الحق والتعرض للبيان أو المبين الحجة أو المعرف فمن الأول :

(1/204)


1 - حل المصطلح والمغلق

(1/204)


2 - تعيين المحذوف والمرجع والمحتمل لاشتراك وتجوز وتخصيص وتقييد

(1/204)


3 - دفع الإخلال لتعقيد وتبادر خلاف

(1/204)


4 - دفع الاستدراك

(1/204)


5 - سبب العدول عن ظاهر ومشهور

(1/204)


6 - تنبيه عن الإضرار بزيادة وتركها

(1/204)


7 - وعلى تعارض الكلامين صريحا أو التزاما

(1/204)


8 - وعلى تداخل الشقوق والأقسام ( 1 / 205 )

(1/204)


9 - طلب حكم مسكوت عنه منها

(1/205)


10 - خلو المدعى عن الفائدة

(1/205)


11 - استثبات الدعاوي خفية

(1/205)


12 - وظاهرا

(1/205)


ويجاب بالبيان

(1/205)


1 - 2 - إفهام القرينة

(1/205)


3 - وفائدة اللفظ

(1/205)


4 - والترجيح

(1/205)


5 - ودفع المضر

(1/205)


6 - والتوفيق

(1/205)


7 - والتمييز ولو في الجملة أو بالحقائق دون المصداق

(1/205)


8 - والدرج

(1/205)


9 - ووجه النفع

(1/205)


10 - والاطلاع

(1/205)


11 - 12 - أو يصلح في الكل ثم الاستدلال أو النقل

(1/205)


من الثاني ( 1 / 206 ) :

(1/206)


1 - تحقيق المذهب

(1/206)


2 - تصحيح النقل

(1/206)


3 - عدم الاعتداد به

(1/206)


4 - تغيير معناه

(1/206)


5 - منع المقدمات كلا أو بعضا كالصغرى والكبرى والملازمة والتنافي والوضع والرفع

(1/206)


6 - السند إن ادعى البديهة فالمساوي يفيدهما نفيا وإثباتا والأخص المعترض إثباتا والأعم المستدل نفيا

(1/206)


7 - فساد التأليف لفقد شرطه وعدم تكرر وسط ونفي حصر ويرددان على الشقين كثيرا

(1/206)


8 - مناسبة الأوسط لضد الأكبر والمقدم لضد التالي

(1/206)


9 - النقض بالتخلف عن المدعى

(1/206)


10 - وباستلزامه محالا

(1/206)


11 - المصادرة على المطلوب جزئية

(1/206)


12 - وتوقفا ولو باختلاف اللفظ

(1/206)


13 - القول بالموجب لعمومه أي الدليل عن الدعوى

(1/206)


14 - لقصور عنها لخصوصه

(1/206)


15 - المعارضة عليها

(1/206)


16 - وعلى مقدماتها ( 1 / 207 )

(1/207)


17 - إبطال المبني وهو غير القدح في دليله وذلك في المقدمات القريبة وأنفع منه لهدمه أساسا ولكن في طرفي المناظرة لئلا يشوش بالانتقال

(1/207)


18 - تساوي الدليل والدعوى قبولا وردا للاشتراك في أصل

(1/207)


19 - استثبات التفاريع عليها بعد الاعتراف تقديرا

(1/207)


20 - مخالفة النص أو إمام الفن

(1/207)


ويجاب :

(1/207)


1 - بالإعلام

(1/207)


2 - والعرض

(1/207)


3 - والتوثيق

(1/207)


4 - والترجيح بقرب وشهادة حاذق

(1/207)


5 - والاستدلال

(1/207)


6 - و 7 - التطبيق على القواعد

(1/207)


8 - ونفي المناسبة

(1/207)


9 - والفرق بين الصورتين

(1/207)


10 - و 11 - المتقدمتين

(1/207)


12 - وإبداء وسط يرفع التوقف

(1/207)


13 - وتوجيه التقريب

(1/207)


14 - و 15 - تبديل المنصب ( 1 / 208 )

(1/208)


16 - و 17 - أييد المبني بعد تحريره

(1/208)


18 - وقطع التفريع

(1/208)


19 - وتصحيح الفروع برفع الاستبعاد أو الإنكار

(1/208)


20 - والتأويل راجحا والجرح مرجوحا أو مرجوعا عنه لإعمال غيره وعند العجز الانتقال أو الإذعان

(1/208)


والثالث أي المعرف لا يحتمل النقض والمعارضة
ومنوع الأحكام الضمنية دعاوي يجب إثباتها :

(1/208)


1 - كالدور مصرحا ومضمرا

(1/208)


2 - فمنها للحمل

(1/208)


3 - والتصوري للبديهة والسور

(1/208)


4 - والجلاء مطلقا

(1/208)


5 - والمنع

(1/208)


6 - والجمع وافيا

(1/208)


7 - والتناول

(1/208)


8 - والاندراج للإطباق

(1/208)


9 - ووجه الشبه بالمبائن قاصرا

(1/208)


10 - والذاتية حدا لفقد أحكامها
وكله في الخفاء وبعد الظهور مجادلة لا يسامح فيها وقلما يلتزم إثبات شيء ( 1 / 209 )

(1/208)


التدريس :

(1/209)


تفهيم الكتاب باللسان وطريقه للقاصر الترجمة فقط فيتبلد الذهنان . وللفالي ذكر ما أمكن حفظا ومراجعة فيعسر اليسير بالتعجيل ويطول زمان التحصيل وللمستعجل الاكتفاء بصدور الكتب بالدقة فيحوج إلى شغل ثان للاستيفاء والاقتصار على العد في العلماء وللحاذق من كل علم مبسوط وفي البداية تعليم متن سهل لمعرفة الاصطلاحات وأصول القواعد وشرح مستوف لفوائد القيود والأدلة والأبحاث والاختلافات المشهورة وحاشية لملكة التدقيق جرحا وتعديلا وترجيحا والاعتياد بوصل الخارج وجمع المنتشر فإن احتيج زيد

(1/209)


ومن المختصر ما يكفي وضوابطه :

(1/209)


1 - ضبط المشكل بنوع الحركة والسكون والإعجام والإهمال والتقديم والتأخير

(1/209)


2 - شرح الغريب لغة واصطلاحا

(1/209)


3 - كشف المغلق صيغة وتركيبا

(1/209)


4 - تصوير المسألة بتمثيل وتشكيل

(1/209)


5 - تقريب الأدلة بتصريح المطويات والوصل بالأصل ( 1 / 210 )

(1/209)


6 - تحقيق القواعد بفوائد القيود وسد الانكسار بلا فضول ولا إغلاق

(1/210)


7 - تنقيح التعريفات بهما وبالاستنباط المشترك والمميز من التقسيمات

(1/210)


8 - وجه الحصر والترتيب في الأقسام والأبواب

(1/210)


9 - تفريق الملتبسين من التوجيهات والتعليلات والأقوال

(1/210)


10 - تطبيق المختلفين من كلامي واحد ومتحدي مذهب

(1/210)


11 - التنبيه على الاستثناءات والإيرادات الظاهرة الورود ودفعها

(1/210)


12 - تفتيش الحوالة عن محلها

(1/210)


13 - بيان المبهم من وجوه النظر والأولى والصواب والسؤال المقدر

(1/210)


14 - الترجيح بين التوجيهات وإبداء الأسلم والأقرب منها وما علي كل

(1/210)


15 - سبب تغيير الأسلوب المعروف

(1/210)


16 - تعيين السؤال والجواب بنوعه ومنشئه ومورده

(1/210)


17 - حسن التقرير بإيضاح موجز

(1/210)


18 - الترجمة بلغة الطالبين

(1/210)


19 - إعمال فكره في حل ما يمكن منه ( 1 / 211 )

(1/210)


20 - حفظ اللسان عن سوء الخلق

(1/211)


21 - حفظ وضع المعترض والمجيب

(1/211)


22 - تلخيص المتشتت

(1/211)


23 - توزيع الفروع والعلل على ملفوف أو ملحوظ

(1/211)


24 - التيقظ عند ترتيب الأسئلة والأجوبة لأصل الإثبات والنفي

(1/211)


25 - الحذر عما يوجب سوء الفهم ويستوي فيه المنقول والمعقول البرهاني والخطابي إلا أن الاعتبار في الأول بتحقيق العبارات والربط أكثر وفي الثاني بالوصل إلى البديهيات أصولا والمسلمات فروعا وفي الثالث بالمناسبات الظنية
فلا يزال ينبه عليها بما يتحمل حتى يتخذه ملكه بفكره ثم يعرض مطالعته على مطالعته وعلى الحواشي ويفهمه الغلط والحذر عنه ثم يمتحنه بتصنيف شرح أو حاشية يؤدي فيه حقه ويستحق الوثوق برأيه

(1/211)


التتلمذ :

(1/211)


فهم الكتاب بالاستماع بعد الصحة والمعاش ولو بالقناعة والشوق والجد ولو بالتحريص والفهم والحفظ ولو بالجهد والمداومة وحسن الظن مع الأستاذ ولو في الفن والكتاب الواضح الصحيح والأستاذ الماهر الشفيق ولو بالطمع - حقه ( 1 / 212 ) :

(1/211)


1 - صحة القراءة

(1/212)


2 - وتمييز الجمل

(1/212)


3 - والاستماع بتفريغ القلب

(1/212)


4 - والتثبت في الفهم

(1/212)


5 - واستكشاف ما خفي

(1/212)


6 - وعرض الشبهة بالأدب

(1/212)


7 - وجمع سابق البحث ولاحقه في الذهن

(1/212)


8 - وتقدم النظر ليكون أوقع وعلى بصيرة وفي البداية بحضور المعلم أنفع

(1/212)


9 - والمعاودة ليستقر وبالتقرير أجود

(1/212)


10 - والتحفظ للإحضار حيث ينبغي ومع الكتابة أحسن

(1/212)


11 - والامتثال لما يراه أصلح

(1/212)


12 - والاجتناب عما ينقبض به الخاطر

(1/212)


13 - وعن التعرض لبعيد المناسبة

(1/212)


14 - وعن الضجر من الحوالة فيما تعسر جدا فإنه :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود

(1/212)


15 - ولطالب التحقيق سلخ الألفاظ المتخيلة عن صورة للشيء يطابقها جميع صفاته ويلائمها جميع فروعه المتفقة عليها ( 1 / 213 )

(1/212)


التصنيف :

(1/213)


تأليف الكلام لتحريره نثرا ونظما والمراد ما في العلوم فما لم يتعلق بغيره صريحا فمتن أو تعلق متصلا فشرح مدمج أو مفصولا ب ( ( قال أقول ) ) ونحوها أو على الطفرة فتعليق وحاشية ومن كل وجيز ووسيط وبسيط وله أغراض سياقه بحسبها

(1/213)


1 - اختراع جديد

(1/213)


2 - ضبط قديم

(1/213)


3 - ترويج خامل

(1/213)


4 - جمع متفرق

(1/213)


5 - تجريد عن زائد أو فاسد لفظا أو معنى

(1/213)


6 - تتميم بلاحق كاستثناءات وقيود وأمثلة وأدلة ومسائل ومآخذ

(1/213)


7 - إبانة حق بدءا أو نصرا أو ذبا

(1/213)


8 - إزاحة باطل بكشف شبهة أو ضلالة

(1/213)


9 - اشتراك في تفرد

(1/213)


10 - إصلاح ترتيب

(1/213)


11 - تسهيل مغلق بحل أو بسط

(1/213)


12 - انتزاع أصل من منتشر ( 1 / 214 )

(1/213)


13 - تفريع شعب لمجمل

(1/214)


14 - تحقيق مقام أو كتاب أو فن بجمع ماله وعليه

(1/214)


15 - تبديل نثر بنظم

(1/214)


16 - ولغة بلغة أخرى ودون له والدي - رحمه الله تعالى - قوانين الترجمة

(1/214)


17 - وتتركب كثيرا
فبعد إتقان اللغة والفن وسليقة الإيجاز والإطناب يستعان فيه بما مر ففي الشروح والحواشي الحل بضوابط التدريس وفي إعانة الحق بالمنطق وفي الرد بأسئلة المناظرة وفي التوجيه بأجوبتها مع النحو والبلاغة والأصول وفي بعض بسليقة البيان وفي طائفة بالتتبع والتبحر وأمثالها مع مزيد التحفظ في النقل والنقد وحسن التقرير إيجاز أو بسطا بحسب المحل وحفظ الوضع من المذهب والمنصب فإن من صنف استهدف . ويكون لخصوص الكتاب من المقدمات مثل ما في مقدمة العلم مع الزمان والمكان والرموز فليجمعها في واحدة أو ليقدم في الديباجة على مقدمة العلم

(1/214)


المطالعة :

(1/214)


النظر في الكتاب بفهم المراد والخلل وبعد اقتناء اللغة والاصطلاح وملكة الترجمة تتمم بأنظار ثلاثة تداخلت أو تعاقبت ( 1 / 215 ) :
الأول : للإحاطة بالمعاني الثانوية وتمييز المذكور عن المتروك وبعض الجمل عن بعض والطرفين عن القيود
والثاني : لمعرفة فوائدها والمعاني الأولية وجديد التصرف وربط الأدلة والأبحاث فيما بينها استقامة واعوجاجا بما في التدريس
والثالث : للنقد بالهدم والتشييد والنقد والترصيف ويفهم المعنى :

(1/214)


1 - بعبارة الكلام من لفظه بلا شبهة قصدا

(1/215)


2 - وإشارته كذلك ضمنا

(1/215)


3 - وعمومه لبيان الفردية

(1/215)


4 - والإدراج فيه لمبينها بعد خفاء لكمال أو نقص أو ثبوت الركن وفقد اللوازم العرفية ونحوها

(1/215)


5 - وتقديره لمحذوف يشهد له العرف بلا روية

(1/215)


6 - وإيمائه لترجيح أحد محتمليه بقاطع أو ظني كشهادة كلام ثان له أو عدم اجتماع الأوصاف في غيره وكونه أهم المقاصد . أو أدنى مصداق أو فائدة لولاه لبطل ولغي أو قربه معنى أو مزيد نفعه أو نحوه

(1/215)


7 - وإشعار من سياقه كالتقديم والتأخير والعدول وجواب الوهم والانطباق والحذف حيث يذكر والإدارة على الوصف والتعقيب بأن في التنزيل شبهها

(1/215)


8 - ومقامه كالتيسير والتشديد والفخامة والحقارة والتدقيق والمسامحة والاهتمام والتبعية ( 1 / 216 )

(1/215)


9 - وتجوزه لتعذر الحقيقة وقيام القرينة

(1/216)


10 - وكنايته لعدم وفاء الصريح بالغرض وإن صح

(1/216)


11 - وتعارفه من زيادة لفظ وبيانية إضافة والتكثير بالواحد والاعتبار لتكرار وعزمه وتعمم خاص وعكسه وإخراج المتكلم من الكلام

(1/216)


12 - وبالتزامه بالالتفات إلى ما لا ينفك ذهنا لعلاقة ذاتية كالملكة لعدمها وأحد المتضايفين للآخر أو عادة طبعية كالنور للكواكب والحرارة للنار أو عرفية كالسخاوة لحاتم والشجاعة لرستم

(1/216)


13 - ومنافاته لوجوب ارتفاع مقابلة

(1/216)


14 - واقتضائه لما يتوقف عليه صدقة عقلا أو شرعا أو عادة وهما بينان بالمعنى الأعم

(1/216)


15 - واستلزامه لما يترتب عليه ولا يعرف إلا بممارسة وفكر من غير البين

(1/216)


16 - وفحواه فيما عليته مناطة وحصوله في الفرع بالعرف واللغة

(1/216)


17 - والقياس عليه في مثله بالنظر

(1/216)


18 - واعتباره لاجتماع مباد في الذهن أورثت بسماعه ما لا ينقدح لغيره ( 1 / 217 )

(1/216)


19 - ومفهومه المخالف بشروطه حيث يتعين فائدة

(1/217)


20 - وتأليفه اقترانيا من مقدمتين في أثنائه مشتركتين في جزء واستئناثيا من شرطية أو فرع لأصل مع اعتراف أو إنكار لأحد طرفيها

(1/217)


21 - والاقتصار عليه عن الأبين والأرفق في معرض البيان
ويخل به - أي بفهم المعنى - الجهل :

(1/217)


1 - بالموضوع له

(1/217)


2 - والوضع

(1/217)


3 - وخواص التراكيب

(1/217)


4 - والمرجح

(1/217)


5 - والصارف

(1/217)


6 - والقرينة

(1/217)


7 - ثم توجه المفاسد

(1/217)


8 - والحذف

(1/217)


9 - والخلط

(1/217)


10 - والانتشار

(1/217)


فبعد سكب السليقة بالتتلمذ يستعان بالفحص عن معادنها والشروح والحواشي وكتب الفن وإمعان الفكر وأعظم نفعها في الكتاب والسنة
هذا ما تيسر لي بفضل الله وله المنة ومن ارتقى إلى الكمال فليزد ( 1 / 218 ) فيه ما شاء فإن العلوم تتزايد بتلاحق الأفكار والله سبحانه دائم الجود مفيض الأسرار والحمد لله ) ) انتهى . كلامه وهو الباب الثاني من كتابه على التمام والكمال

(1/217)


وقال الشيخ العلامة : عليم الله بن عبد الرزاق في شرح ( رسالة المطالعة ) ما عبارته :
( ( واعلم أن المطالعة علم يعرف به مراد المحرر بتحريره وغايته الفوز بمراده حقا والسلامة عن الخطأ والتخطئة باطلا . وموضوعه المحرر من حيث هو . فإذا أردت الشروع في المطالعة وهو صرف الفكر في مبحث ليتجلى معناه فانظر وتأمل في المبحث مبتدئا من أوله منتهيا إلى آخره نظرا إجماليا
لكن ينبغي أن يكون ذلك النظر على وجه ينتقش في ذهنك جملة المعنى المراد منه فإن انتقش في النظر الأول فذاك وإلا فذلك إما لخفاء في اللغة أو لغط أو لسهو أو لنسيان من النساخ بحذف أو زيادة أو قلب أو تصحيف أو لتعقيد أو لقصور فيك فراجع في الأول إلى كتب اللغة أو إلى من عنده علمها وفي الثاني والثالث والرابع إلى نسخة أصح منها وأما في الأخيرين فانظر نظرا ثانيا أو ثالثا فصاعدا حتى ينتقش المراد

(1/218)


ثم بعد الانتقاش لاحظ الأمور التصورية من كل قضية منه أولا فأولا على الترتيب بدقة النظر في تلك الملاحظة واستبصر في كل من تلك الأمور هل يرد على واحد منها أمر من الأمور القادحة فيها أم لا والمراد بالورود ههنا التوجه الذي هو أعم منه وبعد ظهور ذلك الأمر من القوادح استبصر ثانيا هل يمكن دفع ذلك الأمر منها أم لا وبعد ظهر الدافع ثالثا هل يمكن دفع ما يدفع ذلك الدافع ( 1 / 219 ) أم لا
وهكذا إلى حيث يتوطن الذهن وآية التوطن اختبار بتثنية النظر وتثليثه فصاعدا على حسب المقام وبعد الفراغ من تلك الملاحظة لاحظ الأمور التصديقية أيضا بدقة النظر واستبصر في لك منها هل يتوجه على واحد منها شيء من الأشياء التي يقدح فيها أم لا . وبعد ظهور شيء من القوادح استبصر ثانيا هل يسوغ ويمكن التقصي عنها أم لا . وبعد ظهور التقصي عنها ثالثا هل يمكن التقصي عن ذلك التقصي أم لا . وهكذا إلى حيث يحصل التوطن وآيته ههنا آيته هناك . وبعد الفراغ عن تينك الملاحظتين لا حظ الأمور القادحة الموردة التي أوردها عليها مورد سواء كانت محررة في شرح أو حاشية أولا
والغرض من هذه الملاحظة أن يظهر لك هل هي متوجهة كما هو في زعم المورد أم لا . فإن ظهرت غير متوجهة أصلا فلا تلتفت إليها إلا أن يكون المورد عظيم الشأن معتقد الكل أو الأكثر فهناك القصور فيك لا فيه فتوقف حينئذ واختبر نظرك بتكريره مرة بعد أخرى . ثم بالمطارحة مع الأقران ثم بالعرض على المشائخ والأستاذين فإن أزاحوا شبهتك فذاك وإلا فالتسليم والإحالة إلى وقت فتحه تعالى وإلا فاستبصر في دفعها هل هو ممكن أو لا . وبعد ظهور الدافع يمكن دفع ما يدفعه أم لا . وهكذا إلى حصول التوطن

(1/218)


فإذا نظرت في المبحث من أوله إلى آخره على هذا الوجه المذكور فلا يخلو حالك عن أحد هذه الأمور الثلاثة :
إما أن لا تكون أنت واجدا ومصيبا لشيء من القوادح أصلا فعدم ( 1 / 220 ) الوجدان والإصابة إما لقصور ذهنك عن إدراكه أو لعدمه لكمال من حرره في التحرير بحيث لا يتطرق إليه قدح ولا نقص أصلا أو لوقوع تحريره هذا كاملا
وإما أن تكون أنت واجد الشيء من الأشياء الواردة القادحة المدفوعة التي دفعها الناس أو أمكن دفعها
وإما أن تكون أنت واجد الشيء من الأشياء الواردة الغير المدفوعة
ولا قصور في شيء من هذه الأحوال التي هي في المورد الثلاثة المذكورة إلا في الحالة الأولى فإن القصور فيها محتمل كما تقدم . وإذا كانت ناشئة من القصور وظهر لك أن الحالة الأولى منشؤها قصور ذهنك عن دركه فلا تفتر جدك وجهدك في النظر والمطالعة بل استمر واثبت على ذلك فإن الممارسة لشيء والملازمة له تورث الكمال في ذلك الشيء . فإذا فرغت عن النظر في المبحث الأول بالطريقة المهدية إليها الهادية إلى الحق فانظر في المبحث الثاني من أوله إلى آخره على الوجه الذي أريناك فإن ظهر عليك أن القصور في نفسك باق بعد بأن لم تجد مدعاه أو شيئا من القوادح فلا تفتر جدك وجهدك في النظر والمطالعة بل أثبت فانظر في المبحث الثالث على ذلك الوجه وهكذا إلى أن يتم الكتاب

(1/219)


فإن حصل لك الكمال فذلك وإلا فإعادته إلى كتاب آخر فآخر إلى أن يحصل لكل الكمال . وعد نفسك محلا قابلا لفيضان الكمالات عليها ولا تيأس من فضل الله فإنك أيها العاقل لست من الذين قد محاهم المخاطبون عن دفاترهم وفضل الله على الخلق أوسع من خواطرهم . وإذا وقع جدك وجهدك في المطالعة على هذا النهج والطريق المذكور سنة أو أكثر إلى سنتين لا أظنك أن لا تترقى بل أجزم أن تترقى في المطالعة إلى وجه تقدر ( 1 / 221 ) على تمييز المقبول من الأحكام عن المردود منها فإذا صرت مقتدرا كامل القدرة على ذلك الطريق بحيث لا يحوم حولك قصور ولا خطأ ولا فتور فارتق إلى حيث خلقت نوعا أو شخصا له من المراتب العالية من الكمالات النفسية التي هي معرفة الله تعالى ذاتا وصفة حيث قال تعالى : ( ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ) أي ليعرفون كما فسر بعضهم

(1/220)


قف : اعلم أن الشارح والمحشي إذا زاد على الأصل شيئا فالزائد لا يخلو إما أن يكون بحثا أو اعتراضا أو تفصيلا لما أجمله أو تكميلا لما نقصه وأهمله والتكميل إن كان مأخوذا من كلام سابق أو لاحق فإبراز وإلا فاعتراض فعلى الأولين إما تفسير لما أبهمه فإن كان بكلمة ( ( أي ) ) أو بالبيان أو بالعطف فتفسير باللفظ وإن كان بكلمة ( ( يعني ) ) أو ما يرادفه فتفسير بالمعنى الظاهر
وصيغ الاعتراض مشهورة ولبعضها محل يشارك فيه الآخر فيرد و ( ( ما اشتق منه ) ) لما لا مدفع له بزعم المعترض ويتوجه و ( ( المشتق منه ) ) أعم منه ونحو ( ( إن قلت ) ) مما هو بصيغة المعلوم شرطا لما تحقق له الجواب مع قوة في البحث ونحو ( ( إن قيل له ) ) مع ضعف فيه و ( ( قد يقال ) ) ونحوه لما فيه ضعف شديد ونحوه ( ( لقائل ) ) لما فيه ضعف ضعيف ( ( وفيه بحث ) ) ونحوه لما فيه قوة سواء تحقق الجواب أولا وصيغة المجهول ماضيا كان أو مضارعا ولا يبعد ويمكن كلها صيغ التمريض يدل على ضعف مدخولها بحثا كان أو جوابا و ( ( أقول ) ) وقلت لما هو خاصة القائل

(1/221)


وقد اشتهر من الأستاذين أن ( ( لا يبعد أن ) ) ( شرح الكافية ) للشيخ الأجل الكامل في الكل الشيخ عبد الرحمن الجامي قدس سره من خواصه . وكذا ( 1 / 222 ) ( ( قد يقالات ) ) ( شرح المواقف ) للسيد سند الكل في الكل له خاصة . واختيار صيغ التمريض تواضع منهما رفع الله تعالى قدرهما
وإذا قيل ( ( حاصله ) ) أو ( ( محصله ) ) أو ( ( تحريره ) ) أو ( ( تنقيحه ) ) أو نحو ذلك فذاك إشارة إلى قصور في الأصل واشتماله على حشو وإيهام . وتراهم يقولون فيم قام إقامة شيء مقام آخر مرة ( ( نزل منزلته ) ) وأخرى ( ( أنيب منابه ) ) وأخرى ( ( أقيم مقامه ) ) فالأول في إقامة الأعلى مقام الأدنى والثاني بالعكس والثالث في المساواة وإذا رأيت واحدا منها مكان الآخر فهناك نكتة وإنما اختاروا في الأول التفعيل وفي الأخيرين الأفعال لأن تنزيل الأعلى مكان الأدنى يحوج إلى العلاج والتدريج
وربما يختم البحث بنحو ( ( تأمل ) ) فهو إشارة إلى دقة المقام مرة وإلى خدشة فيه أخرى سواء كان ب ( ( فيه ) ) أو بدونها إلا في مصنفات العلامة مولانا جلال الدين الدواني نور الله مرقده فإنه ب ( ( فيه ) ) إشارة إلى الثاني وبدونها إلى الأول . وهذا اصطلاح جديد له على ما نقله عنه بعض تلامذته مختص بها غير متجاوز عنها ) ) انتهى . ملخصا

(1/221)


أدب البحث :

(1/222)


هو علم يوصل به إلى كيفية الاحتراز عن الخطأ في ( 1 / 223 ) المناظرة . وموضوعه المناظرة إذ يبحث فيه عن أحوالها وكيفياتها وأوردنا ههنا ما هو المطلب الأعلى والاهتمام بشأنه هو المقصد الأقصى فنقول :
لا بد أن يعلم أولا أن المعلل ما دام في تقرير الأقوال والمذاهب وتحرير المباحث لا يتجه عليه ولا يطلب منه شيء سوى تصحيح النقل وتصريح أن فلانا قال كذا في كذا إن طولب به فإذا شرع في إقامة الدليل على ما ادعاه يتجه عليه طريق المناظرة

(1/222)


قف : اعلم أن كلام المناظرين إما أن يقع في التعريفات أو في المسائل فإن وقع في التعريفات فللسائل طلب الشرائط وإيراد النقض بوجود أحدهما بدون الآخر ولا يرد عليه المنع لأنه طلب الدليل والدليل على التصديق إلا أن يدعي الخصم حكما صريحا بان يقول هذا مفهومه لغة أو عرفا أو اصطلاحا أو ضمنا . فللسائل أن يمنع وللمعلل - أي المجيب - أن يجيب والجواب عن التعريف الاسمي سهل حاصله يرجع إلى الاصطلاح وإلى أن يقول المعلل :
( ( إن مرادي بهذا اللفظ هذا المعنى ) ) وعن التعريف الحقيقي أعني تعريف الماهيات الموجودة في الخارج صعب إذ لا مدخل فيه للاصطلاح بل يجب فيه العلم بالذاتيات بالذاتيان والعوارض والتفرقة بينهما بان يفرق بين الجنس والعرض العام والفصل والخاصة وهذا متعسر جدا في التعريف بل متعذر وكذا لا نرد عليه ( 1 / 224 ) المناقضة فإنها هي طلب الدليل الدال على نقيض المدعي والدليل منتف هنا وإن وقع في المسائل فإذا شرع المعلل في إقامة الدليل فالخصم إن منع مقدمة معينة من مقدماته أو كليهما على التعينين فذاك يسمى مناقضة ونقضا تفصيليا فلا يحتاج فيه إلى شاهد

(1/223)


وإن ذكر شيئا مما يتقوى به المنع يسمى سندا فإن لم يذكره لم يجز الاعتراض عليه إلا إذا ادعى مساواته المنع لأن السند ملزوم لثبوت المنع وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم لكن على تقدير المساواة يمكن انتفاؤه وأكثر ما يستند إليه يذكر مساويا فلذا شاع الكلام عليه
وإن منع مقدمة غير معينة بان يقول : ليس هذا الدليل بجميع مقدماته صحيحا بمعنى أن فيها خللا فذلك يسمى نقضا إجماليا ولا يسمع إلا أن يذكر الشاهد على الخلل وإن لم يمنع شيئا من المقدمات لا إجمالا ولا تفصيلا بل قابل بدليل دال على نقيض مدعاه يسمى معارضة ويصير السائل معللا وبالعكس

(1/224)


واعلم أن السؤال المتعلق بالإفهام يسمى الاستفسار وهو طلب بيان معنى اللفظ في الأغلب وإنما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة وكذلك كل ما يمكن فيه الاستبهام حسن فيه الاستفهام وإلا فهو لجاج وتعنت ولفائدة المناظرة مفوت إذ يأتي في كل لفظ تفسير فيتسلسل والجواب عن الاستفهام ببيان ظهوره في مقصوده إما بالنقل عن أهل اللغة أو بالعرف العام أو الخاص أو بالقرائن المضمومة وإن عجز عن ذلك كله فالتفسير بما يصح لغة وإلا يكون من جنس اللعب فيخرج عما وضعت له المناظرة وإظهار الحق
وهذا الاستفهام يرد على تقرير المدعي وعلى جميع المقدمات وعلى جميع الأدلة فلا سؤال أعم منه ( 1 / 225 )

(1/224)


تنبيه : من الواجب على المعلل أن لا يستعجل بالجواب بل يطلب منه توجيه المنع وتحقيقه إذ ربما لا يتمكن المانع توجيهه أو يظهر فساده أو يتذكر جوابه فإذا أجيب فعلى المانع أو لا يستعجل بل ويطلب توجيه الجواب وتفصيله إذ ربما لا يقدر عليه أن يكون غلطا
ومما يجب على المتناظرين أن يتكلما في كل علم بما هو حده ووظيفته فلا يتكلما في اليقيني بوظائف الظني وبالعكس ( 1 / 226 )

(1/225)


الباب الرابع : في فوائد منثورة من أبواب العلم وفيه مناظر وفتوحات

(1/226)


المنظر الأول : في العلوم الإسلامية

(1/226)


اعلم أن العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد التي يخوض فيها البشر ويتداولونها فيما بينهم تحصيلا وتعليما هي على صنفين :
صنف طبيعي : للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي : يأخذه عمن وضعه
والأول : هي العلوم الحكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر
والثاني : هي العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه . ( 1 / 227 )
وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي : الشرعيات من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلق بذلك من العلوم التي نهيئها للإفادة ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملكة وبه نزل القرآن

(1/226)


وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا وهذا هو : علم التفسير ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القراء في قراءته وهذا هو : علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك وهذه هي : علوم الحديث ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط وهذا هو : أصول الفقه وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين وهذا هو : الفقه ثم إن التكاليف منها : بدني ومنها : قلبي وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد وما لا يعتقد وهذه هي : العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب والقدر والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو : علم الكلام ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها وهي أصناف فمنها : علم اللغة وعلم النحو وعلم البيان وعلم الأدب حسبما نتكلم عليها كلها

(1/227)


وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها وإن كانت ( 1 / 228 ) كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنها علوم الشريعة المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها وأما على الخصوص : فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد )
ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد عمر - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال : ( ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي )

(1/227)


ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق
وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتعليم وما أدري ما فعل الله بالمشرق ؟ والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم - والله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد وبيده التوفيق والإعانة - . ( 1 / 229 )

(1/228)


المنظر الثاني : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم

(1/229)


وذلك من الغريب الواقع لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم العجم إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي والسبب في ذلك : أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة وإنما أحكام الشريعة - التي هي : أوامر الله ونواهيه - كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله : ( القراء ) : أي الذين يقرؤون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ : ( قراء ) إشارة إلى هذا فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن رسول الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي )

(1/229)


فلما بعد النقل - من لدن دولة الرشيد فما بعد - احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج ( 1 / 230 ) إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في : الاستنباطات والاستخراج والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى وهي وسائل لها من : معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع
وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها
والحضر لذلك العهد هم : العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من : الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو : سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفنا لمن بعدهم وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما - كما يعرف - وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم
وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس )

(1/229)


وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها ( 1 / 231 ) وأولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع والرؤساء - أبدا - يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين وما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم في : الملك والسياسة وهذا الذي قررناه : هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم

(1/230)


وأما العلوم العقلية أيضا : فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم - شأن الصنائع كما قلناه أولا - فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من : العراق وخراسان وما وراء النهر فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي : أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر
وقد دلنا على ذلك : كلام بعض علمائهم في تآليف وصلت إلينا من هذه البلاد وهو : سعد الدين التفتازاني وأما غيره ( 1 / 232 ) من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام : ابن الخطيب ونصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة - فاعتبر ذلك وتأمله تر عجبا في أحوال الخليقة والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله

(1/231)


المنظر الثالث : في علوم اللسان العربي

(1/232)


أركانه أربعة : وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة وتتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا
والذي يتحصل : أن الأهم المقدم منها هو : النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة
وكان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال ( 1 / 233 ) على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر
فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق -
وقد قدمنا أن العلم من جملة الصنائع لكنه أشرفها فلا نعيد الكلام على ذلك حذرا من الإطالة

(1/232)


المنظر الرابع : في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم

(1/233)


والسبب في ذلك : أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة : علما وتعليما وإلقاء وتارة : محاكاة وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها
والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين
فلقاء أهل العلوم وتعدد المشائخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم
وهذا لمن يسر الله تعالى عليه طرق العلم والهداية فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشائخ ومباشرة الرجال ( 1 / 234 ) - ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ويرشده إلى طريق سوي ودين قويم

(1/233)


المنظر الخامس : في أن العلماء - من بين البشر - أبعد عن السياسة ومذاهبها

(1/234)


والسبب في ذلك : أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي
فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر ولا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك : كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج
فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها
ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر إذ كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء - لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض - إذا نظروا في السياسة أفرغوا ( 1 / 235 ) ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط

(1/234)


والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح : لا يفارق البر عند الموج قال الشاعر :
فلا توغلن إذا ما سبحت ... فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره باستقامة نظره - ( وفوق كل ذي علم عليم ) -
ومن هنا : يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني
ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني وأما النظر في المعقولات الأول - وهي التي تجريدها قريب - فليس كذلك لأنها خيالية وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق

(1/235)


المنظر السادس : في موانع العلوم وعوائقها

(1/235)


وفيه فتوحات : ( 1 / 236 )

(1/236)


فتح :

(1/236)


اعلم أنه على كل خير مانع وعلى العلم موانع منها : الوثوق بالمستقبل والوثوق بالذكاء والانتقال من علم إلى علم قبل أن يحصل منه قدرا يعتد به أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه
ومنها : طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية
ومنها : ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال
ومنها : أفعال الدنيا وتقليد الأعمال
ومنها : كثرة التأليف في العلوم وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة

(1/236)


فتح :

(1/236)


أما الوثوق بالمستقبل : فلا ينبغي للعاقل لأن كل يوم آت بمشاغله فلا يؤخر شغل يومه إلى غد

(1/236)


فتح :

(1/236)


وأما الوثوق بالذكاء : فهو من الحماقة وكثير من الأذكياء فاته العلم بهذا السبب

(1/236)


فتح :

(1/236)


وأما الانتقال من علم إلى علم قبل أن يستحكم الأول فهو : سبب الحرمان عن الكل فلا يجوز وكذا الانتقال من كتاب إلى كتاب كذلك

(1/236)


فتح :

(1/236)


وأما طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية فالعلم أعز من أن ينال مع غيره أو على سبيل التبعية ولذلك ترى كثيرا من الناس لا ينالون من العلم قدرا صالحا يعتد به لاشتغالهم عنه بطلب المنصب والمدرسة وهم يطلبونه دائما ليلا ونهارا سرا وجهارا ولا يفترون وكان ذكرهم وفكرهم تحصيل المال والجاه مع أنها لهم في اللذات ( 1 / 237 ) الفانية وعدم ركونهم إلى السعادة الباقية ومناصبهم في الحقيقة مناصب أجنبية لأنها شاغلة عن الشغل والتحصيل على القانون المعتبر في طريقه

(1/236)


فتح :

(1/237)


وأما ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال فمن أعظم الموانع وأشدها لأن صاحبه مهموم ومشغول القلب أبدا

(1/237)


فتح :

(1/237)


وأما إقبال الدنيا وتقلد العمل فلا شك أنه يمنع صاحبه عن التعليم والتعلم

(1/237)


فتح :

(1/237)


وأما كثرة المصنفات في العلوم واختلاف الاصطلاحات في التعليم فهي عائقة عن التحصيل لأنه لا يفي عمر الطالب - بما كتب في صناعة واحدة - إذا تجرد لها لأن ما صنفوه في الفقه مثلا من المتون والشروح لو التزمه طالب لا يتيسر له مع أنه يحتاج إلى تمييز طرق المتقدمين والمتأخرين وهي كلها متكررة والمعنى واحد
والمتعلم طالب والعمر ينقضي في واحد منها ولو اقتصروا على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك ولكنه داء لا يرتفع ومثله علم العربية أيضا في مثل كتاب سيبويه وما كتب عليه وطرق البصرييين والكوفيين والأندلسيين وطرق المتأخرين مثل : ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك : كيف يطالب به المتعلم ؟ وينقضي عمره دونه ولا يطمع الذي هو آلة من آلات ( 1 / 238 ) ووسيلة فكيف تكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ - ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين

(1/237)


فتح :

(1/238)


وأما كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم فإنها مخلة بالتعليم فقد ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن وصار ذلك مخلا بالبلاغة وعسرا على الفهم
وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربي والخونجي في المنطق وأمثالهم وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم ثم فيه - مع ذلك - شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها لأن ألفاظ المختصرات تجدها - لأجل ذلك - صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت

(1/238)


ثم بعد ذلك : فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه ( 1 / 239 ) الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تحصيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها
ومن ذلك القبيل : كتاب : ( التهذيب في المنطق ) لسعد الدين التفتازاني و ( السلم ) و ( المسلم ) لمحب الله البهاري و ( الفصول الأكبري ) في الصرف و ( الفوائد الصمدية ) في النحو - ( ومن يهد الله فلا مضل له ) ومن يضلل فلا هادي له والله سبحانه أعلم

(1/238)


المنظر السابع : في أن الحفظ غير الملكة العلمية

(1/239)


اعلم : أن من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر كأكثر فقهاء المغرب وطلبة علمه من : أهل بخارى وبغداد وكابل وقندهار ومن إليها من المدن والأمصار
ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ وإنما المقصود هو : ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فإن انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب وهذا لا يتم بمجرد الحفظ بل الحفظ من أسباب الاستحضار وهو راجع إلى جودة قوة الحافظة وضعفها وذلك من أحوال الأمزجة الخلقية وإن كان مما يقبل العلاج . ( 1 / 240 )

(1/239)


المنظر الثامن : في شرائط تحصيل العلم وأسبابه

(1/240)


وفيه فتوحات أيضا :

(1/240)


فتح :

(1/240)


اعلم أن شرائط التحصيل كثيرة لكنها مجتمعة فيما نقل عن سقراط وهو قوله : ينبغي أن يكون الطالب شابا فارغ القلب غير ملتفت إلى الدنيا صحيح المزاج محبا للعلم بحيث لا يختار على العلم شيئا من الأشياء صدوقا منصفا بالطبع متدينا أمينا عالما بالوظائف الشرعية والأعمال الدينية غير مخل بواجب فيها ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه ويوافق الجمهور في الرسوم والعادات ولا يكون فظا سيئ الخلق ويرحم من دونه في المرتبة ولا يكون أكولا ولا متهتكا ولا خاشعا من الموت ولا جامعا للمال إلا بقدر الحاجة فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم . انتهى

(1/240)


فتح :

(1/240)


ومن الشروط : تزكية الطالب عن الأخلاق الردية وهي متقدمة على غيرها كتقدم الطهارة فكما أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كذلك العلم لا يدخل القلب إذا وجد فيه كلاب باطنية
وكانت الأوائل يختبرون المتعلم أولا فإن وجدوا فيه خلقا رديا منعوه لئلا يصير آلة الفساد وإن وجدوه مهذبا علموه ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفا على فساد دينه ودين غيره

(1/240)


فتح :

(1/240)


ومنها : الإخلاص في مقاساة هذا المسلك وقطع الطمع عن قبول أحد فيجب أن ينوي في تعلمه أن : يعمل بعلمه لله تعالى وأن يعلم الجاهل ويوقظ الغافل ويرشد الغوي
فإنه قال - عليه ( 1 / 241 ) الصلاة و السلام : ( من تعلم العلم لأربع دخل النار : ليباهي به العلماء وليماري به السفهاء ويقبل به وجوه الناس إليه وليأخذ به الأموال )

(1/240)


فتح :

(1/241)


ومن الشروط : تقليل العوائق حتى الأهل والأولاد والوطن فإنها صارفة وشاغلة ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )
ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق
وقد قيل : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت على خطر من الوصول إلى بعضه

(1/241)


فتح :

(1/241)


ومنها : ترك الكسل وإيثار السهر في الليالي ومن جملة أسباب الكسل فيه : ذكر الموت والخوف منه لكنه ينبغي أن يكون من جملة أسباب التحصيل إذ لا عمل يحصل به الاستعداد للموت أفضل من العلم والعمل به والخوف منه لا ينبغي أن يتسلط على الطالب بحيث يشغله عن الاستعداد
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( أكثروا ذكر هادم اللذات ) يدل على أنه ينبغي أن يكون ذكره سببا للانقطاع عن اللذات الفانية دون الباقية

(1/241)


فتح :

(1/241)


ومن الشروط : العزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر كما قيل : ( الطلب من المهد إلى اللحد )
وقال - سبحانه وتعالى - لحبيبه - صلى الله عليه وسلم - : ( وقل رب زدني علما )
وقال : ( وفوق كل ذي علم عليم )
والحيلة في صرف الأوقات إلى التحصيل : أنه إذا مل من علم اشتغل بآخر كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - إذا مل من الكلام مع المتعلمين : هاتوا دواوين الشعراء

(1/241)


فتح :

(1/241)


ومنها : اختيار معلم ناصح نقي الحسب كبير السن ( 1 / 242 ) لا يلابس الدنيا بحيث تشغله عن دينه ويسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد إن لم يكن ببلده الذي يسكن فيه
ويقال : أول ما يذكر من المرء أستاذه فإن كان جليلا جل قدره فإذا وجده يلقي إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب ولا يستبد بنفسه اتكالا على ذهنه ولا يتكبر عليه وعلى العلم ولا يستنكف لأنه قد ورد في الحديث : ( من لم يتحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا )
ومن الآداب : احترام المعلم وإجلاله فمن تأذى منه أستاذه يحرم بركة العلم ولا ينتفع به إلا قليلا وينبغي أن يقدم حق معلمه على حق أبويه وسائر المسلمين ومن توقيره : توقير أولاده ومتعلقاته ومن تعظيم العلم : تعظيم الكتب والشركاء

(1/241)


فتح :

(1/242)


ومن الشروط : أن يأتي على ما قرأه مستوعبا لمسائله - من مبادئه إلى نهايته - بتفهم واستثبات بالحجج وأن يقصد فيه الكتب الجيدة وأن لا يعتقد في علم أنه حصل منه على مقدار لا يمكن الزيادة عليه وذلك طيش يوجب الحرمان

(1/242)


فتح :

(1/242)


ومنها : أن لا يدع فنا من فنون العلم إلا وينظر فيه نظر مطلع على غايته ومقصده وطريقته وبعد المطالعة في الجميع أو الأكثر إجمالا - إن مال طبعه إلى فن - عليه أن يقصده ولا يتكلف غيره فليس كل الناس يصلحون للتعلم ولا كل من يصلح لتعلم علم يصلح لسائر العلوم بل كل ميسر لما خلق له وإن كان ميله إلى الفنون على السواء مع موافقة الأسباب ومساعدة الأيام طلب التبحر فيها فإن العلوم كلها متعاونة مرتبطة بعضها ببعض لكن عليه أن لا يرغب ( 1 / 243 ) في الآخر قبل أن يستحكم الأول لئلا يصير مذبذبا فيحرم من الكل ولا يكن ممن يميل إلى البعض ويعادي الباقي لأن ذلك جهل عظيم وإياه أن يستهين بشيء من العلوم تقليدا لما سمعه من الجهلة بل يجب أن يأخذ من كل حظا ويشكر من هداه إلى فهمه ولا يكن ممن يذم العلم ويعدوه لجهله مثل ذمهم المنطق الذي هو أصل كل علم وتقويم كل ذهن ومثل ذمهم العلوم الحكمية على الإطلاق من غير معرفة القدر المذموم والممدوح منها ومثل ذم علم النجوم مع أن بعضا منه فرض كفاية والبعض مباح ومثل ذم مقالات الصوفية لاشتباهها عندهم
والعلم وإن كان مذموما في نفسه - كما زعموا - فلا يخلو تحصيله من فائدة أقلها رد القائلين به
قف : اعلم أن النظر والمطالعة في علوم الفلسفة يحل بشرطين :
أحدهما : أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية بل يكون قويا في ذهنه راسخا على الشريعة الشريفة
والثاني : أن لا يتجاوز مسائلهم المخالفة للشريعة وإن تجاوز فإنما يطالعها للرد لا غير
هذا لمن ساعده الذهن والسن والوقت وسامحه الدهر عما يفضيه إلى الحرمان وإلا فعليه أن يقتصر على الأهم وهو قدر ما يحتاج إليه فيما يتقرب به إلى الله تعالى وما لا بد منه في : المبدأ والمعاد والمعاملات والعبادات والأخلاق والعادات

(1/242)


فتح :

(1/243)


ومن الشروط المعتبرة في التحصيل : المذاكرة مع الأقران ومناظرتهم كما قيل : العلم غرس وماؤه درس لكن طلبا للثواب وإظهارا للصواب وقيل : مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ( 1 / 244 ) ولكن مع منصف سليم الطبع
وينبغي للطالب أن يكون متأملا في دقائق العلوم ويعتاد ذلك فإنما تدرك به خصوصا قبل الكلام فإنه كالسهم فلا بد من تقويمه بالتأمل أولا

(1/243)


فتح :

(1/244)


ومنها : الجد والهمة فإن الإنسان يطير بهما إلى شواهق الكمالات وأن لا يؤخر شغل يوم إلى غد فإن لكل يوم مشاغل ولا بد أن تكون معه محبرة في كل وقت حتى يكتب ما يسمع من الفوائد ويستنبطه من الزوائد فإن العلم صيد والكتابة قيد
وينبغي أن يحفظ ما كتبه من العلم إذ العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر بل الغرض منه المراجعة إليها عند النسيان للاعتماد عليها

(1/244)


فتح :

(1/244)


ومن الشروط : مراعاة مراتب العلوم في القرب والبعد من المقصد فلكل منها مرتبة ترتيبا ضروريا بحسب الرعاية في التحصيل إذ البعض طريق إلى البعض
ولكل علم حد لا يتعداه فعليه أن يعرفه فلا يتجاوز ذلك الحد مثلا : لا يقصد إقامة البراهين في النحو ولا يطلب وأيضا لا يقصر عن حده كأن يقنع بالجدل في الهيئة
وأن يعرف أيضا : أن ملاك الأمر في المعاني هو : الذوق وإقامة البرهان عليه خارج عن الطوق ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه كما قال السكاكي : قبل أن تمنح هذه الفنون حقها فلننبهك على أصل ليكون على ذكر منك وهو أنه ليس من الواجب في صناعة - وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل - أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق عنها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى محكمات وضعية واعتبارات إلفية ؟ فلا بأس على الدخيل في صناعة ( 1 / 245 ) علم المعاني أن يقلد صاحبها في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق . انتهى

(1/244)


فتح :

(1/245)


ومنها : العلوم الآلية لا يوسع فيها الأنظار وذلك أن العلوم المتداولة على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والمنطق فأما المقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وأما العلوم الآلية فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة للغير ولا يوسع فيها الكلام لأن ذلك يخرج بها عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني
وهذا كما فعله المتأخرون في النحو والمنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها فيكون لأجل ذلك لغوا ومضرا بالمتعلمين لاهتمامهم بالمقصود أكثر من هذه الآلات فإذا أفنى العمر فيها فمتى يظفر بالمقاصد ؟ فيجب عليه أن لا يستبحر فيها ولا يستكثر من مسائلها

(1/245)


المنظر التاسع : في شروط الإفادة ونشر العلم

(1/245)


وفيه فوائد :

(1/245)


فائدة :

(1/245)


اعلم : أن الإفادة من أفضل العبادة فلا بد له من النية ( 1 / 246 ) ليكون ذلك ابتغاء لمرضاة الله تعالى وإرشاد عباده ولا يريد بذلك زيادة وحرمة ولا يطلب على إفادته أجرا اقتداء بصاحب الشرع - عليه الصلاة والسلام - ثم ينبغي له مراعاة أمور منها : أن يكون مشفقا ناصحا بصاحبه وأن ينبهه على غاية العلوم ويزجره عن الأخلاق الردية ويمنعه
أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته وأن لا يزجر إذا تعلم للرئاسة والمباهاة إذ ربما يتبنه بالآخرة لحقائق الأمور بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم يستفاد به الرئاسة بالأطماع فيها حتى يستدرجه إلى الحق
اعلم : أن الله سبحانه وتعالى جعل الرئاسة وحسن الذكر حفظا للشرع والعلم مثل الحب الملقى حول الشبكة وكالشهوة الداعية إلى التناسل ولهذا قيل : لولا الرئاسة لبطل العلم وأن يزجر عما يجب الزجر عنه بالتعريض لا بالتصريح

(1/245)


فائدة :

(1/246)


ومنها : أن يبدأ بالأهم للمتعلم في الحال إما في معاشه أو في معاده ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم ويراعي الترتيب الأحسن حسبما يقتضيه رتبته على قدر الاستعداد فمن بلغ رشده في العلم ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم
وفي الحديث : ( لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب )
وكذا ينبغي أن يجتنب إسماع العوام كلمات الصوفية التي يعجزون عن تطبيقها بالشرع فإنه يؤدي إلى انحلال قيد الشرع عنهم فيفتح عليهم باب الإلحاد والزندقة فينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة وإن عرض لهم شبهة يعالج بكلام إقناعي ولا يفتح عليه باب الحقائق فإن ذلك فساد النظام وإن وجد ذكيا ثابتا على قواعد الشرع جاز له ( 1 / 247 ) أن يفتح عليه باب المعارف بعد امتحانات متوالية لئلا يتزلزل عن جادة الشرع

(1/246)


فائدة :

(1/247)


اعلم : أنه يجب على الطالب أن لا ينكر مالا يفهم من مقالاتهم الخفية وأحوالهم الغريبة إذ كل ميسر لما خلق له
قال الشيخ ابن سينا في ( الإشارات ) : كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذرك عنه قائم البرهان . انتهى
وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات : التذكرة لمن يعرف الأسرار والتنبيه على من لا يعرفها بأن لنا علما يجل عن الأذهان فهمه حتى يرغب في تحصيله كما في الحديث : ( إلا من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل العزة )
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : ( حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءين أما أحدهما : فبثثته وأما الآخر : فلو بثثته لقطع هذا البلعوم )
وغرضهم عدم إمكان التعبير عنه وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية بأحوال الممكنات فيضلوا بسوء الظن في قائلها فيقابلوه بالإنكار . انتهى
قلت : المراد بالدعاء الآخر أخبار دولة بني أمية - كما صرح به أهل الحديث - ومن قال بخلافه لم يأت بما يشفي الغليل فإن شئت الاطلاع على تمام الكلام في ذلك فارجع إلى القسطلاني ولا تغتر ( 1 / 248 ) بأقوال هؤلاء الذين ليسوا من علم السنة المطهرة في ورد ولا صدر

(1/247)


فائدة :

(1/248)


ومنها : أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله إذ لو كذب مقاله بحاله ينفر الناس عنه وعن الاسترشاد به وأكثر المقلدين ينظرون إلى حال القائل وأما المحقق الذي لا ينظر إلى القائل فهو نادر فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه إذ لا بد للعالم من : الورع ليكون علمه أنفع وفوائده أكثر وأن يكظم غيظه عند التعليم وأن لا يخلطه بهزل فيقسو قلبه ولا يضحك فيه ولا يلعب ولا يبالي إذا لم يقبل قوله ولا بأس بأن يمتحن فهم المتعلم وأن لا يجادل في العلم ولا يماري في الحق فإنه يفتح باب الضلال وأن لا يدخل علما في علم لا في تعليم ولا في مناظرة فإن ذلك مشوش وكثيرا ما غلط جالينوس بهذا السبب وأن يحث الصغار على التعليم - سيما الحفظ - وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقي عليهم المشكلات وإن كانوا منتهين لا يتكلم في الواضحات ولا يجيب متعنتا في سؤاله ولا ما يلقى عليه من الأغلوطات وأن ينظر في حال الطالب إن كان له زيادة فهم بحيث يقدر على حل المشكلات وكشف المعضلات يهتم بتعليمه أشد الاهتمام وإلا فيعلمه بقدر ما يعرف الفرائض والسنن ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب ونوافل الطاعات لكن يصبر في امتحان ذهنه مقدار ثلاث سنين وإن سئل عما يشك فيه يقول : لا أدري فإن ( لا أدري ) : نصف العلم . ( 1 / 249 )

(1/248)


المنظر العاشر : فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم

(1/249)


قال الفقيه أبو الليث : يراد من العلماء عشرة أشياء : الخشية والنصيحة والشفقة والاحتمال والصبر والحلم والتواضع والعفة عن أموال الناس والدوام على النظر في الكتب وقلة الحجاب وأن لا ينازع أحدا ولا يخاصمه
وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه لا بقهر عدوه
قيل : من أراد أن يرغم أنف عدوه فليحصل العلم
وأن لا يترفه في المطعم والملبس وأن لا يتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع الأمور ويتشبه بالسلف الصالح وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله ازداد قربه من الله - سبحانه وتعالى - لأن التزين بالمباح وإن لم يكن حراما لكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه فالحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة مع أنها مزرعة الآخرة ففيها الخير النافع والسم الناقع

(1/249)


ففي تمييز الأول من الثاني أحوال منها : معرفة رتبة المال فنعم المال الصالح منه للصالح إذا جعله خادما لا مخدوما وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم والملابس والتقوية لكسب العلوم والمعارف التي هي المقصد الأقصى ومنها : مراعاة جهة الدخل فمن قدر على كسب الحلال الطيب فليترك المشتبه وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة وإن قدر عليه - لكن بالتعب واستغراق الوقت - فعلى العامل العامي أن يختار التعب وإن كان من الأهل فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال فله أن يختار الحلال الغير الطيب كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر لكن يخفيه من الجاهل - مهما أمكن - كيلا يحرك سلسلة الضلال ومنها : المقدار المأخوذ منه وهو قدر ( 1 / 250 ) الحاجة في : المسكن والمطعم والملبس والمنكح إن جاوز من الأدنى لا يجوز التجاوز عن الوسط ومنها : الخرج والإنفاق فالمحمود منه الصدقة والإنفاق على العيال وقد اختلف في أن الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى أم تركه رأسا مع الاتفاق ؟ على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم فالمقبلون على الآخرة والصارفون للدنيا في محله فهم الأفضلون من التارك بالكلية ومنهم عامة الأنبياء - عليهم السلام - ومنها : أن تكون نيته صالحة في الأخذ والإنفاق فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة ويأكل ليتقوى به على العبادة

(1/249)


المنظر الحادي عشر : في التعلم

(1/250)


وفيه فوائد أيضا :

(1/250)


فائدة :

(1/250)


اعلم : أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية والعملية إنما يتم بالعلم بحقائق الأشياء وما هو إليه كالوسيلة وبه يكون القصد إلى الفضائل والاجتناب عن الرذائل إذ كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية ولا شيء أشنع وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله - سبحانه وتعالى - به من : النطق وقبول تعلم الآداب والعلوم من أن يهمل نفسه ويعريها من الفضائل
وقد حث الشارع - عليه الصلاة والسلام - على اكتسابه حيث قال : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )
وقال : ( اطلبوا العلم ولو بالصين )
وقيل : ( اطلبوه من المهد إلى اللحد )

(1/250)


فائدة :

(1/250)


اعلم : أن الإنسان مطبوع على التعلم لأن فكره هو سبب امتيازه عن سائر الحيوانات ولما كان فكره راغبا بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات لزمه الرجوع إلى من سبقه بعلم فيلقن ( 1 / 251 ) ما عنده ثم إن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد واحد ويتمرن عليه حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقائق ملكة له فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا ويتشوق نفوس أهل القرن الناشئ إلى تحصيله فيفزعون إلى أهله

(1/250)


فائدة :

(1/251)


وكل تعليم وتعلم ذهني إنما يكون بعلم سابق في معلوم ما من عالم كمن ليس بعالم
وقد يكون بالطبع مستفادا من وقائع الزمان بتردد الأذهان ويسمى : علما تجريبيا وقد يكون بالبحث وإعمال الفكر ويسمى : علما قياسيا
والعلم محصور في التصور والتصديق والتصور : يطلب بالأقوال الشارحة والتصديق : يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج فقد يحصل به اليقين وقد لا يحصل به الإقناع وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولا ليكون سلما لغيره
وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة دون كتاب لئلا يصل العلم إلى غير مستحقه ولكثرة المشتغلين بها فلما ضعفت الهمم أخذوا في تدوين العلوم وصنفوا ببعضها فاستعملوا الرمز واختصروا من الدلالات على الالتزام فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم

(1/251)


فائدة :

(1/251)


اعلم : أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد الأمور الثلاثة : الإشارة والخط واللفظ فالإشارة : تتوقف على المشاهدة واللفظ : يتوقف على حضور المخاطب وسماعه وأما الخط : فلا يتوقف على شيء فهو أعمها نفعا وأشرفها وهو خاصة النوع الإنساني
فعلى المتعلم أن يجوده ولو بنوع منه ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز عن سائر الحيوانات ( 1 / 252 ) وضبطت الأموال وحفظت العلوم والكمال وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة
لكن السعي لتحصيل الملكة هو موقوف على : الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب

(1/251)


فائدة :

(1/252)


اعلم : أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان فيفيد صاحبها عقلا لأن النفس الناطقة وخروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فيكون ذاتا روحانية ويستكمل حينئذ وجودها
فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلا مزيدا وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك فإنها تشتمل على علوم وأنظار إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية ومنها إلى المعاني فهو ينتقل من دليل إلى دليل وتتعود النفس ذلك دائما فيتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول وهو معنى النظر الفعلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا

(1/252)


فائدة :

(1/252)


ثم إن المقصود من : العلم والتعليم والتعلم معرفة الله سبحانه وهي غاية الغايات ورأس أنواع السعادات ويعبر عنها : بعلم اليقين الذي يخصه الصوفية أولو الكرامات وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة
وإياك أيها المتعلم أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعه
بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة . ( 1 / 253 )

(1/252)


ذكر إحراق الكتب وإعدامها

(1/253)


ومن أجل ذلك نقل عن بعض المشايخ : أنهم أحرقوا كتبهم منهم : العارف بالله - سبحانه وتعالى - أحمد بن أبي الحواري فإنه كما ذكره أبو نعيم في ( الحلية ) : لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال : نعم الدليل كنت لي على ربي ولكن لما ظفرت بالمدلول علمت أن الاشتغال بالدليل محال فغسل كتبه
وذكر ابن الملقن في ترجمته من ( طبقات الأولياء ) ما نصه : وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء
وقال ابن عساكر في الكنى من ( التاريخ ) : إن أبا عمرو بن العلاء كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها

(1/253)


فائدة :

(1/253)


ذكرها البقاعي في ( حاشيته على شرح الألفية ) ( 1 / 254 ) للزين العراقي وهي أنه قال : سألت شيخنا - يعني ابن حجر العسقلاني - عما فعل داود الطائي وأمثاله عن إعدام كتبهم ما سببه ؟ فقال : لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها لا بالإجازة ولا بالوجادة بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم . انتهى
أقول : وجوابه بالنظر إلى فن الحديث لا يقع جوابا عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله لأن الأول : بسبب ضعف الإسناد والثاني : بسبب الزهد والتبتل إلى الله - سبحانه - ولعل الجواب عن إعدامهم : أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما وذلك مشغلة بما سوى الله - سبحانه وتعالى -
فائدة : في طريق النظر والتصفية
اعلم : أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر وأن كلا منهما ثمرة الآخر مثلا : إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه إذ لو قصر فيه لم يكن في علمه كمال وإذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها فهاتان طريقتان الأولى منهما : طريقة الاستدلال والثانية : طريقة المشاهدة وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى فيكون صاحبه مجمعا للبحرين
فسالك طريق الحق نوعان :
أحدهما : يتبدى من طريق العلم إلى العرفان وهو : يشبه أن يكون طريقة الخليل - عليه الصلاة والسلام - حيث ابتدأ من الاستدلال . ( 1 / 255 )
والثاني : يبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة وهو : طريق الحبيب - صلى الله عليه وسلم - حيث ابتدأ بشرح الصدر وكشف له سبحات وجهه - صلى الله عليه وسلم

(1/253)


مناظرة أهل الطريقين

(1/255)


اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين
قال أرباب النظر : الأفضل : طريق النظر لأن طريق التصفية صعب والواصل قليل على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء المجاهدة
وقال أهل التصفية : العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو عن شوب الوهم ومخالطة الخيال غالبا ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون وأيضا لا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى بخلاف التصوف فإنه تصفية للروح وتطهير للقلب عن الوهم والخيال فلا يبقي إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية
وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم مع أنه يسير على من يسره الله - سبحانه وتعالى - عليه وأما اختلال المزاج فإن وقع فيقبل العلاج ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير حتى أدى الافتخار إلى الاختبار فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب فتكلف أحدهما في صنعته واشتغل الآخر بالتصقيل فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل وقالوا : هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية فالأول : يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء والثاني : يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى . ( 1 / 256 )
واعترض عليهم : بأنا لا نسلم مطلق الحصول لأن كل علم مسائله كثيرة وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب ؟ - كما سبق -
ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية والغرض منها

(1/255)


المحاكمة بين الفريقين

(1/256)


وقد يقال : إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان وهو العلوم الحقيقية وتسمى : حكمية إن جرى الباحث على مقتضى عقله وشرعية : إن بحث على قانون الإسلام وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة وهي : العلوم الآلية المعنوية كالمنطق ونحوه وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة وهي : العلوم الآلية اللفظية أو الخطية وتسمى : بالعربية ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها إلا الكسب بالنظر أما الأول : فقد يحصل بالتصفية أيضا
ثم إن الناس منهم : الشيوخ البالغون إلى عشر الستين : فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار لما منحه الله - سبحانه وتعالى - من المعارف إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر
ومنهم : الشبان الأغبياء : فحكمهم حكم الشيوخ
ومنهم : الشبان الأذكياء المستعدون لفهم الحقائق : فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية فعليهم ما على الشيوخ وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر مع أنه أعز من الكبريت الأحمر فعليه تقديم طريقة النظر ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت ليكون فائزا بنعمة باقية لا تفنى أبدا . ( 1 / 257 )

(1/256)


الباب الخامس : في لواحق الفوائد

(1/257)


وفيه : مطالب

(1/257)


مطلب : لزوم العلوم العربية

(1/257)


اعلم : أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها وبين العلوم العقلية وهي في الذهن
واللغات : إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ولا بد في افتتاحها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ زال الحجاب بين المعاني والفهم ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث

(1/257)


هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيها الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقولها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن ( 1 / 258 ) لدروسها وذهاب العناية بها

(1/257)


وقد ثبت أن اللغة : ملكة في اللسان والخط : صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة أخرى - إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة - لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم
وكذا شأن من سبق له أن تعلم الخط الأعجمي قبل العربي ولذلك ترى بعض علماء الأعجام في دروسهم يعدلون عن نقل المعمى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك

(1/258)


مطلب : العلوم العقلية وأصنافها

(1/258)


أما العلوم العقلية التي هي : طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم : علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم :

(1/258)


الأول : علم المنطق

(1/258)


وهو : علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة
وفائدته : تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكره . ( 1 / 259 )

(1/258)


الثاني : العلم الطبيعي

(1/259)


ثم النظر بعد ذلك عندهم :
إما : في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من : المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية والنفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك ويسمى هذا الفن : بالعلم الطبيعي وهو : الثاني منها

(1/259)


الثالث : العلم الإلهي

(1/259)


وإما : أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه : العلم الإلهي وهو : الثالث منها

(1/259)


والعلم الرابع :

(1/259)


وهو : الناظر في المقادير ويشتمل على : أربعة علوم وتسمى : التعاليم

(1/259)


أولها : علم الهندسة

(1/259)


وهو : النظر في المقادير على الإطلاق إما المنفصلة : من حيث كونها معدودة أو المتصلة : وهي إما ذو بعد واحد وهو : الخط أو ذو بعدين وهو : السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو : الجسم التعليمي ينظر في هذه المقادير وما يعرض عليها إما من : حيث ذاتها أو من : حيث نسبة بعضها إلى بعض

(1/259)


وثانيها : علم الأرتماطيقي

(1/259)


وهو : معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو : العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة

(1/259)


وثالثها : علم الموسيقى

(1/259)


وهو : معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد
وثمرته : معرفة تلاحين الغناء

(1/259)


ورابعها : علم الهيئة

(1/259)


وهو : تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها . ( 1 / 260 )

(1/259)


فهذه : أصول العلوم الفلسفية وهي سبعة :

(1/260)


1 - المنطق : وهو المقدم منها وبعده : التعاليم

(1/260)


2 - فالأرتماطيقي أولا

(1/260)


3 - ثم الهندسة

(1/260)


4 - ثم الهيئة

(1/260)


5 - ثم الموسيقى

(1/260)


6 - ثم الطبيعيات

(1/260)


7 - ثم الإلهيات
ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه
فمن فروع الطبيعيات : الطب
ومن فروع علم العدد : علم الحساب والفرائض والمعاملات
ومن فروع الهيئة : الأزياج : وهي قوانين لحسابات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك
ومن فروع النظر في النجوم : علم الأحكام النجومية

(1/260)


واعلم : أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما : فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم - على ما بلغنا - لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم
وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم وأخذ ذلك عنهم الأمم من : فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى ( 1 / 261 ) بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر
ثم تتابعت الملل بخطر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع - والله أعلم بصحتها - مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها
وأما الفرس : فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ونطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك
ولقد يقال : إن هذه العلوم إما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم مالا يأخذه الحصر

(1/260)


ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليستأذنه في شأنها وتلقينها للمسلمين فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهب علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا
وأما الروم : فكانت الدولة منهم ليونان أولا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل : أساطين الحكمة وغيرهم واختص فيها المشاؤون - منهم أصحاب الرواق - بطريقة حسنة في التعليم يقرؤون في رواق يظلهم من الشمس والبرد - على ما زعموا - واتصل فيها سند تعليمهم - على ما يزعمون - من لدن لقمان الحكيم ( 1 / 262 ) في تلميذه بقراط ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي وتامسطيوس وغيرهم
وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتا وكان يسمى : المعلم الأول فطار له في العالم ذكر

(1/261)


ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيهم ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة من الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم : أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها

(1/262)


وجاء ( 1 / 263 ) المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده ودونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملة : أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي : أبو الوليد بن رشد والوزير : أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم
واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه - ( ولو شاء الله ما فعلوه )

(1/263)


ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منها إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة
ويبلغنا عن أهل المشرق : أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم
ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من علماء هراة من بلاد خراسان يشهر : بسعد الدين التفتازاني منها : في ( 1 / 264 ) علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية وقدما عالية في سائر الفنون العقلية - ( والله يؤيد بنصره من يشاء ) -
كذلك بلغنا لهذه العهد : أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة - والله أعلم بما هنالك ( وهو يخلق ما يشاء ويختار ) - . انتهى

(1/263)


قلت :
ثم انتقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
ولم يبق اليوم في المشرق ولا في المغرب بل ولا في الجهات الأربع وما بها من المدن والأمصار والقرى من العلم إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه وأباد الزمان أهله - ( كأن لم يغنوا بالأمس ) - فقد ذهب العلم برمته وجاء الجهل بأسره وكان أمر الله قدرا مقدورا . ( 1 / 265 )

(1/264)


مطلب : في أن اللغة ملكة صناعية

(1/265)


اعلم : أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب
فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع وهذا هو معنى : البلاغة
والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا ومعنى الحال : أنها صفة غير راسخة ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي : صفة راسخة
فالمتكلم من العرب - حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم - يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم

(1/265)


هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال وهذا هو معنى ما تقوله العامة : من أن اللغة للعرب بالطبع أي : بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم ثم إنه ( 1 / 266 ) فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها : أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى وهذا معنى فساد اللسان العربي

(1/265)


ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم وأما من بعد عنهم من : ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق - . ( 1 / 267 )

(1/266)


مطلب : في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير

(1/267)


وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرف لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى : بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه
وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظا وعبارة من جميع الألسن
وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا )
واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد ( 1 / 268 ) قال له بعض النحاة : إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم : زيد قائم وإن زيدا قائم وإن زيدا لقائم والمعنى واحد فقال له : إن معانيها مختلفة فالأول : لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد والثاني : لمن سمعه فتردد فيه والثالث : لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال

(1/267)


وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت وأن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتعبير عن المقاصد والتفاوت فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطبتهم وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشاعر المفلق على أساليب لغتهم والذوق الصحيح والطبع السليم : شاهدان بذلك ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب وهو بعض من أحكام اللسان وإنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولا فانقلب لغة أخرى وكان القرآن متنزلا به والحديث النبوي منقولا بلغته وهما أصلا الدين والملة فخشي تناسيهما وانغلاق الإفهام عنهما ( 1 / 269 ) بفقدان اللسان الذي تنزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل سماه أهله : بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فنا محفوظا وعلما مكتوبا وسلما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وافيا ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه فتكون لها قوانين تخصها ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر

(1/268)


فليست اللغات وملكاتها مجانا ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق : القيل في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح
ولغة حمير : لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة - كما قلناه - حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذه العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه

(1/269)


ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف وإن كان أسفل ( 1 / 270 ) من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور
وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل منهم في النطق بهذه القاف أسوة

(1/269)


وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين ولعلها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينها وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا : أن من قرأ في أم الكتاب : ( اهدنا الصراط المستقيم ) بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا وغربا في النطق بها وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري - فتفهم ذلك والله الهادي المبين ( يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم ) - . ( 1 / 271 )

(1/270)


مطلب : في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر

(1/271)


اعلم : أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد فأما : أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم
فلغة أهل المشرق : مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه وهذا معنى اللسان واللغة
وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم - كما قلناه - في لغة العرب لهذا العهد وأما : أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلئن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم - كما قلناه - وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى

(1/271)


واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي ( 1 / 272 ) الذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة
والعجمة فيها أغلب - لما ذكرناه - فهي عن اللسان الأول أبعد وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولا ودايات وأظآرا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضها بعضا - كما نذكره - وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم - ( والله يخلق ما يشاء ويقدر ) - . ( 1 / 273 )

(1/271)


مطلب : في تعليم اللسان المضري

(1/272)


اعلم : أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت وفسدت ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها - كما قدمناه - إلا أن اللغات لما كانت ملكات - كما مر - كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال والذوق يشهد بذلك وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما - كما نذكر - وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها - والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه العميم - . ( 1 / 274 )

(1/272)


مطلب : في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم

(1/274)


والسبب في ذلك : أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة فهو : علم بكيفية لا نفس كيفية فليست نفس الملكة وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا

(1/274)


وكذا : لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك ممسك بطرفة الآخر وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم ( 1 / 275 ) بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل
ولذلك تجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي
وكذا تجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المرفوع من المجرور ولا شيئا من قوانين صناعة العربية

(1/274)


فمن هذا تعلم : أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية وأنها مستغنية عنها بالجملة وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتفاقي وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه والمحصل له قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه : من يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة
وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب وكلامهم فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب وهم أبعد الناس عنه

(1/275)


وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتفقه في ( 1 / 276 ) الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها
وأما من سواهم من : أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان وتلك القوانين : إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها

(1/275)


وتعلم مما قررناه في هذا المقام : أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم - والله مقدر الأمور كلها والله أعلم بالغيب والشهادة - . ( 1 / 277 )

(1/276)


مطلب : في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه : لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم

(1/277)


اعلم : أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان
والبلاغة مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر بل وبغير فكر إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل

(1/277)


ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي ويقول : كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع
وهذه الملكة - كما تقدم - إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست ( 1 / 278 ) تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها - وقد مر ذلك -
وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده
وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم

(1/277)


ومثاله : لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شيء وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه
وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث تحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة - عندما ترسخ وتستقر - اسم : الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه وأيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له : ذوق . ( 1 / 279 )

(1/278)


وإذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله : كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب لما يضطرون إليه من ذلك وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها - كما تقدم - وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللسان المطلوبة
ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء إنما حصل أحكامها - كما عرفت - وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب
فإن عرض لك ما تسمعه من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراء لها وكأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشؤوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها فهم وإن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة والكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها ولم تذهب آثار الملكة منهم ولا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته

(1/279)


واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب ( 1 / 280 ) وأشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له - لما قدمناه من : أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة -
وإن فرضنا عجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالمدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها وهو غلط أو مغالطة وإنما حصلت له الملكة أن حصلت في تلك القوانين البيانية وليست من ملكة العبارة في شيء - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - . ( 1 / 281 )

(1/279)


مطلب : في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم

(1/280)


ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك : ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضري لهذا العهد
ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم وليس كذلك وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب
نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة
واعتبر ذلك في أهل الأمصار فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم

(1/280)


ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان ( 1 / 282 ) كتب إلى صاحب له : ( يا أخي ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما : أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك - إن شاء الله تعالى - )
وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيها بما ذكرنا وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة ولم تزل كذلك لهذا العهد
ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور

(1/280)


وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما ونثرا وكان فيهم : ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها وابن ( 1 / 283 ) عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية وشغلوا عن تعلم ذلك
وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض وكان من آخرهم : صالح بن شريف ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكتاب دولة ابن الأحمر في أولها
وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة من إشبيلية إلى سبتة ومن شرق الأندلس إلى إفريقية
ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية - وهي منافية لما قلناه

(1/282)


ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم ثم ( 1 / 284 ) إبراهيم الساحلي الطريحي وطبقته وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه بعده
وبالجملة : فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر وتعليمها أيسر وأسهل بما هم عليه لهذا العهد - كما قدمناه - من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس

(1/283)


واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم وكان فحول الشعراء والكتاب أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق
وانظر ما اشتمل عليه كتاب ( الأغاني ) من نظمهم ونثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم ( 1 / 285 ) وفيه : لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم العربية وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب
وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية - كما هو المعلوم - حتى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم وذلك في دولة الديلم والسلجوقية وخالطوا أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته وصار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها وعلى ذلك تجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور وإن كانوا مكثرين منه - ( والله يخلق ما يشاء ويختار ) والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه ) . ( 1 / 286 )

(1/284)


الباب السادس : في انقسام الكلام إلى فني : النظم والنثر

(1/286)


وفيه : مطالب

(1/286)


مطلب :

(1/286)


اعلم : أن لسان العرب وكلامهم على فنين :
فن الشعر المنظوم : وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه : الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية
وفن النثر : وهو الكلام غير الموزون
وكل واحد من الفنين : يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام
فأما الشعر : فمنه المدح والهجاء والرثاء
وأما النثر : فمنه :
السجع : الذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى : سجعا
ومنه : المرسل : وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها ويستعمل في : الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم

(1/286)


وأما القرآن فهو وإن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلا مطلقا ولا مسجعا بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلام في الآية ( 1 / 287 ) الأخرى بعدها ويثني من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية وهو معنى قوله تعالى : ( الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) وقال : ( قد فصلنا الآيات ) ويسمى آخر الآيات منها : فواصل إذ ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع ولا هي أيضا قواف
وأطلق اسم المثاني : على آيات القرآن كلها على - العموم لما ذكرناه - واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا ولهذا سميت : ( السبع المثاني )
وانظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه

(1/286)


واعلم : أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل : النسيب المختص بالشعر والحمد والدعاء المختص بالخطب والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك
وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن
واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه - وخصوصا أهل المشرق - وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب
وهذا ( 1 / 288 ) الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب والتزام التقفية أيضا من اللوذعية والتزيين وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه

(1/287)


والمحمود في المخاطبات السلطانية : الترسل وهو : إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة ولكل مقام أسلوب يخصه من : إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية أو استعارة
وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية ويغفلون عما سوى ذلك
وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم : كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس فتأمل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه . - والله الموفق للصواب بمنه وكرمه - . ( 1 / 289 )

(1/288)


مطلب : في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنثور والمنظوم معا إلا للأقل

(1/289)


والسبب في ذلك : أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة لأن تمام الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة وعائقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة وانظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا ؟

(1/289)


فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه وكذا البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية والتحصيل وما أتي إلا من قبل اللسان
وقد تقدم لك من قبل : أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع وأن الصنائع وملكاتها لا تزدحم وأن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية - ( والله خلقكم وما تعلمون ) - . ( 1 / 290 )

(1/289)


مطلب : في صناعة الشعر ووجه تعلمه

(1/290)


هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى : بالشعر عندهم ويوجد في سائر اللغات إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه
وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو : كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم : بيتا ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه : رويا وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره : قصيدة وكلمة وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده وإذا أفرد كان تاما في بابه في : مدح أو تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك في البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك ويستطرد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول ومعانيه إلى أن تناسب المقصود الثاني ويبعد الكلام عن التنافر كما يستطرد من التشبيب إلى المدح ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف ( 1 / 291 ) ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأثر وأمثال ذلك

(1/290)


ويراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس
ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن وإنها هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة : البحور وقد حصروها في خمسة عشرا بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما
واعلم : أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم حتى يحصل شبه في تلك الملكة

(1/291)


والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده ويصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلا بنفسه ثم يأتي ببيت آخر كذلك ثم ببيت ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ( 1 / 292 ) ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها
ولنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم

(1/291)


فاعلم : أنها عبارة عندهم عن : المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض
فهذه العلوم الثلاثة : خارجة عن هذه الصناعة الشعرية وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه

(1/292)


فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله :
يا دار مية بالعلياء فالسند
ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله :
قفا نسأل الدار التي خف أهلها ... . . . ( 1 / 293 )
أو : باستبكاء الصحب على الطلل كقوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
أو : بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله :
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله :
حي الديار بجانب العزل
أو : بالدعاء لها بالسقيا كقوله :
أسقى طلولهم أجش هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو : سؤال السقيا لها من البرق كقوله :
يا برق طالع منزلا بالأبرق ... واحد السحاب لها حداء الأينق

(1/292)


أو : مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله :
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو : باستعظام الحادث كقوله :
أرأيت من حملوا على الأعواد
أو : بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله : ( 1 / 294 )
منابت العشب لا حام ولا راع ... مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو : بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية :
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو : بتهئنة قريعة بالراحة من ثقل وطأته كقوله :
ألقى الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بقريعك المغوار
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائية وخبرية اسمية وفعلية متفقة وغير متفقة مفصولة وموصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى يعرفك به ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسدا

(1/293)


ولا تقولن : إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك لأنا نقول : قوانين البلاغة إنما هي : قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئاتها الخاصة بالقياس وهو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية
وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من ( 1 / 295 ) تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر - كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق - وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس

(1/294)


ولهذا قلنا : إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر : بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة وفي المنثور : يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال
فلهذا كان فن تأليف الكلام منفردا عن نظر النحوي والبياني والعروضي نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها : أساليب ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا . ( 1 / 296 )

(1/295)


وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو ؟ فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا الغرض فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين - فيما رأيناه -
وقول العروضيين في حده : إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول :
الشعر : هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به فقولنا : ( الكلام البليغ ) جنس وقولنا : ( المبني على الاستعارة والأوصاف ) فصل عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر وقولنا : ( المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي ) فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل وقولنا : ( مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده ) بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء وقولنا : ( الجاري على الأساليب المخصوصة به ) فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا

(1/296)


وبهذا الاعتبار كان الكثير من أهل هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم عند من يرى أن ( 1 / 297 ) الشعر يوجد للعرب وغيرهم ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول : مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة
وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول :

(1/296)


اعلم : أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا :
أولها : الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل : ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس وأكثره شعر ( كتاب الأغاني ) لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية
ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط واجتناب الشعر أولى ممن لم يكن له محفوظ ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ

(1/297)


وربما يقال : إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادة عن استعمالها بعينها فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه ( 1 / 298 ) بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستثارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه
قالوا : وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء الجمام
وربما قالوا : إن من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب ( العمدة ) وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله

(1/297)


قالوا : فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو بنات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة وقد حظر أئمة اللسان عن المولد وارتكاب الضرورة إذ هو في سعة ( 1 / 299 ) منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة

(1/298)


ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن ولهذا كان شيوخنا - رحمهم الله - يعيبون شعر أبي إسحاق بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية - كما مر - فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق
وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقعر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة ويبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان
ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك

(1/299)


وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والإهمال . ( 1 / 300 )
وبالجملة : فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب ( العمدة ) لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك وهذه نبذة كافية - والله المعين - . ( 1 / 301 )

(1/299)


مطلب : في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني

(1/301)


اعلم : أن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنما المعاني تبع لها وهي أصل فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم
وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ وأما المعاني فهي في الضمائر

(1/301)


وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طلوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة - كما قلناه - وهو بمثابة القوالب للمعاني فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها : آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف والماء واحد في نفسه وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء كذلك جودة اللغة وبلاغتها في ( 1 / 202 ) الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه - ( والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . ( 1 / 303 )

(1/301)


مطلب : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ

(1/303)


قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ فمن كان محفوظه : شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل بن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصفهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما
فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها وذلك أن النفس وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات واختلافها إنما هو ( 1 / 304 ) باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج فبهذه يتم وجودها وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج - كما ذكرنا

(1/303)


فالملكة الشعرية : تنشأ بحفظ الشعر وملكة الكتابة : بحفظ الأسجاع والترسيل والعلمية : بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار والفقهية : بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية : بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه وينقلب ربانيا وكذا سائرها
وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين والعلوم لاحظ لها في البلاغة
فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم
وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم : ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب

(1/304)


أخبرني صاحبنا الفاضل : أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال : ذاكرت يوما صاحبنا : أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان : أبي الحسن ( 1 / 305 ) وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا :
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة : هذا شعر فقيه فقلت له : من أين لك ذلك ؟ قال : من قوله : ( ما الفرق ) إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب فقلت له : لله أبوك إنه ابن النحوي
وأما الكتاب والشعراء : فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم له الجيد من الكلام

(1/304)


ذاكرت يوما صاحبنا : أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له : أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من : القرآن والحديث وفنون من كلام العرب - وإن كان محفوظي قليلا - وإنما أتيت - والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية فإني حفظت قصيدتي : الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات و تدارست كتابي ابن الحاجب : في الفقه والأصول و ( جمل الخونجي ) في المنطق وبعض كتاب ( التسهيل ) وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب فعاق القريحة عن بلوغها فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال : لله أنت وهل يقول هذا إلا مثلك ؟

(1/305)


ويظهر لك من هذا المطلب وما تقرر فيه سر آخر وهو : إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها ( 1 / 306 ) من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم
فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في : خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة
والسبب في ذلك : أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة

(1/305)


ولقد سألت يوما شيخنا الشريف : أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا - وكان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه - فسألته يوما : ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ - ولم يكن يستنكر ذلك بذوقه - فسكت طويلا ثم قال لي : والله ما أدري فقلت : ( 1 / 307 ) أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعله السبب فيه وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي : يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم - والله خلق الإنسان وعلمه البيان - . ( 1 / 308 )

(1/306)


مطلب : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

(1/308)


اعلم : أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه : علومهم وأخبارهم وحكمهم وكان رؤساء العرب منافسين فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر لتمييز حوله حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم وبيت إبراهيم كما فعل امرؤ القيس بن حجر والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وطرفة ابن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات
ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثاب عليه فرجعوا ( 1 / 309 ) حينئذ إلى ديدنهم منه
وكان لعمر بن أبي ربيعة - كبير قريش لذلك العهد - مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به

(1/308)


ثم جاء من بعد ذلك الملك والدولة العزيزة وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على : الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان والعرب يطالبون ولدهم بحفظها
ولم يزل هذا الشأن أيام بني أمية وصدرا من دولة بني العباس
وانظر ما نقله صاحب ( العقد ) في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب : الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك والرسوخ فيه والعناية بانتحاله والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه ثم جاء خلف من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل : العجمة وتقصيرها باللسان وإنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتري والمتنبي وابن هانئ ومن بعدهم . . . إلى هلم جرا
فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو : الكذب والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين - كما ذكرنا آنفا - وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة ومذمة لأهل المناصب الكبيرة - والله مقلب الليل والنهار - . ( 1 / 310 )

(1/309)


مطلب : في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد

(1/310)


اعلم : أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب ( المنطق ) أوميروس الشاعر وأثنى عليه
وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون ولما فسد لسان مضر ولغتهم دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في : الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره

(1/310)


ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة - وهي لغة مضر - الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون ( 1 / 311 ) منه ما يطاوعهم في انتحاله ووصف بنائه على مهيع كلامهم

(1/310)


فأما العرب : أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويتأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من : النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون
فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد : بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي - راوية العرب في أشعارهم - وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر : بالبدوي وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم : الحوراني - نسبة إلى : حوران من أطراف العراق والشام وهي من منازل العرب : البادية ومساكنهم إلى هذا العهد -
ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين

(1/311)


ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم : الفحول والمتأخرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد - وخصوصا علم اللسان - يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها وهذا إنما أوتي من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة : مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع ( 1 / 312 ) دالا على الفاعل والنصب دالا على المفعول أو بالعكس وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو لغتهم هذه فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك
وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب

(1/311)


وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه : بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها : بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب

(1/312)


وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه
وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس : مقدم بن معافى القبري من شعراء الأمير : عبد الله بن محمد المرواني وأخذ ذلك عنه : أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب ( العقد ) ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما فكان أول من برع في هذا الشأن : عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية . ( 1 / 313 )
وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول : كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف وجاء مصليا خلفه منهم : ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة

(1/312)


ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع وسابق فرسان حلبتهم : الأعمى التطيلي ثم يحيى بن بقي
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون : أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله :
ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري
خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون
وذكر العلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول : ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له :
أما ترى أحمد ... في مجده العالي ... لا يلحق
أطلعه الغرب ... فأرنا مثله ... يا مشرق

(1/313)


وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين : أبو بكر الأبيض
وكان في عصرهما أيضا الحكيم : أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين : محمد بن أبي الفضل بن شرف وأبو إسحاق الدويني
قال ابن سعيد : وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء : أبو بكر بن زهر وقد شرقت ( 1 / 314 ) موشحاته وغربت واشتهر بعده : ابن حبون واشتهر معهما يومئذ بغرناطة : المهر بن الغرس وبعد هذا : ابن حزمون بمرسية وأبو الحسن : سهل بن مالك بغرناطة واشتهر بإشبيلية أبو الحسن بن الفضل واشتهر بين أهل العدوة : ابن خلف الجزائري ومن محاسن الموشحات للمتأخرين : موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها
وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك : موشحة ابن سناء الملك المصري اشتهرت شرقا وغربا
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا واستحدثوه فنا سموه : بالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة

(1/313)


وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية : أبو بكر بن قزمان وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم يظهر حلاها ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه وكان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق
قال ابن سعيد : ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب
قال : وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيلي - إمام الزجالين في عصرنا - يقول : ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان - شيخ الصناعة -
وكان ابن قزمان - مع أنه قرطبي الدار - كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية ويبيت بنهرها وكان في عصرهم بشرق الأندلس : محلف الأسود وله ( 1 / 315 ) محاسن من الزجل
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها : مدغيس وقعت له العجائب في هذه الطريقة
وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية : ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل
قال ابن سعيد : لقيته ولقيت تلميذه : المعمع صاحب الزجل المشهور
ثم جاء من بعدهم : أبو الحسن : سهل بن مالك - إمام الأدب - ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير : أبو عبد الله بن الخطيب - إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية من غير مدافع - وكان لعصره بالأندلس : محمد بن عبد العظيم - من أهل وادي آش - وكان إماما في هذه الطريقة

(1/314)


وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى إنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية ويسمونه : الشعر الزجلي وكان من المجيدين لهذه الطريقة : الأديب : أبو عبد الله الألوسي
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا وسموه : عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف : بابن عمير فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافا إلى : المزدوج والكاري والملعبة والغزل واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها وكان منهم : الشيخ : علي بن المؤذن سلمان وبزرهون - من ضواحي مكناسة - رجل يعرف : بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن وأتى فيه بكل غريبة من الإبداع . ( 1 / 316 )
وأما أهل تونس فاستحدثوا في الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية إلا أن أكثره رديء
وكان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه : المواليا وتحته فنون كثيرة يسمون منها : القوما وكان وكان ومنه : مفرد ومنه في بيتين ويسمونه : دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاءوا بالعجائب

(1/315)


واعلم : أن الأذواق في معرفة البلاغة كلها إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها - كما قلناه في اللغة العربية - فلا الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرق بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته - ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) . ( 1 / 317 )

(1/316)


مطلب : في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة

(1/317)


قال السيد العلامة : غلام علي أزاد - رحمه الله تعالى - : الرديف : عبارة عن كلمة مستقلة فصاعدا تتكرر بعد الروي والشعر المشتمل عليه يسمى : مردفا من الترديف وهو يزيد الأشعار جمالا ويلبس بنات الأفكار خلخالا وبه يتنوع الشعر الفارسي على أنواع لا تحصى وأقسام لا تتناهى
ولا رديف في شعر العرب وإن تكلف أحد بالترديف لا تظهر له جلوة مثل ما تظهر في شعر الفرس فهو في الفارسية بزة العروس وفي العربية رجل الطاووس ولا منشأ له إلا خصوصية اللسان ومن يعرف اللسانين يشاهد أن الرديف في الفارسية طبيعي وفي العربية غير طبيعي وبيانه أن الرديف يجيء في الفارسية عفوا بلا تجشم بل لا يحسن إغزالهم بلا رديف أو وصل بالروي ويجيء في العربية بالتجشم حيث يحتاج إلى فرض رديف يصح معناه في جميع أبيات القصيدة بل ربما يعوق الرديف الذهن عن التطرق إلى المعاني العالية بخلاف الفارسية فإن الرديف فيها يبعث الذهن على المعاني العالية ويهديه إلى الجواهر الغالية وقد سبق أن سبب ذلك : ( 1 / 318 ) ليس إلا خصوصية اللسان

(1/317)


ولهذا ما وجدت في كلام العرب العرباء شعرا مردفا وإنما وجدته في كلام الأعاجم على سبيل الشذوذ كما نظم الزمخشري قصيدة مردفة في مدح علاء الدولة - والي خوارزم - مطلعها :
الفضل حصله علاء الدوله ... والمجد أثله علاء الدوله
وكما نظم الشيخ : عبد العزيز اللنباني قصيدة مردفة مطلعها :
بشراك يا من به يستبشر العيد ... ومن به كل ميت ينشر العيد
والآية المكررة في سورة الرحمن من القرآن المجيد وهي : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فيها رائحة من الرديف

(1/318)


ولا يخفى أن التكرير نوع من التفنن في الكلام وضرب من طلاقة ألسنة الأقلام ورأيت في الرديف فائدة وهي : أن حروف الروي التي قوافيها قليلة كالثاء المثلثة والخاء المعجمة والذال المعجمة والزاي والضاد المعجمة والطاء المهملة والظاء المعجمة والغين المعجمة والكاف إذا وقعت رويا يضطر فيها الإنسان إلى إيراد اللغات الحوشية والألفاظ الغير المأنوسة وبالرديف يتخلص عن هذا الاضطرار ويتسع عليه مضيق القوافي والروي المنون بلا إشباع والمتحرك بلا وصل لا يكون إلا في الشعر المردف لوقوع الروي في وسط الكلام وهو في الشعر المردف من وجه وسط للحوق الرديف به فلا يشبع بل ينتقل فيه الإشباع من الروي إلى الحرف الواقع في آخر الرديف ( 1 / 319 ) ومن وجه آخر لكون مدار القافية عليه فيشبع فالروي المنون بلا إشباع كما في قولي :
رشأ الأبيرق قاتل والله ... إن المحب لغافل والله
والروي المشبع كقولي أيضا :
جور الحبيبة في منى مرضي ... ذبح المتيم هاهنا مرضي
والروي المتحرك بلا وصل كقولي أيضا :
قدر القلوب من الصفاء يلوح ... ثمن الجواهر بالجلاء يلوح

(1/318)


واعلم : أن المستزاد من مستخرجات العجم ثم تناوله العرب وهو كلام موزون يستزاد فيه بعد كل مصراع من البيت جزءان من بحر المستزاد عليه بشرط الالتئام أو بعد كل بيت إلا البيت المصرع فإنه يستزاد فيه جزءان بعد الشطر الأول أيضا كما تراعى فيه القافية والقسم الأول أوفق بالدبيت والقسم الثاني أوفق بالقصيدة
ولا يخفى على الناقد أن تمكين القافية في زيادة المستزاد قلما يوجد مثله في غيرها فالزيادة فيه كأنها برة في ساق الغادة نعم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة على أنها تجلب المعاني الرائقة وتجذب الخيالات الفائقة بخلاف الرديف فإنه يطرد المعاني ويقتل الغواني

(1/319)


ثم الالتئام بين الزيادة وبين المستزاد عليه تدركه القريحة السليمة ( 1 / 320 ) ولا يوجد الالتئام في كل وزن من أوزان العروض بل عدة أوزان من الفارسية أما بالعربية فلا يوجد إلا في ثلاثة أوزان :
أحدها : المتقارب والزيادة فيه إما : فعولن فعول سالما ومقبوضا أو : فعولن فعل سالما ومحذوفا أو : فعول فعول مقبوضين أو : فعول فعل مقبوضا ومخدوفا
وثانيها : ركض الخيل والزيادة فيه إما : فعلن فعلن بتحريك العين فيهما أبو بسكونها فيهما أو بتحريك العين في أحدهما وسكونها في الآخر وكلا البحرين من الدائرة الخامسة من العروض
وثالثها : الدبيبت وهو في الأصل من مستخرجات العجم استخرجوه من ( بحر النهرج ) لا من ( بحر الكامل ) - كما زعمه بعضهم - والنهرج : عند الفرس ثمانية ( مفاعيلن ) يتركب الدبيت منه ومن بعض فروعه بعد الزحافات

(1/319)


واختراع الحسن القطان - من أهل خراسان - لضبط أوزانه شجرتين إحداهما : شجرة الأخرب مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها : أن جزأها الأول : ( مفعول ) بضم اللام من ( مفاعلن ) بالخرب وهو : حذف الميم والنون من ( مفاعيلن ) وأخراهما : شجرة الأخرم أيضا مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها : أن جزأها الأول ( مفعولن ) من ( مفاعيلن ) بالخرم وهو : حذف الميم فقط من ( مفاعيلن ) ويجوز الجمع بين بعض هذه الأفاعيل وبين بعض آخر في دبيت واحد لا يخل به الوزن
وأوصل بعضهم أوزانه بضرب بعضها في بعض إلى عشرة آلاف . ( 1 / 321 )

(1/320)


ثم الزيادة في مستزاد الدوبيت على قسمين القسم الأول : ما فيه أول الجزأين أخرب وهو ( مفعول ) من ( مفاعيلن ) - كما مر - والثاني منهما : إما ( فعول ) فيكون الجزءان ( مفعول فعول ) أو ( فعل ) فيكون الجزءان ( مفعول فعل ) والقسم الثاني : ما فيه أول الجزأين أخرم وهو ( مفعول ) من ( مفاعيلن ) - كما سبق - والثاني منهما : إما ( فاع ) فيكون الجزءان ( مفعولن فاع ) أو ( فع ) فيكون الجزءان ( مفعولن فع ) والزحافات التي تقع في ( مفاعيلن ) وتتولد منه الأجزاء اللواتي في القسمين من الزيادة مذكورة في كتب العروض الفارسية في شرح الرباعي ويجوز الجمع بين هذه الأفاعيل في الزيادات كما يجوز في الأبيات الأصلية
وعرف صاحب ( مناظر الإنشاء ) المستزاد : بأن تستزاد بعد كل مصراع فقرة من النثر وتبعته في ( سبحة المرجان ) ثم اختلج في خاطري أن النظم والنثر متضادان كيف يصح الاجتماع بينهما ؟ فاستخرجت الوزن للزيادة وعرفت المستزاد بالتعريف الذي تقدم

(1/321)


وللمستزاد أحكام منها : أن لا يجوز قطع الكلمة بين المصاريع وبين الزيادات في أي محل كان فلا بد من أن يختم كل من المصراع والزيادة على تمام الكلمة لا على بعضها لأن كلا من المصراع الأصلي والزيادة قطعة على حدة لا اتصال بينهما إلا في المعنى
ففي القسم الأول : أربع قطع وفي القسم الثاني : ثلاث قطع . ( 1 / 322 )
ومنها : أن يأتي في العروض والجزء الثاني من زيادتها ( فعول ) في وزن ( الدوبيت ) كما يجوز في ( المتقارب ) المستزاد وغير المستزاد وعلى هذا القياس ( فاع ) من غير أن يجعل الحرف الأخير منهما من المصراع الثاني كما يجعل منه أحيانا في غير المستزاد وهذا الأمر يفهم من الحكم الأول أيضا لكن بينته لزيادة التوضيح
ومنها : أن يجيء في رأس الزيادات ورأس الأعجاز همزة الوصل بالقطع من غير مضايقة لما مر من أن كلا منهما قطعة على حدة
ولما كان المستزاد من مخترعات شعراء العجم لزم لشعراء العرب أن يعملوا على ما قرره شعراء العجم من قواعدهم والأحسن أن تنسب القصيدة إلى الرويين : روي المصراع الأصلي وروي الزيادة
ويقال مثلا للقصيدة الأولى من تغزلات هذا الديوان : الألفية الهمزية أما ترتيب الديوان على ترتيب حروف الهجاء فمداره على روي الزيادة

(1/321)


ولقد أكثر شعراء العرب النظم في وزن الدوبيت لعذوبته وسلاسته لكن ما نظم أحد منهم قصيدة في هذا البحر فضلا أن ينظم المستزاد فيه
ورأيت في ( ديوان الشيخ : صفي الدين الحلي ) موشحا في وزن الدوبيت مشتملا على الزيادة لكنه قسم آخر من الشعر ما هو على طريقة اخترتها
ولا شك في أن المستزاد طريقه صعب لما فيه من رعاية القافيتين وتحمل الداهيتين فأجريت الكميت في ميدان الدوبيت ونظمت فيه قصائد المستزاد وأسست أساسا جديدا على نهج السداد
أما المستزاد في ( المتقارب ) و ( ركض الخيل ) فاستخرجته أنا ( 1 / 323 ) ولم يسبق إليه ذهن قبلي فهو أول بناء أسسته بالعربية ثم شعراء الفرس نظموا المستزاد في الدوبيت وغيره قليلا قليلا لكن ما رتب أحد منهم ديوانا فيه فديواني أول ديوان رتب في المستزاد وأول صيد نشب في حبالة الصياد . انتهى كلامه

(1/322)


وقال - رحمه الله - في أول كتابه ( مظهر البركات ) : إن المزدوجة من أقسام الموزونات حق للسان الفارسي فإنها فيه طبيعية تأتي عفوا بلا تكلف وضعها شعراء الفرس لنظم القصص والأخبار وسموها : ( المثنوي ) أما اللسان العربي فهي فيه غير طبيعية لا تأتي إلا بالتجشم كما أن القصيدة في اللسان الهندي غير طبيعية ليس وجودها فيه أصلا يعرف هذه المراتب من له معرفة تامة بهذه الألسنة
ولهذا ما نظم المزدوجة من شعراء العرب إلا أشخاص معدودة منهم : الشيخ أبو يعلى : محمد بن الهبارية العباسي نظم ( الصادح والباغم ) في ( الرجز ) أولها :
الحمد لله الذي حباني ... بالأصغرين القلب واللسان
وإنما فضيلة الإنسان ... وفخره بالعقل والتبيان

(1/323)


ومنهم : الشيخ : بهاء الدين العاملي نظم مزدوجة في ( الوافر ) سماها : ( رياض الأرواح ) منها :
ألا يا خائضا بحر الأماني ... هداك الله من هذا التواني ( 1 / 324 )
ونظم مزدوجة أخرى في ( الرمل ) سماها : ( سوانح سفر الحجاز ) منها :
يا نديمي ضاع عمري وانقضى ... قم لاستدراك وقت قد مضى
وما رأيت شاعرا عربيا نظم المزدوجة في ( الخفيف ) ونظمها فيه شعراء الفرس كثيرا وهو أوفق بالمزدوجة في اللسان العربي أيضا
فاختلج في خاطري أن أنظم المزدوجة العربية في ( الخفيف ) فنظمت هذه المزدوجة وسميتها : ( مظهر البركات )

(1/323)


ولشعراء الفرس : ( الرديف ) وقد نظمت ديوانا مردفا رويه على ترتيب حروف الهجاء لامتحان الطبيعة واختبار القريحة ورأيت أن الرديف في المزدوجة العربية طبيعي يروق المسامع بخلاف القصائد العربية بل الرديف في المزدوجة ربما يعين الطبع على أداء المقاصد ويخرجه عن مضيق القافية ويبين أن هذا من خصائص المزدوجة
ولشعراء الفرس : ( الحاجب ) وهو : عبارة عن الرديف بين القافيتين ويسمى الشعر المشتمل عليه ( محجوبا ) ورأيت أن ( الحاجب ) أيضا طبيعي في المزدوجة العربية تقبله الطباع بلا إكراه

(1/324)


واعلم : أن شعراء الفرس والهند دأبهم أن يختاروا لأنفسهم أسماء ويذكروها في أواخر منظوماتهم ليعلم بها من نظمها ويسمي شعراء الفرس هذا الاسم : ( التخلص ) والسر في ذلك : أن الاسم الأصلي للشاعر ربما لا تسعه الأوزان فيختارون اسما مختصرا يسعه الوزن . ( 1 / 325 )

(1/324)


مطلب : في طبقات الشعراء

(1/325)


اعلم : أن البلغاء طبقاتهم العلية :

(1/325)


1 - الجاهلية الأولون

(1/325)


2 - ثم المخضرمون

(1/325)


3 - ثم الإسلاميون

(1/325)


4 - ثم المولدون

(1/325)


5 - ثم المحدثون

(1/325)


6 - والعصريون
فهذه الطبقات الست ثلاث منها : حازوا قصب السبق في حلبة الرهان معرفة كلامهم فرض كفاية في الإسلام لأنه يستدل به على الكلام العربي الذي تستنبط منه أحكام الحلال والحرام وألحق به بعضهم ما بعده كإثبات لطائف المعاني دون الألفاظ المحكمة المباني ( 1 / 326 ) ومن حققه لم يكن منه على ثقة

(1/325)


وإن في الشعر دقائق لم يكشف عنها الغطاء منها : أن أهل المعاني قالوا : إن التعقيد المعنوي واللفظي ينافي الفصاحة
فقال بعض المتأخرين : إن الألفاظ كلها غير فصيحة لما فيها من التعقيد المعنوي وليس كما قال لأن أبا هلال العسكري قال في ( كتاب الصناعتين ) : إنها فصيحة وإن التعقيد إنما يكره إذا لم يقصد فإن قصد فهو فصيح
ومما يؤيده أن الإسنوي قال في كتابه ( طراز المحافل ) : إن من السنة أن يلقي الألغاز على من في مجلسه لتشحيذ الأذهان لما رواه البخاري عن ابن عمر من حديث النخلة
قال أبو هلال : ومنه نوع بديع سميته : شبه الإلغاز وهو : أن يوصف شيء بصفات تساق على نهج اللغز ليس المقصود الإلغاز . انتهى

(1/326)


وإن معجزة كل نبي على وفق زمانه وقومه ولما كان أشرف الخلق العرب وأعظم ما عندهم الشجاعة والفصاحة والكرم كان أعظم معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - : القرآن المعجز بفصاحته وبلاغته ولما كان خاتم الرسل ولا نبي بعده جعل له معجزة باقية إلى القيامة لا تزال تتلى وجديدة على كثرة الترداد لا تخلق ولا تبلى

(1/326)


وبلغاء العرب في الشعر والخطب على ست طبقات :

(1/326)


1 - الجاهلية الأولى : من قوم عاد وقحطان . ( 1 / 327 )

(1/326)


2 - والمخضرمون : وهم من أدرك الجاهلية والإسلام

(1/327)


3 - والإسلاميون

(1/327)


4 - والمولدون

(1/327)


5 - والمحدثون

(1/327)


6 - والمتأخرون : ومن ألحق بهم من العصريين
والثلاث الأول : هم ما هم في البلاغة والجزالة ومعرفة شعرهم رواية ودراية - عند فقهاء الإسلام - فرض كفاية لأنه به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال والحرام وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني لا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ وتركيب المعاني

(1/327)


إذا عرفت هذا فاعلم : أن الطبقات الثلاث الأول جمعوا أشعارهم في كتب كثيرة غير الدواوين : ( كالحماسة ) و ( المفضليات ) و ( أشعار هذيل ) وغيرها من الكتب المفيدة
ثم أورد : الشهاب الخفاجي بعد ذكر هذا من نثرهم ونظمهم جملة صالحة في كتابه ( ريحانة الألباء ) وذكر كلام المولدين وبعض شعراء الجاهلية ثم قال : إن المتأخرين وإن تأخر زمانهم عن المتقدمين فقد زاحموهم بالركب وكادوا أن يرقوا إلى أعلى الرتب لا سيما شعراء المغرب فقد أتوا بمعان بديعة وارتقوا إلى مرتبة رفيعة كيزيد بن خالد الإشبيلي له في وصف السفن معان لم يسبق إليها
ومن شعرائهم : ابن خفاجة

(1/327)


وقال الأدباء : بدئ الشعر ( 1 / 328 ) بملك وختم بملك والأول : امرؤ القيس فإنه أول من هلهل الشعر وهذبه ونسج نسيبه ورتبه والثاني : ابن المعتز فإنه ممن أوتي جوامع الكلم : نظما ونثرا وإنشاء وشعرا
والعامة تقول : كلام الملوك ملوك الكلام وقيل : أبو فراس والأول : أقرب إلى القياس

(1/327)


ولما بلغ عبد الملك أن الحجاج لا يراعي الشعراء نقم ذلك عليه وكتب إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أما بعد : فقد بلغني عنك أمر كذب فراستي فيك وأخلف ظني بك من إعراضك عن الشعر والشعراء فكأنك لا تعرف فضيلة الشعر والشعراء ومواقع سهامهم أو ما علمت يا أخا ثقيف أن بقاء الشعر بقاء الذكر ونماء الفخر وأن الشعر طراز الملك وحلي الدولة وعنوان النعم وتمام المجد ودلائل الكرم وأنهم يحضون على الأفعال الجميلة وينهون عن الأخلاق الذميمة وأنهم سنوا سبل المكارم لطلابها ودلو العفاة على أبوابها وأن الإحسان إليهم كرم والإعراض عنهم لؤم وندم فاستدرك فرط تفريطك وامح بصوابك وحي أغاليطك والسلام

(1/328)


وبهذا علمت وقع الشعراء عند الملوك وأنه سبيل إلى المكارم مسلوك وأن الشعراء قافلة تحمل الذكر الجميل وأن بضائعهم نافقة عند الكرام كاسدة عند اللئام والسلطان سوق تجلب لها الرغائب وتجبى لها محامد تمتلئ بها الحقائب . انتهى المقصود منه بالتخليص . ( 1 / 329 )

(1/328)


مطلب : في مدح المنظوم من الكلام والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام

(1/329)


روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال : جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما يتبسم معهم
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وروى مسلم عن عائشة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : هجاهم حسان فشفى واستشفى

(1/329)


وقال السيوطي في ( الخصائص الكبرى ) : أخرج البيهقي من طريق : يعلى بن الأشدق قال : سمعت النابغة - نابغة بني جعدة - يقول : أنشدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر فأعجبه فقال : ( أجدت لا يفضض الله فاك ) فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن ثم أخرجه : البيهقي من وجه آخر عن : النابغة وأخرجه : ابن أبي أسامة من وجه آخر عنه وفيه : فكان من أحسن الناس ثغرا فكان إذا سقط له سن نبت له وأخرجه : ابن السكن من وجه آخر عنه وفيه : فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ( 1 / 330 )

(1/329)


وقال الشيخ : محمد حياة السندي المدني في ( رسالة : الأحاديث المسلسلة ) عن نابغة بني جعدة الشاعر : لقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها :
بلغنا السماء السبع مجدا وسؤددا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال : أين يا أبا ليلى ؟ قلت : إلى الجنة يا رسول الله قال : إلى الجنة - إن شاء الله تعالى -
وقال كعب بن زهير - رضي الله عنه - :
جاء السخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا ) وفي رواية : ( أن الله لم ينس ذلك لك )

(1/330)


وعقد البيهقي في ( الدلائل ) بابا مستقلا في الشعر وقال : ( باب اختياره - صلى الله عليه وسلم - الشعر ) وذكر حديثا طويلا عن جابر - رضي الله عنه - وحاصل الحديث : أنه جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا رسول الله يريد أبي أن يأخذ مالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ائت بأبيك عندي ) فلما جاء أبوه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يقول ابنك أنت تأخذ ماله ) قال : سله يا رسول الله لا مصرف لماله إلا عماته وقراباته أما أصرفه على نفسي وعيالي ؟ فنزل جبريل - عليه السلام - وقال : ( يا رسول الله قال ( 1 / 331 ) هذا الشيخ في نفسه شعرا ما وصل إلى أذنه ) فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل قلت في نفسك شعرا ؟ ) فاعترف الشيخ وقال : لا يزال يزيدنا الله - تعالى - بك بصيرة ويقينا وعرض سبعة أبيات نظمها في نفسه وهي :
غذوتك مولودا وصنتك يافعا ... تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت حتم موكل
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي ... أتتك مراما فيه كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
قال جابر : فبكى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أخذ ( 1 / 332 ) تلابيب ابنه وقال له : ( اذهب فأنت ومالك لأبيك ) . انتهى
وقد ثبت : تصرف الأب في مال الابن قدر الضرورة بهذا الحديث

(1/330)


قال الشيخ : بهاء الدين العاملي في بعض مؤلفاته : روي عن قيس بن عاصم قال : وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت : يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نغير في البرية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا قيس إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة وإن لكل شيء رقيبا وعلى كل شيء حسيبا وإن لكل أجل كتابا وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وهو ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك ثم لا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك ) فقال : يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه بحسان فاستبان لي القول قبل مجيء حسان فقلت : يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت :
تخير خليطا من فعالك إنما ... قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
ولا بد بعد الموت من أن تعده ... ليوم ينادي المرء فيه فيقبل
فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن ... بغير الذي يرضى به الله تشغل ( 1 / 333 )
فلن يصحب الإنسان من بعد موته ... ومن قبله إلا الذي كان يعمل

(1/332)


أقول : روى البخاري عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الشعر حكمة ) ولا يخفى على حكماء الكلام والماهرين بسرائر الأقلام أن بعض الشعر وهو الذي كان محمودا شرعا مندرج في مفهوم الحكمة لأن مفهوم الشعر أخص من وجه من مفهوم الحكمة والمقصود من هذا الكلام بيان فضيلة الشعر فينبغي أن يقع الشعر مخبرا عنه ويكون مقدما في الذكر
وحق العبارة أن يقال : بعض الشعر حكمة ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الشعر حكمة ) فأبقى التقدم اللفظي على أصله للاهتمام بشأن الشعر وإفادة الحصر وقلب الأسلوب المعنوي وجعل الحكمة مخبرا عنه للمبالغة في مدح الشعر أي : ماهية الحكمة بعض الشعر فلزم أن يكون أفراد الحكمة بأسرها بعض الشعر ومندرجة تحته فإن اندراج الماهية مستلزم لاندراج جميع الأفراد
وقصد - صلى الله عليه وسلم - من إفادة الحصر بتقديم الخبر وإيراد الكلام على أسلوب التأكيد مبالغة فيكون معنى الكلام الأقدس : إنما الحكمة بعض الشعر

(1/333)


ولله لطف ما أودعه صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - كلامه وهو أن المبالغة لها مناسبة بالشعر فراعى - صلى الله عليه وسلم - هذه المناسبة الشعرية في كلام أورده في مدح الشعر وأفاد سندا كاملا لجواز المبالغة إذا اقتضت مصلحة دينية
ومثله : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من البيان لسحرا )
قال الطيبي في ( 1 / 334 ) ( تبيانه ) : من : للتبعيض والكلام فيه تشبيه وحقه أن يقال : إن بعض البيان كالسحر فقلب وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم . انتهى
يعني : أن السحر له وجهان : المدح والذم ووجه تشبيه البيان به هاهنا الأول
قال المحقق الشريف في ( حواشي الكشاف ) عند تفسير قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) : فإن قيل : لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس أجيب : بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس ويتعجب منه ورد : بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ولا يقصد منها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله تعالى : ( من المؤمنين رجال ) فالأولى : أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى : وبعض الناس أو : بعض منهم من اتصف بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ . انتهى كلامه

(1/333)


وروى ابن ماجة : ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها )
وقال صاحب ( كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجة ) : قوله : ضالة المؤمن أي : مطلوبة له أشد ما يتصور من الطلب فاللائق بحال المؤمن أن يطلبها كما يطلب المرء ضالته فهذا الكلام ( 1 / 335 ) بطريق الإرشاد والتعليم لا الإخبار إذ كم من مؤمن ليس له طلب أصلا ؟ أو بطريق الإخبار بحمل المؤمن على الكامل قوله : ( حيثما وجدها ) أي : ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى المقول لا القائل وهذا كما قيل : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال . انتهى

(1/334)


و ( الكلمة الحكمة ) : شاملة للنظم والنثر لعموم اللفظ ويؤيد الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الشعر حكمة )
ومن العجائب أن الكلمة تطلق على القصيدة كما قال الجوهري وغيره وإذا تمهد هذا فأقول : لو قطع النظر عن المبالغة في الحديث وأخذ أصل المعنى أعني : بعض الشعر حكمة يحصل من انضمامه بالحديث الثاني الشكل الأول من الأشكال المنطقية أعني : بعض الشعر كلمة والكلمة الحكمة ضالة المؤمن فبعض الشعر ضالة المؤمن وإنما زدت لفظ ( الكلمة ) في الصغرى لأن الشعر حكمة قولية

(1/335)


وقد ثبت بهذه النتيجة الصحيحة : طلب النتائج من الشعراء التي تكون موافقة بالشريعة الغراء والدليل القاطع والبرهان الساطع على إثبات النتيجة ما رواه مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : ( هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء ؟ ) قلت : نعم قال : ( هيه ) فأنشدته بيتا فقال : ( هيه ) ثم أنشدته بيتا فقال : ( هيه ) حتى أنشدته مائة بيت
ويستفاد من هذا الحديث : طلب الشعر المحمود الذي هو نتيجة الشكل واستحباب الزيادة في الطلب واستحباب الإنشاد واستحباب الطلب حيثما وجد فإن أمية بن أبي الصلت مات كافرا
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيه : ( آمن لسانه وكفر قلبه )
وتحقق من هاهنا أن من طلب ( 1 / 336 ) الشعر المحمود أتى بالعمل المستحب ومن أنكر تركه

(1/335)


كيف لا ؟ وقد روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول شعرا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل )
وروى البخاري عن سعيد بن المسيب قال : ( مر عمر في المسجد وحسان ينشد فأنكر عليه عمر فقال : كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أجب عني اللهم أيده بروح القدس ؟ قال : نعم ) وفيه منع الإنكار عن الشعر وجواز الإنشاد في المسجد
قال القسطلاني : هذه المقالة منه - صلى الله عليه وسلم - دالة على : أن للشعر حقا يتأهل صاحبه لأن يؤيد في النطق به بجبرائيل - عليه السلام - وما هذا شأنه يجوز قوله في المسجد قطعا

(1/336)


وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر ؟ فقال : ويلك يا لكع وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ؟ فحسنه حسن وقبيحه قبيح . ( 1 / 337 )
و روى الدار قطني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو كلام : حسنه حسن وقبيحه قبيح )

(1/336)


والمقصد : أن الشعر ليس في نفسه مذموما بل الحسن والقبح راجعان إلى المفهوم فالمفهوم إذا كان قبيحا فالمنثور والمنظوم من القول سواء ومعنى القبيح : أن يكون فيه فحش أو أذى لمسلم أو كذب والكذب الممنوع في الشعر ما كان مضرا بأمر ديني لا الكذب الذي أتي به لتحسين الشعر فقط فإنه مأذون فيه وإن استغرق الحد وتجاوز المعتاد
ألا ترى قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - ؟ فإنه تغزل فيها بسعاد وأتى من الإغراقات والاستعارات والتشبيهات بكل بديع لا سيما تشبيه الرضاب بالشراب في قوله :
تجلو عوارض ذا ظلم إذا ابتسمت ... كأنها منهل بالراح معلول
والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه وما أنكر بل صارت هذه القصيدة أحسن الوسائل إلى الشفاعة وأوثق الذرائع إلى الإغماض عن الشناعة وفازت بحسن القبول من جنابه وجازى قائلها بعطية من جلبابه ولله در أبي إسحاق الغزي حيث قال :
جحود فضيلة الشعراء غي ... وتفخيم المديح من الرشاد
محت بانت سعاد ذنوب كعب ... وأعلت كعبه في كل نادي ( 1 / 338 )
وما افتقر النبي إلى قصيد ... مشببة ببين من سعاد
ولكن من إسداء الأيادي ... وكان إلى المكارم خير هاد

(1/337)


وقد قالوا : فضل هذه القصيدة على القصائد الأخر الموشحة بمدحه - صلى الله عليه وسلم - كفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم هذا وقد شبه واصفه - صلى الله عليه وسلم - عنقه المقدس بجيد دمية وما أنكره أحد من السلف والخلف
وقال القفال والصيدلاني قولا صدقا وهو : أن الشعر كذبه ليس بكذب لأن قصد الكاذب : تحقيق قوله وقصد الشاعر : تحسين كلامه فقط
وبما حررناه ثبت جواز التخييلات الكلامية والتوسع في المضامير الأقلامية وتحقق أن الإنكار من الشعر المحمود هو بترك المستحب وأن لا تسمع لومة لائم في ما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار الصحابة والتابعون وأهل العلم وموضع القدوة - رضي الله عنهم

(1/338)


وقد ورد النهي عن سب الشعراء روى البخاري عن عروة بن الزبير قال : ذهبت أسب حسانا عند عائشة فقالت : لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولا شك أن من أنشأ أو أنشد الشعر المحمود فهو تلو للمنافحين حيث يريح المؤمنين بالحكم اليمانية ويدافع عنهم ما يملهم من العوارض النفسانية ويعضده ما روي عن ابن عباس : أنه كان إذا فرغ من درس التفسير والحديث يقول لتلامذته : أحمضوا ويأمرهم بالأخذ في ملح الكلام خوفا ( 1 / 339 ) عليهم من الملال
والإحماض : أصله من : الحمض وهو : ما ملح ومر من النبات ومقابله : الخلة وهو : ما كان حلوا تقول العرب : ( الخلة : خبز الإبل والحمض : فاكهتها ) لأنها إذا ملت من الخلة مالت إلى الحمض ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهددا : أنت مختل فتحمض

(1/338)


وأما قوله تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فهو في الشعراء المشركين ويستفاد من الآية : أن علة الذم : الهيمان في كل واد من الكذب والباطل وبهذا الاعتبار الشعر مذموم وكل ما ورد من ذمه في القرآن والحديث فهو راجع إلى هذا الاعتبار وهو ممدوح باعتبار اشتماله على الحكم ولذا ميز الله - سبحانه - الشعراء المؤمنين عن هؤلاء المشركين بالاستثناء وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله : ( إن من الشعر حكمة )
وأما قوله تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) فهو رد على الكفار القائلين : بأنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر
ولا يخفى أن القرآن ليس من جنس الشعر ولا يقول به من له أدنى تمييز لأن الشعر يكون مقفى موزونا وليس القرآن كذلك
ويمكن أن يكون قولهم مبينا على : أن الشاعر يراعي الوزن والقافية في الكلام فالذي يكون قادرا على الشعر سهل له أن ينشئ الكلام بلا مراعاة الوزن والقافية فما يأتي به هو ناشئ عن سليقته لا كما يدعي أنه منزل من السماء فرد الله - سبحانه - عليهم وقال : ( وما علمناه الشعر ) لأن أكثره خيالات لا حقيقة لها وتغزلات بالنساء والأمارد وافتخارات باطلة ومدائح من لا يستحق إلى غير ذلك
والقرآن ليس على هذا الأسلوب ثم أيده بقوله تعالى : ( وما ينبغي له ) أي : لا يليق بشأنه لأن الشعر قلما يخلو عن الأمور المذكورة وقد امتحنتموه - صلى الله عليه ( 1 / 340 ) وسلم - نحوا من أربعين سنة فما وجدتم من أقواله وأفعاله وأحواله ما يناسب شيئا منها

(1/339)


ولا يخفى أن في قوله - تعالى - : ( وما ينبغي له ) إشعارا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قادرا على الشعر ولم يقله بناء على أنه ما كان ينبغي له فإنه - سبحانه - نفى الانبغاء دون القدرة عليه ثم أيده بقوله - تعالى - : ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) أي : كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز
وقد تبين من هذا : أن في الآية تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يملي القرآن بسليقته كما هو شأن الشعراء حيث يملون الكلام الموزون بسلائقهم وإذا أمعنت النظر لا تجد فيه ذما للشعر بل تجد مدحا عظيما
وليت شعري أي شيء يستدعي إلى ذم الشعر مطلقا ؟ فإن الحسن والقبح راجعان إلى المعنى - كما تقدم - وإذا كان المعنى حسنا فالمنظوم أزيد حسنا وجمالا من المنثور وأنفع للمتكلم في ما قصده من إيقاع المعاني في نفس المخاطب وللمخاطب في التوجه إليه بالرغبة

(1/340)


ولقد أجاد البوصيري حيث قال :
فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بقول طرفة وهو :
... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويقول : ( أصدق كلمة قالها الشاعر : كلمة لبيد :
ألا كل شيء ماخلا الله باطل

(1/340)


وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها - ( 1 / 341 ) : ( أهديتم الفتاة إلى بعلها ؟ قالت : نعم قال : فبعثتم معها من يغني ؟ قالت : ولم نفعل ؟ قال : أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ؟ ألا بعثتم معها من يقول :
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم
ولولا الحنطة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم
وقد ورد في الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق :
( بسم الله وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا )
ويرفع صوته : ( أبينا أبينا ) بالموحدة وفي رواية : ( أتينا ) بالمثناة الفوقية

(1/340)


واختلف العلماء في صدور الشعر منه - صلى الله عليه وسلم - ونقل المثبتون أشياء منها قوله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يبني مسجده - صلى الله عليه وسلم - :
( هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر )
وكان الزهري يقول : لم يقل - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الشعر إلا قد قيل قبله إلا هذا

(1/341)


وقد ألف السيد : محمد البرزنجي المدني رسالة ( 1 / 342 ) في إثبات الكتابة والقراءة والشعر له - صلى الله عليه وسلم - يقول فيها : لا شك أن الشعر إذا كان حكمة أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الشعر لحكمة ) كمال ولا ينبغي أن يخلو - صلى الله عليه وسلم - عن كمال ما لأنه نسخة الكاملة الجامعة لجميع صفات الكمالات الإنسانية بل والملكية وإيقاع النفس والتهمة بالنظر إلى القرآن إنما يرد بالنسبة إلى ما قبل نزول الوحي وثبوت النبوة أما بعده : فلا كما قيل في الكتابة والقراءة
وكل ما صدر عنه من النطق بالشعر فإنما هو بعد النبوة ولم يقل أحد قط أنه - صلى الله عليه وسلم - ينظم الشعر أو يرويه أو يجالس الشعراء قبلها وأما بعد النبوة : فقد نطق به ورواه واستنشده الصحابة وأنشدت القصائد بحضرته وأصلح من كلا مهم كما أصلح من قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - قوله :
من سيوف الهند
وأبدله ب : سيوف الله
فلا إخلال بنبوته ولا تهمة في معجزته بل هو معجزة أخرى وكمال آخر فلا مانع من تجويزه . انتهى كلامه

(1/341)


وتمام البيت الذي أصلحه - صلى الله عليه وسلم - هكذا :
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
أقول : لعل وجه إصلاحه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقع ( 1 / 343 ) لفظ مستدرك في الكلام فإن المهند - على ما قال الجوهري - : السيف المطبوع من حديد الهند
هذا ما سنح لي في فضيلة الشعر المحمود وشرف هذا الكوكب المسعود

(1/342)


ثم أول من قدر جواهر المنطق بالميزان ونظم اللآلي الخاصة بخزينة الإنسان صفي الله : آدم - عليه السلام - فالشعر المتولد منه آدم الأشعار والجد الأعلى لنتائج الأفكار وأسنده ابن الأثير وغيره من الجم الغفير إلى آدم - عليه السلام - وأنكر جمع كثير من المحققين
وقال آخرون : رثى آدم هابيل بالسريانية فلما وصل إلى يعرب بن قحطان ترجمها بالعربية
واختلف في قضية هابيل أين وقعت ؟ فمنهم من ذهب إلى أنها وقعت بالهند على جبل نود الذي نزل عليه آدم - عليه السلام - السماء وقيل : بمكة ثم الروايات تعاضدت في : أن آدم نزل بالهند من السماء وتوطن بعد ذلك بهذه . الغبراء
وقد فصلته في رسالتي : ( شمامة العنبر فيما ورد في الهند من سيد البشر )
وقد توارث أولاد آدم الشاعرية منهم من سكن الهند
ولما أظلت ألوية الإسلام على هذا السواد وألقى الإسلاميون رحالهم في هذه البلاد وتكلموا بلسانها وترنموا بألحانها وسمعوا كلام مصاقعها وعرفوا بيان سواجعها وقفوا على أنهم بذلوا غاية الجهد في إبداع المعاني وصرفوا هممهم إلى أقصى حدود الطاقة البشرية في تأسيس المباني

(1/343)


ثم اعلم : أن الجولان في سوح الأدب حق للأئمة الفصحاء من العرب ( 1 / 344 ) فإنهم صعدوا في قمم أطواده وبلغوا قصارى أنجاده
ولعمري إن أزهار الفصاحة باسمة بنسائمهم وأرجاء البلاغة فائحة بشمائمهم جزاهم الله عنا أوفى الأجزية وذكرهم في مجامع القدس بأحسن الأثنية
ولما ألف الإسلام بين الأمم ووقعت مخالطة العرب والعجم وجلس الخلفاء في بغداد وأمتهم الخلائق من شواسع البلاد اكتسب العجم فن الفصاحة من العرب العرباء وتجاوبوا على سننهم في هذه الدوحة العلياء لا سيما من كان قريبا من دار الخلافة وجارا متصلا بمركز الشرافة كما تشهد به ( يتيمة الدهر ) للثعالبي و ( دمية القصر ) للباخرزي وغيرهما

(1/343)


وأما الهند : ففتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد : محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين وبعدما عاد عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند
وفي عهد العباسية كان أبو حفص ربيع بن صبيح السعدي البصري من أتباع التابعين وأعيان المحدثين بالسند وهو أول من صنف في الإسلام قال صاحب ( المغني ) : مات بأرض السند سنة ستين ومائة وقصد السلطان : محمود الغزنوي أواخر المائة الرابعة - غزو الهند - وأتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من القادر بالله بن المقتدر العباسي ولكن السلطان : محمود ما أقام بمملكة الهند وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور حتى استولى السلطان : معز الدين سام الغوري على غزنين وأتى لاهور وقبض على خسرو ملك ختم الملوك الغزنوية وضبط الهند وجعل دهلي دار الملك سنة تسع وثمانين ( 1 / 345 ) وخمسمائة ومن هذا التاريخ إلى الآن ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية
ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه على الأغوار والأنجاد ظهر جمع من الأدباء الإسلامية ونثروا على بسط الأزمنة لآلئ من السحب الأقلامية وليست كتب القوم حاضرة عندي في حال التحرير حتى أجلوا عرائس تراجمهم على منصة التقرير . انتهى المراد من ( تسلية الفؤاد )

(1/344)


ومن أدباء الهند : القاضي : عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي الكندي الدهلوي المتوفى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة له قصيدة لامية مشهورة مطلعها :
يا سائق الظعن في الأسحار والأصل ... سلم على دار سلمى وابك ثم سل
ومنهم : الشيخ : أحمد التهانيسري وله - رحمه الله تعالى - قصيدة دالية مطلعها :
أطار لبي حنين الطائر الغرد ... وهاج لوعة قلبي التائه الكمد

(1/345)


ومنهم : السيد غلام : علي بن السيد : نوح البلكرامي المتخلص : بآزاد له : سبعة دواوين والقصيدة : في وصف أعضاء المعشوقة من الرأس إلى ( 1 / 346 ) القدم سماها : ( مرآة الجمال ) وشرحها شرحا لطيفا منها : ديوان مردف وديوان مستزاد وديوان مرجع
والترجيع : نوع من الشعر أنشأه في نهاية الرقة ولم ينظم الترجيع العربي قبله أحد من الشعراء وسمى الدواوين السبعة : ( بالسبعة السيارة ) ونظم الدفاتر السبعة المسماة ب : ( مظهر البركات ) مزدوجة في بحر الخفيف في غاية السلاسة والعذوبة ولم ينظم أحد قبله مزدوجة عربية في هذا البحر ولم يتفق لأحد من شعراء العرب والمقلدين لهم من شعراء العجم مزدوجة على هذه الكيفية ونظم الدفتر السابع في سنة 1193 ه ومات - رحمه الله - في سنة 1200 الهجرية وله تصانيف كثيرة في العربية والفارسية كما سيأتي تفصيلها في ترجمته - إن شاء الله تعالى -
وجملة أشعاره المنظومة في المذكورات : أحد عشر ألفا وما سمع قط من أهل الهند من يكون له ديوان عربي أو شعر عربي على هذه الحالة وهو : ( حسان الهند ) مدح - النبي صلى الله عليه وسلم - في دواوينه وقصائده وأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة لم يتيسر مثلها لأحد من الشعراء المفلقين وأبدع فيها مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين وله في التغزل طور خاص قلما يوجد في كلام غيره يعرفه أصحاب الفن

(1/345)


ومنهم : الشيخ الأجل مسند الوقت الشاه : ولي الله المحدث الدهلوي وله : قصائد حسنة وكلمات غراء في مدحه - صلى الله عليه وسلم - . ( 1 / 347 )
ومنهم : الشيخ : عبد العزيز والشيخ : رفيع الدين والشيخ : محمد إسماعيل الدهلويون - رحمهم الله تعالى - ولهم : منثور ومنظوم لطيف بليغ
ومنهم : الشيخ الأديب : أوحد الدين البلكرامي - رحمه الله - رأيت له نثرا فصيحا ونظما بليغا وتقاريظ كثيرة على كتب عديدة
ومنهم : الشيخ الكامل : فضل حق الخير آبادي وكم له من قصائد وأشعار عارض بها الحريري والبديع وأتى فيها بكل لفظ لطيف ومعنى بديع لولا أنه أكثر فيها من التجنيس والاشتقاق والألفاظ الحوشية بلا خلاف
ومنهم : السميدع الفاضل المولوي : علي عباس الجرياكوثي - حماه الله تعالى - له : ( ديوان الشعر ) ومكاتيب وتقاريظ
ومنهم : الشيخ الفاضل : فيض الحسن السهارنبوري - سلمه الله تعالى - وله قصائد بليغة وأشعار لطيفة لم يتفق مثلها لمعاصريه ولهذين الأخيرين كتابة إلينا ونظم في مدح كتبنا قد طبع بعضها
ومنهم : أخي من أبي وأمي السيد السند : أحمد حسن القنوجي المتخلص : بالعرشي وبعض قصائده يربو على كلام الأساتذة لا سيما الفارسية منها

(1/346)


وأما هذا الفقير ليس من هذا العلم في ورد ولا صدر ولا نخل بواديه ولا سدر وهذا الذي نراه من آثاره الباقية في العربية والفارسية وما ذكره في ( الإتحاف ) له فإنما هو طل من وابل هؤلاء الأدباء وفيض من ساحل أولئك الكملاء النبلاء فإنه قد صرف برهة من الزمان ( 1 / 348 ) في تتبع قالهم وقيلهم واتبع آثارهم في ذلك ومشى على سبيلهم ولنعم ما قيل :
فهذا الشذا آثار رفقته معي ... ولست بورد إنما أنا تربه

(1/347)


ثم اعلم : أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان ثمرته وهي : الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب العرباء ومناحي الأدباء القدماء فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة : من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة
والمقصود بذلك كله : أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه

(1/348)


ثم إنهم إذا حدوا هذا الفن قالوا : هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون : من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي : القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم ( 1 / 349 ) بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفتها ليكون قائما على فهمها
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم : أن أصول هذا الفن وأركانه : أربعة دواوين وهي : ( أدب الكاتب ) لابن قتيبة وكتاب : ( الكامل ) للمبرد وكتاب : ( البيان والتبيين ) للجاحظ وكتاب : ( النوادر ) لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها وكتب المحدثين في ذلك كثيرة

(1/348)


وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة
وقد ألف القاضي : أبو الفرج الأصبهاني - وهو ما هو - كتابه في ( الأغاني ) جمع فيه : أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من : فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها - والله الهادي للصواب

(1/349)


هذا آخر ما نقلناه من كتاب ( عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر ) وقد نقله أيضا صاحب ( كشف الظنون ) لكن بالتلخيص المخل والاختصار الممل فلم أعتمد عليه وأخذت من حيث أخذ مع زيادات زدناها في ( 1 / 350 ) مواضع شتى من كتب أخرى حرصا على الجمع وطمعا في تمام الفائدة
ولا غرو إن كان قد وقع بعض تكرار في غير موضع من هذه المطالب بوجوه تظهر عليك عند التأمل فيما لديك - وبالله التوفيق - . ( 1 / 351 )

(1/349)


مطلب : في تعيين العلم الذي هو : فرض عين على كل مكلف أعني : الذي يتضمنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( طلب العلم : فريضة على كل مسلم )

(1/351)


اعلم : أن للعلماء اختلافا عظيما في تعيين ذلك العلم وهو أكثر من عشرين قولا وحاصله : أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده
قال المفسرون والمحدثون : هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى سائر العلوم وهو الحق الذي لا محيد عنه ولا مصير إلا إليه وعليه جمهور المحققين من السلف والخلف بلا خلاف بينهم
وقال الفقهاء : هو العلم بالحلال والحرام ويسمى : بعلم الفقه وهذا يندرج في الأول - كما هو الظاهر -
وقال المتكلمون : هو العلم الذي يدرك به التوحيد الذي هو أساس الشريعة ويسمى : بعلم الكلام وهذا أيضا داخل في الأول لأن مسائل التوحيد مبينة فيهما بيانا شافيا وليس وراء بيان الله ورسوله بيان
وأما الكلام الذي اختص به المتكلمون وخلطوا فيه المنطق والفلسفة فليس هو من هذا الباب
وقال الصوفية : هو علم القلب ومعرفة الخواطر لأن النية التي هي شرط الأعمال لا تصح إلا بها وهذا شعبة من شعب السنة المطهرة فإن العلم بها عالم به على الوجه الأتم الأكمل . ( 1 / 352 )
وقال أهل الحق : هو علم المكاشفة ولا وجه للتخصيص به ولم يدل عليه نص ولا برهان

(1/351)


وقيل : إنه العلم الذي يشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام على خمس . . . ) الحديث لأنه الفرض على عامة المسلمين وهو اختيار الشيخ : أبي طالب أكملي
وزاد عليه بعضهم : أن وجوب المباني الخمسة إنما هو بقدر الحاجة مثلا : من بلغ ضحوة النهار يجب عليه أن يعرف الله - سبحانه وتعالى - بصفاته استدلالا وأن يتكلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما وإن عاش إلى وقت الظهر يجب عليه أن يتكلم أحكام الطهارة والصلاة وإن عاش إلى رمضان يجب أن يتكلم أحكام الصوم وإن ملك مالا يجب أن يتعلم كيفية الزكاة وإن حصل له استطاعة الحج يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه

(1/352)


هذه هي المذاهب المشهورة في هذا الباب والأول : أولاها فإن هذه كلها تدخل فيه ولا تخرج عنه حتى يحتاج إليه
وزاد في ( كشاف اصطلاحات الفنون ) : قال بعضهم : هو علم العبد بحاله ومقامه من الله - تعالى -
وقيل : بل هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس
وقيل : بل هو علم الباطن
وقال المتصوفة : هو علم التصوف . ( 1 / 353 )
وقيل : هو العلم بما اشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام على خمس . . . ) الحديث وتقدم

(1/352)


والذي ينبغي أن يقطع ما هو مراد به : هو علم بما كلف الله - تعالى - به عباده من : الأحكام الاعتقادية والعملية كذا في ( الإحياء ) للغزالي وأطال في بيان ذلك
وقال في ( السراجية ) : طلب العلم فريضة بقدر ما يحتاج إليه لأمر لا بد منه من : أحكام الوضوء والصلاة وسائر الشرائع ولأمور معاشه وما وراء ذلك ليس بفرض فإن تعلمها فهو الأفضل وإن تركها فلا إثم عليه . انتهى
وهذا بيان علم فرض العين وأما فرض الكفاية : فقد ذكر في ( منتخب الإحياء ) : أن علم الطب في تصحيح الأبدان من فروض الكفاية لكن في ( السراجية ) : يستحب أن يتعلم الرجل من الطب قدر ما يمتنع به عما يضر بدنه وكذا من فروض الكفاية : علم الحساب في الوصايا والمواريث وكذا الفلاحة والحياكة والحجامة والسياسة أما التعمق في الطب فليس بواجب وإن كان فيه زيادة قوة على قدر الكفاية

(1/353)


فهذه العلوم كالفروع فإن الأصل هو : العلم بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأئمة وآثار الصحابة والتعلم بعلم اللغة التي هي : آلة لتحصيل العلم بالشرعيات وكذا العلم بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص مما في : علم الفقه وعلم القراءة ( 1 / 354 ) ومخارج الحروف والعلم بالأخبار وتفاصيلها والآثار وأسامي رجالها ورواتها ومعرفة المسند والمرسل والقوي والضعيف منها كلها : من فروض الكفاية وكذا معرفة الأحكام لقطع الخصومات وسياسة الولاة
وهذه العلوم إنما تتعلق بالآخرة لأنها سبب استقامة الدنيا وفي استقامتها استقامتها فكان هذا علم الدنيا بواسطة صلاح الدنيا بخلاف علم الأصول : من التوحيد وصفات الباري وهكذا علم الفتوى من فروض الكفاية

(1/353)


أما العلم بالعبادات والطاعات ومعرفة الحلال والحرام فإن أصل فوق العلم بالغرامات والحدود والحيل وأما علم المعاملة : فهو على المؤمن المتقي كالزهد والتقوى والرضاء والشكر والخوف والمنة لله - تعالى - في جميع أحواله والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق والإخلاص فهذه علوم نافعة أيضا
وأما علم المكاشفة : فلا يحصل بالتعليم والتعلم وإنما يحصل بالمجاهدة التي جعلها الله - تعالى - مقدمة للهداية قال الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
وأما علم الكلام : فالسلف لم يشتغلوا به حتى إن من اشتغل به نسب إلى : البدعة والاشتغال بما لا يعنيه

(1/354)


هذا كله خلاصة ما في ( التاتارخانية ) وألحق الغزالي الفقه والفقهاء بعلم الدنيا وعلمائها قال : ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ثم سوى بين الفقه والطب إذ الطب أيضا يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد لكن قال : إن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه ثم ذكرها وأطال في بيان علم المكاشفة ( 1 / 355 ) وعلم المعاملة ثم ذكر الفلسفة وقال : إنها ليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء : أما الهندسة والحساب : فهما مباحان وأما المنطق والطبيعيات : فبعضها : مخالف للشرع والدين الحق فهو جهل وليس بعلم وبعضها ليس كذلك وأطال الكلام في تفصيله
وقال في خزانة الرواية في ( السراجية ) : تعلم الكلام والمناظرة فيه قدر ما يحتاج إليه : غير منهي قال الشيخ : شهاب الدين السهروردي في ( أعلام الهدى ) : إن عدم الاشتغال بعلم الكلام إنما هو في زمان قرب العهد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا مستغنين عن ذلك بسبب بركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزول الوحي وقلة الوقائع والفتن بين المسلمين وصرح به السيد الشريف والعلامة التفتازاني وغيرهما من المحققين المشهورين بالعدالة : أن الاشتغال بالكلام في زماننا من فرائض الكفاية وقال التفتازاني : إنما المنع لقاصر النظر والمتعصب في الدين . انتهى

(1/354)


وهذا ذكر العلوم المحمودة وأما العلم المباح : فمنه : العلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراها وأما المذمومة : ففي ( التاتارخانية ) : وأما علم السحر والنيرنجات والطلسمات وعلم النجوم ونحوها فهي : علوم غير محمودة وأما علم الفلسفة والهندسة : فبعيد عن علم الآخرة استخرج ذلك الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة . ( 1 / 356 )
وفي ( فتح المبين شرح الأربعين ) للحليمي وغيره : صرحوا بجواز تعلم الفلسفة وفروعها من : الإلهي والطبيعي والرياضي ليرد على أهلها ويدفع شرهم عن الشريعة فيكون من باب إعداد العدة
وفي ( السراجية ) : تعلم النجوم قدر ما تعرف به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به وفي ( التتارخانية ) : وما سواه حرام
وفي ( الخلاصة والزيادة ) : حرام
وفي ( المدارك ) في تفسير قوله تعالى : ( فنظر نظرة في النجوم فقال : إني سقيم ) قالوا : علم النجوم كان حقا ثم نسخ الاشتغال بمعرفته . انتهى
وفي ( البيضاوي ) : أي : فرأى مواقعها واتصالاتها أو في علمها أو في كتابها ولا منع منه . انتهى
وفي ( التفسير الكبير ) في هذا المقام : إن قيل النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم - عليه السلام - ؟ قلنا : لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بمعانيها : حرام وذلك لأن من اعتقد أن الله - تعالى - خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه : ليس بباطل . انتهى

(1/355)


فعلم من هذا : أن حرمة تعلم علم النجوم مختلف فيها
وأما أخبار المنجمين : فقد ذكر في ( المدارك ) في تفسير : ( إن الله عنده علم الساعة . . . الآية ) : وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث أو الموت فإنه يقول بالقياس والنظر في الطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا على أنه مجرد الظن والظن غير العلم . ( 1 / 357 )
وفي ( الكشف ) : مقالات المنجمة على طريقتين : من الناس من يكذبهم واستدل عليه بقوله تعالى : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) وبقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من أتى كاهنا أو عريفا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )
ومنهم : من قال بالتفصيل فإن المنجم لا يخلو من أن يقول : إن هذه الكواكب مخلوقات أو غير مخلوقات الثاني : كفر صريح وأما الأول : فإما أن يقول : إنها فاعلات مختارات بنفسها فذلك أيضا : كفر صريح وإن قال : إنها مخلوقات مسخرات أدلة على بعض الأشياء ولها أثر بخلق الله تعالى فيها : كالنور والنار ونحوهما وأنهم استخرجوا ذلك بالحساب فذلك لا يكون غيبا لأن الغيب ما لا يدل عليه بالحساب وأما الآية والحديث : فهما محمولان على علم الغيب وهذا ليس بغيب

(1/356)


وأما المنطق : فقد ذكر ابن حجر المكي في ( شرح الأربعين ) للنووي : أن من آلات العلم الشرعي من : فقه وحديث وتفسير : المنطق الذي بأيدي الناس اليوم فإنه علم مفيد لا محذور فيه بوجه إنما المحذور فيما كان يخلط به شيء من الفلسفيات المنابذة للشرائع ولأنه كالعلوم العربية في أنه : من مواد أصول الفقه ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصوره والتصديق بأحواله إثباتا ونفيا والمنطق : هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق فوجب كونه علما شرعيا إذ هو ما صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود : كعلم الكلام أو توقف كمال : كعلم العربية والمنطق
ولذا قال الغزالي : لا ثقة بفقه من لا يتمنطق أي : من لا قواعد المنطق مركوزة بالطبع فيه كالمجتهدين في العصر الأول أو بالتعلم
وممن أثنى على المنطق : الفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب وشراح ( 1 / 358 ) كتابه وغيرهم من الأئمة والقول بتحريمه : محمول على ما كان مخلوطا بالفلسفة . انتهى كلام ( كشاف اصطلاحات الفنون ) مع تصرف فيه ببعض الزيادة وسيأتي حكم علم المنطق وما هو الحق فيه تحت ( علم الميزان ) من باب الميم في القسم الثاني من هذا الكتاب

(1/357)


وكذا حكم علم الكلام : ذكرته في كتابي ( قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل )
وللسيد الإمام المجتهد : محمد بن إبراهيم الوزير اليماني - رحمه الله - كتب ورسائل مستقلة في هذا الباب منها : كتابه المسمى : ( بالروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) فإن شئت الزيادة فعليك بها
وأما ما ذكره صاحب ( كشاف الاصطلاحات ) في هذا المقام من حكم العلوم - كما تقدم آنفا - فما هو إلا أقوال أهل العلم المحضة وآراؤهم الساذجة التي لا إثارة عليها من علم وهذه الحكايات والمقالات مثلها كثير الوجود في كتب الفقهاء ولكن من لا يتبع إلا ما قرره الدليل لا يقبل ذلك أبد الآبدين ولا يتوجه إلى تلك الأقوال الخالية عن الاستناد إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة التي لا علم غيرهما أو ما كان له دخل في فهمهما وكان كالآلات لهما

(1/358)


وقد ذكرنا في هذا الكتاب تحت بعض العلوم حكمه فارجع إليه يتضح لك ما هو الحق في المسألة وليس هذا الكتاب مما ينبغي فيه ذكر المسائل والأدلة عليها على وجه التفصيل فإنه مدونة في دواوين الإسلام وكتب الأئمة وقد قضوا منها الوطر وميزوا فيها الحق عن الباطل والخطأ من الصواب
انظر مؤلفات شيخ الإسلام : ابن تيمية الحراني وتلميذه : الإمام الرباني الحافظ : ابن القيم ( كإغاثة اللهفان عن مكائد الشيطان ) وغيره ومؤلفات السيد : ابن الوزير والعلامة : محمد بن إسماعيل الأمير اليماني وتصانيف ( 1 / 359 ) قاضي القضاة المجتهد المطلق : محمد بن علي الشوكاني وأمثال هؤلاء واعتن بها اعتناء لا يفتر طبعك منها واشدد يديك عليها شدا بالغا مبلغ النهاية تفز بسعادة الدارين وخيري الكونين - إن شاء الله تعالى -
وسيتضح عليك عند مطالعتها : أن أي علم أحق بالتحصيل والاكتساب وأشدها دخلا في الإنقاذ من المهلكات في الدنيا والآخرة وإن لم ينصرك الدهر على الاطلاع عليها فاجهد في تحصيل مختصرات هؤلاء البررة الخيرة ( كأدب الطلب ) و ( القول المفيد ) و ( إرشاد النقاد ) ونحوها فإن قصرت يدك عن هذه أيضا فارجع إلى الملخصات التي لخصناها من مؤلفات تلك العصابة الكرام وألفناها في تدوين هذا المرام وقد طبع أكثرها في هذه الأيام وانتشرت في الآفاق من العرب والعجم فإنها تشتمل على فوائد نفيسة وحقائق صحيحة وعوائد نافعة ومقاصد صالحة وحقوق ثابتة بالكتاب والسنة وهي تكفي المقلد وتغني المجتهد وتشفي العليل وتروي الغليل وتسلي الفؤاد وتوصل المريد إلى المراد

(1/358)


ويالله العجب من قوم بسطوا القول في بيان علوم الفرض والكفاية والمحمودة منها والمذمومة وجاؤوا في تبيينها بزبالة أفكارهم ونخالة أذهانهم من غير حجة نيرة وصعدوا في تعيينها تارة إلى السماء ونزلوا أخرى إلى الأرض ولم يرفعوا رؤوسهم إلى ما جاء عن سيد العلماء وسند الفضلاء - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك ولم يمعنوا أنظارهم فيه وهو : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( العلم ثلاثة : آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل ) . رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - واللام : في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( العلم ) قيل : للعهد ( 1 / 360 ) أي : علم الدين وقيل : للاستغراق كما في قوله - تعالى - : ( الحمد لله ) وهو الراجح
والمراد بالآية : الكتاب العزيز وبالسنة : علم الحديث الشريف وبالفريضة : علم الميراث وهو : جزء من علم الكتاب والسنة وما سوى هذين الأصلين : فضل أي : زائد لا ضرورة فيه كائنا ما كان ولا سيما العلوم التي جاءت من كفرة اليونان وليست مبنية على أساس شرعي ولا على عرفان بل حدثت هي في الإسلام بعد انقراض القرون الثلاثة المشهود لها بالخير فإنها ليس فيها من الخير شيء بل كلها كما قيل : علم لا ينفع وجهل لا يضر

(1/359)


ومن تمسك : بأذيال الكتاب الإلهي والحديث النبوي فقد استغنى عن جميع العلوم والفنون ( وكل الصيد في جوف الفرا ) ومن لم يستغن بما جاء عن الله - تعالى - ورسوله ولم يره كافيا وافيا لأمور الدنيا والآخرة فلا أغناه الله ولا حياه
والمعرض عن هذين العلمين الكريمين والأصلين الشريفين الجامعين للعلوم النافعة في المعاش والمعاد إلى الخوض في الفنون الأجنبية والاشتغال بها ليلا ونهارا والاستغراق فيها بأوقاته كلها : ليس أهلا للتخاطب ولا محلا للالتفات ولا موفقا للخير ولا موقعا للنجاة
وفي حديث معاوية - رضي الله عنه - قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات . رواه أبو داود
وهذه الفنون غالبها من هذا القبيل ونهى أيضا عن النظر في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء - عليهم السلام - من قبله فكيف بالنظر في هذه الجهالات والخرافات التي سموها : علوما وفنونا وجعلوها من مواسم الفضيلة وربطوا بها كمال الشخص وحصروه في اكتسابها الذي لا ينبغي التعبير عنه إلا بإضاعة الأوقات وإهلاك النفس الناطقة بإلقائها في الموبقات - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين المتبعين عما يكره ولا يرضاه وصاننا وإياهم عما يضر في دين الإله إنه قريب مجيب وبالله التوفيق وهو المستعان - . ( 1 / 361 )

(1/359)


مطلب : في طبقات أهل العلم

(1/361)


من كتاب ( أدب الطلب ) لشيخنا وبركتنا الإمام المجتهد الرباني : محمد بن علي الشوكاني قاضي قضاة القطر اليماني - رحمه الله - قال - رضي الله عنه - :
أول : ما على طالب العلم : أن يحسن نيته ويصلح طويته ويتصور أن هذا العمل الذي قصد له والأمر الذي أراده هو الشريعة التي شرعها الله - سبحانه - لعباده وبعث بها رسله وأنزل بها كتبه ويجرد نفسه عن أن يشوب ذلك بمقصد من مقاصد الدنيا أو يخلطه بما يكدره من الإرادات التي ليست منه هذا على . فرض أن مجرد تشريك العلم مع غيره له حكم هذه المحسوسات وهيهات ذاك فإن من أراد أن يجمع في طلبه بين قصد الدنيا والآخرة فقد أراد الشطط وغلط أقبح الغلط فإن طلب العلم من أشرف أنواع العبادة وأجلها وأعلاها وقد قال - تعالى - : ( واعبدوا الله مخلصين له الدين )
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )

(1/361)


ومن أهم ما يجب على طالب العلم تصوره عند الشروع بل في كل وقت أن يقرر عند نفسه أن هذا العمل هو تحصيل العلم بما شرعه ( 1 / 362 ) الله لعباده والمعرفة لما تعبدهم به في محكم كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -
وإن هذا المطلب : هو سبب تحصيله وذلك سبب الظفر بما عند الله من خير ومثل هذا لا مدخل فيه لعصبية ولا مجال عنده لحمية بل هو شيء تعبدهم الله به ليس لواحد أن يدعي أنه غير متعبد به فضلا أن يرتقي إلى درجة تكليف عباد الله بما يصدر عنه من الرأي فإن هذا أمر لم يكن إلا لله - سبحانه - لا لغيره كائنا من كان ولا ينافي هذا وقوع الخلاف بين أئمة الأصول في إثبات اجتهاد الأنبياء ونفيه فإن الخلاف لفظي عند من أنصف وحقق

(1/361)


وأهم ما يحصل لك : أن تكون منصفا غير متعصب في شيء من هذه الشريعة فلا تمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام بأن تجعل رأيه واجتهاده حجة عليك وعلى سائر العباد فإنه وإن فضلك بنوع من العلم وفاق عليك بمدرك من الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد به بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق وعلو الدرجة اللائقة به في العلم معتقدا أن ذلك هو الذي لا يجب عليه غيره ولا يلزمه سواه وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك أو خطأه خطأ عليك بل عليك بالاجتهاد والجد حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه والموطن الذي هو أول الفكر وآخر العمل فإذا وطنت نفسك على الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ولا لعالم من العلماء فقد فزت بأعظم فوائد العلم وربحت بأنفس فرائده

(1/362)


ومن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل ( 1 / 363 ) لا يعد بالنسبة إليه كثير شيء وإن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله كائنا ما كان وأما إذا أخذ العلم من غير أهله ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها وأعرض عن كلام أهلها فإنه يخبط ويخلط ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذلك
وفي علماء المذاهب الأربعة : من هو أوسع علما وأعلى قدرا من إمامه الذي ينتمي إليه ويقف عند رأيه ويقتدي بما قاله في عبادته ومعاملته وفي فتاواه وقضائه ويسري ذلك إلى مصنفاته فيرجح فيها ما يرجحه إمامه وإن كان دليله ضعيفا أو موضوعا أو لا دليل بيده أصلا بل مجرد محض الرأي ويدفع من الأدلة المخالفة له ما هو أوضح من شمس النهار تارة : بالتأويل المتعسف وحينا : بالزور الملفف وبالجملة فما صنع هذا لنفسه بذلك التصنيف إلا ما هو خزي له في الدنيا والآخرة ووبال عليه في الآجلة والعاجلة

(1/362)


الثاني : أن للطلبة : ثلاث طبقات
الأولى : من يقصد البلوغ إلى مرتبة في الطلب لعلم الشرع ومقدماته وترتفع همته فيكون عند تحصيلها إماما مرجوعا إليه مستفادا منه مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا قاضيا
والثانية : من تقصر همته عن هذه الغاية فتكون غاية مقصده ومعظم مطلبه ونهاية رغبته أن يعرف ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه ولا يحتاج إلى غيره من دون أن يتصور البلوغ إلى رتبة أهل الطبقة الأولى . ( 1 / 364 )
والثالثة : من يكون نهاية مرادهم أمرا دون أهل الطبقة الثانية وهو إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه من دون قصد منهم إلى الاستقلال
وثم طبقة رابعة : يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع فكانت الطبقات : أربعا

(1/363)


وينبغي لمن كان صادق الرغبة قوي الفهم ثاقب النظر عزيز النفس شهم الطبع عالي الهمة سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه بالدون ولا يقنع بما دون الغاية ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من : جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة
وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال قريبة الاضمحلال فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلبا وأعلى مكسبا وأرفع مرادا وأجل خطرا وأعظم قدرا وأعود نفعا وأتم فائدة ؟ وهي المطالب الدينية مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة وأجلها وأكلمها في حصول المقصود وهو الخير الأخروي

(1/364)


أما الطبقة الأولى :

(1/364)


فينبغي لمن تصور الوصول إليها أن يشرع بعلم النحو مبتدئا بالمختصرات كمنظومة الحريري المسماة ( 1 / 365 ) : ( بالملحة ) وشرحها فإذا فهم ذلك وأتقنه انتقل إلى ( كافية ابن الحاجب ) وشروحها و ( مغني اللبيب ) وشروحه
هذا باعتبار الديار اليمنية فإذا كان ناشئا في أرض يشتغلون فيها بغير هذه فعليه بما اشتغل به مشايخ تلك الأرض
ولا يستغني طالب التبحر عن إتقان ما اشتمل عليه ( شرح الرضي على الكافية ) من المباحث اللطيفة والفوائد الشريفة وكذلك ما في ( المغني ) من المسائل الغريبة ويكون اشتغاله بسماع الشروح بعد حفظ هذه المختصرات حفظا يمليه عن ظهر قلبه ويبديه من طرف لسانه وأقل الأحوال : أن يحفظ مختصرا منها هو أكثرها مسائل وأنفعها فوائد ولا يفوته النظر في مثل ( ألفية ابن مالك ) وشروحها و ( التسهيل ) وشروحه و ( المفصل ) للزمخشري و ( الكتاب ) لسيبويه فإنه يجد في هذه الكتب من : لطائف المسائل النحوية ودقائق المباحث العربية ما لم يكن قد وجده في تلك . ( 1 / 366 )

(1/364)


وينبغي للطالب أن يطلع على مختصر من مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه ويكفيه في ذلك مثل : ( إيساغوجي ) أو ( تهذيب السعد ) وشرح من شروحهما وليس المراد هنا إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالا لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من : نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكا على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه كما يقع كثيرا في الحدود والرسوم فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة
فإذا كان الطالب عاطلا عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي

(1/366)


ثم بعد ثبوت الملكة له في النحو وإن لم يكن قد فرغ من سماع ما سميناه يشرع في الاشتغال بكتب علم الصرف ك : ( الشافية ) وشروحها و ( الزنجانية ) و ( لامية الأفعال ) ولا يكون عالما بعلم الصرف كما ينبغي إلا أن تكون ( الشافية ) وشروحها من محفوظاته لانتشار مسائل فن الصرف وطول ذيل قواعده وتشعب أبوابه ولا يفوته الاشتغال ( بشرح الرضي على الشافية ) بعد أن يشتغل بما هو أخصر منه من شروحها ( كشرح الجاربردي ) و ( لطف الله الغياث ) فإن فيه من الفوائد الصرفية مالا يوجد في غيره

(1/366)


ثم ينبغي له بعد ثبوت الملكة له نحوا وصرفا وإن لم يكن قد فرغ من سماع كتب الفنين أن يشرع في علم المعاني والبيان فيبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات الفن يشتمل على مهمات مسائله ك : ( التخليص ) و ( شرح السعد المختصر ) وما عليه من الحواشي و ( شرحه المطول ) وحواشيه فإنه إذا حفظ هذا المختصر وحقق الشرحين المذكورين ( 1 / 367 ) وهوامشهما بلغ إلى مكان من الفن مكين فقد أحاطت هذه الجملة بما في مؤلفات المتقدمين من شراح ( المفتاح ) ونحوه وإذا ظفر بشيء من مؤلفات : عبد القاهر الجرجاني أو السكاكي في هذا الفن فليمعن النظر فيه فإنه يقف في تلك المؤلفات على فوائد
وينبغي له حال الاشتغال بهذا الفن أن يشتغل بفنون مختصرة قريبة المأخذ قليلة المباحث كفن الوضع وفن المناظرة ويكفيه في الأول : ( رسالة الوضع ) وشرح من شروحها وفي الثاني : ( آداب البحث العضدية ) وشرح من شروحها

(1/366)


ثم ينبغي له أن يكب على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان مفرداتها ك : ( الصحاح ) و ( القاموس ) و ( شمس العلوم ) و ( ضياء الحلوم ) و ( ديوان الأدب ) ونحو ذلك من المؤلفات المشتملة على بيان اللغة العربية عموما أو خصوصا كالمؤلفات المختصة بغريب القرآن والحديث
ثم يشتغل بعد هذا بعلم المنطق فيحفظ مختصرا منه ك : ( التهذيب ) أو ( الشمسية ) ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن فإن العلم ( 1 / 368 ) بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في : الأصول والبيان والنحو

(1/367)


ثم يشتغل بفن أصول الفقه بعد أن يحفظ مختصرا من مختصراته المشتملة على مهمات مسائله ك : ( مختصر المنتهى ) أو ( جمع الجوامع ) أو ( الغاية ) ثم يشتغل بسماع شروح هذه المختصرات ك : ( شرح العضد على المختصر ) و ( شرح المحلي على جمع الجوامع ) و ( شرح ابن الإمام على الغاية )
وينبغي له أن يطول الباع في هذا الفن ويطلع على مؤلفات أهل المذاهب المختلفة ك : ( التنقيح ) و ( التوضيح ) و ( التلويح ) و ( المنار ) و ( تحرير ابن الهمام ) وليس في هذه المؤلفات مثل ( التحرير ) وشرحه ومن أنفع ما يستعان به على بلوغ درجة التحقيق في هذا الفن : الإكباب على الحواشي التي ألفها المحققون على ( الشرح العضدي ) وعلى ( شرح الجمع )

(1/368)


ثم ينبغي له بعد إتقان فن أصول الفقه وإن لم يكن قد فرغ من سماع مطولاته أن يشتغل بفن الكلام المسمى : بأصول الدين ويأخذ من مؤلفات الأشعرية بنصيب ومن مؤلفات المعتزلة بنصيب ومن مؤلفات الماتريدية بنصيب ومن مؤلفات المتوسطين بين هذه الفرق : كالزيدية بنصيب فإنه إذا فعل هكذا عرف الاعتقادات كما ينبغي وأنصف ( 1 / 369 ) كل فرقة بالترجيح والترجيح على بصيرة وقابل كل قول بالقبول أو الرد على حقيقة

(1/368)


وإني أقول بعد هذا : إنه لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة وإمرار الصفات كما جاءت ورد علم المشابه إلى الله - سبحانه - وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل التي لا تعقل ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوى والافتراء على العقل بما يطابق الهوى ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الكتاب والسنة فإنها حينئذ حديث خرافة ولعبة لاعب

(1/369)


ثم بعد إحراز هذه العلوم يشتغل بعلم التفسير فيأخذ عن الشيوخ ما يحتاج مثله إلى الأخذ ك : ( الكشاف ) ويكب على كتب التفسير على اختلاف أنواعها وتباين مقاديرها ويعتمد في تفسير كلام الله - سبحانه - على ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن الصحابة فإنهم أهل اللسان العربي فما وجده من تفاسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المعتبرة كالأمهات وما يلتحق بها قدمه على غيره وأجمع مؤلف في ذلك ( الدر المنثور ) للسيوطي وينبغي له أن يطول الباع في هذا العلم ويطالع مطولات التفسير ك : ( مفاتيح الغيب ) للرازي ولا يكتفي على تفسير بعض الآيات مسميا لها بآيات الأحكام كما وقع للموزعي وصاحب ( الثمرات ) ويقدم على قراءة التفاسير : الاطلاع على علوم لها مدخل في التلاوة وسائر العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز وما ( 1 / 370 ) أنفع ( الإتقان ) للسيوطي في مثل هذه الأمور ثم لا يهمل النظر في كتب القراآت وما يتعلق بها ك : ( الشاطبية ) وشروحها و ( الطيبية ) وشروحها

(1/369)


وأعظم العلوم فائدة وأكثرها نفعا وأوسعها قدرا وأجلها خطرا : علم السنة المطهرة فإنه الذي تكفل ببيان الكتاب العزيز ثم استقل بما لا ينحصر من الأحكام فيقبل على سماع الكتب ك : ( جامع الأصول و ( المشارق ) و ( كنز العمال ) و ( المنتقى ) لجد ابن تيمية - رحمه الله - و ( بلوغ المرام ) لابن حجر و ( العمدة ) ثم يسمع الأمهات الست و ( مسند أحمد ) و ( صحيح ابن خزيمة ) و ( ابن حبان ) و ( ابن الجارود ) و ( سنن الدار قطني ) و ( البيهقي ) وما بلغت إليه قدرته ووجد في أهل عصره شيوخه

(1/370)


ثم يشتغل بشروح هذه المؤلفات فيسمع منها ما تيسر له ويطالع ما تيسر له سماعه ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل بل يتوسع في هذا العلم بكل ممكن وأنفع ماينتفع به مثل : ( النبلاء ) و ( تاريخ الإسلام ) و ( تذكرة الحفاظ ) و ( الميزان ) وهذا بعد أن يشتغل بشيء من علم اصطلاح أهل الحديث كمؤلفات ابن الصلاح و ( الألفية ) للعراقي وشروحها

(1/370)


وينبغي أن يشتغل بمطالعة الكتب المصنفة في تاريخ الدول وحوادث العالم في كل سنة كما فعله الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله فإن للاطلاع على ذلك فائدة جليلة
فإذا أحاط الطالب بما ذكرناه من العلوم فقد صار حينئذ في الطبقة ( 1 / 371 ) العالية من طبقات المجتهدين وكمل له جميع أنواع علوم الدين وصار قادرا على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء وكيف شاء ولكنه ينبغي له : أن يطلع على علوم أخر ليكمل له ما قد حازه من الشرف ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ الغاية فمن ذلك : علم الفقه وأقل الأحوال : أن يعرف مختصرا في فقه كل مذهب من المذاهب المشهورة فإنه قد يحتاج إليها المجتهد لإفادة المتمذهبين السائلين عن مذاهب أئمتهم وقد يحتاج إليها لدفع من يشنع عليه في اجتهاده كما يقع ذلك كثيرا من أهل التعصب والتقصير فإنه إذا قال له : قد قال بهذه المقالة العالم الفلاني أو عمل عليها أهل المذهب الفلاني كان ذلك دافعا لصولته كاسرا لسورته وما أنفع الاطلاع على المؤلفات البسيطة في حكاية مذاهب السلف وأهل المذاهب وحكاية أدلتهم وما دار بين المتناظرين منهم إما تحقيقا أو فرضا كمؤلفات ابن المنذر وابن قدامة وابن حزم وابن تيمية ومن سلك مسالكهم فإن تلك المؤلفات هي مطارح أنظار المحققين ومطامح أفكار المجتهدين

(1/370)


ومما يزيد من آراء هذه الطبقة العلية علوا ويفيده قوة إدراك وصحة فهم وسيلان ذهن : الاطلاع على أشعار فحول الشعراء ومجيديهم مع ما يحصل له بذلك من الاقتدار على النظم والتصرف في فنونه فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصا في كماله . ( 1 / 372 )
وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم بأفصح لسان وأبين بيان لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطا عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ وما أقبح العالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علوم من علومه ويتضاحك منه من له إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام وأنفع ما ينتفع به في ذلك : ( منظومة الجزار ) وشرحها و ( المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) لابن الأثير ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح ويزيد القلب سرورا والنفس انشراحا كالعلم : الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب

(1/371)


وبالجملة : فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات فإنها شعبة من التقليد وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك واختر لنفسك ما يحلو وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة فإنه ربما يتزلزل وتخور قوته
فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت واستكثر من الفنون ( 1 / 373 ) ما أردت وتبحر في الدقائق ما استطعت وحارب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل :
أتانا أن سهلا ذم جهلا ... علوما ليس يعرفهن سهل
علوما لو دراها ما قلاها ... ولكن الرضا بالجهل سهل
وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه
ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت ومن لا اشتغال له بالدليل

(1/372)


وأما الأهلية التي يكون صاحبها محلا لوضع العلم فيه وتعليمه إياه فهي : شرف المحتد وكرم النجار وظهور الحسب أو كون في سلف الطالب من له تعلق : بالعلم والصلاح ومعالم الدين أو بمعالي الأمور ورفيع الرتب فإن هذا أمر يجذب بطبع صاحبه إلى معالي الأمور ويحول بينه وبين الرذائل
وأما من كان سقط المتاع وسفساف أهل المهن : كأهل الحياكة والعصارة والقصابة ونحو ذلك من المهن الدنية والحرف الوضيعة فإن نفسه لا تفارق الدناءة ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في ( 1 / 374 ) أمور منها : العجب والزهو والخيلاء والتطاول على الناس ويعظم به الضرر على أهل العلم فضلا عن غيرهم ممن هو دونهم

(1/373)


وأما من كان أهلا للعلم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفا إلى شرفه ويكتسب به من حسن السمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد علمه علوا وعرفانه تعظيما
وبين هاتين الطائفتين : طائفة ثالثة ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء جعلوا العلم مكسبا من مكاسب الدنيا ومعيشة من معايش أهلها لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم كما يشاهد في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة أو ما هو شبيه بهذه الأمور فهذا ليس من أهل العلم في ورد ولا صدر ولا ينبغي أن يكون معدودا منهم ولا فائدة في تعليمه راجعة إلى الدين قط
والذي ينبغي لطالب العلم أن يطلبه كما ينبغي ويتعلمه على الوجه الذي يريده الله منه معتقدا أنه أعلى أمور الدين والدنيا راجيا أن ينفع به عباد الله بعد الوصول إلى الفائدة منه
هذا ما ينبغي لأهل الطبقة الأولى

(1/374)


وأما أهل الطبقة الثانية :

(1/374)


وهو : من يطلب ما يصدق عليه مسمى الاجتهاد ويسوغ به العمل بأدلة الشرع فهو يكتفي بأن يأخذ من كل فن من فنون الاجتهاد بنصيب يعلم به ذلك الفن علما يستغني به عند الحاجة إليه أو يهتدي به إلى المكان الذي فيه ذلك البحث على وجه يفهم به ما يقف عليه منه فيشرع بتعلم علم النحو حتى تثبت له فيه الملكة التي يقتدر بها على : معرفة أحوال أواخر الكلم ( 1 / 375 ) إعرابا وبناء وأقل ما يحصل له ذلك بحفظ مختصر من المختصرات المشتملة على مهمات مسائل النحو والمتضمنة لتقرير مباحثه على الوجه المعتبر ك : ( الكافية ) وشرح من شروحها وأحسنها بالنسبة إلى الشروح المختصرة : ( شرح الجامي ) ثم يحفظ مختصرا في الصرف ك : ( الشافية ) وشرحها للجاربردي ثم يشتغل بحفظ مختصر من مختصرات علم المعاني والبيان ك : ( التلخيص ) للقزويني و ( شرح السعد المختصر )

(1/374)


وأنفع ما ينتفع به الطالب ( الغاية ) للحسين بن القاسم وشرحها له ثم يشتغل بقراءة تفسير من التفاسير المختصرة ك : ( تفسير البيضاوي ) مع مراجعة ما يمكنه مراجعته من التفاسير ثم يشتغل بسماع مالا بد من سماعه من : كتب الحديث وهي : الست الأمهات فإن عجز عن ذلك اشتغل بسماع ما هو مشتمل على ما فيها من المتون ك : ( جامع الأصول ) ثم لا يدع البحث عن ما هو موجود من أحاديث الأحكام في غيرها بحسب ما تبلغ إليه طاقته ويبحث عن الأحاديث الخارجة عن الصحيح في المواطن التي هي مظنة للكلام عليها من : الشروح والتخريجات ويكون مع هذا عنده ممارسة لعلم اللغة على وجه يهتدي به إلى البحث عن الألفاظ العربية واستخراجها من مواطنها وعنده من علم اصطلاح الحديث وعلم الجرح والتعديل ما يهتدي به إلى معرفة ما يتكلم به الحافظ على أسانيد الأحاديث ومتونها

(1/375)


وأما أهل الطبقة الثالثة :

(1/375)


وهم الذين يرغبون إلى إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع ( 1 / 376 ) وعدم تحريفه وتصحيفه وتغيير إعرابه من دون قصد منهم إلى الاستقلال بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض والاحتياج إلى الترجيح فينبغي له تعلم شيء من علم الإعراب حتى يعرف به إعراب أواخر الكلم ويكفيه في مثل ذلك حفظ : ( منظومة الحريري ) وقراءة شروحها على أهل الفن وتدربه في إعراب ما يطلع عليه من الكلام المنظوم والمنثور ويحفي السؤال عن إعراب ما أشكل عليه حتى تثبت له بمجموع ذلك ملكة يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء ثم يتعلم اصطلاح علم الحديث ويكفيه في مثل ذلك مثل : ( النخبة ) وشرحها ثم بعدها يكب على سماع المختصرات في الحديث مثل : ( بلوغ المرام ) و ( العمدة ) و ( المنتقى ) وإن تمكن من سماع ( جامع الأصول ) أو شيء من مختصراته فعل فإذا أشكل عليه معنى حديث نظر في الشروح أو في كتب اللغة وإن أشكل عليه الراجح من المتعارضات أو التبس عليه : هل الحديث مما يجوز العمل به أم لا ؟ سأل علماء هذا الشأن الموثوق بعرفانهم وإنصافهم ويعمل على ما يرشدونه إليه استفتاء وعملا بالدليل لا تقليدا وعملا بالرأي ويشتغل بسماع تفسير من التفاسير التي لا تحتاج إلى تحقيق وتدقيق ك : ( تفسير البغوي ) و ( تفسير السيوطي ) المسمى : ( بالدر المنثور ) وإذا أشكل عليه بحث من المباحث أو تعارضت عليه التفاسير ولم يهتد إلى الراجح أو التبس عليه أمر يرجع إلى تصحيح شيء مما يجده في كتب التفسير رجع إلى أهل العلم بذلك الفن سائلا لهم عن الرواية لا عن الرأي

(1/375)


وقد كان من هذه الطبقة : الصحابة والتابعون وتابعوهم فإنهم كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم فيروون لهم في ذلك ما جاء عن ( 1 / 377 ) الله - تعالى - وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيعملون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي كما يعرف ذلك من يعرفه

(1/376)


وأما الطبقة الرابعة :
الذين يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع وذلك كمن يريد أن يكون شاعرا أو منشئا أو حاسبا فإنه ينبغي له أن يتعلم ما يتوصل به إلى ذلك المطلب فمن أراد أن يكون شاعرا تعلم من علم النحو والمعاني والبيان ما يفهم به مقاصد أهل هذه العلوم ويستكثر من الاطلاع على علم البديع والإحاطة بأنواعه والبحث عن نكته وأسراره وعلم العروض والقوافي ويمارس أشعار العرب ويحفظ ما يمكنه حفظه منها ثم أشعار أهل الطبقة الأولى من أهل الإسلام كجرير والفرزدق وطبقتهما ثم مثل أشعار بشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد وأعيان من جاء بعدهم كأبي تمام والبحتري والمتنبي ثم أشعار المشهورين بالجودة من أهل العصور المتأخرة ويستعين على فهم ما استصعب عليه بكتب اللغة ويكب على الكتب المشتملة على تراجم أهل الأدب ك : ( يتيمة الدهر ) وذيولها و ( قلائد العقيان ) وما هو على نمطه من مؤلفات أهل الأدب ك : ( الريحانة ) و ( النفحة )

(1/377)


كما يحتاج إلى ما ذكرناه : من أراد أن يكون شاعرا فيحتاج إليه أيضا : من أراد أن يكون منشئا مع احتياجه إلى الاطلاع على مثل : ( المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) لابن الأثير و ( الكامل ) للمبرد و ( الأمالي ) للقالي ومجاميع خطب البلغاء ورسائلهم خصوصا مثل ما هو مدون ( 1 / 378 ) من بلاغات الجاحظ والفاضل والعماد وأمثالهم فإنه ينتفع بذلك أتم انتفاع
ومن أراد أن يكون حاسبا اشتغل بعلم الحساب ومؤلفاته معروفة
وهكذا من أراد أن يطلع على علم الفلسفة فإنه يحتاج إلى معرفة العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي وهكذا علم الهندسة فمن جمع هذه العلوم الأربعة صار فيلسوفا والعلم بالعلوم الفلسفية لا ينافي علم الشرع بل يزيد المتشرع الذي قد رسخت قدمه في علم الشرع غبطة بعلم الشرع ومحبة له لأنه يعلم أنه لا سبيل للوقوف على ما حاول الفلاسفة الوقوف عليه إلا من جهة الشرع وإن كل باب - غير هذا الباب - لا ينتهي بمن دخل إليه إلى غاية وفائدة

(1/377)


ومن كان مريدا لعلم الطب فعليه بمطالعة كتب جالينوس فإنها أنفع شيء في هذا الفن باتفاق من جاء بعده من المشتغلين بهذه الصناعة إلا النادر القليل وقد انتقى منها جماعة من المتأخرين : ستة عشر كتابا وشرحوها شروحا مفيدة فإن تعذر عليه ذلك فأكمل ما وقفت عليه من الكتب الجامعة بين المفردات والمركبات والعلاجات : ( كتاب القانون ) لابن سينا و ( كامل الصناعة ) المشهور ( بالملكي ) لعلي بن العباس ومن أنفع المختصرات : ( الذخيرة ) لثابت بن قرة ومن أنفعها - باعتبار خواص الأدوية المفردة وبعض المركبات - : ( تذكرة الشيخ داود الأنطاكي ) ولو كمل بالمعالجات لكان مغنيا عن غيره ولكنه انقطع بعد أن شرع إلى الكلام على معالجات العلل على حروف أبجد فوصل إلى حرف ( 1 / 379 ) الطاء ثم انقطع الكتاب ومن أنفعها في هذا الفن : ( الموجز ) وشروحه

(1/378)


وبالجملة : فمن كان قاصدا إلى علم من العلوم كان عليه أن يتوصل إليه بالمؤلفات المشهورة بنفع من اشتغل بها المحررة أحسن تحرير المهذبة أبلغ تهذيب وقدمنا في كل فن ما فيه إرشاد إلى أحسن المؤلفات فيه

(1/379)


وكثيرا ما يقصد الطالب الذي لم يتدرب بأخلاق المنصفين ويتهذب بإرشاد المحققين الاطلاع على مذهب من المذاهب المشهورة ولم تكن له في غيره رغبة ولا عنده لما سواه نشاط فأقرب الطرق إلى إدراك مقصده ونيل مآربه أن يبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات أهل ذلك المذهب ( الكنز ) في مذهب الحنفية و ( المنهاج ) في مذهب الشافعية فإذا صار ذلك المختصر محفوظا له حفظا متقنا على وجه يستغني به عن حمل الكتاب شرع في تفهم معانيه وتدبر مسائله على شيخ من شيوخ ذلك الفن حتى يكون جامعا بين حفظ ذلك المختصر وفهم معانيه مع كونه مكررا لدرسه متدبرا لمعانيه الوقت بعد الوقت حتى يرسخ حفظه رسوخا يأمن معه من التفلت ثم يشتغل بدرس شرح مختصر من شروحه على شيخ من الشيوخ ثم يترقى إلى ما هو أكثر منه فوائد وأكمل مسائل ثم يكب على مطالعة مؤلفات المحققين من أهل ذلك الفن فيضم ما وجده من المسائل خارجا عن ذلك المختصر الذي قد صار محفوظا له إليه على وجه يستحضره عند الحاجة إليه ( 1 / 380 ) ولكنه إذا لم يكن لديه من العلم إلا ما قد صار عنده من فقه ذلك المذهب فلا ريب أنه يكون عامي الفهم سيئ الإدراك عظيم البلادة غليظ الطبع فعليه أن يبتدئ بتهذيب فهمه وتنقيح فكره بشيء من مختصرات النحو ومجاميع الأدب حتى تثبت له الفقاهة التصورية وأما الفقاهة الحقيقية فلا يتصف بها إلا المجتهد بلا خلاف بين المحققين

(1/379)


هذا خلاصة كلام الشوكاني - رحمه الله - وإن شئت زيادة الاطلاع على مطالب هذه المدلولات فعليك بأصل الكتاب فإن فيه تحت كل قول فوائد جمة لا يسع لذكرها هذا الموضع وهذا آخر الكلام على هذا المرام وبالله التوفيق وهو المستعان . ( 1 / 381 )

(1/380)


مطلب : في مباحث من الأمور العامة التي يكثر استعمالها والاشتباه بإهمالها

(1/381)


فمنها : المفهوم إن تحقق خارج الذهن أصالة فموجود عيني وسواه : معدوم خارجي فما فيه بالعرض حال من الحيثيات الثلاثة والأمور العامة والأعداد ولوازم الماهيات والنسب المطلقة : كالحلول واللزوم والتضاد والخاصة كالفوقية والعظم
أو في الذهن فموجود ظلي فما من الأعيان معقول أولي ومالا منها واقعيا معقول ثانوي من المتأصلة في خصوص الوجود الذهني والمنتزعات كالأحوال والأعدام وفرضيا منفي فما أبى الوجود لذاته ممتنع وما لا مخترع وغيره ثابت تميز في نفس الأمر بأثر خاص
ومنها : من الوجود حقيقي لا يرتفع وعارض يرتفع منتزع أو منشأ له ورفعه عدم والإعدام والمعدومات : لا تتمايز في ظرف الانتفاء

(1/381)


ومنها : رابطي وله تقسيمات :

(1/381)


1 - مفرد ومركب فمقابل المفرد : مفرد والمركب في قوة مردد مانع الخلو . ( 1 / 382 )

(1/381)


2 - ومقيد بالجهة ومطلق

(1/382)


3 - وبسيط نسبي

(1/382)


ومتطرف ونفسي وله تقسيمات أيضا :

(1/382)


1 - صرف أو مقيد بظرف أو مضاف إلى شيء فقط أو سابقا أو لاحقا أو مطلقا فيصير قديما وحادثا وفانيا أو صفة لشيء عدولا أو عدم ملكة

(1/382)


2 - وضروري واجب وممتنع بالذات وبالغير ويتعاكسان بالتقابل ولا ضررويهما ممكن خاص بالذات فقط يقابل نظيره وينقسم إلى قسميه ولا يتعاكس ولا ضروري أحدهما ممكن عام فمعينا يقابل أحد الأولين ومطلقا يشمل الكل

(1/382)


3 - وبالقوة أو بالفعل فكل مستعد قريب للآخر

(1/382)


4 - وعام وخاص يتقابلان تعاكسا والوجود قبل الكثرة أو معها أو بعدها . ( 1 / 383 )

(1/382)


5 - ودفعي أو تدريجي منطبقا أو لا

(1/383)


6 - والمطلق من العدم يباين الوجود ومطلقه يجامعه واعتباراه في الأغلب بحال الوجود وقليلا بحال نفسه

(1/383)


7 - وأحد الوجودين يباين الآخر أو يلابسه أو يندرج فيه فيفارق الأحوال بأن حملها اشتقاقي وحمله مواطأة

(1/383)


8 - وأصلي وظلي

(1/383)


9 - ومحقق ومقدر

(1/383)


10 - ومنعوت بالطبع وناعت

(1/383)


11 - ومجرد كاملا أو ناقصا ومادي

(1/383)


12 - ومشكك بأنحائه وغيره

(1/383)


ومنها : الموجود بحسب الخارج إن نافى العدم لذاته فواجب وإلا فممكن له ماهية ولا تخلو عن ملابس مختص فالناعت : حال يحتاج شخصه إلى شخص الآخر والمنعوت : محل
فما استغنى عن طبيعة الحال موضوع للعرض ومالا فمادة للصورة والجوهر ماهية وجودها العيني لا في موضوع وظن في الزمان والمكان والجوهر الفرد والخط ( 1 / 384 ) والسطح المستقلين والجسم والصورة جسمية ونوعية والهيولى والنفس والعقل وحقق في الخمسة الأخيرة فما لا يقبل قسمة وإشارة إن فعل في الجسم بالآلات واستكمل به نفس وإلا فعقل والقابل لهما محلا هيولى فعليتها للاستعداد وحالا متماثلا في الجميع ممتدا لذاته صورة جسمية ومختلفا نوعية ومركبا جسم إن زاحم في الحيز دائما فشهادي وإلا فمثالي
والشهادي بتوعيته بسيط أفلاك وكواكب وعناصر ومركب عنصري ناقص بلا مزاج نام به فما يحفظ البنية فقط معدني وما ينمو ويولد فقط نبات وما يحس ويتحرك بالإرادة حيوان وما يتفكر ويصنع بالآلات إنسان أرضيا وجن ناريا والنفوس الشاعرة فلكية وحيوانية وناطقة والعاطلة عنه نباتية والفاعل بلا شعور طبيعية وربما يعمم والملك عندنا جوهر شاعر ليس بذي نمو وشهوة وغصب وإن أراد إنعاما وانتقاما ويقال علي روحاني ومثالي وسماوي وهوائي ومن كل مهيم ما ومدبر ويتشكل في مدركته ومدركة غيره بأشكال مختلفة كالجن

(1/383)


والأعراض انضمامية وجودها في أنفسها هو وجودها لمحالها وانتزاعية وجودها خصوص نحو وجود محالها في أنفسها أو مقيسا إلى غيرها وتبقى زمانا وينعت بعض لبعض ويتبع الجوهر في التحيز والنقلة وإن أوهم تجدد الأمثال في الأشعة والإظلال والأصوات ( 1 / 385 ) والغفلة عن الجوهر في الأصباغ خلافه ووجدوا منها نسبية يدخل غير المحال في قوامها وكما يقبل المساواة والزيادة والنقصان لذاته وكيف أسواهما فالنسبة إلى الظرف مكانا ( أين ) وزمانا ( متى ) وإلى الأثر بالتدريج إيقاعا فعل وقبولا انفعال وإلى داخل أو خارج منتقلا بانتقاله مشتملا على كله أو بعضه ملك وغيره وضع وإلى نسبة إضافة مشاكلة أو مخالفة والكم إن اشترك وقسيمه فمتصل فالقار مجتمع الأجزاء ذو بعد خط وبعدين سطح وثلاثة جسم تعليمي وغير القار زمان وإلا فمنفصل عدد والكيف محسوس سمعا وبصرا وشما وذوقا ولمسا ولو بشركة وهم كالأوزان والألحان والحسن والنجاسة والسعة وأضدادها ونفساني في البدن كالحياة الصحة أو في النفس كالعلم والإرادة والقارة الراسخة منهما انفعاليات وملكات وسريعة الزوال انفعالات وحالات واستعدادي يقوي قوة القبول وعدمه أو الفعل وظني أن الحركة منه ولا يضر عدم استقراره كالأصوات فلكل ما هي فيه فرد غير قار ربما وصل نوعا بنوع تدريجا ومختص بالكميات كالشكل والزاوية والزوجية والفردية ولعل النقطة منه

(1/384)


ومنها : الماهية من حيث ليست هي إلا هي وذاتياتها يسلب عنها ( 1 / 386 ) جميع العوارض الوجودية والعدمية واللازمة والمفارقة ومن حيث ما هي عليه معروضة المتقابلات فتوهم ارتفاع النقيضين واجتماعهما وهي ( أقسام التقسيم الأول منها ) :

(1/385)


1 - إما حقيقية تقومت بلا اعتبار وضع من الناس أو اعتبارية صناعية

(1/386)


2 - وإما خارجية تقع في الأعيان أو ذهنية

(1/386)


3 - وإما بسيطة لا جزء لها بالفعل أو مركبة منتهية إلى بسيط بالفعل وتركيبا الظرفين وإن تلازما بالحقيقة فقد يختلفان بالحدود الاسمية أو الأجزاء المحمولة وغير المحمولة

(1/386)


وأجزاؤها ( أقسام التقسيم الأول منها ) :

(1/386)


1 - إما أركان لأصلها فتنتفي بانتفاء أحدها أو عرضية لكاملها فلا

(1/386)


2 - وإما أولية أو ثانوية

(1/386)


3 - وإما تركيبية بالفعل في الواقع فقط أو في الحس أيضا أو بالقوة

(1/386)


4 - وإما متداخلة تحمل ولا تحمل باعتبارين كما مر فهي متخالفة الحقائق قطعا متحدة العين كاللون والبياض ومتمايزة متطابقة كالهيولى والصورة والنفس والبدن وإذا عنوا في الحقيقيات للعموم والخصوص المطلق بينها ففي المتحدة هي الجنس والفصل بالحقيقة والمادة والصورة ( 1 / 387 ) بالعمل وفي المتطابقة بالعكس أو متباينة متجاورة متماثلة أو متخالفة بالنوع أو بالجنس كالعدد والبلقة والخلقة والأجزاء المقدارية في الجسم المركب تركيبية وتحليلية وفي البسيطة تحليلية فقط

(1/386)


وجاز أن يكون للشيء أجزاء أولية متداخلة وثانوية متباينة وأجزاء الاعتبارات جواهر وأعراض حقيقة وإضافية سلبية وثبوتية إلى العلل الأربع فردا وجمعا أو إلى المعلول أو الخارج اللاحق أو المباين فقد يتخلف فيها اسم الكل عن جميع الأجزاء لفوات شرط الإطلاق ولا بد في الكل من جهة واحدة وهي بالحاجة بلا دور إما في التحصيل أو الحصول أو البقاء أو ترتب الفرض وتكون في الحقيقيات بالذات واللوازم وفي الاعتباريات المفارقات أيضا وتتشخص الماهية بنحو تقررها ويتقوم هذا النحو ابتداء للمنحصرة في فرد واحد بحقائقها وللنفوس بأبدانها ثم بالعكس ولما يحل بمحله مع الزمان وللمحل المنقسم بالوضع المصحح للإشارة معه وأصل الجعل بسيط ثم يجيء التركيب ففي بادئ النظر من قال بتقدم الثبوت على الوجود أو بزيادته على الماهية في الخارج قال بالمركب ومن لا قال بالبسيط وفي غامضه لا يتم إلا بإخراج الأيس من الليس ويتخلل المركب بين أجزائها لا بينها وبين أجزائها لامتناع سلب الذات والذاتيات عن الشيء وتحصيل حاصل قبلي

(1/387)


ومنها : الكثرة جهة الانقسام وتفارق العدد باعتبار خصوص ( 1 / 388 ) المرتبة مبهما أو معينا فيه دونها والوحدة جهة عدمه وهي تقوم الكثرة وتعرضها وتقابلها بملاحظة البدلية في محلها وهو طبيعة المميز ولو بقيد زمان أو مكان أو نحوهما
وتساوق الوجود والانقسام إما بتحليل الذهن إلى الحقائق المتطابقة وإما للكلي إلى جزئياته بضم قيود مختلفة إلى مشترك محصلة أو عارضة ليتكثر أجناسا أو أنواعا أو أصنافا أو أشخاصا وإما للكل إلى أجزائه بفك أو بعرض حقيقي أو نسبي أو بفرض شيء دون شيء جزئيا بتعيين المقسم وهما أو كليا بدونه عقلا في المتصلات وبتمايز الأشخاص والأطراف في المنفصلات
وفرقوا بين الكل والجزء وبين الكلي والجزئي بامتناع حصول الأول في جزء وحمله عليه وبارتفاعه وتوقفه بارتفاعه على جميعها وإنخفاظ وحدته الشخصية مع كثرتها دون الثاني وكمال الوحدة لمن لا ماهية لفعليته ولا صفة انضمامية لذاته ولا تعدد حيثيات متقدمة لتمامه ثم للمفارقات ثم للنفوس ثم لا ينقسم من ذوات الأوضاع ثم لمتصل الذات ثم للمركبات الطبيعية ثم للأنواع والخواص ثم للأجناس والأعراض العامة ثم للنسب المشتركة

(1/387)


والاتحاد جهة الوحدة في كثرة ومنه الشركة في الإشارة وفي الحركة والسكون وفي المكان العرفي والزمان والصفة ونسبة الولاد والملك ونحوها وتختلف الجهتان قوة وضعفا فأقواها الاتحاد بالذات والتغاير بالاعتبار وأضعفها بالعكس ومن الكثير اثنان فالوضعان إن اختلفا تشخصا فقط فمتماثلان أو بالماهية فإن جاز اجتماعهما فمتخالفان وإلا فمتقابلان فإن قابل وجوديا مثله فما تلازما تعقلا ( 1 / 389 ) متضائفان حقيقيان ويتكافآن قوة وفعلا وعددا ومحلا هما مشهوريان وما لا متضادان فمع غاية الخلاف حقيقيان ويكونان نوعي جنس يتصوران لمحل وبدونها مشهوريان أو سلبه فالمطلق سلب وإيجاب بسيط أو عدولي والمقيد بمحل قابل للوجودي في وقته أو شخصه أو صنفه أو نوعه أو جنسه القريب أو البعيد عدم ملكه

(1/388)


ومن الكثير مالا يتناهى ويقين جوازه في مثل اللزوم مالا يقف عند حد إذ ليسا منه حقيقة وامتناعه في المدارك البشرية مفصلا بالوجدان وفي العلل والأبعاد بالبرهان إذ الافتقار إنما هو لخلو الذات فإذا افتقر كل خلي الكل فلا أثر ولا تأثير وحركة المتناهي المتوازي لقديمه إليه مع ثبات المبدأ تبطل ضرورة الحصر بين التوازي والتقاطع على تقدير عدم التناهي عند قطع السمت ما بينهما في كل حد وتوجب قطع سموت غير متناهية في زمان متناه ولحجج أخر

(1/389)


وأما في غيرها فاشترط الفارابي الوجود والترتب والاجتماع والمادية وأسقط جمهورهم الأخير والمتكلمون الأخيرين وبعض المحققين الثلاثة الأخير زاعما إغناء إمكان فرض التطبيق الإجمالي عن الترتب الواقعي
وعندي أنه إن تم لزوم العدد للكثرة كما يظن انمحى اللامتناهي عن الواقع عينا وعلما وإلا لا وهذا فوق المدارك العامة ومنها ما يتوقف عليه وجود الشيء وهو ما لولاه لامتنع إما عدم أمر فقط وهو المانع أو عدمه بعد الوجود وهو المعد أو وجوده فقط هو إما مرجح ( 1 / 390 ) أو مصحح والترجيح هو التأثير والاقتضاء فالمقتضي للشيء المؤثر في وجوده هو العلة فما به فعلية المعلول :

(1/389)


1 - الصورة وما به قبوله

(1/390)


2 - المادة
وتدخلان في المركب وفي البسيط الصورة هي المعلولة والمادة هي القابلة إن كانت وما منه صدوره

(1/390)


3 - الفاعل
وما لأجله صنعته

(1/390)


4 - الغاية وهي علة ذهنا معلولة خارجا وهما خارجان

(1/390)


والحاجة إلى الثلاثة الأخيرة للتركب وضرورة القابل وللإمكان ولاختيار الفاعل قريبا أو بعيدا ومنه غايات الطبائع والمصحح شرط إما لتأثير الفاعل ومنه آلات الطبيعة كالقوى والجوارح والصناعة كأدوات الحرف وهي الواسطة بين الفاعل والمنفعل في إيصال الأثر أو لقبول المادة أو لتمام الصورة أو لترتب الغاية وما وجب تقدمه ولم يجب زواله معه بالعرض محل أو شرط للمعد بالذات

(1/390)


ومن العلل :

(1/390)


1 - تامة : لا يتوقف على ما وراءها فليست شيئا واحدا وناقصة غيرها

(1/390)


2 - وموجبة : لا يتخلف المعلول عنها وهي تامة أو جزء أخير منها أو فاعل مستجمع لشرائط التأثير وهي متلازمة وغيرها . ( 1 / 391 )

(1/390)


3 - ومستقلة : هي جملة نوع منها بشروطه ومنها كافية تكفي لتحصيل جملة ما لا بد منه

(1/391)


4 - وقريبة : لا يتوسط بينها وبين المعلول علة وبعيدة

(1/391)


5 - وعلة لا تباين ذات المعلول كآثار الطبائع في محالها

(1/391)


6 - وعلة مخلفة للأثر وغيرها وحقيقة التأثير مع حصول الأثر
والتوليد ترتب فعل على فعل آخر لفاعل وقد يتعدد المحدث والمبقي لشخص في أشكال الصلات وجمع أجزاء المركبات ودعائم السقف وبدل ما يتحلل وبدن الجنين ويستند ثابت الشخصية إلى متبدل شخصا أو نوعا باعتبار القدر المشترك وبالعكس لاختلاف القوابل والشروط واللوازم إلى علة الملزوم وعدم المعلول إلى عدم شيء منها وجاز توارد علتين مستقلتين معا وبدلا على الواحد النوعي لا الشخصي إلا تسامحا في الاستقلال والعلية وبطل دور التقدم من جهة واحدة لا المعية ووقوع الممكن بلا إيجاب العلة وتخلفه عن التامة واستناد جهة التعدد إلى جهة الواحدة وهي السبب والاتفاقي منه غير متوقع الإيصال وعند الأصوليين هو المفضي في الجملة فيتخلف عنه المسبب وهي الموضوعة لتحصيل الحكم فلا يتخلف عنها ==

2. [ أبجد العلوم - القنوجي ]
الكتاب : أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم
المؤلف : صديق بن حسن القنوجي

ومنها : التقدم والتأخر بديهيان متضائفان واجتماع موصوفيهما بحيثيتهما إن امتنع فزماني وهما لأجزاء الزمان بالذات ولما يقترن بها بواسطتها وإلا فإما بحسب الحاجة فذاتي فإن جاز تخلف المتأخر ( 1 / 392 ) فطبيعي وهو للعلة الغير الموجبة والشروط والمعدات في الوجود وإلا فعلي وهو للموجبة في الوجوب وإما لا به فإن جاز الانقلاب بتغيير المبدأ فرتبي وهو بالقرب من المبدأ المفروض في مرتب حسا أو عقلا وإلا فبالشرف وهو بالزيادة في الصفة المقصودة وما سمي بالماهية كتقدم الذاتيان على الذات والذات على العوارض فلا ينفك عن الذاتي إلا في بعض اللحظات والمعية للمشتركين في تلك الوجوه حيث يسلبان عنه فما مع المتأخر متأخر في الكل وما مع المتقدم متقدم في غير العلي وكثيرا ما يجمع البعض توافقا وتعاكسا - والحمد لله - . ( 1 / 393 )

(1/391)


خاتمة القسم الأول في بيان تطبيق الآراء

(1/393)


أقول : تدوين المذاهب المختلفة بأدلتها واعتراضاتها أورث داء عضالا من الحيرة والشك في القديم ورفع الأمان عن الجديد فالعامة بين متعصب للتقليد لا يميز القريب عن البعيد ومذبذب حائر في الحق السديد فدونت بتوفيق الله سبحانه في الدراري والدرر لدفعه كليات موازين التحقيق وأسباب الاختلاف وضوابط التطبيق وأردت إيرادها هنا راجيا من الله - سبحانه - أن ينفع بها عباده في فصول . ( 1 / 394 )

(1/393)


فصل : في ماهية التطبيق وهليته

(1/394)


نكتة :

(1/394)


ليس المراد بالتطبيق نفي دعوى مخالفة أحد الخصمين للآخر ولا حمل كلام أحدهما على مراد الآخر ولا دعوى مطابقة أصول كل مذهب وفروعه على الواقع بل هو عبارة عن معرفة قدر انطباق كل مذهب مع الواقع وقدر انحرافه عنه ومعرفة سبب الانحراف بحيث يتفطن له من كلامه وأصوله وفروعه حتى يطمئن القلب ويزول الريب

(1/394)


نكتة :

(1/394)


الإدراكات والاعتقادات الحاصلة في النفوس موجودات حادثة فلها بالضرورة أسباب فاعلة وقابلة وشروط ومعدات وجميعها أمور واقعية أو منتهية إليها والأمر الواقعي يمتنع أن يستلزم باطلا محضا أو ما يستلزمه فبالجملة : حالها كحال سائر الشرور الواقعة في العالم إنما شريتها بحسب جهة دون جهة ومنشؤها إعدام جزئية لازمة لطائفة من الموجودات فكذلك بطلان بعض العقائد بحسب جهة دون جهة ومنشؤها إعدام لاحقة لبعض الصور الموجودة كحصول شيء بعنوان غيره عقيب طلبه وتمثل شيء بصورة شيء آخر وإجراء القاعدة مع الغفلة عن وجود المانع والقياس مع الفارق وأخذ العلم عن غير أهله لحسن الظن به وحمل الكلام على غير محمله لارتكاز مرجح ( 1 / 395 ) في القلب ونحو ذلك فإذا أمعن فيها من قبل مباديها الموجبة لها غيبية وشهادية وعلوية وسفلية واضطرارية واختيارية وداخلة في المدركة وخارجة عنها لاح مستقر كل قول وارتباطه بالواقع كما وكيفا فتوافقت المذاهب كلها ولا ينبغي أن يرتاب في هذا الإجمال وإن كان تفصيل زوال الاختلاف من رحمة الله الخاصة - ( والله يختص برحمته من يشاء )

(1/394)


نكتة :

(1/395)


كل من يحكم على شيء فإنما يحكم عليه بما يناسب الصورة الحاصلة منه في ذهنه فمسقط إشارته في الحقيقة صاحب تلك الصورة والفرق بين صاحب الصورة وبين مأخذها والمقصود بها واضح والصورة لا تخالف صاحبها أبدا فليس من هذه الجهة كذب أصلا وكل إنما يحكي الحقيقة الحاضرة عنده المتجلية عليه ولكن يجب أن لا يقتصر على هذا حتى يفرق بين الحق والباطل ليظهر الهدى والضلال

(1/395)


نكتة :

(1/395)


لا ريب أن الأشياء في مناسبة بعضها لبعض ليست على السواء وأن الإحاطة منا بجميع الأشياء بل بالشيء الواحد من جميع الجهات ممتنع فالإنسان إذا أراد تحصيل أمر فقد يتصوره على غير ما هو عليه وإذا عرفه فقد يطلبه من غير مبادئه أو يأخذه من غير مأخذه إما من المحاورات العرفية التي ملأت سمعه أو المواصفات العادية التي اطمأن بها قلبه فينتهي إلى أمر ويبدو له باد حسب مسيره ومسلكه فيعتقده مطلوبا فيمسكه فيضل وليتذكر هاهنا ما سلف في المنطق من وجوه الغلط تأييدا لهذا المقام . ( 1 / 396 )

(1/395)


نكتة :

(1/396)


وإذا صح طلبه انتهى إلى الأمر الواقع بالوجه الذي يناسب مسلكه واقعا في نظام من النظامات وموطن من المواطن ومرتبة من المراتب فيذعن له وينكر على من سلك غير مسلكه فانتهى إلى وجه آخر من ذلك النظام أو نظام آخر من ذلك الموطن أو موطن آخر من تلك المرتبة أو مرتبة أخرى من مراتب الواقع فيتسع بينهما حريم النزاع والحق أنه لا تدافع بين النظامات والمواطن والمراتب عند نفاذ البصيرة أصلا

(1/396)


نكتة :

(1/396)


هذه الكثرة الموجودة تنظمها جهات وحدة ذاتية وعرضية مختلفة بالعموم والخصوص فترتب أفرادها حسا أو عقلا نسميه : نظاما والنظامات المتوافقة في المدرك موطن واحد والمواطن التي يتعدد بها وجودات الأشياء ولا يقع أحدها عن الآخر في جهة فبينهما نسبة الغيب والشهادة نسميه : مراتب الواقع فالشجرة ينظر فيها النجار من جهة كم يحصل فيها من الجذوع والألواح وغيرها من الآلات الخشبية ؟ ولماذا يصلح خشبها من الأغراض ؟ وابن السبيل من جهة مالها من الظل ؟ والفلاح من حيث كم يسقي من الماء ؟ ومن أين مخضر ؟ ومن أين مصفر ؟ والصيدلاني من جهة أجزائها من ليف وخشب وورق وزهر وثمر ونواة والطبيب من حيث أفعالها في بدن الإنسان والطبيعي من حيث قواها من : جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومن حيث تشريحها فتلك جهاتها ثم إنه قد يتعرض لها من حيث صنفها وبذرها وقد يتعرض لها من حيث هي في دوحتها ما كان هناك فيها وما كان يكون بعدها وقد يتعرض لها من حيث ملكها مالكها من أي مال وما يحصل له منها فتلك ( 1 / 397 ) نظامات تشملها ومالها من الروائح والأذواق والألوان والكيفيات الملموسة مواطن فإذا غفل صاحب قصد عن صفات أخر وأنكرها انعقد النزاع

(1/396)


نكتة :

(1/397)


ليس في التطبيق تجهيل الطرفين إلا من جهة قصور كل عن غاية التوجيه لكلام خصمه ومن المعلوم أن الأسباب المؤدية إلى الخصومة لا تفرغ القلب لهذا الأمر وإنما على طالب الحق استفراغ الجهد في درك الواقع لا في خدمة كلام الناس ثم من يضمن لأحد نفي القصور في العلم وقد قال الله - تعالى - : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
وقد سبقنا إلى تطبيق الآيات مفسر الأمة : عبد الله بن عباس - رحمه الله - وإلى تطبيق الأحاديث صاحب : ( المغيث من مختلف الحديث ) وفي آراء المسلمين الشيخ : علاء الدولة السمناني وفي الشريعة والفلسفة : إخوان الصفا وبين رأي الحكيمين : أبو نصر الفارابي وفي الإسلام والهندية دار أشكوه ومهد حجة الإسلام لتأويل مذاهب المبتدعة الوجودات الخمسة في ( فيصل التفرقة بين أهل البدع والزندقة )
وقال الشيخ ابن عربي :
عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه ( 1 / 398 )
وسعى في التطبيق بين الشهودية والوجودية العارفان الجليلان الشيخ : أحمد السرهندي والشيخ : ولي الله الدهلوي - قدس الله أسرارهما - وإن لم يمهدوا له ضوابط وقد عرفناك فضل منفعته فذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . ( 1 / 399 )

(1/397)


فصل : في موازين التحقيق

(1/399)


نكتة :

(1/399)


طرق اقتناص العلم : عقل ونقل وكشف والحس شرط للكل ووسيلة إليه وكل منها إذا استجمع شروط صحته كان مطابق الواقع فامتنع أن تكون متناقضة بالحقيقة لئلا يلزم اجتماع النقيضين نعم قد تكون مخالفة بحسب الظاهر للانحراف عن الجادة القويمة بنوع من الغلط ولا كلام فيه أو لاختلاف في مسالك الدلائل أو مواطن المدلول فكلتا الحكايتين عن أمر من الأمور الواقعة وإن اختفى موقع نظر واحد عن الآخر فهذا يقيني وبعض من تفطن لوجوب التطابق وغفل عن اختلاف المدلولات يحمل كلام أحد الجانبين على غير مراده ويصلح بين الخصمين من دون تراضيهما ويأتي في ذلك بما يمجه الطبع السليم ويطيب الإنكار عليه
ومن العلوم العادية : أن المذاهب المختلفة المتقاربة في الدلائل وثاقة وركاكة والتي يبتنى عليها النظام المحسوس ابتناء صحيحا ويدفع عنها النقوض الموردة دفعا غير سمج ليست بعيدة عن الواقع كل البعد ولا كاذبة على الإطلاق ولاحقة بكل نقير وقطمير من فروعها وأصولها وإن كان بعضها أكثر موافقة من بعض فإذا تصفحنا عنها بالتعمق في مأخذها والتأمل في كيفيات أخذها ودرك أغراض مدونيها ودرجات فهومهم عرفنا منشأ الاختلاف وموضع الالتباس وموطن الحكاية والتمييز بين المتيقن والمظنون بتوفيق الله سبحانه وعنايته . ( 1 / 400 )

(1/399)


نكتة :

(1/400)


العقل : أصل طرق الاكتساب لا غنية للنقل والكشف والحسن عنه بل هو الحاكم بها والعامل فيها والمميز بين أقسامها ومراتبها وحكمه عام من حيث الإدراك والقبول وإن كان قد يقصر عن بعضها من حيث التحصيل والوصول وقولهم : طور وراء طور العقل يعنون به : القواعد التي مهدها الملقبون : بأصحاب العقل أو انفراده بلا انضمام ومعاونة من غيره وأصحابه متفاوتون فيما بينهم بالحدس والتجربة
فمنهم : من يكون استحضاره للمبادئ أكثر وانتقاله إلى اللوازم أبعد وتعمقه في روابط الانتقال أحد ويكون وقائعه أوفر وشغله أمد وحسه أجود وتفطنه للأمور المشتركة من العلل والأحكام واختلاف مأخذه أشد ونظره إلى الواقع أوصل ومخالفة المألوف عليه أسهل ومنهم دون ذلك
والنقل إذا ثبت عن الأنبياء - عليهم السلام - فهو أقوى وأصحابه متفاوتون فيما بينهم رواية ودراية
فمنهم : أصح سندا وألقى أساتذة وأحذق تعليما وأصدق مخبرا وأنقى بدعا وأكثر متنا وأوضح لفظا وأضبط سماعا وأكمل حفظا وأزيد شيوخا وأمد رحلة وأفقه فهما ولترجيح الأسانيد وأسباب الجرح عندهم وجوه مختلفة ومنهم دون ذلك

(1/400)


والكشف : إذا تم فهو أوسعها وأصحابه يتفاوتون بينه جدا في التطلع على العوالم الحاضرة لديهم والغناء في الرقوم المستجنة فيهم
فمنهم : من يتمثل له لطائف الجسمانيات كالملائكة السفلية ( 1 / 401 ) والشياطين والجن أو الحقائق المثالية على طبقاتها تارة للهداية وتارة للإضلال أو الحقائق الروحانية على درجاتها من البشرية والفلكية والعلوية أو يتجلى له الأسماء والصفات الإلهية أو يتجلى له الذات مرة في مرايا إدراكية بالتأثير في قواه أو في قوالب مثالية بالتشبح بها ومرة انكشافا صراحا
ومنهم : من يفنى في خلاصة أهواء وعادات راسخة فيه أو في لطائفه الكامنة في جوهره فيظهر بعض الحقائق بنحو غير ما يظهر في لطيفة أخرى أو يفنى في وجوداته المختلفة التي قضى بها في التنزلات الماضية أو الترقيات الآتية أو يفنى في الحقائق السارية فيه بعضها خلقية : كحقائق الصور الجسمانية العنصرية أو الفلكية أو هيولى الجسم المطلق أو العماء وبعضها حقبة من : الأسماء الجزئية والكلية على منازلها والشؤون الذاتية بأصنافها وفي كل ذلك يتوفر عليهم علوم تلك المقامات وأحوالها ويتمثل لهم مقتضياتها

(1/400)


نكتة :

(1/401)


المعتبر من العقليات ما ينتهي إلى اليقينيات بالطرق الميزانية انتهاء قريبا أو جليا ومن النقليات ما صححه الحفاظ أو حسنوه وما توارث من معناه القرون المشهودة لها بالخير وتعاضدت عليه الآثار من غير صرف عن الظاهر المتعارف في مثله : حقيقة ومجازا وصريحا وكناية ومن الكشفيات ما كان عن ذي فناء تام أو بعد الفراغ الكلي ( 1 / 402 ) والتوجه إلى الله - سبحانه - متواترا مستمرا محفوظ الصورة بعينها وأورث حالا من الأحوال الإلهية أو الملكية وعرف مقام صاحبه وسيرته

(1/401)


نكتة :

(1/402)


فصلوا في المنطق : شروط الحدس والتجربة والأوليات والمشاهدات وفي أصول الفقه والحديث : شروط الصحة ووجوه الجرح والترجيح وفي مالا يعول عليه للشيخ : ابن عربي شروط الكشف فليرجع إليها طالب التفصيل واكتفينا على الإجمال لقصد الإيجاز

(1/402)


نكتة :

(1/402)


المشاؤون : متجردون للفعل والسلف من المحدثين : للنقل ومتأخرو الصوفية : للكشف وأما المتكلمون : فكلامهم خلط بين نقل وعقل والإشراقية : بين عقل وكشف والجامعون بينهما : على اعتدال ندر

(1/402)


نكتة :

(1/402)


من العلوم : علوم محسوسة ومنها : معقولة منتظمة تطابق المحسوس ومنها : معقولة صرفة لا نظير لها في الحس وللعقل في الجزم بها سبيل ومنها : علوم استقرائية لا سبيل إلى الجزم فيها قصوى أمرها الظن أو الوهم ومنها : مالا سبيل فيها للعقل إنما تنال سماعا من حس أو وحي أو كشف فمنها : ما للجزم بها سبيل ومنها : مالا وجميعها : يختلف في الجلاء والخفاء وفي الملائمة لبعض النفوس والمنافرة لها وفي الحضرة والمنفعة لسعادات النفوس وفي المآخذ والمسالك وفي الحاجة إلى ممارسة العمل وعدمها وفي كثرة الرغبة فيها والتنفر عنها وقلتها وفي انقلابها بمرور الزمان وثباتها وفي تقدم بعضها على بعض والتأخر عنه وفي كونها مقصودة أو وسيلة وفي تكميل القوى المختلفة وفي دخلها في قضاء الحوائج الهامشية أو الاقترائية ومعروف تمايزها بالموضوعات والغايات المترتبة عليها في الدنيا والآخرة ويختلف بذلك شرحها ودرجات العالمين بها . ( 1 / 403 )

(1/402)


نكتة :

(1/403)


الباحثون عن الحقائق على درجات :

(1/403)


صنف :

(1/403)


هم المستخرجون للمسائل والواضعون للعلوم والنقادون لها ونظرهم إلى الواقع مطلق فبعض آرائهم تعتمد على أصول صحيحة ولكن في تفريعها حق وباطل وبعضها على أصول فاسدة يؤصلونها حفظا لمذهبهم في الفروع المعلومة حقيتها حيث لم يستطيعوا تفريعها على غير تلك الأصول أو خاضوا لزوم فروع مسلمة البطلان على أضدادها وإذعانا بها لإلف أو ملاءمة طبع أو تحصيل غرض أو اطلاعا على دليل عجزوا عن دفعه والمحقق إنما يعتني بكلامهم

(1/403)


وصنف :

(1/403)


هم : الشارحون لكلام أولئك المفرعون على قواعدهم والذابون عنهم ونظرهم إلى الواقع مقيد والخطأ منهم متضاعف ومع ذلك يوجد في كلامهم فوائد مغتنمة

(1/403)


وصنف :

(1/403)


يضربون بعض الكلام ببعض سؤالا وجوابا وتوجيها على قدر ما أحاطوا به من الكتب وكلامهم أقل جدوى والماهر في كلام الأئمة وعادتهم ناج عن فتنة شغبهم إلا أنهم قد يمرون مقاربين للحق في هيمانهم وتسقط من أفواههم ضالة الحكيم

(1/403)


وصنف :

(1/403)


قصوى هممهم : توجيه العبارات والمناقشات اللفظية وترجيح المحتملات بكل وجه قريب أو بعيد لا يرفعون إلى الواقع رأسا ينقطع أساسهم بعناية وملاحظة قيد وإبداء احتمال وليس للمحقق اعتناء بهم أصلا وهذا جار في أكثر الفنون فعليك بتمييزهم . ( 1 / 404 )

(1/403)


فصل : في أسباب الاختلاف

(1/404)


نكتة :

(1/404)


كما أن الموت أمر طبيعي لحياة البشر باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا فالخاصة : تقتضيه لقيامها بالحرارة والرطوبة والعامة : لإيفاء العناية الأزلية مقتضى الطبائع الكلية من : العناصر والأفلاك والبسائط تقتضي انحلال المركبات والأوضاع السماوية تنتهي إلى القواطع فكذلك الاختلاف طبيعي لعقول البشر باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا وإليه الإشارة في قوله تعالى : ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )
أما الخاصة : فلوجود القوة الحاكمة منهم ومخالفة ما أحاط مدركة أحدهم لمدركة الآخر لأسباب سنبينها
وأما العامة : فلأن صانع العالم - جل مجده - لما أراد انتظام النشأتين وتعمير الدارين بإبداء آثار الجمال والجلال فيهما وناط بحسب تلك العناية المساعي والدرجات بالاعتقادات وجب اختلافها فما التطبيق إلا بحسب العلم والفهم لا بإزالة الخصومات من بين الناس

(1/404)


نكتة :

(1/404)


لاختلاف الاعتقادات أسباب عامة شاملة لها ولغيرها
منها : اختلاف الأوضاع السماوية بحسب الأدوار والقرانات الكلية والجزئية وطوالع المواليد والميائل وجرب في الهنود : أن من كانت ( 1 / 405 ) الشمس والمشتري في سابعه انكشف له حقيقة الإسلام وخرج من دينه إليه ويذكر أن وقوع الدراري على الطالع في العاشر ينور العقل واتصال سهم الغيب بالسعود يصوب الآراء في أبوابها
ومنها : اختلاف الطبائع الأرضية من الأقاليم والبلاد وسهلها وحزنها وبدوها وحضرها ومن الكيفيات المزاجية وعادات القوم والهنود يقع في مداركه طول الأزمان والعرب بالعكس
ومنها : اختلاف الاستعدادات بحسب الصور الشخصية والصنفية الفائضة على المواد القابلة لها بمتقضى العناية الأزلية
ومنها : اختلاف ألوان حظيرة القدس بحسب عنايات الملأ الأعلى وصعود الهيئات المثالية من بني آدم المعدة لظهور فيض متجدد من هناك
ومنها : تبدل دولة الأسماء الإلهية المدبرة للقرون المقتضية لظهور أنواع الكمالات والصناعات شيئا فشيئا وتفصيل هذه المبادئ مذكورة في فنونها والغرض : تنبيه عليها وتذكيرها

(1/404)


نكتة :

(1/405)


لانعقاد الأديان والمذاهب تقريبات هي من جملة أسباب الاختلاف
منها : توجه العناية الإلهية بإرسال رسل مبشرين ومنذرين ولما انحصر فيه صلاحهم شارحين في أقطار أو قرون متباعدة بشرائع متنوعة قال الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . . . الآية ) . ( 1 / 406 )
ومنها : تجارب الأذكياء ورصد الحكماء والمأثور من الأولياء والمتبرك من سنة الصلحاء ومروج الملوك والأمراء في كل طائفة طائفة على حسب ما بلغته عقولهم في انتظام مصالحهم حسب طبائعهم وعاداتهم

(1/405)


ومنها : انتشار الكذابين المتنبئين والدجاجلة المضلين والمحرفين من المختلسين والمخترعين من أصحاب : البخت والقوة ويتصل بذلك دواعي القبول من الناس لمناسبات جبلية أو تصديق هواتف ومنامات أو مصاحبة كرامات أو استدراجات أو انتظام مصلحة دولة وجاه وتوقع دواعي حرص وشبهها أو غضب وحمية أو مخافة سيف وذل أو تجربة ناقصة لمجازاة دنيوية أو وضوح حجة أو تسويل شبهة أو موافقة جمهور أو تسخير سحر أو قلة تدبر من الطبقة الأولى . . . إلى غير ذلك ولا يزال ذلك مستديما بتأييد الله - سبحانه - ببعث المجددين والناصرين لها ونصب الآيات الباهرة على حقيتها من الخوارق والشواهد السابقة واللاحقة ومن لحوق المصائب والشؤم في تركها أو خشية طعن الأسنة والألسنة في عصيان الرسم أو الإلفة بسنة الآباء وتقليد ذوي العقول الناقصة أو حب الرئاسة والجاه في دين أو مذهب أو محاسدة العلماء أو تعنتهم أو تقاعد العقلاء عن درك الحق ورفع الخلاف لقصور الفهم ومثل هذا من التقريبات وحدوث الخلف على طبائع السلف يحرك رغبتهم إلى عقائدهم والنصر لها ( 1 / 407 ) ثم يشعب ذلك : اختلاف أمزجة المتدينين والمتمذهبين فينجر الخلاف إلى ما شاء الله تعالى

(1/406)


نكتة :

(1/407)


يخلق الناس على غرائز وهمم وعادات شتى ثم يتيسر لهم مصاحبات وأغراض واتفاقات فوضى ولاختلافها مدخل جليل في إحداث الآراء وترجيح المختلفات فمنهم الحديد يستطيع تخليص الأطراف عن شوب المألوفات والعبارات والبليد يعجز عنه والمنحصر في المحسوس لا يرى المعقول إلا من مكان بعيد والمتجرد عنه والمفرط في قياس الغائب على الشاهد والمبالغ في الفرار عنه والعجول في القبول والإنكار من غير أن يحيط خبرة والمتأني فيه والمسامح يكتفي بالظن وبصورة من الصور المحتملة التي تفي بظاهر المقصود والفحاص عنه والمتيقظ بالمشاركات والمبائنات واللوازم والمغفل عنه والمغلوب في أيدي الوهم يبني الأمر على الاعتبارات المحضة والغالب عليه والناظر في الشيء ببذل الجهد وصرف القصد والمتكاسل عنه يمر سردا وتطفلا ونير العقل يتنبه لأشياء بلا تعليم وبأدنى إشارة ومظلمه يعجز عنه والمتقيد بالشرائع والواهن فيها والمألوف بالرسم وغير المبالي به وواسع الفهم يحيط بالشقوق والقيود والسابق واللاحق والمبسوطات وضيقه والمشتهي للتفرد والمتنفر عنه يحب التقليد والمتفطن لفروع الشيء وعواقبه والراكد عليه والمحب لشخص ومذهب والمبغض له فيرتكبون في الإخراج والإدراج فيه كل صعب وذلول والمحقق والمقلد والمنصف والمتعصب والإمعة والقادر على أداء ما في الضمير والقاصر عنه ومستقيم الفهم ومعوجه ونقي الباطن يورثه الباطل قلقا كأكل الذباب وكدرة ( 1 / 408 ) المطمئن بالأكاذيب والمنقح للمقصود عن الوسائل واللواحق والخابط فيه والجازم يقع في قلبه الحكم بعد النظر فيه والحائر لا يحكم إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن عند الاستقراء معرفة أصنافه وتعيين أشخاصه

(1/407)


فهذه وأشباهها أمثال الزجاجات على البصائر تحجبها عن نيل الواقع على ما هو عليه من غير خلط أو تعينها عليه ولا ينبغي لطالب الحق أن يغفل عنها أو يحتبس في الردي منها بشرط أن يتجنب الإفراط والتفريط ويوفي كل ذي حق حقه

(1/408)


نكتة :

(1/408)


من أسباب الاختلاف : اختلاف أحوال الشيء في نفسه وقد مر حديث اختلاف الجهات والنظامات والمواطن إجمالا فيوضح هاهنا بأمثلة
قد يكون الشيء علة تامة لشيء ناقصة لشيء مستقلة أو لا وقريبة أو لا وكافية أو لا أو يكون له علل كذلك وقد يكون الشيء واجب الاجتماع مع شيء على تقدير وممتنع الاجتماع معه على تقدير آخر وممكن الاجتماع راجحا أو غيره على تقدير آخر وربما يكون بين شيئين علاقة الغيرية من وجه والعينية من وجه أو وجوه أخر ويكون الشيء بسيطا تركيبا مركبا تحليلا أو بالعكس أو يكون له جزء في الحقيقة لا في الحس أو يكون فيهما داخلا عرفا خارجا حقيقة بسيطا عينيا لا ذهنيا أو بالعكس وقد يكون الشيء واحدا باعتبار كثيرا باعتبار متناهيا بالفعل غير متناه بالقوة ضروريا مطلقا أو بالنظر إلى شرط اختياريا معينا أو بلا شرط موجودا في الزمان أو بالعموم أو بالعرض ( 1 / 409 ) معدوما في الآن أو بالتشخص أو بالذات مستمرا نوعا متجددا شخصا بديهيا بعنوان نظريا بعنوان آخر معرض المتنافيات في ضمن الأفراد أو في حدود الامتدادات متحد الحكم بالقياس إلى الطبيعة أو في حد واحد من الحدود ثابتا على صفة في وقت منتفيا أو على غير تلك الصفة في وقت آخر
فتلك أمثلة الجهات وكذلك اختلافات النظامات حقا وباطلا ضارا ونافعا كمالا وفسادا بحسب نظامين كنظام الحس والشرع كنسب ولد الزنا والربا في الآخرة والدنيا والسم للاسع والملسوع

(1/408)


ومن النظامات نظام الطبيعة الكلية والطبائع الجزئية المترتبة من البسائط والمركبات المختلفة ونظام الحكمة الواجب التعليل ونظام القدرة المانع منه ونظام الاختيارات ونظام المجازات ونظام الأوضاع السماوية ونظام العادات البشرية . . . إلى غير ذلك وعلى سنن ذلك اختلاف المواطن يكون الشيء جوهرا في موطن عرضا في موطن آخر حيوانا في المثال جمادا في الشهادة سعيدا في وجود شقيا في وجود قديما في ظرف حادثا في ظرف في حين واحد أو أحيان شتى واحدا بحسب ظرف وله أعيان وصور كثيرة في ظرف آخر ولا شك أن أحكام أحد الوجهين تباين أحكام الوجه الآخر فمتى اعتنى أحد الناظرين بوجه والآخر بآخر لأجل مسلك سلكه أو لالتباس وقع له اختلفت الأخبار باختلاف الإحاطة والاقتصار وقام تنازع الحكومات على ساقه فعلى المستبصر أن ينتبه لها ويفتش عنها

(1/409)


نكتة :

(1/409)


من أسباب نسبة الاختلاف إلى المحققين اختلاف التعبيرات ( 1 / 410 ) فقد يحصل في الذهن هيئة واحدة إجمالية فيختلفون في تسميتها بحسب اللغات والاصطلاحات المتعارفة عندهم وفي شرحها بحسب المعاني المهمة لهم والخوض والاقتصار منهم وفي تصورها بعبارات مختلفة قربا وبعدا على قدر بلاغتهم وقد يعبرون عن الشيء الواحد مرة بصورة انطباعه في المدركة أو نيل المدركة لأمثاله فيقال مثلا : صارت الشمس تحت السحاب وهي فوقه ومرة بما ناله من غير انحراف وتفتيش عن الحقيقة كما يعبر عن الرؤيا قبل تأويلها ومرة بعد التجريد للحقيقة عن ملابسها وغواشيها ومرة من حيث تعيينه في مرتبة أو كونه أثر الفاعل أو صورة في مادة أو مبدأ لغاية على اختلاف في الفاعل والمادة والغاية فيظن الاختلاف فيه وليس كذلك

(1/409)


وقد ينظر إلى الشيء بالإجمال أو سطحيا لعدم الاعتناء به أو على التفصيل والغور بطنا بعد بطن على مراتب الاعتناء به وقد يقع في الكلام تخصيص عام للتصوير أو الاهتمام أو تعميم خاص للإبهام أو التخمين أو المبالغة أو يقع ادعاء حصر للتأكيد فقط أو إيراد مجاز متعارف عند القائل أو كناية والمقصود غيرها أو تلميح وتقع تمثيلات مختلفة وفيها تقريب من وجه وتبعيد من وجه وإبهام في القدر الجامع وذلك لكونها أبلغ في سليقة القائل أو لتفنن في العبارة ويقع صرف عن الظاهر لضيق العبارة كوضع الترتيب الزماني موضع الرتبي والمصاحبة الزمانية موضع المصاحبة الواقعية ويكون الواقع عند الكل شيئا واحدا وبعد ذلك مقام لتفتيش المستعملات والاصطلاحات وبيان اشتراك معنيين في لفظ أو ترادف لفظين على تمام المعنى أو مع تفارق بملاحظة قيد جزءا أو شرطا وهذا وإن كان يسيرا بعدا الإحاطة بالمواطن والنظامات ولكن الحق انه لا يستقيم ( 1 / 411 ) أيضا إلا من ألمعي محقق منصف يجمع الوصفين كثرة التبحر والعبور على كلمات الأئمة المحققين وقوة التدقيق والبحث في فني الجدل والتوجيه مع تأييد وهداية من الله ولي التوفيق

(1/410)


نكتة :

(1/411)


من أعظم أسباب الاختلاف تنوع فهم اللاحقين لكلام السابقين وهذا هو الذي أثار فتنة الشغب بين الشراح والمحشين وأورث افتراء المذاهب على أهلها ويكون منشأ سوء الفهم تارة لكمال الحماية والعداوة لأحد وتارة للغفلة عن مرمى قصده ومطرح نظره
طربنا لتعريض العذول بذكركم ... فنحن بواد والعذول بوادي
وتارة للقصور عن استيفاء المقدرات في الموجز وحفظ القيود الضمنية في المطنب وتارة الخطأ في المحمل للاشتراك والتجوز أو إرجاع الضمير وتارة المبادرة ثم الإصرار على ما استقر في النفس قبل من غير إيفاء النظر حقه وتارة الجحود على المسموع لحسن ظن كاذب في قائله وتارة للبلادة عن نيل المعنى الدقيق والاغترار برأيه فالمرء لا يزال عدوا لما جهل وأمثال ذلك مما يفهمه المحقق من الكلام وسياقه فهم الطبيب داء السقيم من عوارضه ومن التدبير المقدم . ( 1 / 412 )

(1/411)


فصل : في ضوابط التطبيق

(1/412)


نكتة :

(1/412)


محاول التوفيق ينبغي أن يأخذ الواقع إقليما وسيعا ويقطع لصاحب كل مذهب منها قطرا من أقطار العلويات والسفليات من آفاق الغيوب والشهادة وناحية من نواحي العلم والعين بل يأخذ كل شخص بلدا عامرا فيه من الأوصاف اللازمة والمفارقة والنعوت الظاهرة والباطنة والذاتية والغريبة والانضمامية والاعتبارية والحقيقية والإضافية والثبوتية والسلبية مالا يحصى إنما مجال الباحثين منها ميدان دون ميدان ويقيد عموم إثبات كل ونفيه في مقامه ومشهده فإن لكل مقام علوما ومعارف لا تكون في غيره كما ورد لكل حد مطلع وصاحبه كثيرا ما يغفل عما عداه فلا يروي عنه إلا ما أحاط به وأن لا يذعن لنفي واحد قول الآخر ولا لتأويله إياه إلا ما كان من صاحب الوحي الإلهي نصا محكما وأن لا يسرع في إنكار مستغرب وأن يبالغ في تصحيح عقد الوضع بتشخيص ذاته من إقليم الوجود أين هو ؟ وكيف هو ؟ باستقراء أوصافه التي وقعت عنوان بحثه وموقع نظره فربما يعنون عن ذوات متغايرة بعنوان واحد يصدق على جميعها معا أو تعاقبا أو بدلا وبالعكس

(1/412)


وينقح عقد الحمل بتميز إطلاق مفهومه عن خصوص نحو ثبوته للموضوع وتحققه فيه ولا يعتمد في فن إلا على كلام دستوره ومخرجيه ولا يغفل عن فهم أصحابه كلامه ونقدهم رأيه ويزن ( 1 / 413 ) أصولهم بموازين الدلائل والقرائن وتصفح المواد حتى يتبين سقوط أدلتهم ونهوضها وقوتها وضعفها وخصوصها عن الدعاوى وعمومها ثم يعود فينظر في الفروع من طرق الأمارات الخصيصة بها نظرة ابتدائية فقد وقع في التفريعات ذهولات وغفلات وأن يفحص عن بدء أمر المخرجين والناصرين للمذاهب وتقلبات أحوالهم إلى ما انتهى إليه شأنهم إذ به يعرف أغراضهم ورجوعهم في الأقوال وأسبابه وانتقالهم من درجة إلى درجة أعلى وأدنى ومطمح نظرهم في مساعيهم من نيل الحق أو طلب السعادة أو المال والجاه وإفساد دين أو طريقة وأن يتنبه لتواردهم واختلافهم في ذكر وترك وإجمال وتفصيل ويعلم أن من الآراء ما يكون منتهى السعي إبانة عذر صاحبه في جهله بعمدة الباب
وبالجملة : فإذا حافظ على هذا وأمثاله بسليقة موهوبة أو فطانة مكتسبة هان عليه التوفيق - بإذن الله - والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم

(1/412)


نكتة :

(1/413)


الواقع : هو ما عليه الشيء بنفسه في ظرفه مع قطع النظر عن إدراك المدركين وتعبير المعبرين والوصول إليه يكون بالعيان أو البرهان ففسره قوم بما هو مقتضى الضرورة والبرهان ولما اختلفت الظنون في اعتقاد المقدمات برهانا أو شبهة وفي أخذ الظروف متسعة أو متضيقة اختلف معنون الواقع فاختلفت الحكايات عنه ومن لم يتنبه لهذا الاختلاف لم يتنبه للتطابق
فمنهم : من يزعم الواقع ظرف الثبوت فوق الوجود
ومنهم : من يحصره في الوجود ولوازمه ويجعل الوجود أصيلا فقط أو أصيلا وظليا أو إياهما ولحاظيا . ( 1 / 414 )
ومنهم : من يحصر الدائرة الإمكانية فيما له حيز وجهة
ومنهم : من يحصرها في المبصرات والمعاني التي فيها
ومنهم : من يحصرها على الأشخاص دون كلياتها
ومنهم : من يحصرها على مجتمعة الأجزاء
ومنهم : من يحصرها على ماله مادة سابقة دون مستأنف الوجود فيجب التقاط مرامهم عن فحاوي فروعهم وأصولهم

(1/413)


نكتة :

(1/414)


إثبات عالم المثال أصل عظيم من أصول التطبيق من جهة أن فيها صور الحقائق المجردة والمادية فيقع على ما فيه سير الناظرين فيخبرون عما وجدوا وإن لم يعرفوا أنه من عالم المثال وذلك في النقليات والكشفيات أكثر منه في العقليات
ومن جهة : أن فيه روحانيات تسمى : داعية اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الأديان والمذاهب وأنها تلقي صور المعتقدات لهم في المدارك وتروج تلك العقائد بالمنامات والهواتف فتطمئن النفوس إليها وتنفر عن أضدادها
ومن جهة : أن فيه خزانة الكواذب كما فصلته في تفصيل ( رسالة المحبة ) وينقدح بالاتصال بها آراء شتى وتستمر الآراء برسوخ ملكته
ومن جهة : أن تلك الصور المثالية تقع عنوانات ومرايا للأمور ( 1 / 415 ) الغائبة والموهومة فيظن التخالف فيها وهذا كثير في العقليات وفي هذا العالم ألوان وأبعاد وأشكال ولا يزاحم الأجسام المادية ويختلف المثاليات لطافة وكثافة ورسوخا واختفاء والعوام لا تظنها غير الأجسام وتسميتها : أجساما غيبية وشهادية فيجري على ذلك من يخاطبهم ويفهمهم وإنما : إنكارها وحصر الأجسام في الشهادية وضبط أحكامها من تدقيقات الفلاسفة والمتكلمين

(1/414)


نكتة :

(1/415)


من أصول التطبيق التجلي وهو ثابت عقلا ونقلا وكشفا وهو من أحكام جهة الكثرة لا ينكره منكر وحدة الوجود ولا يستغني عنه قائلها تمييزا بين الأحكام الحقية والخلقية وبينت مادته وصورته في ( رسالة المحبة ) وغيرها وله جنسان بإثبات الواسطة وبرفعها :
فالذي بإثبات الواسطة مادته ماله اختصاص بالاضمحلال والحكاية معا وصورته إرادة التعرف وينقسم إلى : وجودي ينتظم به أمر العالم وكمالي : هو في نفسه أمر خارجي وشهودي حاصل في المرايا الإدراكية ومن هذا القسم : صوري ومعنوي وذوقي
والذي برفع الواسطة إما أن يكون الحجاب من جهة المتجلى له من وصف أو ملابس أو بين المتجلي والمتجلى له أو من جهة المتجلي وهذا إنما يتصور بالانتقال من شأن إلى شأن ومن موطن إلى موطن ورفع ما في البيت إما بإفنائه أو برفع حيلولته بترق للمتجلي له أو تدل للمتجلي والمحقق القونوي عممه في كل مالا تحويه الجهات ( 1 / 416 ) وهو حق والفرق بين : تعلق النفس بالبدن والتمثل بالتمثل والمتجلي بالتجلي حصول الانحصار والانفعال معا في الأول والثاني فقط في الثاني وانتفاؤهما معا في الثالث ولا بد في التجلي من ممازجة عالم المثال لتضمن جهة الحكاية فإن الشهاديات لا تحتمل الحكاية طبعا وإن احتملتها وضعا وكثير من اختلافات العقليات والسمعيات والكشفيات ينحل به

(1/415)


نكتة :

(1/416)


قد يستغرق المتفكر والمكاشف في السانح فيختفي عليه ما عداه فينطق بالكلية وما مصداقها إلا الجزئية وقد يعتني بمعنى دقيق فيتبعه النظر فيحكم به على ما فيه شائبة منه وأدنى مناسبة معه ولا يلتفت إليه غيره وقد يشتبه الظل بالأصل والمقيد بالمطلق فيذعن لأصالة الظل وإطلاق المقيد ولا يتبنه له إلا بعد الترقي عنه والعارف بالأصل والمطلق يفضح قوله ثم إذا ترقى عنه فقد يعبر عنه بالرجوع وتخطئة الأول وقد يعترف بالخوض فيه وانكشاف سره وبطنه فيصحب الحكم السابق فيظن الاختلاف باقيا وقد انمحى فاحفظ عليه

(1/416)


نكتة :

(1/416)


الإصابة والأخطاء يطلق في العمليات تارة : على ترتب الغاية على الصنعة وعدمه وتارة : على الجريان على وفق القاعدة ( 1 / 417 ) وفي الشرعيات : مرة : على الوصول إلى مراد الشارع ومرة : على الحكم بمقتضى الدليل فيختلف بحسب الاختلاف بالمأخذ فيكون معنى الحكم بشيء أن مقتضى هذا القدر من المبادئ كذا وبهذا المعنى يرتفع التنازع في الشرعيات وبعد ذلك فالنسخ أيضا من أقسام التطبيق إذ فيه أعمال كل دليل في وقته وكذا التخصيص إذ فيه أعمالها في محل ما وبعد ذلك فمن باب التطبيق فيما صح سنده ودلالته ولو في الجملة الحمل على العزيمة والرخصة أو على الإباحة والكراهة أو على التشديد والتسهيل أو التنزيه والتحريم بناء على ضابطة إسقاط الإنكار
وعامة الرواة ممن لا يخوض في دقائق الأحكام إذا روى بالمعنى أمكن أن يزيد وينقص في الطلب والكف وأما الذكر والترك أو التعيين والإيهام فلا يعده من باب التعارض إلا من قل خوضه في المعاني وقريب منهما تقديم وتأخير في الكلام

(1/416)


نكتة :

(1/417)


ذكر حجة الإسلام في ( فيصل التفرقة بين أهل البدع والزندقة ) أن الشيء يكون له وجود في نفسه خارج الحس والعقل وهو الوجود الذاتي ووجود في الحس كالشمس رغيفا والقطرة خطا وقوس من محيط الدائرة الكبير مستقيما ووجود في الخيال إما على صورة المشاهدة كطيف النائم والمبرسم وإما على صورة للذكر ووجود في العقل بتجريد الذات أو الوصف المختص ولو عرفا عن غواشيهما كالصنعة من اليد والحفظ من العين ووجود تشبيهي وهو استعارة ( 1 / 418 ) اسم المبائن لشيء لاشتراكهما في معنى معروف ويجب الحمل في النصوص على ما هو الأقوى في الترتيب المذكور إلا أن يلوح للناظر ما يدل على نفي شيء من السوابق فيحمل على اللاحق مذعنا بأنه مراد الشارع فهذا وجه من التطبيق في الأخبار وإصابة للحق كاملا أو ناقصا . ( 1 / 419 )

(1/417)


فصل : في الجرح والترجيح

(1/419)


نكتة :

(1/419)


محاول التطبيق لا يستغني عنهما لما سبق : أن القاطعين لا يتعارضان فمعارض القاطع مظنونا كان أو مجزوما به مجروح وشبهته حجاب على الحق وبكشفها يرتفع والمظنونات والمجزومات دونه تتعارض فيجب تمييز قرينة تطابق الواقع أو تقاربه عما يلتبس بها من أمارات قاصرة ونكات شعرية وتمويهات سفسطية تصير غينا على عين العقل
فهذا المحاول والمجادل يشتركان في الجرح اشتراك المعالج للصلح للبنية والمعاند المفسد لها فيه والفارق أن نظر الأول بالإنصاف وهمه في انتخاب السالم من المقدوح ومأخذه كلام صاحب المذهب من الإشارات والتفريعات ونظر الثاني بالاعتساف وهمه في إلزام الشناعة لتحرك الحمية للمخالفة ومأخذه ما فرط من قلم أو لسان بصرفه إلى مستبعد ومخالفة عامة ما يوجب التبكيت والتحميق

(1/419)


نكتة :

(1/419)


الجرح : إما في أطراف الحكم من حمل على غير المحمل أو في نفسه نفيا وإثباتا أو في سوره من عموم وخصوص أو في جهته كدوام ولا دوام وإما في قوته من وهمية أو ظنية ضعيفة أو ( 1 / 420 ) قوية أو متوسطة أو جزمية مطابقة أو لا فهي بالحقيقة ترجع إلى الأربعة الأول وقد فصلته أكثر من هذا في المناظرة

(1/419)


نكتة :

(1/420)


وجوه الترجيح كنت أشرت إلى كثير منها في تفاوت مراتب أصحاب الطرق الثلاثة : العقل والنقل والكشف فإذا تعارضت وجوه الترجيح فالقرائن القوية القليلة تقدم على الكثيرة الضعيفة وهي إذا كانت للوقوع ترجح على مجرد صحة الاحتمال وحكم الشيء بخصوصه على حكمه في ضمن العموم والمعلوم وقته على مجهوله ومؤخر الوقت على مقدمه
والجملة : أن الأحسن أن يحكم في ذلك القلب السليم والوجدان المستقيم فما اطمأن إليه القلب يقدم على غيره وتعين وجه واحد للترجيح كثيرا ما يختلف وينتهض تارة وينتقض أخرى ولا ضرورة في التزام موارد النقوض والتكلف لدفعها والعقل إذا صح مقدم على النقل إذ النقل يثبت بالعقل ففي تركه إبطال الأصل بالفرع وأيضا يسلم النقل بالتأويل ولا مساغ له في العقل وهما يتقدمان على الكشف لمزيد الاشتباهات ومداخلة التعبيرات والتأويلات فيه
وقولهم : هذا طور وراء طور العقل يريدون به : القواعد التي أسسها الفلاسفة وسموها : المعقول وما هي إلا ثمرات العقل القاصر إذ هو وراء طور العقل في ابتداء الحصول وإن كان يتلقاها من جهة الإصلاح والقبول
وبالجملة : لا ريب في أن العقل العامي كثيرا ما يقصر عن حقيقة المكشوف والمنقول فعليهم يتوجه الرد والإنكار وأما العقل ( 1 / 421 ) المقدس المنور فليس شيء من الحق يخالفه ولذلك اتفقوا أن لا يعتقدوا ظواهر النصوص إلا بعد إثبات الإمكان وهذا هو العذر لعامة المذاهب كما قال العارف :
جنك بفتان ودو ملت بمه راعزرينهم
جول نديد ند حصيفت ره إفسانه زوند

(1/420)


نكتة :

(1/421)


في نفس التطبيق مدارج أرجحها أن يثبت بالبرهان ما يتشبث حكايات أهل المذاهب بحواشيه ودونه أن يثبت الحق في واحد ويبين أعذار القاصرين والمنحرفين عنه بقرائنها ثم أن يبدأ احتمال صحيح يتطابق به المذاهب ويكون رجحانه بنفس هذا الانطباق لا ببرهان آخر ثم أن نبدأ احتمالات للتطبيق فيقع الجزم بالقدر المشترك بينها أن : النزاع ليس حتما ثم أن يطبق عمدة الباب ويلغي التفريعات الغريبة عن الاعتبار

(1/421)


نكتة :

(1/421)


بالغ في ( مختصر الأصول ) صاحبه في ضوابط الجرح والترجيح ووضع كل الأول وجل الثاني في القياس الفقهي ولا يهمنا الإطالة فيه ونظر في ترجيح عامة النقليات وهو يقارب مقصدنا فالتقطت ما استحسنت منها بشريطة الإيجاز لمزيد النفع وأحلت الباقي على المراجعة إليه وأستطرد ترجيح الحدود بالوضوح والتعارف والذاتية على غيرها وبقرب الاصطلاح من اللغة أو ( 1 / 422 ) الشرع وبرجحان طريق كسبه ونحو ذلك واختلفوا في العموم والخصوص لكثرة النفع وحصول الاتفاق وتعرض لتركب الترجيحات مثنى وثلاث وما زاد وترك تعارضها وهو أهم لكثرة الوقوع والحاجة وتعرض لبعضها صاحب ( التنقيح )

(1/421)


نكتة :

(1/422)


يرجح المقنولان بالسند والمتن والخارج
فمن الأول : فرط الوثاقة وهو في الحفظ فمن وافق المكتوب بلا اعتماد عليه فهو أحسن وفي الفهم ومنه المهارة في اللغة وغوص الفكر وتنبه القرائن وعدم التلقن وفي الورع والصدق وفي التلقي عن السماع والقرب وتوجه القلب والمباشرة ومنه الاتصال فالمسند على المرسل والمرسل من لا يروي إلا عن عدل على غيره وقلة الوسائط وصراحة الرفع والسماع على مجرد اللقاء ومنه العدد فالمتواتر على المشهور وهو على الآحاد وكثرة الرواة على قلتها
ومن الثاني : الترتيب بين المحكم والمفسر إلى الآخر والعبارة على الإشارة إلى الآخر والمحرم على المبيح والإثبات على النفي والمجاز على الاشتراك والتأسيس على التأكيد والمفيد على الحشو والإطلاق على التقييد والعموم على التخصيص والإبقاء على النسخ والمفصل على المجمل ومعلوم التاريخ على غيره والإجماع الصريح على السكوتي ونحوها . ( 1 / 423 )
ومن الثالث : التوابع والشواهد ومعاضدة دليل آخر وتفسير راو فاهم للقرائن عارف للمقاصد وموافقة عمل الراوي وكثرة المزكين وجودتهم وصيغها ونحو ذلك

(1/422)


نكتة :

(1/423)


يقدم القياس على مثله بالأصل لكونه قطعيا أو أقوى ظنا ثابت الحكم متفقا عليه وبالعلة لذلك ولكونه ثبوتية حقيقية ظاهرة المناسبة والتأثير منضبطة مطردة منعكسة ضرورية لا تحسينية أو تكميلية فقط وعامة للمكلفين وبالفرع للمشاركة في عين الحكم والعلة مع الأصل وبقطعية وجود العلة فيه وشمولها له ولزومها له وعلى المنقول إن كان أضعف منه لضعف السند أو بعد المعنى ونحوه وبعض هذه الوجوه مختلف فيها - والله أعلم بالصواب - . ( 1 / 424 )

(1/423)


فصل : في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم

(1/424)


نكتة : في إثبات الجزء ونفيه

(1/424)


عرفوه : بأنه جوهر ذو وضع لا يقبل القسمة خطأ ولا وهما ولا عقلا واتفقوا على انتهاء الأوليين عند غاية الصغر واختلفوا في الثالثة فالحكماء حيث جعلوا العقل ظرفا واقعيا كان وجوب مطابقة تجزئة الصغير والكبير في المحاذيات والسريع والبطيء في الحركات قسمة واقعية لا تقف عند حد والمتكلمون لما أنكروه كان معنى القسمة العقلية عندهم : أن يحكم العقل بوقوعها في الخارج حيث ذكروا في الاستدلال عليه أن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات والتقسيمات حيث لم يشترط منها لاحق بسابق ممكنة معا فإذا أوجد الله - تعالى - كل قسمة ممكنة فأما تلك القسمة إن انقسمت لزم الخلف وإلا لزم الجزء والحكماء لم يدعوا مكان وقوع جميعها في الخارج بلا نهاية وإنما أثبتوا حكما إجماليا بتمايز الطراف فالمتكلمون اعترفوا بقيام ست مماسات به فما منعوا تمايز الأطراف والفرق بينه وبين الأجسام الديمقراطيسية أن المانع في الجزء الصغر فقط وفيها ذلك مع الصلاة فلا نزاع في محل واحد والمتكلمون بعد إمكان الجزء لم يثبتوا ابتداء تركب الأجسام منها والقول بإمكانه لا يستلزمه كما ذهب إليه : محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ( 1 / 425 ) ولكن قالوا به قصرا للمسافة فإن نظرهم لتصحيح أصول الشرائع فقط

(1/424)


والحكماء : حيث أرادوا تحقيق الحقائق مهدوا الكلام على إمعانات فخاصم المشائية الديمقراطيس في إبطال مذهبه ثم أفلاطون في إثبات الهيولى ثم فرعوا عليها تفريعات مقدوحة عند المتكلمين مخالفة على حسب تقريرهم لأصول الشرائع فطرح المتكلمون مؤنتها فهذا منهم كقول بطليموس : لا نثبت في الفلكيات فصلا ولم يثبت بالبرهان أن الصانع - جل مجده - هل صنع فيها ما يزيد على ضرورة ضبط الحركات أم لا ببرهان ؟ فافهم

(1/425)


نكتة :

(1/425)


اختلفوا في المكان سطح أو بعد واتفقوا على أنه الأمر الذي يشار بحسبه من هذه وهناك فإذا أشير إلى مكان ثم إلى آخر كان بينهما بعد قطعا فتنبهت له الإشراقية ونبهوا على وجوده أن في القلة فضاء يتوارده الأجسام مطابقة له بأحجامها
قالت المشائية : هو أمر موهوم وما ذلك البعد إلا للأجسام فيتوهم المتواردة المتساوية متحدا باقيا فاعترفوا أن من هذه بعدا موهوما يتوارده المتحيزات وتنفذ فيه أبعادها وهميا وهو مذهب المتكلمين وهذا الوهم سواء أسند إلى الظرف أو المظروف فإن مداره هو الظرف إذ به تعرف مساواة المظروفات المتعاقبة
والمتكلمون : لا ينكرون هواء سطح جسم بجسم ففي غير ما فرض محددا يتلازمان فلم يبق نزاع إلا أن الأحق بالتسمية هذا ( 1 / 426 ) أو ذاك والظرفية العرفية شاملة لهما وقبل حصول الجسم فيه كلاهما متوهم وبعده البعد موهوم والسطح موجود فرجحوه به وقولهم : الحيز ما به تتمايز الأجسام في الإشارة وضعا كان أو مكانا ففيه أنه لا يقال : الجسم في الوضع كما يقال : هو في الحيز والإشارة بهنا وهناك إلى المكان دون الوضع فإن الوضع وإن اتبعه فلا بد فيه من ملاحظة الأمر المباين ولا يحتاج إلى مباين في هنا وهناك

(1/425)


وفهم الإشراقية : أنه كما أن مدار التقدم والتأخر بالذات هو الزمان ومدار الصغر والكبر المقدار ومدار القلة والكثرة العدد كذلك يجب أن يكون مدار ما يشار إليه بهنا وهناك بالذات ما يمتنع الحركة عليه وعلى أجزائه المفروضة لذاته فإن المكان يتحدد قبل النقلة فيمتنع عليه التخلخل والتكاثف والفصل ووقوع الحدود بالفعل وكل أمر زائد على نفس البعد والمقدارية ولو كان سطحا كان قابلا لها التبعية محله وإن لم يكن ذلك لما يشار إليه في ثخن الجسم نقلة من هنا إلى هناك سواء كان وجوده بالفعل أو بالقوة القريبة منه ولزم أن يكون تصور انتقاله محوجا إلى تصور أمور خارجة عنه فلو فرض تحرك العالم كله بحركة واحدة وضعا لم يثبت للأجزاء حركة انتقالية أصلا لانحفاظ الأوضاع
والإشراقية : لما اعتادوا مطالعة لطائف الأنوار والأمور المثالية هان عليهم تصوره . ( 1 / 427 )

(1/426)


وخفي على المشائية : فتوجهوا إلى إبطاله تارة بأن الأبعاد متماثلة يصح على كل منها ما يصح على الآخر فإذا احتاج البعد لذاته في الأجسام إلى مادة احتاج إليها جميع الأبعاد فصارت أجساما وقد عرفت انتفاء المماثلة من بيان أحكامه وتارة بأن استحالة التداخل للبعدية فلو كان بعدا مجردا امتنع انتقال الجسم فيه من حيز إلى حيز آخر
ومن البين أن التداخل في الجواهر الفردة عندهم ممتنع فالتحيز على الاستقلال علة قطعا فإن فرض في المقادير ما يؤدي إليه كان ممتنعا بتلك العلة فلا حاجة إلى علة أخرى ولا نجد تداخلا ممتنعا لا يؤدي إليه حتى يثبت علة ثانية مع أن المذكور في تعريف التداخل بالاتفاق هو دخول متحيزين حيزا واحدا ولم يقل أحد بأن دخول متحيز في حيز ثان منه
والصوفية : شاهدوا في كل موطن من الغيب والشهادة زمانا ومكانا غير ما في موطن آخر فضله عين القضاة في ( رسالته الزمانية والمكانية ) وسكت عنه إذ الغرض مجرد التمثيل لا القصد إلى تحقق أمره

(1/427)


فالمتكلمون : يلازمون المشائية في أول الأمر ويرجعون إلى الإشراقية في آخر الأمر ويسمونه موهوما لضابطة تستفاد من كلامهم وهي أنهم عرفوه بفراغ موهوم يشغله شاغل ففسره أتباعهم بأنه لا شيء محض وينافيه قولهم : لو كان الواجب متحيزا لزم إما قدم الحيز أو كونه تعالى محلا للحوادث وقولهم بوجود الوضع وهو الكون في الحيز الذي قسموه إلى اتصال وانفصال وحركة وسكون إذ لا معنى لوجود الكون في ( 1 / 428 ) اللاشيء المحض فلا يكون تسمية المكان المشار إليه والزمان المؤرخ المقسوم والمقدار الممسوح والعدد المضروب والمقسوم موهوما كتسمية غلاف حلس على قرص الشمس وقيل في الكوز موهوما بل يفهم من موارد استعمالاتهم وإن لم يتفوهوا به أن الأعيان والمعاني المحسوسة للعامة أو الخاصة وما يتوقف هي عليه موجودة عندهم وغيرها مما يلحقها كهذه الأمور والحقوق والعقود والأحكام الخمسة عندهم موهومة ولها في الخارج آثار وليست من قبيل الموجودات الذهنية التي أنكروا وجودها لمشاركة الممتنعات فيه فمذهبهم إذا يقرب من الإشراقية وليحفظ هذا المعنى فإنه نافع في هذا الباب جدا

(1/427)


نكتة : في الزمان

(1/428)


اتفقوا على أن الزمان هو الأمر المقسوم إلى الأيام والشهور والأعوام وهو غير ظلمة الليل وضوء النهار اللذين هما مدركان بالبصر وغير الشمس والقمر الدائر عليهما أمر الأيام والشهور والسنين وهو أمر غير قار
فقالت الحكماء أولا : إنه الأمر الذي به التقدم والتأخر اللذان لا يجامع فيهما القبل والبعد بالذات ثم ازدادوا فكرا فقالوا : هو كم متصل غير قار ثم أمعنوا فقالوا : هو مقدار الحركة ثم أمعنوا فقالوا : هو مقدار حركة وضعية سرمدية للفلك المحيط بالكل أسرع من جميع الحركات . ( 1 / 429 )

(1/428)


والمتكلمون قالوا : هو تقدير متجدد موهوم بمتجدد معلوم ولم يريدوا بالتقدير فعلنا فإن الزمان ليس من فعلنا ولا نفس الأمور المتجددة فإنها تكون جواهر أو أعراضا قارة وليس شيء منها زمانا بل أرادوا أمرا موهوما بحسبه يتقدر متجدد بمتجدد وهو عند الحكماء كذلك فإن أهل العقول المتوسطة من الحكماء والمتكلمين توافقوا على : أن الحركة القطعية التي ينطبق عليها الزمان أمر مرتسم في الخيال من الحركة التوسطية وأن اتصال المعدوم بالمعدوم محال وأيضا اتفقوا على أن الحركة : هي المتجددة المنصرمة لذاتها فكأنهم قالوا : هو أمر بحسبه وبالنظر إليه يتقدر توالي أكوان الحركة سابقية ولاحقية والمتكلمون : لم يوافقوهم في إمعاناتهم لمعان وتفريعات غير مسلمة عندهم والاكتفاء بعنوان واحد من بين وجوه متعددة لا ينبغي أن يعد نزاعا حقيقيا

(1/429)


والإشراقية : وافقت محققي المشائية في وجوده الدهري وأنه متصل الذات مقدار الحركة ولكنهم - كما زعموا - البعد القار الجسماني مقدارا جوهريا زعموا البعد غير القار أيضا مقدارا جوهريا حيث لم يجدوه طبيعة ناعتية الذات ولا وجدوا فيه معنى الحلول فلا يقال : الزمان في الحركة كما يقال السرعة في الحركة واللون والبعد والحركة في الجسم ولا وجدوا لخصوص الحركة الوضعية في تقويمه مدخلا لافتقار الحركة النفسانية الكيفية المتقدمة بالذات على الوضعية إليه ولا وجدوه يتعدد بتعدد الحركات مع تقدرهما جميعا به وامتناع تقدر الشيء بالذات بما يقوم بغيره ووجوده أبعد في قبول العدم من محله وحامل محله ومقوم حالمه لاستلزامه الوجود على تقدير العدم بنفسه دونها مع أن وجود العرض في نفسه هو وجوده لمحله فينعدم بعدمه حتى إن الوجود إذا قام بشيء انعدم بعدمه وهو أشد معاندة للعدم منه . ( 1 / 430 )

(1/429)


والمشائية : لما سلكت في إثباته تقدر الحركات به وما كان المقدار عندهم إلا كما جزموا بعرضيته حملوا قرائن الجوهرية على استبعادات عرفية ووهمية ثم بالغوا في أن أية حركة مقومة له
والمتأخرون من محققي الكلام : لما أذعنوا لحدوث العالم بأسره جعلوا الزمان قسمين : موجودا : هو معيار التجددات والحركات وموهوما : لاعتياد المدارك به جعلوه مناط القدم الزماني للواجب وظرفا لعدم الزمان إذ ليس العدم شيئا محققا متجددا حتى يحتاج إلى زمان موجود قاسوه على البعد القار المتحقق من المركز إلى المحدد والمتوهم منه إلى مالا يتناهى وهما فهؤلاء قد سلكوا شيئا من مسالك التطبيق فافهم هذا واعلم أن التطبيق بين كلامي هؤلاء الماهرين في التحريرات والتمييزات عسير بالنسبة إلى غيرهم - والله أعلم

(1/430)


نكتة :

(1/430)


اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب ولا بيان فضيلة ولا نهى الصحابة عنه قط وعلى أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مدة إلا أنه زاد ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال : ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فلم يرفع يديه إلا في أول مرة وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا وإنما أراد تركه أخرا كما يشعر به بعض ما ينقل عنه : أن آخر الأمرين ترك الرفع ولا يدري مدة الترك فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف فظن قوم : أن سنيته كانت بمجرد الفعل فبطلت بالترك وقوم : أن الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام الفرض بالعذر فهي إذا باقية فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف ( 1 / 431 ) أفعال الصلاة لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين فلا نكير على فاعله لأحد بل في بقاء سنيته بناء على الظن فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة

(1/430)


ولم يتعرض - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام حيث قال : ( ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ) . وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يرى خلفه كما يرى أمامه فثبت بقاء سنيته وتركه - صلى الله عليه وسلم - أحيانا كما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - والبراء بن عازب - رضي الله عنه - وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله - خبر هذا الجمع إنما روى له الأوزاعي عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فرجح عليه أبو حنيفة حمادا عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر حيث لم يرفع إلا في التحريمة بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر وما يذكر عن الشافعي - رحمه الله - من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد

(1/431)


نكتة :

(1/431)


اختلفوا في نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مفردا للحج أو قارنا أو متمتعا سائق الهدي ووجه التطبيق : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين جمع الناس وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة كان لا ينوي إلا الحج فلما بات بذي الحليفة في العقيق أمر بالقران فقال : ( لبيك بحجة وعمرة ) فلما دخل مكة وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وعرف أنه في آخر عمرة ولا يعيش ( 1 / 432 ) إلى قابل أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة وقال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وأحللت مع الناس كما حلوا ) فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة وقارنا بحسب تلبيته من العقيق حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوادي المبارك : ( وقل عمرة في حجة ) وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية نعم عرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى فكان قارنا حقيقة مفردا في أول العمر متمتعا في آخره

(1/431)


نكتة :

(1/432)


ورد في الحديث : ( لا عدوى . . . )
وورد في آخر : ( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )
واختلفوا في وجه التطبيق فقيل : ( لا عدوى ) سببا مستقلا و ( فر من المجذوم ) لأنه من الأسباب العادية لإيجاد الله - تعالى - المرض عقيب مخالطته كسائر إضاعة الاحتماءات وارتكاب خلاف المزاج وإنما نفى عنها دون سائرها لأنه لم يتبين وجه تأثيره ظن روحانيا قاهرا بل مستقلا وقيل : ( لا عدوى ) في نفس الأمر و ( فر من المجذوم ) تحرزا عن مواضع التهم والتوهم وقيل : ( لا عدوى ) في حكم الشرع فلا يلزم على المعدي ضمان جنايته ولا الانتقام منه و ( فر من المجذوم ) صونا لجسدك من العلة الخبيثة العسيرة البرء

(1/432)


نكتة :

(1/432)


طائفة من الصوفية قالوا : بوحدة الوجود بمعنى : أن ليس في الخارج إلا ذات الحق وحده وكل ما يسمى ( غير ) أو ( سوى ) فهو من تطورات ظهوره وتقييدات شؤونه
وطائفة قالوا : لا نسبة بين الحق والخلق إلا نسبة الإيجاد فلا عينية ولا وحدة أصلا بينهما ممن الموحدة من قال : إن ذلك في ( 1 / 433 ) المعاينة والوجدان دون الواقع فلا مخاصمة معه لإمكان اجتماع هذه العينية الوجدانية مع الغيرية المحضة الواقعية كاختفاء الكواكب عن البصر عند طلوع الشمس واشتداد النهار أو كرؤية الحمرة على العالم عند وضع زجاجة حمراء على العين ومن اعتقد أنه في الواقع كذلك فالتطبيق على معتقده أن في العالم نظرين :
نظرا : إلى جهة امتياز الحقائق وما هي إلا جهة عدمية وأنى للعدم أن يتحد بلاوجود فبالغ في امتياز الحقائق وسقوطها في ظل الأوهام ونزاهة وجه الحق عن غبار الأكوان والأفهام وقال : هو وراء الوراء ثم وثم فحكم بانقطاع النسبة سوى ظلية الصفات وإيجاد مرايا الذوات فيطابق حينئذ مسلك الشهودية ولا يدعي أحد اتحاد الممكنات بمرتبة الأحدية المجردة وصرافة الذات
والنظر الثاني : في العالم من حيث اكتنافه بقيومية الحق ووجوده بسريان فيضه من حيث إنه أقرب إليهم من حبل الوريد وهي بالنسبة إلى الحق كالصور المترائية في مرآته أو أمواج وأشكال متوهمة في شموله واتساعه فلم يثبت للعالم عينا غير عين الحق وقال : هو عين كل شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها بل ( هو هو ) و ( الأشياء أشياء ) فالشهودي لا ينكر أن وجود العالم بقيومية الحق قيومية موجودة لموهوم لا يقاس بها قيومية النفس للبدن والجوهر للعرض بل أشد من ذلك وأقوى من غير مداخلة وممازجة وانحصار فيعبر عن ذلك بالإيجاد والخلق لا كخلق الباني للبناء أو اقتضاء الصور النوعية للأعراض وأما التعبير ب : ( هو هو ) أو ( هو ليس هو ) فهو لا يغير ربطا واقعيا إنما هو طرق التعبير للمعنى الدقيق أليس بين الثلاثة والفرد ربط واحد مصحح أن يقال تارة : الثلاثة فرد وتارة : الثلاثة مفهوم والفردية عارضة لها . ( 1 / 434 )
وقد بينا في ( دفع الباطل ) هذا المعنى بما لا مزيد عليه فمن اشتاق فليرجع إليه
وأما بعض الشهودية الذين قالوا : إن العالم وجود خارجي حقيق مستقل غير الواجب من آثار صنعه وبعض الوجودية الذين قالوا : ليس الواجب غير هذا الهيكل المخصوص المسمى : بالعالم فهو من كثرة أجزائه عالم ومن حيث وحدة اجتماعه حق فهما على طرفي مضادة يجمعهما هذا السر المذكور من قبل ويفرق بينهما قصور نظر كل من الفريقين

(1/432)


نكتة :

(1/434)


أساس النزاع بين الفريقين على ما حصله إمام الشهودية هو : عينية الظل أو غيريته للأصل بالحقيقة والانطباق أن يتأمل أن ظل العلم علم لا غيره وكذا سائر الصفات وهو بنفسه مصرح أيضا بأن قاعدة العقلاء أن ماهية الشيء ما به الشيء ( هو هو ) غير مسلم في الماهية الظلية بل الظل هو بأصله لا بنفسه فأصله أقرب إليه من نفسه فحينئذ لم يبق بينه وبين قول الوجودية : ( الظل : ظهور الشيء في المرتبة الثانية وما بعدها ) فرق يعتد به إلا بالتعبير فإن كلا منهما عند الشهودية أخذ بشرط المرتبة مع الحقيقة فتباينا وعند الوجودية لا بشرطها فاتحدا ومنشأ ذلك : مزيد اعتناء واحد بجهة الامتياز وآخر بجهة الاشتراك والغفلة عن الأخرى فثبتت العينية من وجه والغيرية وجه

(1/434)


نكتة :

(1/434)


اتفق العلماء والصوفية الشهودية على : أن النبوة أفضل الولاية ولذا كان النبي معصوما عن المعاصي مأمون الخاتمة علمه قطعي وقبوله واجب وإنكاره كفر دون الولي وقال - سبحانه وتعالى - ( 1 / 435 ) : ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) . ولم يذكر معهم الأولياء
وقالت الوجودية : الولاية أفضل من النبوة ولما كان التفوه به ثقيلا منكرا فسر بأن المراد : جهتا شخص واحد من الأنبياء والولاية توجهه إلى الحق بالتمام والنبوة توجهه إلى الخلق بالأمر بلا واسطة وجهة الحق أشرف من جهة الخلق فاختلس منه أن النبوة أفضل والولاية أشرف
وخاصمهم الشهودية : بأن النبوة ليست نفس التبليغ والتربية بل هي قبول الوحي منه - سبحانه - لأمر التبليغ فهي جهة الحق دون الخلق وبأن النبوة غاية الولاية وانتهاء كمالها فهي أفضل منها وبأن التوجه إلى الخلق بنيابة الحق وجارحيته بجعل نفسه في ضمن الحق وجهته بخلاف التوجه إلى الحق فإنه بجعله خارج الحق في مسامتته

(1/434)


وتفطن الشيخ المجدد - رحمه الله - : أن غرضهم : أنه بمعرفة التوحيد الوجودي يحصل من زوال الإثنينية وتمام الفناء وكمال الوصل كما هو عند الأولياء مالا يحصل في أحكام جهة العابدية والمعبودية بحفظ الأدب وكمال الإطاعة كما هو دعوة الأنبياء - عليهم السلام - وطريقتهم المتوارثة عند العلماء فأزاحه بأن طريقة الولاية وكمالاتها ظلية وهما للنبوة أصلية وشرحه على ما فهمت أن طريقة النبوة في البداية والنهاية تفضل طريقة الولاية فيهما وتوجه الأنبياء إلى الهوية الخارجية بلا توسطة برزخ ومرآة من الأنفس والآفاق وانتهاؤهم إلى التجليات الوجودية إلى حصول ربط القبول والنيابة والحماية على يد من بأيديه نظام القضاء والقدر فيرتب عليهم آثاره في الخارج

(1/435)


وتوجه الأولياء إليه - سبحانه - ( 1 / 436 ) بتوسط البرازخ ومرايا الأنفس والآفاق فمن جاوز هذا منهم فقد دخل في وارثة النبوة بالعرض وانتهاؤهم بالبقاء الوجداني بالحق ولا يترتب عليهم آثار الأولهية والوجوب مطلقا إلا في إدراكهم ووجدانهم وإلى القيام بمال المتابعة للأنبياء بحسب مراتبها السبع وإن اشتركوا في نيل تجلياته - تعالى - في المرايا الإدراكية والتلقي منه - سبحانه - بلا واسطة فالحق : أن فضل الولاية : بطول البقاء وسعة الدائرة ودخل السعي والاكتساب فيها وفضل النبوة : بحصول نوع من الاستقلال ومزيد الاختصاص والجاه واستحكام الرابطة معه وأن الولي إذا خاض في أنانيته دخل في مراتب الإطلاق وداخل في حقائق الأشياء وانكشف عليه شأن من الذات ربما يخفى على النبي والنبي يجب تعرفه لواسطة الإلقاء والجمع بين رؤيته وكلامه وليس ذلك للولي ولكن الحق الصريح : أن التابع دون المتبوع
وللناس فيما يعشقون مذاهب

(1/435)


ومما يوجب الاشتباه : أن الآخر حصولا يغير عند صاحبه ثم إن هذا في محض النبوة والولاية الخاصة فمن فاز مع ذلك بنوع آخر من الكمال أو بالجمع بين صنوف من الكمال ينبغي أن ينظر في فضله وفضل اجتماعها فيه ولا يقتصر على ما ذكر

(1/436)


نكتة :

(1/436)


ادعى الحكماء امتناع الخرق والالتئام على الأفلاك وخالفهم أرباب الشرائع في ذلك والحق : أن الحكماء لم يأتوا فيه ببرهان فالأدلة المذكورة فيه على تقدير تمامها إنما تدل على امتناعهما في تحدد الأمكنة والأزمنة ولا دخل لباقي الأفلاك في ذلك وإنما حكموا بذلك لدخولها في اسم الفلك ولموافقتها له في الحركة الدورية مظنونا فيها الدوام ( 1 / 437 ) ولم يعلموا أن دوام ميل نفساني مستدير للكل لا ينافي ميلا مستقيما لأجزائه سيما للمنفصلة منها
وقد صرح الصدر الشيرازي : بأن هذا الحكم منهم بنوع من الحدس وما هذا الحدس إلا من قبيل تبادر الذهن لا من مقدمات البرهان وأهل الشرع جزموا بحدوث الأفلاك من مواد تشارك العناصر في أصلها

(1/436)


نكتة :

(1/437)


ذكر الحكماء لكائنات الجو أسبابا من تغيرات الهواء والماء بالاستحالات والانقلابات والاختلاطات وأرجعه أصحاب الشرائع إلى ملائكة يتصرفون بأمر الله فتبين المنافاة بينهما ولا تنافي فإن للأشياء أسباب أربعة والحكماء اعتنوا بالمادية وأصحاب الشرائع بالفاعلية كيف ؟ والحكماء لا يستغنون عن أسباب سماوية غيبية يسميها عامتهم : بالأوضاع المخصوصة وخواصهم : بالقوى الروحانية وإنما يتصرف الفاعل بجمع المواد وإصلاحها كما نرى في أفاعيلنا فلا ينبغي الإنكار كيف ؟ ويعرف من التوراة : أن البخار يرتفع من وجه الأرض فيسقي نواحيها ولما ثبت نزول هذه القوى من السماء صح أن الماء ينزل من السماء وجاز أن يراد من السماء طبقة الزمهرير والبرد العاقد فيها هو جبال البرد يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء

(1/437)


نكتة :

(1/437)


أهل الشرائع : يفهمون من مثل قوله تعالى : ( الأرض فراشا ) و ( دحاها ) و ( سطحت ) أنها سطح مستو والحكماء : ( 1 / 438 ) يثبتون كرويتها بالأدلة الصحيحة فيتوهم الخلاف ويدفع بأن القدر المحسوس منها في كل بقعة سطح مستو فإن الدائرة كلما عظمت قل انحداب أجزائها فاستواؤها : باعتبار محسوسية أجزائها وكرويتها : باعتبار معقولية جملتها

(1/437)


نكتة :

(1/438)


ورد في الحديث : ( أن الشمس إذا غربت تذهب حتى تسجد تحت العرش ) . وأثبت الحكماء : أنها لا تنفك عن موضعها من الفلك إذا هي تحت الأرض فإن فهم العرش محيطا فهي دائما تحت العرش وإن فهم إلى الفوق فقط فهي لم تذهب إليه وحل الخلاف أن الحكماء أثبتوا اختلاف أحوالها بالنسبة إلى السفليات في الأوتاد الأربعة فأصحاب النفوس المطهرة والقلوب المنورة ينطبع في بواطنهم حال القاعد عند الطلوع وحال القائم عند الاستواء وحال الراكع عند الغروب وحال الساجد عند غاية الانحطاط وهي في جميع ذلك تحت العرش لأنه فوقها دائما ومحيط بها

(1/438)


نكتة :

(1/438)


ورد في المصحف المجيد : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) ( والجبال أوتادا )
وفي الحديث الشريف : ( كانت الأرض خلقت تميد على الماء فأمسكتها الملائكة فما سكنت فخلق الله - سبحانه - الجبال فسكنت بها )
وأثبت الحكماء : أن انجذاب الأثقال إلى مركز العالم الذي هو مركز الأرض والماء فالماء فوق الأرض معتمد من كل جهة عليها على سمت مركزها فكيف تميد عليها ؟ والجبال في الأرض فإن مالت مالت معها وكيف تمنعها عن الحركة ؟ والمطابقة أن من المحسوس المتيقن عند أهل الهند أن البئر إذا حفرت تصل إلى الثرى فيرشح فيها الماء من الجوانب كالعرق من ( 1 / 439 ) المسام بطيئا أو سريعا فإذا أمعن فيه انتهى إلى طبقة صلبة لا يداخلها الماء أصلا ثم إذا بولغ فيه بكسرها نبع الماء العذب القراح بقوة وشدة كأنه كان منضغطا فارتفع فإن أخرج منه آلاف ذنوب لا ينتقص ولم يجدوا لهذا الماء إلى أربعمائة أو خمسمائة ذراع نهاية
والله يعلم كم يوجد الماء وراءها ؟ ولا شك أن تحتها طبقة أرضية أخرى فكأن تميد الأرض بهذا الماء لا بالماء المنبسط فوقها ونصب أصول الجبال في الطبقة الثانية من الأرض لا في هذه الأرض فقط فافهم

(1/438)


نكتة :

(1/439)


وقع في الكلام المجيد : ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) أي : مثل السموات السبع
وجاء في الحديث : ( أنها طبقات متفاصلة )
ودلائل الهيئة دلت على أن الأرض قطرها : ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا وهذا لا يسع سبع أرضين في جوفه قريب من هذه الأرض فما ظنك إذا كانت السافلة أعظم من العالية - كما يروى - ؟ ولا يوجد أرض أخرى بين السماء والأرض وهذا وإن لم يخالف الآية قطعا لإفراد الأرض وإدخال ( من ) التبعيضية فيفهم أن تلك السبع قطع أرض واحدة وهي كذلك فإن المعمور منها سبع بلاد مختلفة بالأديان والرسوم والطبائع والنباتات وبعض الحيوانات أحدها : للسودان من : البربر والزنج والحبشة وأخرى : للبيض من : الإفرنج والطنجة والسقالبة ثم للعرب ثم للفارس ثم للهند ثم للترك ثم للصين أو يتصرف في الأرض أن المراد علام العناصر وهو سبع طبقات وأما الحمل على الأقاليم فبعيد ولكنه يخالف الحديث الصريح ويدفع هذا الخلاف بأن ( 1 / 440 ) ستة أرضين في طبقات عالم المثال كأنها ستة تماثيل لهذه الأرض

(1/439)


والعامة وأصحاب الشرائع : لا يفرقون بين أجسام الشهادية والمثالية إلا بالصفات : كالطاقة والكثافة والنورانية والظلمانية
ويؤيده ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( أن فيها ابن عباس كابن عباسكم )
وقد يظن : أن تلك الأرضين هي المنتقثة المنطبعة منها في النفوس الفلكية وفيه : إنها إذ اتسع فالأرضون عشر إلا أن يتكلف أنه كما ليس للأرض قدر محسوس بالنسبة إلى الأفلاك العلى ليس لها صورة فيما فوق الفلك المشتري ولا يخفى بعده . هذا آخر ما نقلته من كتاب ( التكميل )

(1/440)


وأما أثر ابن عباس الذي أشار إليه فهو من رواية الحاكم في المستدرك عن طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى : ( ومن الأرض مثلهن ) قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى وهذه الألفاظ : فيها تقديم وتأخير في بعض الطرق
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد
قال البدر الشبلي في ( آكام المرجان في أحكام الجان ) : قال شيخنا الذهبي : إسناده حسن ورواه الحاكم أيضا عن طريق عمرو بن مرة عن أبي الضحى بلفظ : ( في كل أرض نحو إبراهيم )
وقال : هذا حديث على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي في كونه على شرطهما وزاد رجاله : ( أئمة ) حكاه تلميذ بدر ( 1 / 441 ) الدين الحنفي في ( الآكام ) ورواه أيضا البيهقي في ( شعب الإيمان ) و ( كتاب الأسماء والصفات ) له وقال : إسناده صحيح ولكن شاذ بمرة ولا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا
قال السيوطي في ( الحاوي ) : وهذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما تقرر في علوم الحديث لاحتمال أن يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ وعلة تمنع صحته وإذا تبين ضعف الحديث أغنى ذلك عن التأويل لأن مثل هذا المقام لا تقبل فيه الأحاديث الضعيفة ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم : النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي بلغ عنه - والله سبحانه وتعالى أعلم - . انتهى

(1/440)


ورواه ابن جرير في ( تفسيره ) من طريق عمرو بن مرة عن أبي الضحى بلفظ : ( في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض )
قال العسقلاني والقسطلاني : هكذا أخرجه مختصرا وإسناده صحيح . انتهى
وذكره السيوطي في ( الدر المنثور ) وعزاه لابن أبي حاتم وقال في ( التدريب ) في الكلام على الطريق الأولى : ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم حتى رأيت البيهقي قال : . . . الخ
قال القسطلاني : ففيه : أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما هو معروف عند أهل هذا الشأن فقد يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ أو علة تقدح في صحته ومثل هذا لا يثبت بالحديث ( 1 / 442 ) الضعيف ونحوه في ( روح البيان ) ومثله في ( سيرة الحلبي )
قال في ( البداية ) : وهذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات
قال السخاوي في ( المقاصد الحسنة ) : أي أقاويل بني إسرائيل مما ذكر في التوراة أو أخذ من علمائهم ومشائخهم كما في ( شرح النخبة ) وذلك إذا لم يخبر به معصوم ويصح سنده إليه فهو مردود على قائله . انتهى

(1/441)


ونقل في ( الكمالين حاشية الجلالين ) عن ابن كثير تلميذ شيخ الإسلام : ابن تيمية - رحمه الله - مثل ما تقدم من ( البداية ) ولفظ علي القارئ في موضوعه المختصر المسمى : ( بالمصنوع ) نقلا عن الحافظ ابن كثير : ذلك وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله . انتهى
وقال الحلبي في ( إنسان العيون ) بعدما نقل قول البيهقي : ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف . انتهى
ومثله في تفسير القاضي : ثناء الله المسمى ( بالمظهري ) كما قيل وضعفه الزرقاني أيضا
وفي تفسير ( البحر المحيط ) : ولا شك في وضعه
وذكره الشوكاني في تفسيره : ( فتح القدير ) ولم يزد على قول البيهقي : ( 1 / 443 ) وفي إسناده عطاء بن السائب وهو من المختلطين كما صرح به النووي في مقدمة شرحه لمسلم
وقال الحافظ في ( التقريب ) : صدوق
وفي ( هدى الساري مقدمة فتح الباري ) : اختلط فضعفوه بسبب ذلك
وقال يحيى بن معين : لا يحتج بحديثه وما روى عنه البخاري إلا متابعا في مقام واحد مع أبي بشر ولم يخرج عنه مسلم
وقال الحاكم في : باب الكسوف من ( المستدرك ) : لم يخرجاه بسبب عطاء بن السائب . انتهى

(1/442)


والعجب من الحاكم كيف حكم بصحته ؟ مع علمه بأن الشيخين لم يخرجا حديث عطاء وهذا الأثر من روايته فما أحقه بالتضعيف
وقال المنذري في كتاب ( الترغيب ) : عطاء بن السائب الثقفي قال أحمد : ثقة ورجل صالح من سمع منه قديما كان صحيحا ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء ورواية شعبة والثوري وحماد بن زيد عنه جيدة زاد في ( التهذيب ) : ممن سمع منه قديما قبل أن يتغير : شعبة وشريك وحماد لكن قال يحيى بن معين : جميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان فثبت أن شريكا سمع منه في حالة الاختلاط والتغير دون ( قبل ذلك ) وهذا الأثر الضعيف من رواية شريك عن عطاء
قال القسطلاني : وعلى تقدير ثبوته يحتمل أن يكون المعنى : ثم ( 1 / 444 ) من يقتدي به ويسمى بهذه الأسماء وهم رسل الرسل الذين يبلغون الجن عن أنبياء الله ويسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه . انتهى
زاد السيوطي - رحمه الله - : وحينئذ كان لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الجن اسمه كاسمه ولعل المراد اسمه المشهور وهو : محمد - صلى الله عليه وسلم - فليتأمل

(1/443)


ومثله في تفسير ( روح البيان ) ونحوه في ( إنسان العيون ) نقلا عن السيوطي
وحمله ابن عربي في ( الفتوحات ) على عالم المثال حيث قال : وخلق الله من جملة عوالمها على صورنا إذا أبصر العارف يشاهد نفسه فيها وقد أشار إلى مثل ذلك ابن عباس فيما روي عنه في حديث هذه الكعبة وأنها بيت واحد من أربعة عشر بيتا وإن في كل أرض من السبع الأرضين خلقا مثلنا حتى إن فيهم ابن عباس مثلي وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف . انتهى
وعليه حمله صاحب ( التكميل ) - كما تقدم - وعلى ذلك ليس فيه ما يفيد المستدلين به وليس الأثر الموقوف بحديث عند أهل النقد والمعرفة بعلم الحديث حتى يحتج به في الأحكام والتفاسير عند الجماهير
وقال الشوكاني في ( السيل الجرار ) : تفسير الصحابة للآية لا تقوم به الحجة لا سيما مع اختلافه . انتهى

(1/444)


وهذا الأثر : قد ورد في بدء الخلق دون العقائد حتى تبنى عليه عقيدة ويحتاج إلى تطبيقه وتأويله وتصحيح معناه وإثبات مبناه والمعتبر ( 1 / 445 ) في العقائد : هو الأدلة اليقينية لا الظنية كما صرح بذلك أهل العلم بالكلام
قال الرازي في ( الكبير ) : إن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين وكيف يجوز إتباع الظن في الأمر العظيم وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأجدر . انتهى
وعلى هذا فلا يستأنس في تأييد هذا الأثر الضعيف أو الموضوع إلى ما ذكره في ( العرائس ) و ( بدائع الزهور ) من وجود الخلق في بقية طبقات الأرض لكونه مختلفا مفتعلا مرويا من الإسرائيليات
قال النيسابوري في ( تفسيره ) : ذكر الثعلبي في تفسيره فصلا في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعدم الوثوق بتلك الروايات . انتهى
قال الخفاجي في ( حاشية البيضاوي ) : وليست هذه المسألة من ضروريات الدين حتى يكفر من أنكرها أو تردد فيها والذي نعتقده : أنها طبقات سبع ولها سكان من خلقه يعلمهم الله . انتهى

(1/444)


وقد وقعت الزلازل والقلاقل لأجل ذلك الأثر لهذا العهد بين أبناء الزمان بما لا يأتي بفائدة ولا يعود بعائدة ولهذا ذكرنا في بعض الفتاوى : أنه ليس إثبات تلك الأوادم والخواتم من أحكام الشرع في ورد ولا صدر وليس على القول بموجبه أثارة من علم وكل حزب بما لديهم فرحون والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
ثم من استدل بهذا الأثر على إمكان وجود مثله - صلى الله عليه وسلم - وكونه داخلا تحت القدرة الإلهية فقد أطال المسافة وأبعد النجعة وأتى ( 1 / 446 ) بما هو أجنبي عن المقام وخارج من محل النزاع فإن بين المسألتين بونا بعيدا وأنى لهم التناوش من مكان بعيد . ( 1 / 447 )

(1/445)


قف :

(1/447)


هذا المرقوم : قد تم بعون رب البرية في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف الهجرية والراقم له بيمناه : الفقير إلى عفو مولاه ابن عبده وأمته الخامل المتواري أبو الطيب : صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ستر الله عيوب نفسه وجعل غده خيرا من أمسه
وهذا العبد - عفا الله عنه ما جناه واستعمله فيما يحبه ويرضاه - : له يد جارحة ويمنى عاملة في العلوم الشرعية سيما التفسير والحديث والفقه وأصولها والتاريخ والأدب كما يلوح من مؤلفاته وقد خصه الله - تعالى - بكرمه الوافر لهذا العهد الآخر بتدوين أحكام الإسلام على الوجه المأثور عن سيد الأنام والسلف الكرام على نوع لم يسبق إليه أحد من علماء الديار الهندكية والله يختص برحمته من يشاء
ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لسانا لما استوفيت واجب حمده

(1/447)


وقد أعانه - سبحانه وتعالى - على تحصيل تلك العلوم وكتبها النفيسة العزيزة الوجود بأنواع المعلوم والموجود وأمال إليه قلوب أوليائه وأضاف إليه من نعمه مالا يحاط به ووفقه بإيثار الحق على الخلق رضا الخالق على المخلوق وتقديم العلوم الحقة الإسلامية على الفنون العقلية الفلسفية حتى ذهب غالب أوقاته وأكثر عمره في دراسة ( 1 / 448 ) الكتاب والسنة وما يليهما ومجانبة أهل البدع والهواء واستفاد من كلام السلف استفادة تامة واستفاض من كتب محققي الخلف استفاضة عامة إلى أن حصل منها على فوائد لا يستطيع أن يبوح بها وعوائد لا يقدر أن يلوح إليها وحقائق لا يمكن العبارة عنها إلا بالفوائد والعوائد ومسائل لها منها عليها شواهد كيف ؟ وهي فوق وصف الواصفين ووراء طور البيان ولا يهتدي إلى مثل ذوقها ولذتها إلا أفراد من نوع الإنسان الذين زاحمونا في درك المباني وأخذ المعاني على وجه يكمل به الإتقان والإذعان ولله الحمد على كل حال وهو المفيض للكمال على مثال وغير مثال

(1/447)


وما أحسن ما قال ابن خلدون : التحقيق : قليل وطرف التنقيح : في الغالب كليل والغلط والوهم : نسيب للناس وخليل والتقليد : عريف في الآدميين وسليل والتطفل : على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل : بين الأنام وخيم وبيل والحق : لا يقاوم سلطانه والباطل : يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل : إنما هو يملي وينقل والبصيرة : تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم : يجلو لها صفحات الصواب ويصقل . انتهى

(1/448)


وبالجملة : فالمحققون بين أهل الملل والنحل قليلون لا يكادون يجاوزن عدد الأنامل ولا حركات العوامل والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون واتباعهم فيما يقولون بيد أنه لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال فيجلب صورا قد تجردت عن موادها وصفاحا انتضيت من أعمادها ومعارف يستنكر للجهل ( 1 / 449 ) طارفها وتلادها وإنما هي آراء لم تعلم أصولها ومقالات لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في دراستهم المجتهدات المتداولة منذ زمان بأعيانها تقليدا لمن عني من الأحبار والرهبان بشأنها ويغفلون أمر الكتاب والسنة الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم في بيانها وألسنتهم عن تبيانها ثم إذا تعرضوا يوما لذكر السنن نسقوا اخبرها نسقا غير محافظين على نقلها وهما أو صدقا لايتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى المتبع للحديث متطلعا بعد إلى أحوال صحتها وضعفها ومراتبها مفتشا عن أسباب تمسكها واعتزالها أو تزاحمها وتعاقبها باحثا عن المقنع في تبيانها أو تناسبها ولذلك تراني لما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس ونجد اليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التأليف غالبا في الكتاب والسنة وما يليهما من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم فأنشأت في تدوين ذلك كتبا ورسائل وجمعت لتيسير هذه الصعاب والاطلاع على تلك الهضاب أسفارا ومسائل فهذبت مناحيها تهذيبا وقربتها للأفهام تقريبا وأتيت بما يمتعك بحقائق دين الإسلام وأسبابه ويعرفك كيف دخل أهل العلم من أبوابه حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال قبلك من سلف الأمة وأئمتها ومن بعدك

(1/448)


فعليك بمؤلفاتنا ومؤلفات مشائخنا في كل باب تجدها إن - شاء الله تعالى - مملوءة دينا بحتا وشرعا صرفا عند كل إياب وذهاب ولعلك لا تحتاج بعد إحرازها في درك الحق الحقيق بالصواب من الأحكام والمسائل إلى سفر وكتاب إن كنت ممن ينصف ولا يتعسف ( 1 / 450 ) ويؤثر الحق على الخلق ولا يتوقف ولا يخاف في الله لومة لائم وهو عن رد المعاصرين صائم
واعلم أن إلى الله مصيرك فمن نصيرك ؟ وفي الجدث مقيلك فيما قيلك ؟
وهذا آخر القسم الأول : من هذا الكتاب وبالله التوفيق وإليه المتاب ويتلوه القسم الآخر إن شاء الله تعالى
قد تم القسم الأول : من كتاب : ( أبجد العلوم ) المسمى : ( بالوشي المرقوم )

(1/449)


المجلد الثاني : السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم

(2/1)


[ مقدمة المؤلف ]

(2/2)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يفي ... بحمده كل شكور وفي
ثم صلاة الله تترى على ... المختار والآل ومن يقتفي
طريقهم كالبدر الهدى ... من لا سواه اليوم من منصف
ودعوة اسأل من فضله ... أنجو بها من شدة الموقف

(2/2)


كتاب أبجد العلوم المسمى بالسحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم

(2/2)


وبعد فهذا هو القسم الآخر من كتاب أبجد العلوم المسمى ب ( ( السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم ) ) وضمنته مقدمة وأبوابا وخاتمة

(2/2)


المقدمة في بيان أسماء العلوم وموضوعاتها وعدم تعين الموضوع في بعضها

(2/3)


اعلم : أن المشهور عند الجمهور أن حقيقة أسماء العلوم المدونة المسائل المخصوصة أو التصديق بها أو الملكة الحاصلة من إدراكها مرة بعد أخرى التي يقتدر بها صاحبها على استحضارها متى شاء أو استحصالها مجهولة
والسيد الشريف في ( ( شرح المواقف ) ) : إن اسم كل علم موضوع بإزاء مفهوم إجمالي شاملي له انتهى . ( 2 / 4 )
ثم إنه قد يطلق أسماء العلوم على المسائل والمبادئ جميعا لكنه قد يشعر كلام بعضهم إلى أن ذلك الإطلاق حقيقة والراجح أنه على سبيل التجوز والتغليب والإلزام بما يلزم الاختلاط بين العلمين إذ بعض المبادئ لعلم يجوز أن يكون مسئلة من علم آخر فلا يتمايزان
ومما يجب التنبيه عليه أنهم اختلفوا في أن أسماء العلوم من أي قبيل من الأسماء
اختار السيد الشريف الحنفي - رحمه الله - أنها أعلام الأجناس فإن اسم كل علم كلي يتناول أفرادا متعددة إذ القائم منه يزيد غير القائم منه بعمر وشخصا
وقال زين الدين الحوافي : إنها أحلام شخصية نظر إلى أن اختلاف الأعراض باختلاف المحال في حكم العدل
وقال العلامة الحفيد : المنقول عن المركب الإضافي لا يتعارف كونه اسم جنس وكثير من أسماء العلوم مركبات إضافية
وقد خطر ببالي أنه يجوز أن يجعل وضع أسماء العلوم من قبيل وضع المضمرات باعتبار خصوص الموضوع وعموم الوضع ولا غبار على هذا التوجيه إلا أنه لم يتعارف استعمالها في الخصوصيات

(2/3)


وينبغي أن يعلم أن لزوم الموضوع والمبادئ والمسائل على الوجه المقرر إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه وأصوله وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد بغير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع واحد بأدلة مبنية على مقدمات هذه فائدة جليلة ذكرها السعيد التفتازاني الشافعي في ( ( شرح المقاصد ) ) ينتفع بها في مواضع
منها : جواز أن يحال تصور المبادئ التصورية في علمه على علم آخر . ( 2 / 5 )
ومنها : جعل اللغة والتفسير والحديث وأمثالها علوما إلى غير ذلك

(2/4)


وأما موضوعات العلوم فقد ألف فيها جماعة
منهم : الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي ألف كتابا أورد فيه ستين علما وسماه ( ( حدائق الأنوار في حقائق الأسرار ) )
والشيخ جلال الدين محمد بن أسعد الصديقي الدواني المتوفى سنة ثمان وتسعمائة ألف كتابا أورد فيه عشرة من العلوم وسماه ( ( أنموذج ) )

(2/5)


والشيخ عبد الرحمن بن محمد البسطامي ألف كتابا أيضا وذكر في فواتحه طرفا من العلوم وأورد فيه عجائب وغرائب لم تسمعها آذان الزمان حتى بلغت مقدار مائة علم وذكر فيها أقسام العلوم الشرعية والعربية
والشيخ لطف الله بن حسن التوقاني المقتول في سنة تسعمائة ألف للسلطان ( ( يا يزيد ) ) كتابا جمع فيه نبذا من العلوم وهو مختصر ثم شرحه وسماه ( ( المطالب الإلهية ) ) وفيها رسالة للشيخ محيي الدين محمد بن خطيب قاسم
وللشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي كتاب جمع فيه أربعة عشر علما وسماه ( ( النقاية ) )
ثم شرحه وسماه ( ( إتمام الدراية ) )
وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة
والشيخ محمد أمين بن صدر الدين الشرواني المتوفى سنة ست وثلاثين وألف جمع كتابا للسلطان أحمد العثماني أورد فيه ثلاثة وخمسين علما من أنواع العلوم العقلية والنقلية وسماه : ( ( الفوائد الخاقانية الأحمد الخانية ) ) ورتبه على مقدمة وميمنة وميسرة وساقة وقلب على نحو ترتيب جيش السلطان
المقدمة : في ماهية العلوم وتقسيمه
والقلب : في العلوم الشرعية
والميمنة : في العلوم الأدبية
والميسرة : في العلوم العقلية . وقد أورد منها ثلاثين علما ( 2 / 6 )
والساقة : في علم آداب الملوك وإنما اقتصر على ذلك العدد ليكون موافقا لعدد أحمد على حساب أبجد
وقد جمع الشيخ عصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بطاشكبري زاده كتابا عظيما أورد فيه نحو خمسمائة علم وسماه ( ( مفتاح السعادة ) ) و ( ( مصباح السيادة ) ) وجعله على طرفين :
الأول : في خلاصة العلم وذكر فيه ثمانية عشر وصية للطالبين

(2/5)


والثاني : في تعدد العلوم وضمنه ثلاثة أقسام : إلهية واعتقادية وعملية
وجعل علم الأخلاق ثمرة كل العلوم وتوفي سنة سبع وستين وتسعمائة
ثم إن ابنه الشيخ كمال الدين محمد نقله إلى التركية ببعض إلحاقات وتصرفات في مجلد كبير وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وألف
وللأرنيقي تلميذ قاضي زاده محمود الرومي شارح الجغميني كتاب سماه ( ( مدينة العلوم ) ) ورتبه على مقدمة وطرفين وخاتمة
قال في المقدمة : إن للأشياء وجود في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان وكل سابق منها على اللاحق
ثم العلم المتعلق بالثلث الأول آلي والعلم المتعلق بالأخير : إما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل حصول غيره
أو نظري يقصد به حصول نفسه فقط
ثم كل منها : إما أن يبحث فيه من أنه مأخوذ من الشرع فهو العلم الشرعي
أو من حيث أنه مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي فهذه هي الأصول السبعة ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع وإن كان لا ينحصر
قال بعض الفضلاء : علم التفسير لا يتم إلا بأربع وعشرين علما وعد الإمام الشافعي في مجلس الرشيد ثلاثا وستين نوعا من علوم القرآن . ( 2 / 7 )
وقال بعض العلماء : العلوم المستخرجة من القرآن ثمانون علما ودون فيها كتب
وقيل : إن العلوم الحكمية تتضمن خمسة عشر فنا إلا أن فروعها أكثر من خمسين ثم قال : والمختار عندي أن عدد العلوم أكثر من أن يضبطه القلم
وعن الإمام الغزالي عن بعضهم : إن القرآن يحتوي سبعا وسبعين ألف علم ومئتي علم كذا ذكره في الباب الرابع من كتاب آداب التلاوة من أحياء العلوم
ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه ذكر في ( ( قانون التأويل ) ) : إن علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع
ونقل عن الغزالي أيضا : إن من العلوم ما استأثر الله به ولم يطلع أحدا عليه
ومنها : ما يعرفه الملائكة دون البشر
ومنها : ما يعرفه الأنبياء دون من عداهم
ومنها : ما تصورته الأذهان ولم يدون في الكتاب
ومنها : ما دون ثم ضاعت كتبها وانطمست آثارها وانقطعت أخبارها انتهى

(2/6)


وقال في الديباجة : أو إن خطر ببالك أن الفنون كثيرة وتحصيل كلها غير يسير ومدة العمر قصيرة وتحصيل آلات التحصيل عسير فكيف الطريق إلى الخلاص عن هذا المضيق ؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسما ورسما وموضوعا ونفعا فإن سهل عليك تحصيل تلك العلوم كلها فحبذ أو قل : الحمد لله الذي هدانا لهذا لما قال أفلاطون : ما من علم مستقبح إلا والجهل به أقبح . وإن أعجلك الوقت ( 2 / 8 )
وخشيت أن تخترمك الشواغل بالفوت فخذ من كل علم أحسنه وإن اختلج في صدرك أن الأغراض مختلفة في أمر العلوم وتتفاوت في الميل إليها الطباع والفهوم وتتباين في استحسانها العادات والرسوم حتى يعد طائفة من قبل الجنون تحصيل ما عند الآخرين من الفنون إذ كل حزب بما لديهم فرحون فتأمل قول من قال :
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سواه فوسواس الشياطين
وقد قيل :
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
وبالجملة أحسن العلوم ما سأل عنه جبريل عليه السلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - حين سأل أولا عن الإيمان ثم عن الإسلام ثم عن الإحسان والحديث والتفسير أم لهذه العلوم وأصول لها وإليها ينتهي مدارها . انتهى حاصله
قلت وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ( العلم ثلاثة : آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل ) ) . رواه أبو داود وابن ماجة
ومعنى فضل زائد لا ضرورة فيه :
أحب حديث المصطفى وأوده ... وادرسه عمري واضبط كتبه
وذلك عند المصطفى لي شاهد ... تجلى له والمرء مع من أحبه
قف اخترنا في هذا الكتاب الترتيب الذي اختاره صاحب ( ( كشف الظنون ) ) لكونه سهل التناول . ( 2 / 9 )
ولم نجد لابن خلدون ترتيبا في ذكر العلوم نعم رتب صاحب ( ( مدينة العلوم ) ) كتابه على ترتيب غير ترتيب حروف المعجم وذكر في المقدمة حصر العلوم على الإجمال كما تقدم نقله وتكلم في الكتاب على سبع دوحات كل منها في بيان أصل من الأصول السبعة

(2/7)


ثم ذكر في كل دوحة منها شعبا لبيان الفروع
فالدوحة الأولى : في بيان العلوم الخطية وفيها مقدمة وشعبتان :
أما المقدمة : ففي بيان الحاجة إلى الخط وسيأتي هذا البيان في ذكر علم الخط من هذا الكتاب لكن ناسب أن نذكر هاهنا عبارة المدينة في تمهيد كل أصل من الأصول السبعة ليتضح حال ترتيبه وتفريعه ويسهل على الناظر إلحاق كل فرع بأصله
فنقول : قال في بيان الحاجة إلى الخط ما عبارته : إن فائدة التخاطب والمحاورات في العلوم لما توقف على معرفة أحوال الألفاظ سيما الألفاظ العربية التي تبنى عليها شريعتنا هذه مع كونها أفضل اللغات وأكملها ذوقا وبرهانا اعتنى علماء ملتنا هذه بالبحث عن أحوالها وضبط أصولها وفروعها واستخراج خواصها ومزاياها فوضعوا لذلك علوما أصولا وفروعا

(2/9)


واعلم : أن الألفاظ لما اختصت منافعها بالحاضرين وسمت همم الأمم إلى اطلاع الغائبين من المعاصرين ومن الذين سيولدون من بعدهم وضعوا خطوطا دالة على تلك الألفاظ وبحثوا عن أحوالها من كيفية نقوشها وحركاتها وسكناتها وضوابطها من نقطها وشداتها ومداتها وعن تركيبها وتسطيرها إلى غير ذلك من الأحوال فحدثت هناك علوم شتى انتهى
ثم أوردها في ضمن شعبتين :
الأولى : في العلوم المتعلقة بكيفية الصناعة الخطية وذكر فيها علم أدوات الخط وعلم قواني الكتابة وعلم تحسين الحروف وعلم كيفية توليد الخطوط عن أصولها ( 2 / 10 ) وعلم ترتيب حروف التهجي وعلم ترتيب أشكال بسائط الحروف وعلم إملاء الخط العربي وعلم خط المصحف علم خط العروض

(2/9)


ثم جعل الدوحة الثانية في علوم تتعلق بالألفاظ وفيها مقدمة وثلاث شعب

(2/10)


المقدمة في بيان الحاجة إلى العلوم المذكورة

(2/10)


قال : اعلم أن الإنسان لما كان مدنيا بالطبع احتاج في تعيشه إلى إعلام ما في ضميره لغيره وإلى الوقوف على ما في ضمير الآخرين فاقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الأزلية إحداث دوال يخف عليه إيرادها ولا يتبعها أضدادها بل لا يحتاج في تحصيلها إلى آلات غير الآلات الطبعية لئلا يصرف أوقاته فيما يشغل نفسه عن كثير من المهمات الطبعية والشرعية فقاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت العارض للنفس الضروري للحيوان بالآلات الذاتية الطبعية وتقطيعه بتوسط تلك الآلات بأن يفيد تلك الآلات للأصوات كيفيات على أنحاء شتى وطرق مختلفة يمتاز بسببها بعضها عن بعض باعتبار مخارجها وصفاتها ويسمى تلك الألفاظ حروفا ويحصل منها بحسب التركيبات المتنوعة كلمات دالة بحسب الأوضاع المختلفة على المعاني الحاصلة في ضمائر المتكلمين التي تتوقف عليها المعايش وتحصيل المعارف

(2/10)


ثم تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة مع تنوع مخارج الحروف وأصنافها بحسب تنوع الطباع والعادات من الطوائف في كل ملة بل في كل صقع من الأصقاع حصل لهم ألسنة مختلفة ولغات متباينة بحيث لا تعد كثرة
إلا أن أفضلها وأعلاها اللغة التي خصت بها أوسط الأمم وأخصهم وقد نزل عليها أشرف الكتب وأعلاها وأقومها من جهة الأحكام وأدومها إلى يوم القيام وقد نطق بهذه اللغة أفضل الأنبياء وخاتمهم وأشرفهم وفص خاتمهم أعني لغة العرب العرباء التي اختصت بالبلاغة والإعجاز وبسحر الكناية والمجاز وهل اختص غيرها بفنون لو عد اشهرها ( 2 / 11 ) لبلغت إلى أربعين بل أكثر وهل شرف ما عداها بالتحدي حتى فاق واحد على مئين
وقل لي هل ظهرت العلوم ولو عقلية هكذا منقحة بلغة أخرى ؟ أفليست هذه بالتعظيم والتبجيل أولى وأحرى فوجب الاعتناء بشأن هذه اللغة الجليلة المقدار بتمييز كيفيات حروفها بحسب المخارج
ثم أحوال تركيباتها بحسب الاشتقاق
ثم أحوال وضعها للمعاني
ثم تبديل بعض حروفها إلى آخر لتحصل الخفة
ثم كيفية إعراباتها ليسهل الانتقال منها إلى معانيها ثم تطبيقها المقتضى الحال لرفع شأن الكلام ثم إيرادها بعبارات جلية لئلا يعسر فهم المعاني الدقيقة على أذهان لقبولها ثم معرفة أحوال الخطوط الدالة عليها فهذه أصول العلوم العربية ولها فروع كثيرة
ثم اعلم أن العلوم الأدبية ثلاث أنواع لأنها إما باحثة عن المفردات أو عن المركبات أو عن فروعها ففيها ثلاث شعب :
الأولى : فيما يتعلق بالمفردات انتهى

(2/10)


وذكر في هذه الشعبة علم مخارج الحروف وعلم اللغة وعلم الوضع وعلم الاشتقاق وعلم الصرف وعلم النحو وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي وعلم قرض الشعر وعلم مبادئ الشعر وعلم الإنشاء وعلم مبادئ الإنشاء وأدواته وعلم المحاضرة وعلم الدواوين وعلم التاريخ
قال : الشعبة الثالثة من الدوحة الثانية في فروع العلوم العربية وذكر فيها علم الأمثال وعلم وقائع الأمم وعلم استعمال الألفاظ وعلم الترسل وعلم الشروط والسجلات وعلم الأحاجي والأغلوطات وعلم الألغاز وعلم المعمى وعلم التصحيف وعلم المقلوب وعلم الجناس وعلم مسامرة الملوك ( 2 / 12 ) وعلم حكايات الصالحين وعلم أخبار الأنبياء وعلم المغازي والسير وعلم تاريخ الخلفاء وعلم طبقات القراء وعلم طبقات المفسرين وعلم طبقات المحدثين وعلم سير الصحابة والتابعين وعلم طبقات الشافعية وعلم طبقات الحنفية وعلم طبقات المالكية وعلم طبقات الحنابلة وعلم طبقات النحاة وعلم طبقات الحكماء وعلم طبقات الأطباء
قال : الدوحة الثالثة وفيها شعبتان :
الأولى : في العلوم الآلية التي تعصم عن الخطأ في الكسب وذكر في هذه الدوحة علم المنطق
قال : الثانية في علوم تعصم عن الخطأ في المناظرة والدرس ثم ذكر في هذه علم آداب الدرس وعلم النظر وعلم الجدل وعلم الخلاف
قال : الدوحة الرابعة في العلم المتعلق بالأعيان
وهذا قسمان ما يبحث فيه بمجرد الرأي ومقتضى العقل فقط وهو العلوم الحكمية الباحثة عن أحوال الموجودات الخارجية بحسب الطاقة البشرية
وما يبحث فيه على قواعد الشرع وعلى تسليم المدعى وأخذه من الشرع هي علم أصول الدين وفيها مقدمة وعدة شعب
المقدمة : اعلم أن العلوم الحكمية النظرية إما أن يبحث فيها عن موجود منزه عن المادة في الخارج وعند البحث أو يبحث عن موجود مقارن للمادة خارجا دون البحث أو يبحث عن موجود مقارن للمادة خارجا وبحثا
والقسم الأول : يسمى بالعلم الإلهي لبحثه عن الإلهيات وبالعلم الأعلى لعلو موضوعه بسبب تجرده عن المادة ويسمى بعلم ما بعد الطبيعة أيضا لقراءتهم إياها بعد العلم الطبعي
والقسم الثاني : يسمى بالرياضي لرياضة النفوس بها أولا إذ الأوائل كانوا ( 2 / 13 ) يبتدئون في التعليم بها لكون دلائلها يقينية ولتعتاد النفوس باليقينيات بادئ بدء حتى كانوا يقدمونها على المنطق ويسمى بالعلم الأوسط أيضا لعدم تجرده عن المادة بالكلية ولعدم مقارنته إياها بالكلية
والقسم الثالث : يسمى بالعلم الطبعي لبحثه عن طبائع الأجسام وبالعلم الأولي لمقارنته بالمادة بالكلية فهذه هي الأصول الثلاثة للعلوم الحكمية انتهى

(2/11)


ثم ذكر كلا منها في شعبة ولكل منها فروع لا تحصى ثم ذكر فرع كل منها في شعبة أخرى فصارت الشعب ستة وقدم العلم الإلهي على الباقي لشرفه ثم ذكر الأوسط ثم الأدنى فقال :
الشعبة الأولى : في العلم الإلهي
والشعبة الثانية : في فروعه وهي علم معرفة النفوس الإنسانية وعلم معرفة النفوذ الملكية وعلم معرفة المعاد وعلم أمارات النبوة وعلم مقالات الفرق وعلم تقاسيم العلوم
والشعبة الثالثة : في العلم الطبعي وله سبعة فروع وعند البعض عشرة وهي : 1 - علم الطب

(2/13)


2 - علم البيطرة والبيرزة

(2/13)


3 - علم الفراسة

(2/13)


4 - علم تعبير الرؤيا

(2/13)


5 - علم أحكام النجوم

(2/13)


6 - علم السحر

(2/13)


7 - علم الطلسمات

(2/13)


8 - علم السيميا

(2/13)


9 - علم الكيمياء

(2/13)


10 - علم الفلاحة وذلك لأن نظره إما في ما يتفرع على الجسم البسيط والمركب أو ما يعمهما
والأجسام البسيطة إما الفلكية فأحكام النجوم
وإما العنصرية فالطلسمات
والأجسام المركبة إما ما لا يلزمه مزاج وهو علم السيمياء
أو يلزمه مزاج فإما بغير ذي نفس فالكيمياء
أو بذي نفس
فإما غير مدركة كالفلاحة
أو مدركة . ( 2 / 14 )
فإما مع كمال أن يعقل أولا
الثاني : البيطرة والبيرزة وما يجري مجراها والذي لذي النفس العاقلة هو الإنسان وذلك :
إما في حفظ صحته واسترجاعها وهو الطب
أو أحواله الظاهرة الدالة على الأحوال الباطنة فالفراسة
أو أحوال نفسه حال غيبة عن حسه وهو تعبير الرؤيا والعام البسيط والمركب السحر ولهذه الفروع فروع يأتي ذكرها
قال : الشعبة الرابعة : في فروع العلم الطبعي ثم ذكر فيها غير ما تقدم آنفا وعلم النبات علم الحيوان وعلم المعادن وعلم الجو وعلم الكون والفساد وعلم قوس قزح

(2/13)


قال : الشعبة الخامسة : فيها عدة عناقيد
الأول منها : في فروع علم الطب وهي علم التشريح وعلم الكحالة وعلم الصيدلة وعلم طبخ الأشربة وعلم قلع الآثار من الثياب وعلم تركيب أنواع المداد وعلم الجراحة وعلم الفصد وعلم الحجامة وعلم المقادير والأوزان وعلم الباه
العنقود الثاني : في فروع علم القيافة وعلم الشامات والخيلان وعلم الأسارير وعلم الأكتاف وعلم قيافة الأثر وعلم قيافة البشر وعلم الاهتداء بالبراري والأقفار وعلم الريافة وعلم استنباط المعادن وعلم نزول الغيث وعلم العرافة وعلم الاختلاج
العنقود الثالث : في فروع أحكام النجوم واعلم أنها غير علم النجوم لأن الثاني : يعرف بالحساب فيكون من فروع الرياضي والأول : يعرف بدلالة الطبيعة على الآثار فيكون من فروع الطبعي وهي علم الاختيارات وعلم الرمل وعلم الفال وعلم القرعة وعلم الطيرة والزجر
العنقود الرابع : في فروع السحر . ( 2 / 15 )

(2/14)


واعلم : أن استحداث الحوادث إن كان بمجرد التأثير النفساني فهو السحر
وان كان على سبيل الاستعانات بالفلكيات فهو دعوة الكواكب
وإن كان على سبيل تمزيج القوى البشرية بالأرضية فهو الطلمسات
وإن كان على سبيل الاستعانة بالخواص الطبيعية فإما بالقراءة فهو علم الخواص والكتابة فهو علم النيرنجات
أو الأفعال غيرهما فهو الرقى
وإن كان على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فهو العزائم
وإن كان بإحضار تلك الأرواح في قالب الأشباح فهو علم الاستحضار ويسمى : علم تسخير الجن
وأما الأخبار عن الحوادث الغير الحاضرة فإما عن الماضي أو الحال أو الاستقبال فهو علم الكهانة
ثم إن الإنسان كما يقدر على استحضار المجردات كذلك يقدر على تغييب الحاضر عن الحس ويسمى علم الإخفاء
وكذلك على إخفاء الأمور الحاضرة عن الحاضرين ويسمى بالحيل الساسانية وأمثال ذلك كثيرة انتهى
ثم ذكر هذه العلوم على هذا النهج وعد منها علم القلفطيرات وعلم الكتابة المسمى بالسر المكتوم وعلم كشف الدك وعلم الشعبذة وعلم تعلق القلب وعلم الاستعانة بخواص الأدوية

(2/15)


قال : الشعبة الخامسة : في العلوم الرياضية وهي العلوم الباحثة عن أمور يصح تجردها عن المادة في الذهن فقط وتنحصر هذه في أربعة أقسام
لأن نظرها إما عن الكم المتصل
أو عن الكم المنفصل وكل منهما إما قار الذات أولا فالأول : علم الهندسة والثاني : الهيئة والثالث : العدد والرابع : الموسيقى
الشعبة السادسة : في فروع علم الهندسة وعد منها : علم عقود الأبنية وعلم ( 2 / 16 ) المناظر وعلم المرايا المحرقة وعلم مراكز الأثقال وعلم جر الأثقال وعلم المساحة وعلم أنباط المياه وعلم الآلات الحربية وعلم الرمي وعلم التعديل وعلم النبكامات وعلم الملاحة والسباحة وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء
قال : الشعبة السابعة : في فروع علم الهيئة وذكر فيها علم الزيجات والتقاويم وعلم كتابتها وعلم حساب النجوم وعلم كيفية الإرصاد وعلم الآلات الرصدية وعلم المواقيت وعلم الآلات الظلية وعلم الأكر وعلم الأكر المتحركة وعلم تسطيح الكرة وعلم صور الكواكب وعلم مقادير العلويات وعلم منازل القمر وعلم جغرافيا وعلم مسالك البلدان والأمصار وعلم معرفة البرد ومسافاتها وعلم خواص الأقاليم وعلم الأدوار والأكوار وعلم القرانات وعلم الملاحم وعلم مواسم السنة وعلم مواقيت الصلاة وعلم وضع الاسطرلاب وعلم عمل الاسطرلاب وعلم وضع ربع الدائرة وعلم عمل ربع الدائرة وعلم آلات الساعة

(2/15)


الشعبة الثامنة : في فروع علم العدد منها : علم الحساب وعلم حساب التخت والميل وعلم الجبر والمقابلة وعلم حساب الخطاءين وعلم حساب الدرهم والدينار علم حساب الدور والوصايا وعلم حساب العقود وعلم أعداد الوفق والدفق وعلم التعابي العددية
الشعبة التاسعة : في فروع علم الموسيقى منها : الآلات العجيبة وعلم الرقص وعلم الغنج
قال : الدوحة الخامسة في الحكمة العملية وأن الإنسان لما كان مدني الطبع وكان أشخاصه إلا شرذمة ممن عصمهم الله تعالى - وقليل ما هم - مجبولين على جلب المنافع ودفع المضار بحيث يريدون أخذ ما في أيدي الآخرين بقوتهم الشهوية ودفع ما يزاحمه في ذلك بقوتهم الغضبية وكأن ذكل مؤديا إلى التقاتل والتشاجر ولا ( 2 / 17 ) أقل من العداوة والشحناء وهذه الأمور منافية لقضية التمدن والاجتماع وعمارة المدن في الأصقاع اقتضت الحكمة الإلهية لطفا منه ورحمة أن يشرف خواص عباده وهم الرسل والأنبياء عليهم السلام بوحي من عنده يتضمن قوانين ينتظم برعايتها أحوال المعاش ويكمل بإجرائها أحوال المعاد وتلك القوانين هي الشرائع النبوية والنواميس الإلهية ثم إن الحكماء استنبطوا من الشرائع السابقة قوانين متعلقة بتكميل الأخلاق وانتظام تدبير المنزل وتدبير المدينة وسموها حكمة عملية نذكر كلا منها في شعبة

(2/16)


الشعبة الأولى : علم الأخلاق
الثانية : علم تدبير المنزل
الثالثة : علم السياسة
الرابعة : في فروع الحكمة العملية منها علم آداب الملوك وعلم آداب الوزارة وعلم الاحتساب وعلم قود العساكر
الدوحة السادسة : في العلوم الشرعية
اعلم أن العلوم الاعتقادية : إما متعلقة بالنقل أو فهم المنقول وتقريره وتشييده بالأدلة أو استخراج الأحكام المستنبطة
فالنقل : إن كان مما أتى به الرسول بواسطة الوحي فهو علم القرآن
أو بما صدر عن نفسه المؤيدة بالعصمة فعلم رواية الحديث
وفهم المنقول : إن كان من كلام الله تعالى فعلم تفسير القرآن
أو من كلام الرسول فعلم دراية الحديث
والتقرير : إما الآراء فعلم أصول الدين
أو الأفعال فعلم أصول الفقه
أو استخراج الأحكام من أدلتها فعلم الفقه

(2/17)


ومنافع هذه العلوم جمة : إما في الدنيا فحفظ المهج والأموال وانتظام سائر ( 2 / 18 ) الأحوال وإما في الآخرة فالنجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم وفي هذه الدوحة شعب
الأولى : علم القراءة
الثانية : علم رواية الحديث
الثالثة : علم تفسير القرآن
الرابعة : علم دراية الحديث
الخامسة : علم أصول الدين المسمى بالكلام
السادسة : علم أصول الفقه
السابعة : علم الفقه
الثامنة : فروع العلوم الشرعية وهي : علم معرفة الشواذ وتفرقتها من المتواتر وعلم مخارج الحروف وعلم مخارج الألفاظ وعلم الوقوف وعلم علل القراآت وعلم رسم كتابة القرآن وعلم آداب كتابة المصحف
ومن فروع علم الحديث : علم شرح الحديث وعلم أسباب ورود الأحاديث وعلم ناسخ الحديث ومنسوخه وعلم تأويل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم رموز أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم غرائب لغات الحديث وعلم دفع مطاعن الحديث وعلم تلفيق الأحاديث وعلم أحوال رواة الأحاديث وعلم طب النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأما فروع علم التفسير فالقرآن بحر لا تنقضي عجائبه قال : ولنذكر منها قدر ما تفي به قوة التقرير ويحيط به نطاق التحرير ثم ذكر علم معرفة المكي والمدني وغيره من الأنواع التي ذكرها السيوطي في الإتقان وجعل كل نوع علما مستقلا وليس كما ينبغي لكن ذكرناها في هذا الكتاب مرتبا تبعا له - رحمه الله - تعالى كما ستقف عليه

(2/17)


قال : هذا الذي ذكرته من فروع علم التفسير هي ما وقع في كتاب ( ( الإتقان ) ) وهذا بعض من علوم عددها من فروع علم التفسير بأدنى الملابسة فلنذكر هاهنا ( 2 / 19 ) علم خواص الحروف علم معرفة الخواص الروحانية علم التصرف بالحروف والأسماء علم الحروف النورانية والظلمانية علم التصرف بالاسم الأعظم علم الكسر والبسط علم الجفر والجامعة علم الزائرجة علم دفع مطاعن القرآن
ومن فروع علم الحديث أيضا : علم المواعظ وعلم الأدعية والأوراد وعلم الآثار وعلم الزهد والورع وعلم صلاة الحاجات وعلم المغازي
وأما فروع علم أصول الدين فاعلم أن موضوع الكلام على ما تقرر رأي المحققين عليه هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية ولا شك أن موضوعات جميع العلوم مندرجة تحت المعلوم وقد تقرر في موضوعات أن الأصالة والفرعية في العلوم بحسب عموم الموضوع وخصوصه فيكون جميع العلوم الشرعية من فروع علم أصول الدين
وأما فروع علم أصول الفقه فمنها : علم النظر وعلم المناظرة وعلم الجدل وعلم الخلاف
وأما فروع علم الفقه فمنها : علم الفرائض وعلم الشروط والسجلات وعلم معرفة حكم الشرائع وعلم الفتاوى قال : هذا آخر ما تيسر لي من تفصيل العلوم النظرية التي ضمنها الطرف الأول من هذا المختصر ولنشرع بعد هذا في العلوم المتعلقة بالأعمال وهي علوم التصفية

(2/18)


والمعرفة على نوعين :
أحدهما : المعرفة بطريق النظر وهي لا تكمل إلا بالعمل
وثانيهما : المعرفة بطريق العمل وهي غاية المعرفة بالله تعالى والعلم المتعلق بالأول يسمى علم الدراسة لحصوله بالدرس والتكرار
والعلم المتعلق بالثاني يسمى علم الوارثة لكونه مما يورثه العمل ويسمى أيضا بعلم التصفية وعلم الباطن وعلم الحال وعلم المكاشفة وعلم ( 2 / 20 ) الحقائق وهذا الطرف الثاني أربعة أقسام :
الأول : في العلوم المتعلقة بالعبادات منها : علم أسرار الطهارة وعلم أسرار الصلاة وعلم أسرار الزكاة وعلم أسرار الحج
والقسم الثاني : في العلوم المتعلقة بالعادات منها : علم آداب الأكل وعلم آداب النكاح وعلم آداب الكسب علم آداب الصحبة والمعاشرة وعلم آداب العزلة وعلم آداب السفر وعلم آداب السماع والوجد وعلم آداب الحسبة وعلم آداب النبوة
القسم الثالث : في الأخلاق المهلكات منها : عجائب القلب وعلم رياضة النفس وتهذيب الأخلاق وعلم فضيلة كسر الشهوتين وعلم آداب اللسان وآفاته وعلم آفات الغضب وعلم آفات الدنيا وعلم آفات المال وعلم آفات الجاه وعلم آفات الريا وعلم آفات الكبر وعلم آفات العجب وعلم آفات الغرور
والقسم الرابع : في الأخلاق المنجيات منها : علم آداب التوبة علم فوائد الصبر وعلم منافع الشكر وعلم منافع الرجا وعلم منافع الخوف وعلم فوائد الفقر وعلم فوائد الزهد وعلم فوائد التوكل وعلم فوائد المحبة وعلم فوائد الشوق وعلم فوائد الأنس وعلم فوائد الرضا وعلم فوائد النية وعلم فوائد الإخلاص وعلم فوائد الصدق وعلم فوائد المراقبة وعلم فوائد المحاسبة وعلم فوائد التفكر وعلم فوائد ذكر الموت والبعث والنشور

(2/19)


قال : خاتمة الرسالة في شرائط الطريقة وآدابها منها :
شرائط الشيخ وشرائط المريد وآداب الخرقة في إلباسها وآداب التاج وآداب السجادة انتهى
ولم نذكر ما ذكره في هذه الخاتمة في كتابنا هذا لأنه ليس علما برأسه وقد ( 2 / 21 ) تقدم في القسم الأول من كتابنا هذا فصل مستقل في ذكر تقسيم العلوم المدونة وأحسن التقاسيم منها : التقسيم الخامس على ما ذكره صاحب ( ( مفتاح السعادة ) ) وهو مستقل على ما ذكرناه من العلوم هاهنا ولا مضايقة في بعض التكرار عند جدة الفوائد والأذكار . ( 2 / 22 )
( 2 / 23 )

(2/20)


باب الألف

(2/23)


علم الأبعاد والأجرام

(2/23)


وهو علم يبحث فيه عن أبعاد الكواكب عن مركز العالم ومقدار جرمها أما بعدها فيعلم بمقدار واحد كنصف قطر الأرض الذي يمكن معرفته بالفراسخ والأميال
وأما أجرامها فيعرف مقدارها كجرم الأرض
واعلم أن مباحث هذا الفن في غاية البعد عن القبول ولذلك ترى أكثر الناس إذا سمعوا لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وقالوا إن هذا إلا كذب مفترى وذلك لعدم اطلاعهم على أحكام الهندسة والمناظر واعتقادهم أنه لا سبيل إلى ذلك التقدير إلا بالصعود والقرب من تلك الأجرام ومساحتها بالأيدي والأقدام ومن المختصرات في هذا الفن سلم السماء

(2/23)


علم الآثار

(2/23)


هو فن باحث عن أقوال العلماء الراسخين من الأصحاب والتابعين لهم وسائر السلف وأفعالهم وسيرهم في أمر الدين والدنيا
ومباديه أمور مسموعة من الثقات
والغبض منه معرفة تلك الأمور ليقتدى بهم وينال ما نالوه وهذا الفن أشد ( 2 / 24 ) ما يحتاج إليه علم الموعظة هذا ما قاله لطف الله في موضوعاته وقد نقله طاشكبري زاده بعبارته في ( ( مفتاح السعادة ) ) ثم قال : ومن الكتب المصنفة في هذا العلم كتاب ( ( سير الصحابة والتابعين والزهاد ) ) للأندر سقاني وكتاب ( ( روض الرياحين ) ) لليافعي وغير ذلك انتهى
وأما ( ( آثار الطحاوي ) ) و ( ( شرح مشكله ) ) مع ما يتعلق به فإن معنى آثاره معنى مغاير لتعريف هذا العلم وهو على ما في كتب أصول الحديث بمعنى الخبر
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في نخبة الفكر : إن كان اللفظ مستعملا بقلة احتيج إلى الكتب المصنفة في شرح الغريب وإن كان مستعملا بكثرة لكن في مدلوله دقة احتيج إلى الكتب المصنفة في شرح معاني الأخبار وبيان المشكل منها وقد أكثر الأئمة من التصانيف في ذلك كالطحاوي والخطابي وابن عبد البر وغيرهم رحمهم الله تعالى انتهى

(2/23)


علم الآثار العلوية والسفلية

(2/24)


هو علم يبحث فيه عن المركبات التي لا مزاج لها وتتعرف منه أسباب حدوثها
وهو ثلاثة أنواع لأن حدوثه إما فوق الأرض أعني في الهواء وهو كائنات الجو وإما على وجه الأرض كالأحجار والجبال وإما في الأرض كالمعادن وفيه كتب للحكماء منها كتاب ( ( السماء والعالم ) )

(2/24)


علم الأحاجي والأغلوطات من فروع اللغة والصرف والنحو

(2/24)


والأحاجي جمع أحجية كالأضحية كلمة مخالفة المعنى
وهو علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية بحسب الظاهر وتطبيقها عليها إذ لا يتيسر إدراجها فيها بمجرد القواعد المشهورة
وموضوعه الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة . ( 2 / 25 )
ومباديه مأخوذة من العلوم العربية
وغرضه تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي تتراءى بحسب الظاهر مخالفة لقواعد العرب
وغايته : حفظ القواعد العربية عن تطرق الاختلال
والاحتياج إلى هذا العلم : من حيث أن ألفاظ العرب قد يوجد فيها ما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر بحيث لا يتيسر إدراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد فاحتيج إلى هذا الفن
وللزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة تأليف لطيف في هذا الفن سماه الحاجات

(2/24)


وللشيخ علم الدين علي بن محمد السخاوي الدمشقي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة شرح هذا المتن الدقيق التزم فيه أن يعقب كل أحجية في الزمخشري بلغزين من نظمه
وأبو المعالي سعد بن علي الوراق الحطيري المتوفى سنة ثمان وستين وخمسمائة صنف فيه أيضا والسادسة والثلاثون التي تعرف بالملطية من المقامات الحريرية في هذا المعنى فمنها للمثال : يا من سما بذكاء . في الفضل وأرى الزناد . ماذا يماثل قولي . جوع أمد بزاد . يا ذا الذي فاق فضلا . ولم يدنسه شين . ما مثل قول الحاجي . ظهر أصابته عين
فطريق معرفة المماثلة فيه أن تنظر جوع أمد بزاد فتقابله بطوامير لأن طوى مثل الجوع في المعنى ومير مثل أمد بزاد لأن مير الإمداد بالزاد وكذا تقابل ظهر أصابته عين بقولك : مطاعين فتجد المطا الظهر وعين الرجل أصيب بالعين
فإذا تركت الألفاظ بغير تقسيم يظهر لك معنى آخر وهو أن الطوامير الكتب والواحد طومار والمطاعين جمع مطعان وهو كثير الطعن وعليه فقس . ( 2 / 26 )

(2/25)


علم الاحتساب

(2/26)


وهو النظر في أمور أهل المدينة بإجراء مراسم معتبرة في الرياسة الاصطلاحية ونهي ما يخالفها وتنفيذ ما تقرر في الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والسلطان بالنسبة إلى الملك بمنزلة الرأس من البدن الذي هو منبع الرأي والتدبير
والوزير بمنزلة اللسان المعبر عما في الضمير
وأهل الاحتساب بمنزلة الأيدي والأقدام والمماليك والخدم ولن يتم أمر الملك إلا بهؤلاء الثلاث هذه عبارة قديمة العلوم
وقال في ( ( كشف الظنون ) ) : هو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها من حيث إجرائها على القانون العدل بحيث يتم التراضي بين المعاملين وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر المعروف بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع
ومباديه : بعضها فقهي وبعضها أمور استحسانية ناشئة من رأي الخليفة
والغرض من تحصيل الملكة في تلك الأمور

(2/26)


وفائدته : إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم وهذا من أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة فلا بد لكل واحد من الأزمان والأحوال سياسة خاصة وذلك من أصعب الأمور فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوة قدسية مجردة عن الهوى كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان عالما في هذا الشأن كذا في موضوع لطف الله
وعرفه أبو الخير بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرياسة ( 2 / 27 ) وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا سرا وجهارا ثم قال : وعلم السياسة المدنية مشتمل على بعض لوازم هذا المنصب ولم نر كتابا صنف فيه خاصة وذكر في ( ( الأحكام السلطانية ) ) ما يكفي انتهى
أقول فيه كتاب ( ( نصاب الاحتساب ) ) خاصة ذكر فيه مؤلفه أن الحسبة في الشريعة تتناول كل مشروع بفعل الله - سبحانه وتعالى - كالأذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها ولذا قيل : القضاء باب من أبواب الحسبة وفي العرف مختص بأمور فذكرها إلى تمام خمسين وفيه كتب ذكرت في محالها انتهى ما في ( ( الكشف ) )

(2/26)


علم الأحكام

(2/27)


والأحكام : اسم متى أطلق في العقليات أريد به الأحوال الغيبية المستنتجة من مقدمات معلومة هي الكواكب من جهة وحركاتها ومكانها وزمانها
وفي الشرعيات : يطلق على الفروع الفقهية المستنبطة من الأصول الأربعة وسيأتي في علم الفقه
وأما الأول : فهي الاستدلال بالتشكلات الفلكية من أوضاعها وأوضاع الكواكب من المقابلة والمقارنة والتثليث والتسديس والتربيع على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد وفي أحوال الجود والمعادن والنبات والحيوان
وموضوعه : الكواكب بقسميها
ومباديه : اختلاف الحركات والأنظار والقرآن

(2/27)


وغايته : العلم بما سيكون بما أجرى الحق من العادة بذلك مع إمكان تخلفه عندنا كمنافع المفردات ومما يشهد بصحته بنية بغداد فقد أحكمها الواضع والشمس في الأسد وعطارد في السنبلة والقمر في القوس فقضى الحق أن لا يموت فيها ملك ولم يزل كذلك وهذا بحسب العموم وأما بالخصوص فمتى علمت مولد شخص سهل عليك الحكم بكل ما يتم له من مرض وعلاج وكسب وغير ذلك ( 2 / 28 ) كذا في تذكرة داوود ويمكن المناقشة في شاهدة بعد الإمعان في التاريخ لكن لا يلزم من الجرح بطلان دعواه
وقال أبو الخير : وأعلم أن كثيرا من العلماء على تحريم علم النجوم مطلقا
وبعضهم على تحريم اعتقادات الكواكب مؤثرة بالذات
وقد ذكر عن الشافعي أنه قال : إن كان المنجم يعتقد أن لا مؤثر إلا الله - سبحانه وتعالى - لكن أجرى الله عادته بأن يقع كذا عند كذا والمؤثر هو الله - سبحانه وتعالى - فهذا عندي لا بأس به وحيث جاء الذم ينبغي أن يحمل على من يعتقد تأثير النجوم بذاتها ذكره ابن السبكي في ( ( طبقاته الكبرى ) ) وفي هذا الباب أطنب صاحب ( ( مفتاح السعادة ) ) إلا أنه أفرط في الطعن قال
واعلم أن أحكام النجوم غير علم النجوم لأن الثاني يعرف بالحساب فيكون من فروع الرياضي
والأول يعرف بدلالة الطبيعة على الآثار فيكون من فروع الطبيعي
ولها فروع منها : علم الاختيارات وعلم الرمل وعلم الفال وعلم القرعة وعلم الطيرة والزجر انتهى

(2/27)


قلت : والحق في ذلك ما دلت عليه الأحاديث لا ما اقترحه الرجال بآرائهم الفاسدة وعقولهم الكاسدة
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن المختصرات فيه ( ( مجمل الأصول ) ) لكوشيار ( ( والجامع الصغير ) ) لمحيي الدين المغربي
ومن المتوسطات كتاب ( ( البارع والمغني ) )
ومن المبسوطة ( ( مجموع ابن شرع ) ) و ( ( الأدوار ) ) لأبي معشر ( ( والإرشاد ) ) لأبي ريحان البيروني ( ( والمواليد ) ) للخصبي و ( ( التحاويل ) ) للسنجري و ( ( القرانات ) ) للبازيار و ( ( المسائل ) ) للقصراني و ( ( الاختيارات العلائية ) ) و ( ( ودرج الفلك ) ) لتكلوشا و ( ( التفهم ) ) للبيروني
وقال : في ( ( كشف الظنون ) ) فيه كتب كثيرة . ( 2 / 29 )

(2/28)


علم أحوال رواة الحديث من وفياتهم وقبائلهم وأوطانهم وجرحهم وتعديلهم وغير ذلك

(2/29)


وهذا العلم من فروع التواريخ من وجه ومن فروع الحديث من وجه آخر وفيه تصانيف كثيرة ذكره أبو الخير وقد أورده من جملة فروع الحديث ولا يخفى أنه علم أسماء الرجال في اصطلاحات أهل الحديث

(2/29)


علم أخبار الأنبياء

(2/29)


وهذا من فروع علم التواريخ وقد اعتنى بها العلماء وهو حقيق بالاعتناء وأفردها بالتدوين جماعة منها : ( ( قصص الأنبياء ) ) لابن الجوزي وغيره من العلماء الكرام رحمهم الله تعالى

(2/29)


علم الاختلاج

(2/29)


وهو من فروع علم الفراسة
قال أبو الخير : هو علم باحث عن كيفية دلالة اختلاج أعضاء الإنسان من الرأس إلى القدم على الأحوال التي ستقع عليه وأحواله ونفعه
والغرض منه ظاهر لكنه علم لا يعتمد عليه لضعف دلالته وغموض استدلاله
ورأيت في هذا العلم رسائل مختصرة لكنها لا تشفي العليل ولا تسقي الغليل انتهى
ومثله في ( ( مدينة العلوم ) )
قال الشيخ داوود الإنطاكي في تذكرته : اختلاج حركة العضو والبدن غير إرادية تكون عن فاعل هو النجار
ومادي هو الغداء المبخر وصوري هو الاجتماع
وغائي هو الاندفاع ويصدر عنه اقتدار الطبع وحال البدن معه كحال الأرض مع الزلزلة عموما وخصوصا وهو مقدمة لما سيقع للعضو المختلج من مرض ( 2 / 30 ) يكون عن خلط يشابه البخار المتحرك في الأصح وفاقا

(2/29)


وقال جالينوس : العضو المختلج أصح الأعضاء إذ لو لم يكن قويا ما تكاثف تحته البخار كما أنه لم يجتمع في الأرض إلا تحت تخرم الجبال وقال : وهذا من فساد النظر في العلم الطبيعي لأن علة الاجتماع تكاثف المسام واشتدادها لا قوة الجسم وضعفه ومن ثم لم يقع في الأرض الرخوة مع صحة تربتها ولا نشاهد انصباب المواد إلى الأعضاء الضعيفة ولأن الاختلاج يكثر جدا في قليل الاستحمام والتدليك دون العكس وعده أكثر الناس علما وقد أناطوا به أحكاما
ونسب إلى قوم من الفرس والعراقيين والهند كطمطم وإقليدس ونقل فيه كلام عن جعفر بن محمد الصادق وعن الإسكندر ولم يثبت على أن توجيه ما قيل عليه ممكن لأن العضو المختلج يجوز استناد حركته إلى حركة الكوكب المناسب له لما عرفناك من تطابق العلوي والسفلي في الأحكام وهذا ظاهر انتهى
والرسائل المذكورة مسطورة في محلها

(2/30)


علم الاختيارات

(2/30)


هو من فروع علم النجوم

(2/30)


فهو علم باحث عن أحكام كل وقت وزمان من الخير والشر الجاريين في العالم السفلي بحسب تبدل أحوال القمر في منازله وأوضاع الكواكب وأوقات يجب الاحتراز فيها عن ابتداء الأمور وأوقات يستحب فيها مباشرة الأمور وأوقات يكون مباشرة الأمور فيها بين بين
ثم كل وقت له نسبة خاصة ببعض الأمور بالخيرية وببعضها بالشرية وذلك بحسب كون الشمس في البروج والقمر في المنازل والأوضاع الواقعة بينهما من المقابلة والمقارنة والتثليث والتربيع والتسديس وغير ذلك حتى يمكن بسبب ضبط هذه الأحوال اختيار وقت لكل أمر من الأمور التي تقصد كالسفر ( 2 / 31 ) والبناء وقطع الثوب إلى غير ذلك من الأمور

(2/30)


وفيه كتب كثيرة منها : كتب بطليموس وواليس المصري ودرونيوس الإسكندراني وكتاب أبي معشر البلخي وكتاب عمر بن فرحان الطبري وكتاب أحمد بن عبد الجليل السنجري وكتاب محمد بن أيوب الطبري وكتاب يعقوب بن علي القصراني رتب على مقالتين عشرين بابا وكتاب كوشيار بن لبان الجيلي وكتاب سهل بن نصر وكتاب كنكة الهندي وكتاب ابن علي الخياط وكتاب الفضل بن بشر وكتاب أحمد بن يوسف وكتاب الفضل بن سهل وكتاب نوفل الحمصي وكتاب أبي سهل مأجور وأخويه وكتاب علي بن أحمد الهمداني وكتاب الحسن بن الخطيب وكتاب أبي الغنائم بن هلال وكتاب هبة الله بن شمعون وكتاب أبي نصر بن علي القمي وكتاب أبي نصر القبيصي وكتاب أبي الحسن ابن علي بن نصر واختيارات الكاشفي فارسي على مقدمة ومقالتين وخاتمة والاختيارات العلائية المسماة ب ( ( الأحكام العلائية في الأعلام السماوية ) ) واختيارات أبي الشكر يحيى بن محمد المغربي وغير ذلك ونفع هذا العلم بين لا يخفى على أحد

(2/31)


علم الإخفاء

(2/31)


وهو علم يتعرف منه كيفية إخفاء الشخص نفسه عن الحاضرين بحيث يراهم ولا يرونه وله دعوات وعزائم إلا أن صاحب ( ( مدينة العلوم ) ) قال : إن الغالب على ظني أن ذلك لا يمكن إلا بالولاية بطريق خرق العادة لا بمباشرة أسباب يترتب عليها ذلك عادة

(2/31)


علم الأخلاق

(2/31)


هو قسم من الحكمة العملية . ( 2 / 32 )

(2/31)


قال الأرنيقي في ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم يعرف منه أنواع الفضائل وهي اعتدال ثلث قوي وهي القوة النظرية والغضبية والشهوية منها أوساط بين الرذيلتين

(2/32)


الحكمة : وهي كمال القوة النظرية وهي التوسط بين الرذيلتين البلادة والجريزة الأول تفريطها والثاني إفراطها

(2/32)


والشجاعة : وهي كمال القوة الغضبانية وهي التوسط بين الرذيلتين الجبن والتهور الأول تفريطها والثاني إفراطها
والعفة : وهي كمال القوة الشهوية وهي التوسط بين الرذيلتين الخمود والفجور والأول تفريطهما والثاني إفراطها وهذه الثلاثة أعني الحكمة والشجاعة والعفة تذكر في علم الأخلاق تعريفاتها
ثم طريق العلاج بأن يفتر عن طرفي التوسط ويعتدل في الوسط وخير الأمور أوساطها
وموضوع هذا العلم : الملكات النفسانية من حيث تعديلها بين الإفراط والتفريط
ومنفعته : أن يكون الإنسان كاملة أفعاله بحسب الإمكان ليكون أولاه سعيدا أو أخراه حميدا انتهى

(2/32)


قال ابن صدر الدين في ( ( الفوائد الخاقانية ) ) : وهو علم بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها وبالرذائل وكيفية توقيها لتتخلى عنها
فموضوعه : الأخلاق والملكات والنفس الناطقة من حيث الاتصاف بها وهاهنا شبهة قوية وهي أن الفائدة في هذا العلم إنما تتحقق إذا كانت الأخلاق قابلة للتبديل والتغيير والظاهر خلافه كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام ) )
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا : ( ( إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا أو إذا ( 2 / 33 ) سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوا فإنه سيعود إلى ما جبل عليه ) ) وقوله عز وجل ( ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) ) ناظر إليه أيضا
وأيضا الأخلاق تابعة للمزاج والمزاج غير قابل للتبديل بحيث يخرج عن عرضه
وأيضا السيرة تقابل الصورة وهي لا تتغير
والجواب : إن الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير فكر وروية

(2/32)


والملكة راسخة في النفس لا تزول بسرعة وهي قسمان : أحدهما طبيعية والآخر عادية
أما الأولى : فهي أن يكون مزاج الشخص في أصل الفطرة مستعدا لكيفية خاصة كامنة فيه بحيث يتكيف بها بأدنى سبب كالمزاج الحار اليابس بالقياس إلى الغضب والحار الرطب بالقياس إلى الشهوة والبارد الرطب بالنسبة إلى النسيان والبارد اليابس بالنسبة إلى البلادة
وأما العادية فهي : أن يزاول في الابتداء فعلا باختياره وبتكرره والتمرن عليه يصير ملكة حتى يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية
ففائدة هذا العلم بالقياس إلى الأولى إبراز ما كان كامنا في النفس وبالقياس إلى الثانية تحصيلها وإلى هذا يشير ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ) ولهذا قيل : إن الشريعة المصطفوية قد قضت الوطر عن أقسام الحكمة العملية على أكمل وجه وأتم تفصيل انتهى
وفيه كتب كثيرة منها : ( ( أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار ) ) لأبي حامد الغزالي وأخلاق الشيخ الرئيس وأخلاق راغب وأخلاق علائي وأخلاق عضد الدين الأيجي وأخلاق فخر الدين الرازي وأخلاق الناصري ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأخلاق جلالي للمحقق الدواني
وعبارة ( ( مدينة العلوم ) ) ومن الكتب المختصرة فيه كتاب ( ( البر والإثم ) ) لأبي علي ابن سينا ( 2 / 34 ) و ( ( كتاب الفوز ) ) لأبي علي مسكويه
ومن المبسوطة كتاب الإمام فخر الدين بن الخطيب الرازي انتهى
قلت : وقد قضت الشريعة المصطفوية حق علم الأخلاق فلم تدع لأحد فيه مثالا يقوله وكلاما يتلكم به فالكتاب والسنة يكفيان لمن يريد إدراك هذا العلم والتحلي به عن تلك الكتب المشار إليها فإن الصباح يغني عن المصباح

(2/33)


علم آداب الأكل

(2/34)


وهل حل الطعام كسبا بعد حله في نفسه شرعا وغسل اليد قبل الطعام وبعده ووضع الطعام على السفرة لأنه أقرب إلى التواضع والجثو على الركبة عند الأكل وأن ينوي عند الأكل أن يقوى على الطاعة وأن يقنع بالحاضر وأن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام وأن يبدأ ببسم الله ويختم بحمد الله ويلعق أصابعه ويلقط فتات الطعام ولا يبتدي به قبل من يستحق التقديم لكبر سنه أو فضله ولا يسكت بل يتكلم بالمعروف وحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها وهذا العلم مدون في كتب علم الحديث وذكره في ( ( مدينة العلوم ) ) وهكذا وهو من العلوم المتعلقة بالعادات

(2/34)


علم آداب البحث

(2/34)


ويقال له علم المناظرة
قال أبو الخير في : ( ( مفتاح السعادة ) ) : هو علم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين
وموضوعه : الأدلة من حيث أنها يثبت بها المدعى على الغير ومباديه أمور بينة بنفسها
والغرض منه : تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب انتهى
وقد نقله من موضوعات لطفي بعبارته ثم أورد بعض ما يذكر هاهنا من المؤلفات . ( 2 / 35 )
قال ابن صدر الدين في : ( ( الفوائد الخاقانية ) ) : وهذا العلم كالمنطق يخدم العلوم كلها لأن البحث والمناظرة عبارة عن النظر من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للصواب لا إلزاما للخصم والمسائل العلمية تتزايد يوما فيوما بتلاحق الأفكار والأنظار فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان لا يخلو علم من العلوم عن تصادم الآراء وتباين الأفكار وإدارة الكلام من الجانبين للجرح والتعديل والرد والقبول إلا أنه بشرائط معتبرة مشروط وبرعاية الأصول منوط وإلا لكان مكابرة غير مسموعة فلا بد من قانون يعرف به مراتب البحث انتهى قوله
وإلا لكان مكابرة أي وإن لم يكن البحث لإظهار الصواب لكان مكابرة

(2/34)


وفيه مؤلفات أكثرها مختصرات وشروح للمتأخرين
منها : ( ( آداب شمس الدين السمرقندي ) ) وهي أشهر كتب الفن و ( ( وآداب عضد الدين الأيجي ) ) و ( ( وآداب أحمد بن سليمان كمال باشا ) ) و ( ( وآداب أبي الخير أحمد بن مصطفى طاشكبري زاده ) ) المتوفى سنة اثنتين وستين وتسعمائة وهو جامع لمهمات هذا الفن مفيد جدا إلى غير ذلك

(2/35)


علم آداب التوبة

(2/35)


وحقيقتها ترك الذنب في الحال والعزم على ذلك في الاستقبال والندم على ما مضى بتلافي ما فات
وشرط صحتها في الماضي : أن يتكامل في كل طاعة تركها وفي كل معصية فعلها في ساعات عمره فيتوب عنها إلى الله تعالى بالندم والتحسر عليها ويحسب عددها ويعمل مكان كل سيئة حسنة ليمحوها بها وكذا يتأمل في مظالم العباد ويفعل مكان كل ظلم منها حسنة لصاحبها
وآداب التوبة وشروطها وما يليها مشروحة في كتاب ( ( الإحياء ) ) للغزالي ( 2 / 36 ) وهذا العلم معدود في علوم الأخلاق المنجيات على ما ذكره في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/35)


علم آداب الحسبة

(2/36)


هي من جملة الواجبات ولا بد وأن يكون المحتسب عالما بمواقع الحسبة وأن يكون ورعا حسن الخلق إذ العلم والورع لا يكفي في اللطف والرفق ما لم يكن لصاحبه حسن الخلق
ومن آدابها : تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه ويقطع الطمع حتى تزول عنه المداهنة
وهذا العلم من العلوم المتعلقة بالعادات ذكره في ( ( مدينة العلوم ) ) وقد تقدم الكلام عليه أيضا في علم الاحتساب

(2/36)


علم آداب الدرس

(2/36)


وهو العلم المتعلق بآداب تتعلق بالتلميذ مع الأستاذ وعكسه ومنفعته وغايته وغرضه ظاهرة جدا وقد استوفى هذا الباب في كتاب تعليم المتعلم مؤلفه - رحمه الله

(2/36)


علم آداب كتابة المصحف

(2/36)


ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير وأنت تعلم أنه أشبه منه في كونه فرعا لعلم الخط

(2/36)


قال في : ( ( المدينة ) ) : هو علم يتعرف منه كيفية كتابة المصحف ليكون موافقا للآداب المعتبرة في الشرع والمستحسنة عند السلف
وفائدته غير خافية على أرباب البصائر منها : تحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط ويكره كتابته في الشيء الصغير وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى مصحفا قد كتب بقلم دقيق ضرب كاتبه وكان إذا رأى مصحفا ( 2 / 37 ) عظيما سر به
وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يكره أن يتخذ المصاحف صغارا
قالت الشافعية : وتكره كتابته على الحيطان والجدران وعلى السقوف أشد كراهية لأنه يوطأ انتهى

(2/36)


علم آداب السفر

(2/37)


وهو نوعان ظاهر وباطن ولكل منهما آداب
أما الظاهر : فهو أن ينوي به طلب العلم أو العبادة أو يكون للهرب من مشوش في الدين أو في البدن كالمرض أو في المال كالغلا فإذا أراد بدأ برد المظالم والديوان والودائع وأعد النفقة له ولعياله من الحلال ثم يختار رفيقا يعينه على الدين وأن يستودع الله أهله وعياله ويصلي قبل السفر صلاة الاستخارة ثم يصلي في بيته أربع ركعات إذا شد عليه ثياب سفره ويخرج يوم الخميس ولا ينزل حتى يحمى النهار ولا يمشي متفردا عن القافلة ويرفق بالدابة راكبا ولا يحملها ما لا تطيق ولا يضرب في وجهها ويستصحب ستة أشياء السجنجل والساك والمكحلة والمشط والركوة والمقراض ويزيد ما شاء مما يحتاج إليه ويقدر عليه

(2/37)


وإذا قدم لا يطرق أهله ليلا بل يخبرهم قبل دخول البيت ويدخل أولا المسجد فيصلي ثم يدخل البيت ويحمل لأهل بيته وأقاربه تحفا من مطعوم أو ملبوس أو غير ذلك بذلك وردت السنة المطهرة
وأما الباطن : فهو أن لا يسافر إلا لزيادة أمر ديني ويستفيد في كل بلدة من مشائخها أدبا أو كلمة ينتفع بها لا ليحكي ذلك عنهم فقط ويقيم بكل بلدة بقدر الحاجة لا أكثر من ذلك ولا يجالس فيها إلا العلماء أو الصلحاء الصادقين المتبعين للكتاب والسنة ويلازم في الطريق الذكر وقراءة القرآن وشغل العلم والكتابة والعمل الصالح وإذا تيسر خدمة قوم صالحين فبها ونعمت وإن لم يحصل في السفر زيادة في الدين فليرجع إذ لو كان بحق لظهر أثره . ( 2 / 38 )

(2/37)


علم آداب السماع والوجد

(2/38)


حرمه الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من المشائخ المعتد بهم في أمور الدين والآثار فيه كثيرة
ومن الصوفية من أباحه ولا بأس به فقد دلت السنة الصحيحة على ذلك بشرط أن لا يؤدي إلى المنكر في الشرع وقد حقق المقام الإمام الهمام شيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني في كتابه ( ( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ) ) وهو المعتمد
وأما الصوفية فقالوا : إن له مراتب سماع صوت طيب وهو : إما موزون أو غيره
ثم الموزون إما مفهوم أو غيره فهذه درجات
والصوت الطيب لا حرمة فيه بل هو حلال كصوت البلابل ونغمة العنادل ولا يتفاوت ذلك بصدوره عن حيوان أو عن حنجر إنسان
والموزون من حيث أنه موزون غير محرم إذ قد أنشد الشعر بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون الحرمة فيه إلا بحسب مفهومه

(2/38)


وإن كان محرما فيحرم سواء كان موزونا أو غير موزون وإلا فلا يحرم ولذا ورد الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح
وإذا عرفت كون الشعر الحسن مباحا فاعلم أن الكلام الموزون والصوت الطيب يحرك القلب سرورا وانقباضا ونشاطا وغما وذلك مركوز في طبع الإنسان حتى الصبيان في المهد بل في طبع الحيوان أيضا كما يحكى من ميل الجمال إلى الأصوات الطيبة والحداء وإذا كان كذلك لم يجز أن يحكم مطلقا بإباحته وحرمته بل يختلف ذلك باختلاف وأحوال القلب . ( 2 / 39 )
قال أبو سليمان : السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه بل يحرك ما هو فيه وذكر في ( ( مدينة العلوم ) ) سبعة مواضع للغناء ليس ذكرها مرادا لنا في هذا الموضع

(2/38)


علم آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق

(2/39)


ولا بد أن يكون الغرض من الصحبة النفع الديني كاستفادة العلم والعمل وكاستفادة العز والجاه تحصنا به عن أذى من يشوش القلب وكاستفادة المال للاكتفاء به عن إضاعة الأوقات في طلب الأقوات وكالاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأهوال والنوائب وكالتبرك بمجرد الدعاء وكانتظار الشفاعة في الآخرة
ومن حقوق الصحبة : الاشتراك في المال مع عقد الأخوة والإعانة في قضاء الحاجات والسكوت عن ذكر عيوبه في حضرته وغيبته وذكر مناقبه في الغيب والعفو عن الزلات والهفوات والدعاء للأخ في حياته وبعد مماته والوفاء والإخلاص في المعاملة وترك التكليف في الصحبة
وهذا العلم من فروع علوم العادات على ما ذكره في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/39)


علم آداب العزلة

(2/39)


ولها فضائل وآفات وآداب
أما الفضائل فست
أولها : الفراغ للعبادات والاستيناس بمناجاة رب الأرباب عن مناجاة المخلوقات والاستكشاف بأسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السماء والأرض
وثانيها : التخلص بالعزلة عن المعاصي التي لا يسلم منها الإنسان عند الصحبة إلا نادرا
ثالثها : الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس . ( 2 / 40 )
رابعها : الخلاص من شر الناس من الغيبة له وسوء الظن به والتهمة عليه والاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعد الوفاء بها
خامسها : انقطاع طمع الناس عنه وانقطاع طمعه عنهم
سادسها : الخلاص من مشاهدة الثقلاء السفهاء ومقاساة أخلاقهم
وأما الآفات : فأولها فوات التعليم والتعلم وهما أعظم العبادات
ثانيها : فوات النفع والانتفاع لأن كلا منهما بالمخالطة
ثالثها : فوات التأدب والتأديب بكسر النفس وقهر الشهوات بتحمل أذى الناس
رابعها : فوات الاستيناس والإيناس بالصلحاء الأتقياء
خامسها : فوات نيل الثواب وإنالته
أما النيل : فبحضور الجمعة والجماعات والجنائز وعيادة المرضى وحضور العيدين
وأما الإنالة : فهي سد باب التعزية والتهنية والعيادة والزيارة إن كان عالما تقيا
ففي هذه الصورة ينبغي أن يوازن ثواب هذه بآفاتها ويرجح ما ترجح
سادسها : فوت التجارب إذ العقل الغريزي غير كاف بها
وأما آدابها : فهي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من الأشرار
ثانيا : ثم الخلاص من آفات الاختلاط
ثالثا : التجرد بكنه الهمة لعبادة الله
رابعا : ثم المواظبة في الخلوة على العلم والعمل والفكر والذكر والخلاص عن استماع أخبار الناس وأراجيف البلد اللذين يشوشان القلب لا سيما في الصلاة وهذا العلم ذكره في ( ( مدينة العلوم ) ) في العلوم المتعلقة بالعادات

(2/39)


علم آداب الكسب والمعاش

(2/40)


وهي أن لا يغابن صاحبه فيما يتغابن فيه وأن يحتمل الغبن إن اشترى من ضعيف أو فقير ( 2 / 41 ) . وأن يسامح في طلب الثمن وأن يحط فيه وأن لا يتقاضى المديون وأن يحتمل أذى الدائن وأن يقيل من يستقيله وأن يعلم مراتب الحلال والحرام والشبهات
أما مراتب الحرام فأربع
إحداها : ورع العدول وهو أن يترك ما يحرمه فتاوى الفقهاء
وثانيتها : ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم
وثالثتها : أن يترك ما لا بأس به مخافة أن يقع فيما فيه بأس
ورابعتها : ورع الصديقين وهو ترك ما لا بأس به أصلا ولكن يخاف أن يكون لغير الله أولا على نية التقوى وعبادة الله أو يتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية

(2/40)


وأما مراتب الشبهات : فمعرفتها موقوفة على معرفة مراتب الحرام وقد مر ذكرها وعلى معرفة مراتب الحلال
وهي أن الحلال المطلق ما لا تتطرق إليه أسباب التحريم والكراهة ويقابله الحرام المحض وهذان العرفان ظاهران ليس فيهما شبهة وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( ( الحلال بين والحرام بين ) )
وإنما مثار الشبهة خمسة :
الأول : الشك في السبب المحلل والمحرم فهذه أربعة أقسام
الأول : أن يعلم المحلل قبل ويقع الشك في التحريم
والثاني : أن يعرف الحل من قبل ويشك في التحريم
الثالث : أن يكون الأصل التحريم وطرأ عليه سبب التحليل
الرابع : أن يكون الحل معلوما ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا
والمثار الثاني : الشبهة شك منشأ الاختلاط بين الحلال والحرام
والمثار الثالث : المشبهة أن يتصل بالسبب المحلل معصية
المثار الرابعة : للشبهة الاختلاط في الأدلة وهذا كالاختلاط في السبب ( 2 / 42 ) ثم إنه إذا وقع الحرام في ذمة أحد فإن وجد مالكه يدفعه إليه وإلا يرده وارثه وإن كان صاحب الحق غائبا ينتظر إليه وإن انقطع الرجاء عنه ولم يكن له وارث أو كان المال لم يمكن رده لكثرة الملاك كالغلول في مال الغنيمة فحكم هذا المال أن يتصدق به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهديت له شاة مصلية فكلمته الشاة بأنها حرام قال ( ( أطعموها الأسارى ) ) وكذلك ورد في ذلك الأثر عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى يوم الدين

(2/41)


علم آداب النبوة

(2/42)


ولا بد من معرفتها ليفتدى بها لقوله تعالى : ( ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) ) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائما يسأل من الله - سبحانه وتعالى - أن يزين بمكارم الأخلاق والآداب وكان يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
وعن عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ( ( كان خلقه القرآن ) ) وبهذا أظهر أن من أراد أن يتخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليه أن يتخلق بما في القرآن من الأخلاق

(2/42)


وأحسن الكتب المؤلفة في ذلك ( ( زاد المعاد من هدي خير العباد ) ) للحافظ ابن القيم - رحمه الله - وكتاب ( ( سفر السعادة ) ) للمجد الفيروز أبادي فإنهما جمعا كل أدب وعادة وسيرة كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل باب من أبواب الدين والدنيا وهما عمودا الإسلام وقاعدتا الدين لم يؤلف في الإسلام قبلهما مثلهما ولا يساويهما كتاب في هذا العلم يعرف ذلك من رسخت قدمه في علم السنة المطهرة

(2/42)


علم آداب النكاح

(2/42)


وهي حسن الخلق مع المنكوحة وليس هو كف الأذى بل احتمال الأذى وأن يلاعب ويمازح معهن لأنها تطيب قلب النساء . ( 2 / 43 )
وأن لا ينبسط بالدعابة إلى درجة يسقط هيبته
وأن يعتدل في الغيرة وفي النفقة
وأن يعلم زوجته أحكام الطهارة والصلاة
وأن يعدل بين نسوته ولا يميل إلى بعضهن ذكره في ( ( مدينة العلوم ) ) من أنواع العلوم المتعلقة بالعبادات

(2/42)


علم آداب الملوك

(2/43)


هو معرفة الأخلاق والملكات التي يجب أن يتحلى بها الملوك لتنتظم دولتهم وسيأتي تفصيله في علم السياسة
وفيه كتاب الشيج القاضي الفاضل علي بن محمد الشوكاني سماه : ( ( الدرر الفاخرة الشاملة على سعادة الدنيا والآخرة ) )
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : علم آداب الملوك هي أحوال رسمها الأمراء والملوك بالتجارب والحدس والرأي مما ينبغي أن يفعله أو يجتنبه
وكتاب ( ( نصيحة الملوك ) ) للإمام الغزالي نافع في هذا الباب
ومن الكتب المصنفة فيه ( ( سراج الملوك ) ) للإمام أبي بكر بن الوليد بن محمد القرشي الفهدي الأندلسي الطرطوسي نسبة إلى طرطوسة - بضم المهملتين - بالأندلس في آخر بلاد المسلمين و ( ( سلوان المطاع في عدوان ) ) لابن ظفر انتهى
وقد طبع هذا الأخير بمصر القاهرة في هذا الزمان وانتشر خبره في الجوائب

(2/43)


علم آداب الوزراء

(2/43)


ذكره أبو الخير من فروع الحكمة العملية وهو مندرج في علم السياسة فلا حاجة إلى إفرازه وإن كان فيه تأليف مستقل ك ( ( الإشارة ) ) وأمثاله
وفي ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم يتعرف منه آداب الوزارة من كيفية صحبة ( 2 / 44 ) السلاطين ونصحية الرعايا وأن يذكر السلطان ما نسيه ويعينه على أمره بالخير ويردعه عما قصده من الجور وكتاب ( ( الإشارة إلى آداب الوزارة ) ) نافع في هذا الباب وفي كتاب ( ( نصيحة الملوك وسراج الملوك ) ) ما يكفي انتهى
قلت : وفي كتاب ( ( الدرر الفاخرة المشتملة على سعادة الدنيا والآخرة ) ) للشيخ العلامة العالم الرباني القاضي علي بن محمد الشوكاني فصول تتعلق بآداب الوزارة أتى فيه بما يقضي حق المقام وقد وقفت عليه وانتفعت به في كتابي ( ( إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة ) ) وبالله التوفيق

(2/43)


علم الأدب

(2/44)


هو علم يحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظا وخطا

(2/44)


قال أبو الخير : اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها لما لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها كان ضبط أحوالها مما اعتنى به العلماء فاستخرجوا من أحوالها علوما انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسما وسموها ( ( بالعلوم الأدبية ) ) لتوقف أدب الدرس عليها بالذات وأدب النفس بالواسطة وبالعلوم العربية أيضا لبحثهم عن الألفاظ العربية فقط لوقوع شريعتنا التي هي أحسن الشرائع وأفضلها أو أعلاها وأولاها على أفضل اللغات وأكملها ذوقا ووجدانا انتهى
واختلفوا في أقسامه فذكر ابن الأنباري في بعض تصانيفه أنها ثمانية
وقسم الزمخشري في ( ( القسطاس ) ) إلى اثني عشر قسما كما أورده العلامة الجرجاني في ( ( شرح المفتاح ) )
وذكر القاضي زكريا في ( ( حاشية البيضاوي ) ) أنها أربعة عشر وعد منها : علم ( 2 / 45 ) القرآن قال : وقد جمعت حدودها في مصنف سميته ( ( اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم ) ) لكن يرد عليه أن موضوع العلوم الأدبية كلام العرب وموضوع القراءات كلام الله - سبحانه وتعالى -
ثم إن السيد والسعد تنازعا في الاشتقاق هل هو مستقل كما يقوله السيد أو من تتمة علم الصرف كما يقوله السعد
وجعل السيد البديع من تتمة البيان والحق ما قاله السيد في الاشتقاق لتغاير الموضوع بالحيثية المعتبرة وللعلامة الحفيد مناقشته في التعريف والتقسيم أوردها في موضوعاته حيث قال :

(2/44)


وأما علم الأدب : فعلم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وههنا بحثان
الأول : أن كلام العرب بظاهره لا يتناول القرآن وبعلم الأدب يحترز عن خلله أيضا إلا أن يقال المراد بكلام العرب بكلام يتكلم العرب على أسلوبه
الثاني : أن السيد - رحمه الله - تعالى قال : لعلم الأدب أصول وفروع
أما الأصول فالبحث فيها إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيئاتها فعلم اللغة أو من حيث صورها وهيئاتها فقط فعلم الصرف ومن حيث انتساب بعضها ببعض الأصالة والفرعية فعلم الاشتقاق وأما عن المركبات على الإطلاق
فأما باعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو
وأما باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فعلم المعاني
وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان وعلم البديع ذيل لعلمي المعاني والبيان داخل تحتهما وليس علما برأسه وأما عن المركبات الموزونة فأما من حيث وزنها فعلم العروض
أو من حيث أواخرها فعلم القوافي . ( 2 / 46 )

(2/45)


وأما الفروع : فالبحث فيها إما أن يتعلق بنقوش الكتابة فعلم الخط أو يختص بالمنظوم فالعلم المسمى بقرض الشعر أو بالنثر فعلم الإنشاء من الرسائل أو من الخطب ولا يختص بشيء فعلم المحاضرات ومنه التواريخ
قال الحفيد : هذا منظور فيه فأورد النظر بثمانية أوجه
حاصلها أنه يدخل بعض العلوم في المقسم دون الأقسام ويخرج بعضها منه مع أنه مذكور فيه وإن جعل التاريخ واللغة علما مدونا لمشكل إذ ليسا بمسائل كلية وجواب الأخير مذكور فيه ويمكن الجواب عن الجميع أيضا بعد التأمل الصادق
وفي ( ( إرشاد القاصد ) ) للشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي : الأدب وهو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة
وموضعه : اللفظ والخط من جهة دلالتها على المعاني
ومنفعته : إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا وهو حلية اللسان والبنان وبه تميز ظاهر الإنسان على سائر أنواع الحيوان

(2/46)


وتنحصر مقاصده في عشرة علوم وهي : علم اللغة وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي وعلم النحو وعلم قوانين الكتابة وعلم قوانين القراءة وذلك لأن نظره إما في اللفظ أو الخط
والأول : فإما في اللفظ المفرد أو المركب أو ما يعمهما
وما نظره في المفرد : فاعتماده إما على السماع وهو اللغة أو على الحجة وهو التصريف
وما نظره في المركب : فإما مطلقا أو مختصا بوزن
والأول : إن تعلق بخواص تراكيب الكلام وأحكامه الإسنادية فعلم المعاني وإلا فعلم البيان
والمختص بالوزن : فنظره إما في الصورة أو في المادة
الثاني : علم البديع . ( 2 / 47 )
والأول : إن كان بمجرد الوزن فهو علم العروض وإلا فعلم القوافي وما يعم المفرد والمركب فهو علم النحو
والثاني : فإن تعلق بصور الحروف فهو علم قوانين الكتابة
وإن تعلق بالعلامات فعلم قوانين القراءة وهذه العلوم لا تختص بالعربية بل توجد في سائر لغات الأمم الفاضلة من اليونان وغيرهم
واعلم أن هذه العلوم في العربية لم تؤخذ عن العرب قاطبة بل عن الفصحاء البلغاء منهم وهم الذين لم يخالطوا غيرهم كهذيل وكنانة بعض تميم وقيس وغيلان ومن يضاهيهم من عرب الحجاز وأوساط نجد

(2/46)


فأما الذين أصابوا العجم في الأطراف فلم تعتبر لغاتهم وأحوالها في أصول هذه العلوم وهؤلاء كحمير وهمدان وخولان والأزد لمقاربتهم الحبشة والزنج وطي وغسان لمخالطتهم الروم والشام وعبد القيس لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس ثم أتى ذوو العقول السليمة والأذهان المستقيمة ورتبوا أصولها وهذبوا فصولها حتى تقررت على غاية لا يمكن المزيد عليها انتهى ما في ( ( كشاف واصطلاحات الفنون ) )
قال ابن جني : المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ
قال ابن رشيق : ما ذكره صحيح لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض فإنهم حضروا الحواضر وتفننوا في المطاعم والملابس وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم من فضل التشبيه وغيره انتهى

(2/47)


علم الأدعية والأوراد

(2/47)


هو علم يبحث فيه عن الأدعية المأثورة والأوراد المشهورة بتصحيحهما وضبطهما وتصحيح روايتهما وبيان خواصهما وعدد تكرارهما وأوقات قراءتهما وشرائطهما . ( 2 / 48 )
ومباديه : مبينة في العلوم الشرعية
والغرض منه : معرفة تلك الأدعية والأوراد على الوجه المذكور لينال باستعمالهما الفوائد الدينية والدنيوية كذا في ( ( مفتاح السعادة ) )
وجعله من فروع علم الحديث بعلة استمداده من كتب الأحاديث
والكتب المؤلفة فيه كثيرة جدا منها : ( ( حصن الحصين ) ) و ( ( الأذكار ) ) للنووي الذي يقال فيه : بع الدار واشتر الأذكار ومنها ( ( الحزب الأعظم ) ) لعلي القاري
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : وكتب الشيخ عبد الرحمن الإنطاكي نافعة في هذا الباب انتهى

(2/47)


ولم أقف على هذه الكتب ومن كتبه ( ( سلاح المؤمن ) ) و ( ( فرنده ) ) و ( ( الحزب المقبول ) ) للشيخ عبد الجبار الناكبوري المهاجر المتوفى بمكة المكرمة في سنة 1294 الهجرية
وأحسن هذه الكتب ما كان فيه الروايات الصحيحة الثابتة من السنة المطهرة بلا نزاع
ومنها : ( ( شرح عدة الحصن الحصين ) ) لشيخنا الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه

(2/48)


علم أدوات الخط

(2/48)


سيأتي تحقيقه في علم الخط إن شاء الله تعالى هكذا في ( ( كشف الظنون ) )
وقال الأرنيقي في : ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم أدوات الخط من الأقلام وطريق استعلام جيدها من رديها وطريق برئها وأحوال الفتح والنحت والشق والقط من الدوات وكيفية إلاقتها ومن أنواع المداد وكيفية صنعتها وإصلاحها ومن أنواع الكاغذ ومعرفة جيدها من رديها وطريق إصلاحها وغير ذلك من أدوات الكتابة
ومن المصنفات فيه ( ( القصيدة الرائية البليغة ) ) لعلي بن هلال بن البواب البغدادي وهو الذي لم يوجد في المتقدمين ولا في المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه ( 2 / 49 ) وإن كان أبو علي بن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها الحلاوة وكان شيخه في الكتابة ابن أسد الكاتب البزار البغدادي توفي ابن بواب سنة 423 أو سنة 410 ببغداد ودفن جوار الإمام أحمد بن حنبل ورسالة لطيفة لأبي الدر ياقوت ابن عبد الله المستعصمي كان من مماليك الخليفة كتب الخط البديع وجوده توفي سنة 498

(2/48)


ومن المصنفات فيه الباب الواحد من ( ( كتاب صبح الأعشا في كتاب الإنشا ) ) لأبي العباس أحمد القلقشندي ثم المصري أورد في الباب المذكور ما يتعلق بالخط وأجاد فيه كل الإجادة ونقل أكثره عن ياقوت المستعصمي انتهى حاصله

(2/49)


علم الأدوار والأكوار

(2/49)


ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وقال : والدور يطلق في اصطلاحهم على ثلاثمائة وستين سنة شمسية والكور على مائة وعشرين سنة قمرية ويبحث في العلم المذكور عن تبديل الأحوال الجارية في كل دور وكور
وقال : هذا من فروع علم النجوم كما هو ظاهر عند أهله مع أنه لم يذكره في بابه ومثله في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/49)


علم الأرتماطيقي

(2/49)


هوعلم يبحث فيه عن خواص العدد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد
ومثل ضعف الواسطتان كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الإفراد على تواليها والأزواج على تواليها
ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ أو بكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ( 2 / 50 ) ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر
ومثل مربع الواسطتان كانت العدة فردا وذلك مثل أعداد زوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشرة

(2/49)


ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطروها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ
وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغا ما بلغ وتحدث في جميعها وقسمة بعضها على بعض طولا وعرضا خواص غريبة استقريت منها وتقررت في دواوينهم مسائلها وكذلك ما يحدث للزوج والفرد وزوج الزوج والفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب
وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفردونه بالتأليف فعل ذلك ابن سينا في كتابه ( ( الشفاء والنجاة ) ) وغيره من المتقدمين
وأما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب ( ( رفع الحجاب ) ) والله أعلم
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : علم الأرتماطيقي ويسمى علم العدد علم يتعرف منه أنواع العدد وأحوالها وكيفية تولد بعضها من بعض . ( 2 / 51 )
وموضوعه : الأعداد من جهة خواصها ولوازمها
ومن الكتب المختصرة فيه ( ( سقط الزند في علم العدد ) )
ومن المتوسطة ( ( كتاب الأرتماطيقي من أبواب الشفاء ) )
ومن المبسوطة كتاب ( ( نيقوماخس ) ) والد أرسطو
ومنفعة هذا العلم : ارتياض النفس بالنظر في المجردات عن المادة ولواحقها ولذلك كانت القدماء يقدمونه في التعليم على سائر العلوم حتى المنطق ولأنه مثال العالم في صدوره عن واجب مجرد خارج عنه كما أن الأعداد نشأت عن الواحد وليس بعدد انتهى

(2/50)


علم الأزياج

(2/51)


من فروع علم الهيئة وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطؤ واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلا على المتعلمين وتسمى الأزياج
ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا وتقويما وللناس فيه تآليف كثيرة من المتقدمين والمتأخرين مثل البناني وابن الكماد . ( 2 / 52 )
وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد وأن يهوديا كان بصقلبة ماهرا في الهيئة والتعاليم وكان قد عنى بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب عنوا به لوثاقه مبناه على ما يزعمون ولخصه ابن البناء في جزء سماه ( ( المنهاج ) ) فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتنى عليها الأحكام النجومية وهي معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والله الموفق لما يحبه ويرضاه لا معبود سواه

(2/51)


علم الأسارير

(2/52)


هو علم باحث عن الاستدلال بالخطوط الموجودة في كف الإنسان وقدمه وجبهته بحسب التقاطع والتباين والطول والعرض والقصر وسعة الفرجة الكائنة بينها وضيقها على أحواله كطول عمره وقصره وسعادته وشقاوته وغنائه وفقره
وممن تمهر في هذا الفن العرب والهنود غالبا وفيه تصنيف لبعضهم لكن جعله ذيلا للفراسة كذا في ( ( مفتاح السعادة ) )
وعبارة ( ( مدينة العلوم ) ) وقد توجد في هذا العلم مصنفات وكثيرا ما توجد ذيلا لكتب علم القرآن قال الأعشى - رحمه الله - ( 2 / 53 )
فانظر إلى كفي وأسرارها ... هل أنت أن وعدتني ضائري

(2/52)


علم أسباب النزول

(2/53)


من فروع علم التفسير هو علم يبحث فيه عن نزول سورة أو آية ووقتها ومكانها وغير ذلك ومباديه مقدمات مشهورة منقولة عن السلف
والغرض منه : ضبط تلك الأمور
وفائدته : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم وتخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب وأن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه فإذا عرف السبب قصد التخصيص على ما عداه
ومن فوائده : فهم معنى القرآن واستنباط الأحكام إذ ربما لا يمكن معرفة تفسير الآية بدون الوقوف على سبب نزولها مثل قوله تعالى : ( ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ) وهو يقتضي عدم وجوب استقبال القبلة وهو خلاف الإجماع ولا يعلم ذلك إلا بأن نزولها في نافلة السفر وفيمن صلى بالتحري ولا يحل القول فيه إلا بالرواية والسماع ممن شهد التنزيل كما قال الواحدي
ويشترط في سبب النزول أن يكون نزولها أيام وقوع الحادثة وإلا كان ذلك من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كقصة الفيل كذا في ( ( مفتاح السعادة ) )
ومن الكتب المؤلفة فيه ( ( أسباب النزول ) ) لشيخ المحدثين علي بن المديني وهو أول من صنف فيه ولابن مطرف الأندلسي في مائة جزء وترجمته بالفارسية لأبي النصر سيف الدين أحمد الاسبرتكسيني ولمحمد بن أسعد العراقي وللشيخ أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر وهو أشهر ما صنف فيه وقد اختصره برهان الدين الجعبري فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا . ( 2 / 54 )
ولابن الجوزي البغدادي وللحافظ ابن حجر العسقلاني - ولم يبيض - للسيوطي أيضا سماه : ( ( لباب النقول ) ) وهو كتاب حافل
وقد تكلمنا على أسباب النزول في رسالتنا ( ( أكسير في أصول التفسير ) ) فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما

(2/53)


علم أسباب ورود الأحاديث وأزمنته وأمكنته

(2/54)


وموضوعه ظاهر من اسمه ومنفعته ظاهرة لا تخفى على أحد ذكره أبو الخير من فروع علم الحديث وفيه مصنفات كثيرة لا تحصى

(2/54)


علم الاستعانة بخواص الأدوية والمفردات

(2/54)


كاجتذاب المغناطيس للحديد ونحو ذلك وفيه حكاية وهي : وقوف صليب من حديد في الهواء في داخل حجرة موضوعة في جدرانها الأربعة مغناطيس متساوية المقادير وافتنان النصارى به وهذا العلم من حيث كونه أثرا للخواص يسمى : بعلم الخواص ومن حيث كونه محيرا للناظرين لعدم وقوفهم بأسبابها يعد من فروع علم السحر كذا في ( ( مدينة العلوم ) ) وذكره أبو الخير أيضا من فروع علم السحر
وقال : هذا وإن كان من فروع خواص الأدوية لكن لعدم معرفة العوام سببه ربما يعد من السحر وأنت تعلم : أن عدم علمهم لا يصلح سببا لأن يعد من فروعه

(2/54)


علم استعمال الألفاظ

(2/54)


هو من فروع علم البيان وهو علم يبحث فيه عن استعمالات الألفاظ في المعاني التشبيهية والكنائية بطريق الإستعارة والمجاز وهذا الفن في علم البيان بطريق الكلية وفي هذا الفن بطريق الجزئية . ( 2 / 55 )
ومباديه : استقرائية
وموضوعه وغرضه وغايته لا تخفى على الفطن المتأمل وللأصمعي و أبي عبيدة في هذا الفن أيضا كتب كثيرة كذا في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/54)


علم استنباط المعادن والمياه

(2/55)


أي معادن الذهب والفضة وهو علم يبحث فيه عن تعيين محل المعدن والمياه إذ المعدنيات لا بد لها من علامات تعرف بها عروقها في الجبال والأرض ومباديه وآلاته قريبة من علم الريافة وهو من فروع علم الفراسة

(2/55)


علم استنزال الأرواح واستحضارها في قوالب الأشباح

(2/55)


هو من فروع علم السحر
واعلم أن تسخير الجن أو الملك من غير تجسدهما وحضورهما عندك يسمى ( ( علم العزائم ) ) بشرط تحصيل مقاصدك بواسطتهما
وأما حضور الجن عندك وتجسدها في حسك فيسمى ( ( علم الاستحضار ) ) ولا يشترط تحصيل مقاصدك بها
وأما استحضار الملك
فإن كان سماويا فتجسده لا يمكن إلا للأنبياء
وإن كان أرضيا ففيه الخلاف والأصح عدم جواز ذلك لغير الأنبياء مطلقا كذا في ( ( مفتاح السعادة ) ) و ( ( مدينة العلوم ) ) ومن الكتب المصنفة فيه كتاب ( ( ذات الدوائر ) ) وغيره

(2/55)


علم أسرار الحروف

(2/55)


وهو المسمى لهذا العهد ب ( ( السيمياء ) ) يأتي في حرف السين . ( 2 / 56 )

(2/55)


علم أسرار الطهارة

(2/56)


ولها أربع مراتب
أولها : طهارة الظاهر عن الحدث والخبث على ما بين في الشرع المطهر
وثانيتها : تطهير الجوارح عن الآثام لأن الإثم بالنظر إلى القلب كالخبث بالنسبة إلى البدن
وثالثتها : تطهير القلب عن ذمائم الأخلاق لأنها بالنسبة إلى الروح كالآثام بالنسبة إلى القلب
ورابعتها : تطهير السر عما سوى الله تعالى لأن الالتفات إلى غير الله تعالى بالنسبة إلى السر بمنزلة ذمائم الأخلاق بالنسبة إلى الروح وهذه طهارة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصديقين

(2/56)


علم أسرار الصلاة

(2/56)


ولها مرتبتان : إحداهما ما لا تتحقق الصلاة بدونها وهي التي ينظر الفقيه إليها
وثانيتهما : ما تكمل به الصلاة وتحسن وهي النظر في الشروط الباطنة من أعمال القلب كالخشوع وحضور القلب وكالتعظيم وهذا غير الخشوع إذ كم من حاضر القلب متوجه إليه ليس فيه تعظيم لأنه إنما يتولد من معرفة جلال الله تعالى وعظمته ومعرفة حقارة النفس وكونها مسخرة لربها وكالهيبة وهي أمر زائد على التعظيم منشأها خوف يصدر عن الإجلال وكالرجاء وسببه معرفة لطف الله وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة للمصلي وكالحياء وسببه استشعار التقصير في العبادات وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله - سبحانه وتعالى

(2/56)


علم أسرار الزكاة

(2/56)


ولها آداب ثمانية . ( 2 / 57 )
الأول : أن يفهم أن الغرض من الزكاة الامتحان بأن لا يكون له محبوب سوى الواحد الحق وله مراتب
أولها : الذين نزلوا عن جميع أموالهم كما فعله الصديق
وثانيتها : الذين يدخرون على قدر الحاجة ويصرفون الفاضل في وجوه البر
وثالثتها : الذين يقتصرون على أداء الواجب وهذه أولى المراتب ولهذه المرتبة فوائد
الأولى : تطهير المال عن الأوساخ
الثانية : تطهير النفس عن صفة البخل
والثالثة : شكر النعمة المالية

(2/57)


الأدب الثاني : التعجيل عند حلول الوقت إظهارا للرغبة في الامتثال وتعجيلا لمسرة قلوب الفقراء
الأدب الثالث : الإسرار فإن ذلك أبعد من السمعة والرياء
الأدب الرابع : أن يقصد اقتداء الناس عند الإظهار ويتحفظ من الرياء مهما قدر اللهم إلا أن يتأذى الفقير بهتك سره
الأدب الخامس : أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى
والأدب السادس : أن يستصغر العطية وإلا دخله العجب
الأدب السابع : أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأطيبه وأحله
الأدب الثامن : أن يطلب لصدقته الأتقياء
وهم ستة : المتجردون للآخرة والعلماء إذا صحت نياتهم في العلم والصادق في تقواه والفقراء الساترون لفقرهم وأهل العائلة المحبوسون بمرض أو دين والأقارب ذوي الأرحام

(2/57)


علم أسرار الصوم

(2/57)


وله ثلاث مراتب
أولها صوم العموم وهو كف الفرج والبطن عن قضاء الشهوة . ( 2 / 58 )
ثانيتها : صوم الخصوص وهو كف الجوارح عن الآثام
وثالثها : صوم أخص الخصوص وهو غض البصر عن المحارم والمكاره وعما يلهي عن ذكر الله وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة وكف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه وكف بقية الجوارح عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وأن لا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلي بطنه وأن يكون قلبه بعد الإفطار متعلقا مضطربا بين الخوف والرجاء إذ لا يدري أنه يقبل صومه فيكون من المقربين أو يرد فيكون من الممقوتين

(2/57)


علم أسرار الحج

(2/58)


وأعماله الظاهرة مبينة في الشرع المطهر وهي عشرة
أولها : أن تكون النفقة حلالا
ثانيها : أن لا يعاون أعداء الله بتسليم المكوس إلى العمال الظلمة المترصدين في الطرق ويتلطف في حيلة الخلاص
ثالثها : التوسع في الزاد وطيبة النفس بالإنفاق
رابعها : ترك الرفث والفسوق والجدال
خامسها : الركوب أو المشي إن قدر وله بكل خطوة حسنة
سادسها : الاجتناب عن المحامل فإنه من زي المترفين
سابعها : عدم الميل إلى التفاخر والتكاثر بل يكون أشعث أغبر
ثامنها : الرفق بالهدي فلا يحمله ما لا يطيق
تاسعها : التقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجبا عليه

(2/58)


عاشرها : طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي
وأما أعماله الباطنة : فأولها أن يعرف أن الكمال إنما هو في التجرد عما سوى الله وذلك في الحج لأن فيه التجرد عن الأهل والعيال وفيه اختيار الغربة عن الأقارب والعشائر وترك الترفه في المآكل والملابس والمراكب والمساكن . ( 2 / 59 )
وثانيها : الشوق إلى زيارة بيته ليستحق بذلك إلى مشاهدة جمال صاحبه بمقتضى الوعد الكريم
ثالثها : إخلاص النية في أفعال الحج كلها بأن يكون المقصود بها التقرب إلى الله
رابعها : أن يقصد به الانقطاع عن محارم الله تعالى لا عن الأهل والمال فقط
خامسها : أن يتوجه بقلبه إلى الله تعالى كما يتوجه بقالبه إلى بيته
سادسها : أن يعرف أن زاد الآخرة هو التقوى ويتزود به كما يتزود للحج قال تعالى : ( ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) )
سابعها : تذكر الكفن عند لبس الإحرام لأن كلا منهما غير مخيط
ثامنها : تذكر الخروج من القبر عن الخروج من البلد إذ لا يدري في كل منهما مآل أمره
تاسعها : أن يتذكر الوقوف في المحشر عند الدخول في البادية إذ لا يأمن في كل منهما المخاوف والأهوال
عاشرها : أن يتذكر عند الدخول في الحرم رجاء الأمن من عقاب الله مع خوفه من أن يكون من أهل الرد وأن يتذكر عند مشاهدة البيت مشاهدة رب العزة وعظمته
الحادي عشر : أن يتذكر عند طواف البيت الملائكة الحافين حول العرش ويعرف أن المقصود طواف القلب بفكر رب البيت
والثاني عشر : أن يعتقد عند الاستلام المبايعة مع الرب العزم على الوفاء بها ليأمن المقر
الثالث عشر : أن يتذكر عند السعي تردده في فناء العبودية بين كفتي الميزان مترددا بين العذاب والغفران
الرابع عشر : أن يتذكر عند الوقوف بعرفات وقوفه في العرصات مع الصديقين والأولياء ويرجو المغفرة من رب العالمين كما يرجو أهل العرصات شفاعة الأنبياء والمرسلين . ( 2 / 60 )

(2/58)


والخامس عشر : أن يقصد برمي الجمار إظهار العبودية من غير حظ للعقل والنفس إذ الشيطان قد يلقي في قلبه أن هذا أيضا اللعب ففيه امتثال الأمر للرحمن وإرغام لأنف الشيطان
السادس عشر : أن يتذكر عند الذبح أن يعتق بكل جزء منه جزءا من بدنه من النار
السابع عشر : أن يتذكر فضل المدينة المنورة عند وقوع البصر على حيطان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدران البلدة المباركة فإن فيها تربة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربة وزيريه وفي بقيعها قبور أصحابه المهاجرين وغيرهم وهم أفضل خلق الله تعالى وزيارتهم تورث بركات الدنيا وسعادة الآخرة
الثامن عشر : أن يعرف أن السفر إلى مسجده صلى الله عليه وآله وسلم له فضل عظيم وزيارته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كزيارته حيا
التاسع عشر : أن يحضر بالبال عند الفراغ من هذه الأعمال أنه بين خطر الرد وبشارة القبول لأنه لا يعرف أن حجه قبل وهو من زمرة المحبوبين أو رد وهو من المطرودين
العشرون : أن يمتحن قلبه عند قدومه إلى بلده أنه قد ازداد تجافيا عن دار الغرور إلى دار الأنس بالله تعالى أو زاد القرار في دار الغرور ويزن أعماله فإن من كان من الشق الأول فذاك دليل على القبول وإن كان ونعوذ بالله منه من قبيل الثاني فليس حظه من هذه الأفعال إلا التعب والعنا نعوذ بالله من الحرمان والإنسلاك في حزب الشيطان

(2/60)


علم إسطرلاب

(2/60)


وهو بالسين على ما ضبطه بعض أهل الوقوف وقد تبدل السين صادا لأنه في جوار الطاء وهو أكثر وأشهر ولذلك أوردناه في حرف الصاد . ( 2 / 61 )

(2/60)


علم الأسماء الحسنى

(2/61)


وأسرارها وخواص تأثيراتها قال البوني : ينال بها كل مطلوب ويتوصل بها إلى كل مرغوب
وبملازمتها تظهر الثمرات وصرائح الكشف والاطلاع على أسرار المغيبات
وأما إفادة الدنيا فالقبول عند أهلها والهيبة والتعظيم والبركات في الأرزاق والرجوع إلى كلمته وامتثال الأمر منه وخرس الألسنة عن جوابه إلا بخير إلى غير ذلك من الآثار الظاهرة بإذن الله تعالى في المعنى والصور وهذا سر عظيم من العلوم لا ينكر شرعا ولا عقلا انتهى وسيأتي في علم الحروف

(2/61)


علم أسماء الرجال

(2/61)


يعني رجال الأحاديث فإن العلم بها نصف علم الحديث كما صرح به العراقي في ( ( شرح الألفية ) ) عن علي بن المديني فإنه سند ومتن
والسند : عبارة عن الرواة فمعرفة أحوالها نصف علم الحديث على ما لا يخفى والكتب المصنفة فيه على أنواع
منها : المؤتلف والمختلف لجماعته كالدارقطني والخطيب البغدادي وابن ماكولا وابن نقطة ومن المتأخرين الذهبي والمزني وابن حجر وغيرهم
ومنها : الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى معا صنف فيه الإمام مسلم وعلي بن المديني والنسائي وأبو بشر الدولابي وابن عبد البر لكن أحسنها ترتيبا كتاب الإمام أبي عبد الله الحاكم وللذهبي ( ( المقتنى في سرد الكنى ) ) . ( 2 / 62 )
ومنها : الألقاب صنف فيه أبو بكر الشيرازي وأبو الفضل الفلكي سماه ( ( منتهى الكمال ) ) وابن الجوزي
ومنها : المتشابه صنف فيه الخطيب كتابا سماه ( ( تلخيص المتشابه ) ) ثم ذيله بما فاته
ومنها : الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى صنف فيه أيضا غير واحد فمنهم من جمع التراجم مطلقا كابن سعد في ( ( الطبقات ) ) وابن أبي حيثمة أحمد بن زهير والإمام أبي عبد الله البخاري في تاريخهما ومنهم من جمع الثقات كابن حبان وابن شاهين
ومنهم من جمع رجال الضعفاء كابن عدي ومنهم من جمع كليهما جرحا وتعديلا
ومنهم من جمع رجال البخاري وغيره من أصحاب الكتب الستة والسنن على ما بين في هذا المحل وقد ذكرنا كتب أسماء الرجال على ترتيب حروف الهجاء في كتابنا ( ( اتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين ) )

(2/61)


علم الإسناد

(2/62)


ويسمى ب ( ( أصول الحديث ) ) أيضا وهو : علم بأصول تعرف بها أحوال حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث : صحة النقل وضعفه والتحمل والأداء كذا في ( ( الجواهر ) ) وفي ( ( شرح النخبة ) )
وهو : علم يبحث فيه عن صحة الحديث وضعفه ليعمل به أو يترك من حيث : صفات الرجال وصيغ الأداء . انتهى
قال في ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : فموضوعه الحديث بالحيثية المذكورة . انتهى

(2/62)


علم الاشتقاق

(2/62)


هو علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض بسبب مناسبة ( 2 / 63 ) بين المخرج والمخارج بالأصالة والفرعية بين الكلم لكن لا بحسب الجوهرية بل بحسب الهيئة
مثلا يبحث في الاشتقاق عن مناسبة نهق ونعق بحسب المادة
وموضوعه : المفردات من الحيثية المذكورة
ومباديه : كثير منها : قواعد ومخارج الحروف
ومسائله : القواعد التي يعرف منها أن الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريق يكون وبأي وجه يعلم ودلائله مستنبطة من قواعد علم المخرج وتتبع ألفاظ العرب واستعمالاتها
والغرض منه : تحصيل ملكة يعرف بها الانتساب على وجه الصواب
وغايته : الاحتراز عن الخلل في الانتساب الذي يوجب الخلل في ألفاظ العرب
وأعلم أن مدلول الجواهر بخصوصها يعرف من اللغة وانتساب البعض إلى البعض على وجه كلي
إن كان في الجوهر فالاشتقاق

(2/62)


وإن كان في الهيئة فالصرف فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة وإن الاشتقاق واسطة بينهما ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف وتأخيره عن اللغة في التعليم
ثم إنه كثيرا ما يذكرني في كتب التصريف وقلما يدون مفردا عنه إما لقلة قواعده أو لاشتراكهما في المبادئ حتى أن هذا من جملة البواعث على اتحادهما والاتحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر
قال صاحب ( ( الفوائد الخاقانية ) ) : اعلم أن الاشتقاق يؤخذ تارة باعتبار العلم وتارة باعتبار العمل
وتحقيقه : أن الضارب مثلا يوافق الضرب في الحروف والأصول والمعنى بناء على أن التواضع عين بإزاء المعنى حروفا وفرع منها ألفاظ كثيرة بإزاء المعاني المتفرعة على ما يقتضيه رعاية التناسب فالاشتقاق هو هذا التفريع والأخذ . ( 2 / 64 )
فتحديده بحسب العلم بهذا التفريع الصادر عن الوضع وهو أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فتعرف رد أحدهما إلى الآخر وأخذه منه
وإن اعتبرناه من حيث احتياج أحد إلى عمله عرفناه باعتبار العمل فتقول : هو أن تأخذه من أصل فرعا يوافقه في الحروف والأصول وتجعله دالا على معنى يوافق معناه انتهى

(2/63)


والحق أن اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات إذ الوضع قد حصل وانقضى على أن المشتقات مرويات عن أهل اللسان ولعل ذلك الاعتبار لتوجيه التعريف المنقول عن بعض المحققين
ثم إن المعتبر فيهما الموافقة في الحروف الأصلية ولو تقديرا إذ الحروف الزائدة في الاستفعال والافتعال لا تمنع وفي المعنى أيضا إما بزيادة أو نقصان فلو اتحدا في الأصول وترتيبها كضرب من الضرب فالاشتقاق صغيرا أو توافقا في الحروف دون التركيب كجبذ من الجذب فهو كبيرا ولو توافقا في أكثر الحروف مع التناسب في الباقي كنعق من النهق فهو أكبر
وقال الإمام الرازي : الاشتقاق أصغر وأكبر فالأصغر كاشتقاق صيغ الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول وغير ذلك من المصدر والأكبر هو تقلب اللفظ المركب من الحروف إلى انقلاباته المحتملة
مثلا : اللفظ المركب من ثلاثة أحرف يقبل ستة انقلابات لأنه يمكن جعل كل واحد من الحروف الثلاثة أولى هذا اللفظ وعلى كل من هذه الاحتمالات الثلاثة يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين
مثلا : اللفظ المركب من ك ل م يقبل ستة انقلابات كلم كمل ملك لكم لمك مكل
واللفظ المركب من أربعة أحرف يقبل أربعة وعشرين انقلابا وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من الأربعة ابتداء تلك الكلمة . ( 2 / 65 )

(2/64)


وعلى كل من هذه التقديرات الأربعة يمكن وقوع الأحرف الثلاثة الباقية على ستة أوجه كما مر والحاصل من ضرب الستة في الأربعة أربعة وعشرون وعلى هذا القياس المركب من الحروف الخمسة
والمراد من الاشتقاق الواقع في قولهم : هذا اللفظ مشتق من ذلك اللفظ هو الاشتقاق الأصغر غالبا والتفصيل في مباحث الاشتقاق من الكتب القديمة في الأصول وقد أفرده بالتدوين شيخنا العلامة الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - وسماه ( ( نزهة الأحداق ) ) ولي كتاب في ذلك سميته ( ( العلم الخفاق من علم الاشتقاق . ) ) وهو كتاب نفيس جدا لم يسبق إليه

(2/65)


علم الاصطرلاب

(2/65)


هو : علم يبحث فيه عن كيفية استعمال آلة معهودة يتوصل بها إلى معرفة كثير من الأمور النجومية على أسهل طريق وأقرب مأخذ مبين في كتبها : كارتفاع الشمس ومعرفة الطالع وسمت القبلة وعرض البلاد وغير ذلك أو عن كيفية وضع الآلة على ما بين في كتبه وهو من فروع علم الهيئة - كما مر -
وأصطرلاب : كلمة يونانية أصلها بالسين وقد يستعمل على الأصل وقد تبدل صادا لأنها في جوار الطاء وهو لأكثر معناها ميزان الشمس وقيل : مرآة النجم ومقياسه
ويقال له باليونانية أيضا : ( ( اصطرلاقون ) )
وأصطر : هو النجم
ولاقون : هو المرآة ومن ذلك سمي : ( ( علم النجوم ) ) واصطر يوميا
وقيل : إن الأوائل كانوا يتخذون كرة على مثل الفلك ويرسمون عليها الدوائر ويقسمون بها النهار والليل فيصححون بها الطالع إلى زمن إدريس - عليه السلام - وكان لإدريس ابن يسمى : لاب وله معرفة في الهيئة فبسط الكرة واتخذ هذه الآلة فوصلت إلى أبي ه فتأمل وقال : من سطره فقيل : سطرلاب فوقع عليه هذا الاسم . ( 2 / 66 )
وقيل : اسطر جمع سطر ولاب اسم رجل
وقيل : فارسي معرب من أستاره ياب أي مدرك أحوال الكواكب قال بعضهم : هذا الظهر وأقرب إلى الصواب لأنه ليس بينهما فرق إلا بتغيير الحروف وفي مفاتيح العلوم الوجه هو الأول
وقيل : أول من صنعه بطليموس وأول من علمه في الإسلام إبراهيم بن حبيب الفزاري
ومن الكتب المصنفة فيه ( ( تحفة الناظر وبهجة الأفكار وضياء الأعين

(2/65)


علم أصول الحديث

(2/66)


ويقال له : علم رواية الحديث والأول : أشهر لكن ذكره صاحب الكشف في الدال نظرا إلى المعنى فتأمل
وهو علم يبحث فيه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إسنادا ومتنا ولفظا ومعنى من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية تحمل الحديث وروايته وكيفية ضبطه وكتابته وآداب رواته وطالبيه
وقيل في رسمه ما هو أخصر وهو أنه علم تعرف به أحوال الراوي والمروي من جهة القبول والرد
وموضوعه : الراوي والمروي من هذه الجهة
وغايته : ما يقبل ويرد من ذلك
والحافظ ابن حجر يرى ترادف الخبر والأثر كما دل له تسمية كتابه ( ( نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ) ) وهذا العلم كثير النفع لا غنى عنه لمن يدخل في علم الحديث والكتب فيه كثيرة جدا ما بين مختصر ومطول
منها كتاب ( ( إسبال المطر على قصب السكر ) ) . ( 2 / 67 )
وكتاب ( ( توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار ) ) كلاهما للسيد الإمام المجتهد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني - رحمه الله -
و ( ( الباعث الحثيث ) ) للحافظ ابن كثير
و ( ( تدريب الراوي ) ) للسيوطي
و ( ( منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول ) ) المؤلف الكتاب وهو بالفارسية وقد ذكرت فيه ما ألف في هذا العلم مرتبا على حروف المعجم والله أعلم

(2/66)


علم أصول الدين

(2/67)


المسمى ب ( ( الكلام ) ) يأتي في الكاف
وقال الأرنيقي : هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها
وموضوعه عند الأقدمين : ذات الله تعالى وصفاته لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى وصفاته ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام وفي الحكمة على مقتضى العقول
ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة وأحكام الأقيسة وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا
ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولا من الكتاب والسنة ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى
ثم ذكر الإنكار على علم الكلام نقلا عن الأئمة الأربعة وفصل أقوالهم في ذلك ( 2 / 68 ) وأطال في بيانها وبيان حدوث الاعتزال ورد أبي الحسن الأشعري عليه قال : وعند ذلك ظهرت العقائد الواردة في الكتاب والسنة وتحولت قواعد علم الكلام من أيدي المعتزلة إلى أيدي أهل السنة والجماعة انتهى
ثم ذكر حال أبي منصور الماتريدي وكتبه في العقائد

(2/67)


قلت : والكتب في هذا العلم كثيرة جدا وأحسنها كتب المحدثين في إثبات العقائد على الوجه المأثور عن الكتاب والسنة
وفي الرد على المتكلمين منها : كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وكتب تلميذه الحافظ ابن القيم وكتاب ( ( الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) ) للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني
وكتاب ( ( السفاريني ) ) وهو مجلد كبير وقد من الله تعالى بتلك الكتب النافعة علي منا كافيا وافيا . وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها ( ( قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل ) ) وهي نفيسة جدا وليس هذا الموضوع بسط القول في ذم الكلام ومدح العقائد أهل الحديث الكرام
قال في ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : أما وجه تسميته ب ( ( الكلام ) ) فإنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا ولأن مسئلة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل
قال : وسماه أبو حنيفة - رحمه الله - ب ( ( الفقه الأكبر ) )
وفي ( ( مجمع السلوك ) ويسمى ب ( ( علم النظر والاستدلال ) ) أيضا
ويسمى أيضا ب ( ( علم التوحيد والصفات ) )
وفي ( ( شرح العقائد ) ) للتفتازاني : العلم المتعلق بالأحكام الفرعية أي العلمية يسمى ( ( علم الشرائع والأحكام وب ( ( الأحكام الأصلية ) ) أي الاعتقادية يسمى ( ( علم التوحيد والصفات ) ) انتهى . ( 2 / 69 )
ثم ذكر تعريف هذا العلم على ما تقدم وأبدى فوائد قيود حده المذكور آنفا
قال : وموضوعه : هو العلوم
وقال الأرموي : ذات الله تعالى
وقال طائفة منهم الغزالي : موضوعه الموجود بما هو موجود أي من حيث هو غير مقيد بشيء

(2/68)


وفائدته وغايته : الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة لهم وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم وحفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبهة المبطلين وأن تبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها وأساسها فإنه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلف مرسل للرسل منزل للكتب لم يتصور علم تفسير ولا علم فقه وأصوله فكلها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه فالأخذ فيها بدونه كبان على غير أساس
وغاية هذه الأمور كلها : الفوز بسعادة الدارين ومن هذا تبين مرتبة الكلام أي شرفه فإن شرف الغاية يستلزم شرف العلم وأيضا دلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي أي شهادة العقل مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاق إذ لا تبقي حينئذ شبهة في صحة الدليل
وأما مسائله التي هي المقاصد : فهي كل حكم نظري لمعلوم والكلام هو العلم الأعلى إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها فليست له مباد تبين في علم آخر شرعيا أو غيره بل مباديه إما مبينة بنفسها أو مبينة فيه فهي مسائل له من هذه الحيثية ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد في الكتاب ( 2 / 70 ) فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلا فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة فعلماء الإسلام وقد دونوا إثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع وصفاته وأفعاله وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمعاد علما يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلا
فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها واعتبار صورها
وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا فجاء علما مستغنيا في نفسه عما عداه ليس له مباد تبين في علم آخر هذا خلاصة ما في ( ( شرح المواقف ) ) انتهى
وانظر في هذا الباب كتاب ( ( العواصم والقواصم ) ) للسيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني - رحمه الله - يتضح لك الخطأ والصواب

(2/69)


علم أصول الفقه

(2/70)


هو علم يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الإجمالية اليقينية
وموضوعه : الأدلة الشرعية الكلية من حيث أنها كيف تستنبط منها الأحكام الشرعية ؟
ومباديه : مأخوذة من العربية وبعض من العلوم الشرعية كأصول الكلام والتفسير والحديث وبعض من العقلية
والغرض منه : تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الأربعة أعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس . ( 2 / 71 )
وفائدته : استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة
واعلم أن الحوادث وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاضرين فلا تعلم أحكامها جزئيا ولما كان عمل من أعمال الإنسان حكما من قبل الشارع منوطا بدليل يخصه جعلوها قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين ومحمولاتها أحكام الشارع من الوجوب وأخواته فسموا العلم المتعلق بها الحاصل من تلك الأدلة ( ( فقها ) )

(2/70)


ثم نظروا في تفصايل الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفصيلها إلا على طريق التمثيل فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام الجزئية وبيان طرقه وشارئط ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق وسموا العلم المتعلق بها ( ( أصول الفقه ) )
قال الإمام علاء الدين الحنفي في ( ( ميزان الأصول ) ) : اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع ولا اعتماد على تصانيفهم
وتصانيف أصحابنا قسمان :
قسم : وقع في غاية الإحكام والإتقان لصدوره ممن جمع الأصول والفروع مثل : ( ( مآخذ الشروع ) ) وكتاب : ( ( الجدل ) ) للماتريدي ونحوهما
وقسم : وقع في نهاية التحقيق في المعاني وحسن الترتيب لصدروه ممن تصدى ( 2 / 72 ) لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع غير أنهم لما لم يتمهروا في دقائق الأصول وقضايا المعقول أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول ثم هجر القسم الأول إما : لتوحش الألفاظ والمعاني وإما : لقصور الهمم والتواني واشتهر القسم الآخر . انتهى

(2/71)


وهذا الذي نسبه إلى أهل الحديث وعدم الاعتماد على تصانيفهم نفس تعصبية صدرت من بطن التقليد وإذا لم يعتمد تصنيف أهل الحديث الذين هم القدوة والأسوة في الدين والعرفاء بالنصوص من الكتاب والسنة أكثر من أهل الفقه والمقلدة بمراتب كثيرة ومناحي غفيرة فأي جماعة تليق بالاعتماد والتعويل ؟
فما هذا الحرف من هذا الحنفي المتعصب إلا زلة شديدة لا يتأتى مثلها إلا عمن ليس من العلم والإنصاف في صدر ولا ورد فهذا القول ليس عليه إثارة من علم
قال في ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : علم أصول الفقه ويسمى ب ( ( علم الدراية ) ) أيضا على ما في ( ( مجمع السلوك ) ) وله تعريفان :
أحدهما : باعتبار الإضافة
وثانيهما : باعتبار اللقب أي باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص ثم ذكر هذين التعريفين وبسط القول في فوائدهما
ونقل عن ( ( إرشاد القاصد ) ) للشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي :
إن أصول الفقه : علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر
وموضوعه : الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأحكام الشرعية وهي إثباتها للحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة
قال : وإن شئت زيادة التحقيق فارجع إلى ( ( التوضيح والتلويح ) ) انتهى كلام ( ( الكشاف ) ) ملخصا

(2/72)


ثم اعلم أن أول من صنف في أصول الفقه الإمام الشافعي ذكره الإسنوي في ( ( التمهيد ) ) وحكى الإجماع فيه وهو شيخ المحدثين والفقهاء
والكتب المصنفة فيه كثيرة معروفة وأحسنها ترتيبا وأكملها تحقيقا وتهذيبا ( 2 / 73 ) وأبلغها قبولا وأعدلها إنصافا كتاب : ( ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ) ) لقاضي القضاة شيخنا محمد بن علي الشوكاني اليمني المتوفى في سنة خمس وخمسين ومائتين وألف وقد لخصنا كتابه هذا وسميناه : ( ( بحصول المأمول من علم الأصول ) ) وهو نفيس جدا فإن كنت ممن يبغي تحقيق الحق على جانب من التقليد والعصبية لآراء الرجال ويعرف هذا العلم على ما فيه من القيل والقال فارجع إليهما تجدهما ديباجة الدنيا ومكرمة الدهر ونكتة عطارد التي يفتخر بها الفخر
مذاهب شتى للمحبين في الهوى ... ولي مذهب واحد أعيش به وحدي
وكم من رأي في الدين للشريعة محرف ولهم عن جماعة السنة المطهرة محرف ( ( فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) )
وقال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن الكتب القديمة المصنفة في هذا العلم كتاب الجصاص أحمد بن علي أبي بكر الرازي وكتاب : ( ( الأسرار ) ) وكتاب : ( ( تقويم الأدلة ) ) للإمام زيد الدبوسي - قرية بين بخارا وسمرقند - المتوفى سنة 402
ومنها : ( ( أصول فخر الإسلام ) ) للبزدوي ولكتابه شروح كثيرة أشهرها : ( ( الكشف ) ) لعبد العزيز بن أحمد البخاري
ومنها : ( ( أصول شمس الأئمة السرخسي ) )
وإحكام الأحكام ) ) للآمدي
و : ( ( منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل ) ) ومختصر هذين كلاهما لابن الحاجب وشروحه تزيد على عشرة
وكتاب : ( ( القواعد والبديع ) ) لابن الساعاتي البعلبكي
ومنها : ( ( المنار ) ) للنسفي وله شروح
ومنها : ( ( المغني ) ) للخبازي وشرحه لسراج الدين الهندي قاضي الحنفية بالقاهرة
وكتاب : ( ( المنتخب للأخسيكثي ) ) و : ( ( التحصيل ) ) للابي وردي و : ( ( المحصول ) ) للفخر الرازي و : ( ( التنقيح ) ) وشرحه : ( ( التوضيح لصدر الشريعة والتلويح على شرح التنقيح ) ) . ( 2 / 74 ) للسعد التفتازاني و : ( ( فصول البدائع في الأصول الشرائع ) ) لشمس الدين الفتازاي و : ( ( منهاج الوصول إلى علم الأصول ) ) للقاضي البيضاوي على مذهب الشافعي وله شروح
ومنها : ( ( مرقاة الوصول إلى علم الأصول ) ) وغير ذلك . انتهى حاصل كلامه
قلت : ومنها : ( ( جمع الجوامع ) ) لتاج الدين السبكي وله شروح قد طبع بمصر القاهرة في هذا الزمان وأحسن كتب هذا العلم كتاب شيخنا الشوكاني الذي تقدم ذكره فاشدد يديك عليه تهتدي إلى جادة الحق
فصل : قال قاضي القضاة مؤيد الدين عبد الرحمن بن خلدون - رحمه الله - تعالى - في كتاب : ( ( العبر وديوان المبتدأ والخبر ) ) ما نصه :
اعلم : أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية من حيث تؤخذ منها : الأحكام والتكاليف وأصول الأدلة الشرعية هي : الكتاب - الذي هو القرآن - ثم السنة المبينة له فعلى عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت الأحكام تتلقى منه ما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس ومن بعده - صلى الله عليه وسلم - تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر
وأما السنة : فأجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على وجوب العمل بما يصل إلينا منها : قولا وفعلا بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتها إلا إجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع الشهادة الدالة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشرعيات

(2/72)


ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض يفي ذلك فإن كثيرا من الواقعات بعده لم تندرج ( 2 / 75 ) في النصوص الثابتة فقاسوها بما يثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو : القياس وهو رابع الأدلة واتفق جمهور العلماء على أن هذه : هي أصول الأدلة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلا أنه شذوذ وألحق بعضهم بهذه الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها وشذوذ القول فيها فكان أول مباحث هذا الفن بما يصح منها - كما قلناه - معتضدا بما كان عليه العمل في حياته - صلى الله عليه وسلم - من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع آمرا وناهيا
وأما الإجماع : فلاتفاقهم على إنكار مخالفته مع العصمة الثابتة للأمة
وأما القياس : فبإجماع الصحابة - رضي الله عليه عنهم - كما قدمنا هذه أصول الأدلة
ثم إن : المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل وهذه أيضا من قواعد الفن ويلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين وطلب المتقدم منهما معرفة الناسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة والقوانين اللسانية في ذلك هي : علوم النحو والتصريف والبيان وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنه جبلة وملكة فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح ومقايس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى
ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي : استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام وهو الفقه ( 2 / 76 ) ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة مثل : أن اللغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معنياه معا والواو لا تقتضي الترتيب والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة في ما عداها ؟ والأمر للوجوب أو الندب ؟ وللفور أو التراخي ؟ والنهي يقتضي الفساد أو الصحة ؟ والمطلق هل يحمل على المقيد ؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا ؟ وأمثال هذه فكانت كلها من قواعد هذا الفن ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية
ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن : لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح الوصف الذي يغلب الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف والفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابعة ذلك كلها قواعد لهذا الفن

(2/74)


واعلم : أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية
وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا : فمنهم أخذ معظمها وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه : ( ( أصول الفقه ) )
وكان أول من كتب فيه : الشافعي أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس
ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها . ( 2 / 77 )
وكتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية
والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن
وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده

(2/76)


وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب : ( ( البرهان ) ) لإمام الحرمين و : ( ( المستصفى ) ) للغزالي وهما من الأشعرية
وكتاب : ( ( العهد ) ) لعبد الجبار وشرحه : ( ( المعتمد ) ) لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة

(2/77)


وكانت الأربعة : قواعد هذا الفن وأركانه ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما : الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب : ( ( المحصول ) ) وسيف الدين الآمدي في كتاب : ( ( الأحكام ) ) واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل

(2/77)


وأما كتاب : ( ( المحصول ) ) فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب : ( ( التحصيل ) ) وتاج الدين الأرموي في كتاب : ( ( الحاصل ) ) واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه : ( ( التنقيحات ) ) وكذلك فعل البيضاوي في كتاب : ( ( المنهاج ) ) وعنى المبتدون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس . ( 2 / 78 )
وأما كتاب : ( ( الأحكام ) ) للآمدي وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصه أبو عمرو ابن الحاجب في كتابه المعروف ب : ( ( المختصر الكبير ) ) ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعنى أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات
وأما طريقة الحنفية : فكتبوا فيها كثيرا وكان من أحسن كتابة فيها : للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي وأحسن كتابة للمتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم وهي مستوعب
وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب : ( ( الأحكام ) ) وكتاب البزدوي في الطريقتين وسمى كتابه : ( ( البدائع ) ) فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا وولع كثير من علماء العجم بشرحه والحال على ذلك لهذا العهد
هذه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير . انتهى كلامه
ومن الكتب المصنفة في هذا العلم : كتاب : ( ( مغتنم الحصول في علم الأصول ) ) للشيخ حبيب الله . القندهاري من رجال هذه المائة و : ( ( مسلم الثبوت ) ) لمحب الله البهاري و : ( ( رسالة الشيخ محمد إسماعيل الدهلوي ) ) و : ( ( حصول المأمول لكاتب الحروف ) ) - عفا الله عنه

(2/77)


علم الأطعمة والمزورات

(2/78)


ذكره أبو الخير من فروع علم الطب وقال : هو علم باحث عن كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة والنافعة بحسب الأمزجة ورأيت فيه تصنيفا . انتهى
ولا يخفى أنه صناعة الطبخ وفيه : ( ( الدبيخ في الطبيخ ) )

(2/78)


علم إعجاز القرآن

(2/78)


ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير وقال : صنف فيه جماعة فذكر منهم : ( 2 / 79 ) الخطابي والرماني والرازي . انتهى
ومنهم : الباقلاني وابن سراقة وابن أبي الأصبع والزملكاني - رحمهم الله

(2/78)


علم أعداد الوفق

(2/79)


ذكره أبو الخير من فروع علم العدد قال في : ( ( الكشف ) ) وسيأتي بيانه في علم الوفق ولم يذكر هناك
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : علم أعداد الوفق والدفق جداول مربعة لها بيوت مربعة يوضع في تلك البيوت أرقام عددية أو حروف بدل الأرقام بشرط أن يكون أضلاع تلك الجداول وأقطارها متساوية في العدد وأن لا يوجد عدد مكرر في تلك البيوت وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواص فائضة من روحانيات تلك الأعداد والحروف وتترتب عليها آثار عجيبة وتصرفات غريبة بشرط اختيار أوقات متناسبة وساعات شريفة
وهذا العلم من فروع علم العدد باعتبار توقفه على الحساب ومن فروع علم الخواص باعتبار آثاره قال : وسنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى -
وفي هذا العلم كتب كثيرة أحسنها : كتاب : ( ( شمس الآفاق في علم الحروف والأوفاق ) ) و : ( ( بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف ) )
قال : وفي هذا العلم كتب كثيرة خارجة عن حد التعداد . انتهى
لكن في جواز استعمالها خلاف والحق منعه لعدم ورود النقل به عن الشارع - عليه السلام

(2/79)


علم الإعراب

(2/79)


ويقال له : علم النحو يأتي في باب النون - إن شاء الله تعالى -
والكتب المؤلفة في هذا العلم لا تحصى كثرة وتزيد في كل زمان
ومن أحسن مختصراته كتاب : ( ( غنية الطالب ومنية الراغب ) ) للشيخ أحمد فارس ( 2 / 80 ) أفندي مدير الجوانب اشتمل على دروس وفوائد نفيسة لا توجد في غيره
و : ( ( تهذيب النحو ) ) للشيخ بهاء الدين العاملي وهو أبلغ وأجمع من ( ( الكافية ) ) لابن الحاجب وكتبت عليه شرحا فارسيا في زمان الطلب سميته : ( ( تذهيب التهذيب ) ) و : ( ( منتخب النحو ) ) للسيد أمير حيدر البلجرامي حرر فيه ما استعمل في اللسان الفارسي من قواعد علم النحو العربي وهو كتاب لم يسبق إليه فيما علمت - والله أعلم

(2/79)


علم إعراب القرآن

(2/80)


وهي من فروع علم التفسير على ما في : ( ( مفتاح السعادة ) ) لكنه في الحقيقة هو : من علم النحو وعده علما مستقلا ليس كما ينبغي وكذا سائر ما ذكره السيوطي في : ( ( الإتقان ) ) من الأنواع فإنه عد علوما ثم ذكر ما يجب على المعرب مراعاته من الأمور التي ينبغي أن تجعل مقدمة لكتاب ( ( إعراب القرآن ) ) ولكنه أراد تكثير العلوم والفوائد
وهذا النوع أفرده بالتصنيف جماعة منهم :
الشيخ الإمام مكي بن أبي طالب حموش بن محمد القيسي النحوي المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة أوله : أما بعد حمد الله جل ذكره وكتابه في المشكل خاصة
وأبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي النحوي المتوفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة وكتابه أوضحها وهو في عشر مجلدات
وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري النحوي المتوفى سنة ست عشرة وستمائة وكتابه أشهرها وسماه : ( ( البيان ) ) أوله : الحمد لله الذي وفقنا لحفظ كتابه
وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد السفاقسي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وكتابه أحسن منه وهو في مجلدات سماه : ( ( المجيد في إعراب القرآن المجيد ) ) أوله : الحمد لله ( 2 / 81 ) الذي شرفنا بحفظ كتابه . الخ . ذكر فيه البحر بشيخه أبي حيان ومدحه ثم قال : لكنه سلك سبيل المفسرين في الجمع بين التفسير والإعراب فتفرق فيه المقصود فاستخار في تلخيصه وجمع ما بقي في كتاب أبي البقاء من إعرابه لكونه كتابا قد عكف الناس عليه فضمه إليه بعلامة الميم وأورد ما كان له بقلت ولما كان كتابا كبير الحجم في مجلدات لخص الشيخ محمد بن سليمان الصرخدي الشافعي المتوفى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة واعترض عليه في مواضع
وأما كتاب الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي المتوفى سنة ست وخمسين وسبعمائة فهو مع اشتماله على غيره أجل ما صنف فيه لأنه جمع العلوم الخمسة الإعراب والتصريف واللغة والمعاني والبيان ولذلك قال السيوطي في : ( ( الإتقان ) ) هو مشتمل على حشو وتطويل لخصه السفاقسي فجوده . انتهى

(2/80)


وهو وهم منه لأن السفاقسي ما لخص إعرابه منه بل من ( ( البحر ) ) - كما عرفت - و : ( ( السمين ) ) لخصه أيضا من ( ( البحر ) ) في حياة شيخه أبي حيان وناقشه فيه كثيرا وسماه : ( ( الدر المصون في علم الكتاب المكنون ) ) أوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وفرغ عنه في واسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة
فائدة أوردها تقي الدين في طبقاته وهي : أن المولى الفاضل علي بن أمر الله المعروف بابن الحنا القاضي بالشام حضر مرة درس الشيخ العلامة بدر الدين الغزي لما ختم في الجامع الأموي من التفسير الذي صنفه وجرى فيه بينهما أبحاث منها : ( ( اعتراضات السمين على شيخه ) )
فقال الشيخ : إن أكثرها غير وارد
وقال المولى علي : الذي في اعتقادي أن أكثرها وارد وأصر على ذلك ثم إن المولى المذكور كشف عن ترجمة ( ( السمين ) ) فرأى أن الحافظ ابن حجر وافقه فيه حيث قال في : ( ( الدرر ) ) صنف في حياة شيخه وناقشه مناقشات كثيرة غالبها جيدة فكتب إلى ( 2 / 82 ) الشيخ أبياتا يسأله أن يكتب ما عثر الشهاب عليه من أبحاث فاستخرج عشرة منها ورجح فيها كلام أبي حيان وزيف اعتراضات ( ( السمين ) ) عليها وسماه ب : ( ( الدر الثمين في المناقشة بين أبي حيان والسمين ) ) وأرسلها إلى القاضي فلم وقف انتصر ل ( ( السمين ) ) ورجح كلامه على كلام أبي حيان وأجاب عن اعتراضات الشيخ بدر الدين ورد كلامه في رسالة كبيرة وقف عليها علماء الشام ورجحوا كتابته على كتابة البدر وأقروا له بالفضل والتقدم

(2/81)


وممن صنف في إعراب القرآن من القدماء : الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائتين
وأبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان المالكي القرطبي المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين
وأبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد النحوي المتوفى سنة ست وثمانين ومائتين
وأبو العباس أحمد بن يحيى الشهير : بثعلب النحوي المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائتين
وأبو جعفر محمد بن أحمد بن النحاس النحوي المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة
وأبو طاهر إسماعيل بن خلف الصقلي النحوي المتوفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة وكتابه في تسع مجلدات
والشيخ أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الخطيب التبريزي المتوفى سنة اثنتين وخمسمائة في أربع مجلدات
والشيخ أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وسماه : ( ( البيان ) ) أوله الحمد لله منزل الذكر الحكيم . ( 2 / 83 )
والإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد الطلحي الأصفهاني المتوفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
ومنتخب الدين حسين بن أبي العز بن الرشيد الهمداني المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة وكتابه تصنيف متوسط لا بأس به أوله : الحمد لله الذي بنعمته حمد وبهدايته عبد وبخذلانه جحد وسماه ب : ( ( كتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد ) )
وأبو عبد الله حسين بن أحمد المعروف بابن خالويه النحوي المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة وكتابه في إعراب ثلاثين سورة من الطارق إلى آخر القرآن والفاتحة بشرح أصول كل حرف وتلخيص فروعه
والشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي الشافعي المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة وكتابه في إعراب الفاتحة
والشيخ إسحاق بن محمود بن حمزة تلميذ ابن الملك جمع إعراب الجزء الأخير من القرآن وسماه : ( ( التنبيه ) ) وأوله أول البيان المذكور آنفا
والمولى أحمد بن محمد الشهير بنشانجي زاده المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة كتب إلى سورة الأعراف - لم يتمه - ومن الكتب المصنفة في أعراف القرآن ( ( تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من القرآن ) ) إلى غير ذلك مما يعرفه أهل هذا الشأن

(2/82)


علم آفات الجاه

(2/83)


وسبب حب الجاه هو : أن الروح الإنساني لكونه أمرا ربانيا من عالم الملكوت يحب العلم والقدرة والحرية بالطبع فيتسلط بعلمه على عجائب مصنوعات الله تعالى ويتسلط بقدرته على أموال الناس وأعراضهم ويحب الاستغناء بحريته عن سائر الخلق وكل ذلك توهم باطل لأن العلم الحقيقي لله تعالى ولا علم للعبد إلا بفيض منه تعالى لأن القدرة التامة لله تعالى وإنما للعبد الكسب فقط وأن محل الحرية إنما هي الآخرة فيكون مبنى حب الجاه على الجهالة ومن هو من أهل المعرفة لا يتورط في ذلك . ( 2 / 84 )
وأيضا لو أطاعك جميع من على بسيط الأرض لم يبق ذلك بعد خمسين سنة أو ستين سنة فلا ينبغي للعاقل أن يضيع دينه لأجل لذة وهمية زائلة عن قريب وعيش فان

(2/83)


علم آفات الدنيا

(2/84)


وهي عبارة عن الأمور التي قبل الموت كما أن الآخرة عبارة عن الأمور التي بعد الموت والدنيا ثلاثة أقسام :
أحدها : ما له لذة عاجلة فقط كالمعاصي والمباحات
وثانيها : ما له لذة عاجلة وأجله كالعلم والطاعات لمن يلتذ بها
وثالثها : ما هو متوسط بينهما وهو كل لذيذ يستعان به على أمور الآخرة كالقوت من الطعام وما يستر العورة ويقي من الحر والبرد من اللباس ونحو ذلك وليس للعبد بعد الموت إلا صفاء القلب وطهارته وذلك بالكف عن الشهوات والأنس بالله وذلك لكثرة ذكر الله تعالى والمحبة لله ذلك لا يحصل إلا بالمعرفة وهي تتولد من الفكر فكل ما يشغلك عن الفكر من أمور الدنيا يجب أن يحترز عنه وكل ما يعينك على ذلك فهو من أمور الآخرة وإن كان من الدنيا ظاهرا

(2/84)


علم آفات الرياء

(2/84)


وهي على أربعة مراتب :
الأولى : وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا فهو الممقوت عند الله عز وجل
والثانية : أن يقصد الثواب قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لا يفعل فهذا قريب مما قبله
والثالثة : أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين بحيث لو خلا كل منهما ( 2 / 85 ) عن الآخر لم يبعثه على العمل فيرجى أن يسلم رأسا برأس
والرابعة : أن يكون اطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العباد فالذي يظن والعلم عند الله : أنه لا يحبط أصل الثواب ولكن ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب والمخلص من جميع ذلك أن يلاحظ جناب الحق وكون الخلق عاجزين ومقهورين تحت قدرته وليس للعاقل أن يدع رضى الغالب القاهر لرضى المغلوب المقهور

(2/84)


علم آفات العجب

(2/85)


وهو أن يرى في نفسه فضيلة تحصل بها للنفس هزة وفرح ولا يشترط فيه روية الغير بل لو لم يوجد أحد غيره يمكن أن يحصل له العجب بخلاف الكبر : فإنه رؤية النفس أنها أفضل من غيرها
وآفاته كثيرة : لأنه قد يؤدي إلى الكبر وستأتي آفاته
ومن آفاته : أنه ينسى ذنوبه ويظن أنه استغنى عن تفقدها ويستصغرها ولا يتداركها وربما يظن أنها تغفر له
ومنها : أنه يستعظم عباداته ويمتن بها على الله - سبحانه وتعالى - ويغتر بنفسه وربه ويأمن مكر الله ويظن أنه عند الله بمكان ويخرجه العجب إلى أن يحمد نفسه ويثني عليها ويزكيها برأيه وإن كان خطأ ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه
وعلاجه : المعرفة بأن جميع ما له من الكمال إنما هو نعمة من الله وفضل من غير سابقة تدبير وتصرف من نفسه فإذا عرف ذلك حق المعرفة وعرف أنه ليس له من نفسه كمالا ينقطع عرق العجب الذي ينشأ من الجهل . ( 2 / 86 )

(2/85)


علم آفات الغرور

(2/86)


وهو : سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان
والمغرورون أصناف :
منهم : العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها وأهملوا محافظة الجوارح عن المعاصي وإلزامها الأعمال الصالحة وهم مغرورون : لأن العلم إذا لم يقارنه العمل لا يكون له مكان عند الله تعالى وعند الخواص من عباده
ومنهم : الذين أحكموا العلم والعمل وأهملوا تزكية نفوسهم عن الأخلاق الذميمة وهم مغرورون أيضا إذ لا ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلب سليم
ومنهم : الذين اعترفوا بأن النجاة في الآخرة إنما هي بتزكية النفس عن الأخلاق الذميمة إلا أنهم يزعمون أنهم منفكون عنها وهؤلاء مغرورون أيضا لأن هذا من العجب والعجب من أشد الصفات المهلكات

(2/86)


ومنهم : الذين اتصفوا بالعلم وتزكية الأخلاق لكن بقي منها خبايا في زوايا القلب ولم يشعروا بها وهؤلاء أيضا مغرورون بظاهر أحوالهم وغفلوا عن تحصيل القلب السليم
ومنهم : الذين اقتصروا على علم الفتاوى وإجراء الأحكام وهم مغرورون لأنهم اقتصروا على فرض الكفاية وأخلوا بفرض العين وهو : إصلاح أنفسهم وتزكية أخلاقهم وتصفية قلوبهم من الحقد والحسد وأمثال ذلك
ومنهم : الوعاظ وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والإخلاص ونحو ذلك وأكثرهم مغرورون لأنهم يتكلمون فيما ذكر وليس لهم من ذلك شيء . ( 2 / 87 )
ومنهم : من اشتغل باللغة ودقائق العلوم العربية وأفنوا عمرهم فيها ظنا منهم أنهم من علماء الأمة لأنهم في صدد أحكام مباني الكتاب والسنة وهم مغرورون لأنهم : اتخذوا القشر مقصودا فاغتروا به وأصناف المغرورين من الناس لا يمكن تعدادهم وفي هذا القدر كفاية لمن اعتبر - اللهم ألهمنا طريق دفع الغرور - ولا يمكن ذلك إلا بالعقل الذي هو مبنى الخيرات وأساسها ثم بالمعرفة وهي لا تعم إلا بمعرفة نفسه بالذل والعبودية ومعرفة ربه بالجلال والهيبة وصفا بقلبه بلذة المناجات واستوت عنده من الدنيا ذهبها ومدرها ولا يبقى للشيطان عليه من سلطان ( ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) )

(2/86)


علم آفات الغضب

(2/87)


وهو مذموم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين
وحقيقته أنه حرارة تنبعث من الباطن لدفع المضار البدنية لأن البدن لكونه غير مأمون عن الضرر خلق الله تعالى في البدن نار الغضب لتدفع الضرر عنه وله درجات
إحداها : الإفراط : وهو مذموم لأنه يتجاوز عن حد دفع الشر إلى إيقاع الشر
وثانيتها : التفريط : وهو أيضا مذموم لأنه لا يقدر على تحقيق ما خلق الغضب له وهو دفع الشر
وثالثتها : الاعتدال : وهو أن ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب ( 2 / 88 ) الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم وهو الوسط ولتحصيل هذا الاعتدال طرق ورياضات يعرفها أهلها وليس هذا المقام موضع تفصيلها

(2/87)


علم آفات الكبر

(2/88)


وهو صفة في النفس وما في الظاهر من إماراتها
وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال فيحصل في قلبه اغترار وهزة وفرح وركون إلى رؤية نفسه والتكبر إما على الله تعالى - والعياذ بالله من ذلك - كتكبر فرعون ونمرود
وإما على الرسل والأنبياء : بأن لا يطيعهم كتكبر أبي جهل و أبي بن خلف
وإما على الخلق : وهذا وإن كان دون الأولين إلا أنه داء عظيم ولهذا ذمه الله تعالى ورسوله والكتاب والسنة مشحونان من ذمه ومدح التواضع وأسبابه الظاهرة
وإما العلم : لأنه يكون سببا لرؤية النفس واستحقار الغير
وإما العمل والعبادة : لأن صاحبه يرى فضيلته في نفسه بذلك على غيره
وإما بالحسب والنسب وقلما ينفك عنه نسيب
وإما الجمال وأكثر ما يكون ذلك في النساء
وإما المال كما يرى في الأغنياء
وإما القوة كما ترى في الأقوياء فإنهم يتكبرون بها على الضعفاء
وإما كثرة الخدام والعبيد والأقارب والبنين من ذلك المكاثرة بالمستفيدين بين العلماء . ( 2 / 89 )

(2/88)


وأما أسبابه الباطنة فهي : إما العجب وهو أكبر الباطن . 0
وإما الحقد : لأنه إذا رسخ في القلب تأنف النفس من أن تطيع المحق
وإما الحسد : وهو أيضا يبعثه على أن يعامله بأخلاق الكبر
وإما الرياء : فإن كثيرا من الناس يتكبر على آخر ولا يستفيد منه العلم لئلا يقال أنه أفضل منه
وطريق معالجة الكبر
إما عام : يقطع عرقه بالكلية وهو أن يعرف ذل نفسه وأن الكبرياء لله تعالى وأن يواظب على قصد التواضع والتشبه بالمتواضعين إلى أن يرسخ فيه ذلك ويتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ( إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد ) ) مع أن له من المنصب الجليل فوق جميع المناصب
وإما خاص : وهو أن يدفع الكبر بالنسب لأن ذلك اعتداد بكمال الغير ويدفع الكبر بالجمال بملاحظة ما في باطنه من الأقذار وبما سيصير إليه في القبر ويدفع الكبر بالقوة بأنه إذا مرض يصير أعجز العاجزين وبأن الحمار والبقر أكمل في ذلك منه
ويدفع الكبر بالغنى والأعوان والأنصار بأن جميع ذلك في معرض الآفات ويدفع الكبر بالعلم بأن حجة الله تعالى على العالم أوكد وبأن الكبر لا يليق إلا لله - عز وجل سبحانه

(2/89)


علم آفات اللسان

(2/89)


وآفاته : إنما هي في التكلم بما لا يعنيه . ( 2 / 90 ) وهو : أن تتكلم ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال أو مآل لأنك إن حكيت بعض الحكايات وأنت صادق فيها فقد ضيعت أوقاتك وإن زدت فيها أو نقصت عنها فأنت آثم لأن ذلك كذب
مثلا : إذا سألت رجلا : هل أنت صائم ؟ فإن سكت فقد تأذيت وإن قال : لا فقد كذب وإن قال : نعم استبدل سر عمله جهرا فدخل عليه الرياء
وتفاصيل أنواع الآفات بحسب أنواع الكلام مذكورة في المعولات

(2/89)


علم آفات المال

(2/90)


وله منافع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ) ومضاره وهي كثيرة مذكورة في القرآن والحديث
أما منافعه : فهي الإنفاق على نفسه ليعينه على الطاعة كالمطعم والملبس والمسكن والمنكح وسائر ضروريات المعيشة والإنفاق في سبيل الله تعالى كالزكاة والحج ونحوهما والإنفاق لوقاية العرض كدفع هجو الشاعر وقطع ألسنة السفهاء فإن ذلك صدقة لأن فيه منعهم عن الغيبة والإنفاق على الخدم فإن ذلك منفعة دينية إذ لو تولى الإنسان جميع مصالحه بذاته لفاته كثير من الطاعات
وأما مضاره وهي : أن المال الكثير ربما يجر الإنسان إلى المعاصي والشهوات وأيضا المال المباح ربما لا يفي لتحصيل مراداته الدنيوية فيجره ذلك إلى الوقوع في الشبهات ثم يجبره ذلك إلى الوقوع في الحرام
ومن الآفات التي لا يتخلص منها إلا الأقلون وهو : الداء العضال والخسران العظيم إلهاء صاحبه عن ذكر الله تعالى
وأما علاجه فلأن لحب المال سببين : ( 2 / 91 )
أحدهما : حب الشهوات وطول الأمل
وثانيهما : حب عين المال
وعلاج الأول : القناعة والصبر وقصر الأمل بكثرة ذكر الموت وذكر موت الأقران
وعلاج الثاني : تكرار ما ورد في القرآن والحديث من مذمة الدنيا وحقارتها وكونها عدوة الله تعالى وعدوة الإنسان

(2/90)


علم أفضل القرآن وفاضله

(2/91)


ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير ونقل فيه مذاهب الأئمة الأعلام كما في : ( ( الإتقان ) )

(2/91)


علم أقسام القرآن

(2/91)


جمع قسم بمعنى اليمين جعله السيوطي نوعا من أنواع علوم القرآن وتبعه صاحب : ( ( مفتاح السعادة ) ) حيث أورده من فروع علم التفسير
وقال : صنف فيه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مجلدا اسماه التبيان أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع والباقي كله قسم بمخلوقاته وأجابوا عنه بوجوه

(2/91)


علم الأكتاف

(2/91)


هو علم باحث عن الخطوط والأشكال التي ترى في أكتاف الضأن والمعز إذا قوبلت بشعاع الشمس من حيث دلالتها على أحوال العالم الأكبر من الحروب ( 2 / 92 ) الواقعة بين الملوك وأحوال الخصب والجدب وقلما يستدل بها على الأحوال الجزئية لإنسان معين يؤخذ لوح الكتف قبل طبخ لحمه ويلقى على الأرض أولا ثم ينظر فيه فيستدل بأحواله من الصفا والكدر والحمرة والخضرة إلى الأحوال الجارية في العالم من الغلاء والرخاء والحروب الواقعة بين الأمراء ولمن الغلبة فيها
وتنصب أطرافه الأربعة إلى جهات العالم ويحكم بذلك على كل ضلع منها بأحوال متعلقة بها على ما يظهر في اللوح
وينسب علم الكتف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
قال صاحب : ( ( مدينة العلوم ) ) وصاحب : ( ( مفتاح السعادة ) ) : رأيت مقالة في هذا العلم مختصرة غاية الاختصار لكن بين فيها الآنية دون اللمية يعني : المسائل مجردة عن الدلائل وقد سبق أنه من فروع علم الفراسة

(2/91)


علم الآكر

(2/92)


هو علم يبحث فيه عن الأحوال العارضة للكرة والمقادير المتعلقة بها من حيث أنها كرة من غير نظر إلى كونها بسيطة أو مركبة عنصرية أو فلكية
فموضوعه الكرة بما هو كرة : وهي جسم يحيط به سطح واحد مستدير في داخله نقطة يكون جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه متساوية وتلك النقطة مركز حجمها سواء كانت مركز ثقلها أو لا
وقد يبحث فيه عن أحوال الآكر المتحركة فاندرج فيه ولا حاجة إلى جعله علما مستقلا كما جعله صاحب : ( ( مدينة العلوم ) ) و : ( ( مفتاح السعادة ) ) وعداهما من فروع علم الهيئة
وقالا : تتوقف براهين علم الهيئة على هذين أشد توقف ولهذا جل نفع هذا العلم . ( 2 / 93 )
وفيه كتب للأوائل والأواخر منها الآكر المتحركة للمهندس الفاضل أوطولوقس اليوناني وقد عربوه في زمن المأمون ثم أصلحه يعقوب بن إسحاق الكندي وأكرمانالاؤس وأكرثاؤذوسيوس

(2/92)


علم الآلات الحربية

(2/93)


هو علم يتعرف منه كيفية اتخاذ الآلات الحربية كالمنجنيق وغيرها
وهو من فروع علم الهندسة
ومنفعته ظاهرة لأنه شديد العناء في دفع الأعداء وحماية المدن
وهذا العلم : أحد أركان الدين لتوقف أمر الجهاد عليه ولبني موسى بن شاكر كتاب مفيد في هذا العلم كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) و : ( ( مدينة العلوم ) )
وينبغي أن يضاف علم رمي القوس والبنادق إلى هذا العلم وأن ينبه على أن أمثال ذلك العلم قسمان :
علم وضعها وصنعتها
وعلم استعمالها وفيه كتب

(2/93)


علم الآلات الرصدية

(2/93)


ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وقال : هو علم يتعرف منه كيفية تحصيل الآلات الرصدية قبل الشروع في الرصد فإن الرصد لا يتم إلا بآلات كثيرة رتبوها وتحصيل تلك الآلات يتوقف على معرفة أحوالها وكتاب : ( ( الآلات العجيبة ) ) للخازني يشتمل على ذلك . انتهى
ومثله في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/93)


وقال العلامة تقي الدين الراصد في : ( ( سدرة منتهى الأفكار ) ) : والغرض من ( 2 / 94 ) وضع تلك الآلات : تشبيه سطح منها بسطح دائرة فلكية ليمكن بها ضبط حركتها ولن يستقيم ذلك ما دام لنصف قطر الأرض قدر محسوس عند نصف قطر تلك الدائرة الفلكية إلا بتعديله بعد الإحاطة باختلافه الكلي وحيث أحسسنا بحركات دورية مختلفة وجب علينا ضبطها بآلات رصدية تشبهها في وضعها لما يمكن له التشبيه ولما لم يمكن له ذلك يضبط اختلافه ثم فرض كرات تطابق اختلافا لها المقيسة إلى مركز العالم تلك الاختلافات المحسوس بها إذا كانت متحركة حركة بسيطة حول مراكزها . فبمقتضى تلك الأغراض تعددت الآلات والذي أنشأناه بدار الرصد الجديدة هذه الآلات منها : اللبنة : وهي جسم مربع مستو يستعلم به الميل الكلي وأبعاد الكواكب وعرض البلد
ومنها الحلقة الاعتدالية : وهي حلقة تنصب في سطح دائرة المعدل ليعلم بها التحويل الاعتدالي
ومنها ذات الأوتار قال : وهي من مخترعنا وهي أربع أسطوانات مربعات تغني عن الحلقة الاعتدالية على أنها يعلم تحويل الليل أيضا
ومنها ذات الحلق : وهي أعظم الآلات هيئة ومدلولا وتركب من حلقة تقام مقام منطقة فلك البروج وحلقة تقام مقام المارة بالأقطاب تركب أحدها في الأخرى بالتصنيف والتقطيع وحلقة الطول الكبرى وحلقة الطول الصغرى تركب الأولى في محدب المنطقة والثانية في مقعرها وحلقة نصف النهار وقطر مقعرها مساو لقطر محدب حلقة الطول الكبرى من حلقة الأرض قطر محدبها قدر قطر مقعر حلقة الطول الصغرى فتوضع هذه على كرسي
ومنها : ذات السمت والارتفاع : وهي نصف حلقة قطرها سطح من سطوح أسطوانة متوازية السطوح يعلم بها السمت وارتفاعها وهذه الآلة من مخترعات الرصاد الإسلاميين
ومنها : ذات الشعبتين : وهي ثلاث مساطر على كرسي يعلم بها الارتفاع
ومنها : ذات الجيب : وهي مسطرتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين . ( 2 / 95 )
ومنها : المشبهة بالناطق قال : وهي من مخترعاتنا كثيرة الفوائد في معرفة ما بين الكوكبين من البعد وهي ثلاث مساطر اثنتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين
ومنها : الربع المسطري وذات النقبتين والبنكام الرصدي وغير ذلك وللعلاقة غياث الدين جمشيد رسالة فارسية في وصف تلك الآلات سوى ما أخترعه تقي الدين

(2/93)


واعلم أن الآلات الفلكية كثيرة منها : الآلات المذكورة ومنها السدس الذي ذكره جمشيد
ومنها : ذات المثلث
ومنها : أنواع الإسطرلابات : كالتام والمسطح والطوماري والهلالي والزورقي والعقربي والأسي والقوسي والجنوبي والشمالي والكبري والمبطح والمسرطق وحق القمر والمغني والجامعة وعصا موسى
ومنها : أنواع الأرباع : كالتام والمجيب والمقنطرات والأفاقي والشكازي ودائرة المعدل وذات الكرسي والزرقالة وربع الزرقالة وطبق المناطق
وذكر ابن الشاطر في النفع العام : أنه أمعن النظر في الآلات الفلكية فوجد مع كثرتها أنها ليس فيها ما يفي بجميع الأعمال الفلكية في كل عرض قال : ولا بد أن يداخلها الخلل في غالب الأعمال أما من جهة تعسر تحقيق الوضع كالمبطحات أو من جهة تحرك بعضها على بعض وكثرة تفاوت ما بين خطوطها وتزاحمها كالإسطرلاب والشكازية والرزقالية وغالب الآلات أو من جهة الخيط أو تحريك المري وتزاحم الخطوط كالأرباح المقنطرات والمجيبة وإن بعضها يعسرها غالب المطالب الفلكية وبعضها لا يفي إلا بالقليل أو بعضها مختص بعرض واحد وبعضها بعروض مختصة وبعضها تكون أعمالها ظنية غير برهانية وبعضها يأتي بعض الأعمال بطريق مطولة خارجة عن الحد وبعضها يعسر حملها ويقبح شكلها كالآلة الشاملة فوضع آلة يخرج بها جميع الأعمال في جميع الآفاق بسهولة ( 2 / 96 ) مقصد ووضوح برهان فسماها الربع التام

(2/95)


علم آلات الساعة

(2/96)


من الصناديق والضوارب وأمثال ذلك ونفعه بين لكل واحد وفيها مجلدات عظيمة
هذا حاصل ما ذكره أبو الخير في فروع الهيئة ونحوه في : ( ( مدينة العلوم ) ) وأقول لا يخفى عليك أنه هو علم البنكامات الذي جعله من فروع الهندسة وسيأتي في الباء وكيفية وضعها مسطورة في كتاب حيل بني موسى

(2/96)


علم الآلات الظلية

(2/96)


هو علم يتعرف منه مقادير ظلال المقائس وأحوالها الأخر والخطوط التي ترسم في أطرافها وأحوال الظلال المستوية والمنكوسة
ومنفعته معرفة ساعات النهار بهذه الآلات كالبسائط والقائمات والمائلات من الرخامات وفيه كتاب مبرهن لإبراهيم بن سنان الحراني ذكره أبو الخير في فروع علم الهيئة ومثله في : ( ( مدينة العلوم ) )

(2/96)


علم الآلات العجيبة الموسيقائية

(2/96)


هو علم يتعرف منه كيفية وضعها وتركيبها كالعود والمزامير والقانون سيما الأرغنوك وغير ذلك ولقد أبدع واضعها فيها الصنائع العجيبة والأمور الغريبة
قال أبو الخير : ولقد شاهدته واستمعت به مرات عديدة ولم تزد المشاهدة والنظرة إلا دهشة وحيرة . ( 2 / 97 )
ثم ثال وإنما تعرضت لها مع كونها محرمة في شريعتنا لكونها من فروع العلوم الرياضية
أقول وسيأتي بيان حكمة الحرمة في الموسيقى وعبارة : ( ( مدينة العلوم ) ) ولا نطول الكلام بذكر أنواع الآلات الموسيقية لأنها محرمة في شريعتنا وعمر طالب الآخرة أشرف من أن يضيع أوقاته في أمثال هذه وإنما تعرضت لها ههنا لأتمم أنواع العلوم . انتهى . قلت : ومن قول أصحاب هذا العلم هذا الشعر :
من كل شيء لذيذ احتسى قدحا ... وكل ناطقة في الكون يطربني
ومن أنواع تلك الآلات الكوس والطبل والنقارة والدائرة
ومن أنواع المزامير الناي والسورنا والنفير والمثقال والفوال وآلة يقال لها بوري ودودك
ومن أنواع ذات الأوتار : الطنبور والششتا والرباب وآلة يقال لها قيوزوجنك وغير ذلك
وقد أورد الشيخ في : ( ( الشفا بصورها ) ) وكذا العلامة الشيرازي في : ( ( درة التاج ) )

(2/96)


علم الآلات الروحانية

(2/97)


وهو علم تتبين منه : كيفية إيجاد الآلات المرتبة المبنية على ضرورة عدم الخلاء ونحوها كقدح العدل وقدح الحور
أما الأول : فهو إناء إذا امتلأ منها قدر معين يستقر فيها الشراب وإن زيد عليها ولو بشيء يسير ينصب الماء ويتفرغ الإناء عنه بحيث لا يبقى منه قطرة
وأما الثاني : فله مقدار معين إن صب فيه الماء بذلك القدر القليل يثبت وإن ملئ يثبت أيضا وإن كان بين المقدارين يتفرغ الإناء كل ذلك لعدم إمكان الخلاء . ( 2 / 98 )
وهذا العلم من حيث تعلقه بمقدار معين من الإناء من فروع علم الهندسة
ومن حيث كونه مبنيا على عدم الخلاء من فروع علم الطبيعي ومن هذا القبيل دوران الساعات ويسمى علم آلات روحانية : لارتياح النفس وارتياضها بغرائب هذه الآلات
وأشهر كتب هذا الفن : ( ( حيل بني موسى بن شاكر ) ) وفيه كتاب : ( ( مختصر ) ) لغيلن وكتاب : ( ( مبسوط ) ) للبديع الجزري كذا قال أبو الخير

(2/97)


علم الألغاز

(2/98)


هو علم يتعرف منه دلالة الألفاظ على المراد دلالة خفية في الغاية لكن لا بحيث تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحسنها وتنشرح إليها بشرط أن يكون المراد من الألفاظ الذوات الموجودة في الخارج وبهذا يفترق من المعمى لأن المراد من الألفاظ اسم شيء من الإنسان وغيره
وهو من فروع علم البيان لأن المعتبر فيه وضوح الدلالة كما سيأتي
والغرض فيهما : الإخفاء وستر المراد ولما كان إرادة الإخفاء على وجه الندرة عند امتحان الأذهان لم يتلفت إليهما البلغاء حتى لم يعد وهما أيضا من الصنائع البديعة التي يبحث فيها عن الحسن العرضي
ثم هذا المدلول الخفي إن لم يكن ألفاظا وحروفا بلا قصد دلالتهما على معان أخر بل ذوات موجودة يسمى اللغز
وإن كان ألفاظا وحروفا دالة على معان مقصودة يسمى معمى
وبهذا يعلم أن اللفظ الواحد يمكن أن يكون معمى ولغزا باعتبارين
لأن المدلول إذا كان ألفاظا : فإن قصد بها معان أخر يكون معمى
وإن قصد ذوات الحروف على أنها من الذات : يكون لغزا
وأكثر مبادئ هذين العلمين مأخوذ من تتبع كلام الملغزين وأصحاب المعمى ( 2 / 99 ) وبعضها أمور تخييلية تعتبرها الأذواق
ومسائلها راجعة إلى المناسبة الذوقية بين الدال والمدلول الخفي على وجه يقبلها الذهن السليم
ومنفعتها تقويم الأذهان وتشحيذها
ومن أمثلة الألغاز قول القائل في القلم :
وما غلام راكع ساجد ... أخو نحول دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري وآخر في الميزان
وقاضي قضاة يفصل الحق ساكتا ... وبالحق يقضي لا يبوح فينطق
قضى بلسان لا يميل وإن يمل ... على أحد الخصمين فهو مصدق
ومن الكتب المصنفة فيه أيضا كتاب : ( ( الألغاز ) ) للشريف عز الدين حمزة بن أحمد الدمشقي الشافعي - المتوفى سنة أربع وسبعين وثمانمائة -
وصنف فيه جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي - المتوفى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة -
ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( الذخائر الأشرفية في الألغاز الخفية ) ) للقاضي عبد البر بن شحنة الحلبي - المتوفى سنة إحدى وعشرين وتسعمائة - وهو الذي انتخب ابن نجيم في الفن الرابع من الأشباه وذكر أن خبرة الفقهاء والعدة اشتملا على كثير من ذلك لكن الجميع ألغاز فقهية

(2/98)


علم الإلهي

(2/99)


هو علم يبحث فيه عن الحوادث من حيث هي موجودات . ( 2 / 100 )
وموضوعه الوجود من حيث هو
وغايته تحصيل الاعتقادات الحقة والتصورات المطابقة لتحصيل السعادة الأبدية والسيادة السرمدية كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) )
وفي كشاف اصطلاحات الفنون : هو علم بأحوال ما يفتقر في الوجودين أي الخارجي والذهني إلى المادة
ويسمى أيضا بالعلم الأعلى وبالفلسفة الأولى وبالعلم الكلي وبما بعد الطبيعة وبما قبل الطبيعة

(2/99)


والبحث فيه عن الكميات المتصلة والكيفيات المحسوسة والمختصة بالكميات وأمثالها مما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي استطرادي وكذا البحث عن الصورة مع أن الصورة تحتاج إلى المادة في التشكل كذا في العلمي وفي الصدر أمن الحكمية النظرية ما يتعلق بأمور غير مادية مستغنية القوام في نحوي الوجود العيني والذهني عن اشتراط المادة كالإله الحق والعقول الفعالة والأقسام الأولية للموجود كالواجب والممكن والواحد والكثير والعلة والمعلول والكلي والجزئي وغير ذلك فإن خالط شيء منها المواد الجسمانية فلا يكون على سبيل الافتقار والوجوب
وسموا هذا القسم : العلم الأعلى فمنه العلم الكلي المشتمل على تقاسيم الوجود المسمى بالفلسفة الأولى ومنه الإلهي الذي هو فن من المفارقات
وموضوع هذين الفنين : أعم الأشياء وهو الموجود المطلق من حيث هو . انتهى
وأصول الإلهي خمسة :
الأول : الأمور العامة
الثاني : إثبات الواجب وما يليق به
الثالث : إثبات الجواهر الروحانية
الرابع : بيان ارتباط الأمور الأرضية بالقوى السماوية
الخامس : بيان نظام الممكنات
وفروعه قسمان : ( 2 / 101 )
الأول : البحث عن كيفية الوحي وصيرورة العقل محسوسا ومنه تعريف الإلهيات ومنه الروح الأمين
الثاني : العلم بالمعاد الروحاني . انتهى

(2/100)


وقال صاحب : ( إرشاد القاصد ) : يعبر عنه بالإلهي لاشتماله على علم الربوبية
وبالعلم الكلي لعمومه وشموله لكليات الموجودات
وبعلم ما بعد الطبيعة لتجرد موضوعه عن المواد ولواحقها
قال : وأجزاؤه الأصلية خمسة : الأول : النظر في الأمور العامة مثل الوجود والماهية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث والوحدة والكثرة
والثاني : النظر في مبادئ العلوم كلها وتبيين مقدماتها ومراتبها
والثالث : النظر في إثبات وجود الإله ووجوبه والدلالة على وحدته وصفاته
والرابع : النظر في إثبات الجواهر المجردة من العقول والنفوس والملائكة والجن والشياطين وحقائقها وأحوالها
والخامس : النظر في أحوال النفوس البشرية بعد مفارقتها وحال المعاد
ولما اشتدت الحاجة إليه اختلفت الطرق

(2/101)


فمن الطالبين : من رام إدراكه بالبحث والنظر وهؤلاء زمرة الحكماء الباحثين ورئيسهم أرسطو وهذا الطريق أنفع للتعلم لو وفى بجملة المطالب وقامت عليها براهين يقينية - وهيهات -
ومنهم : من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية يكشفها له العيان ويجل أن توصف بلسان
ومنهم : ابتدأ أمره بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد وتصفية النفس فجمع بين الفضيلتين وينسب مثال هذا الحال إلى سقراط وأفلاطون والسهروردي والبيهقي . انتهى
وقال أبو الخير : وهذا العلم هو المقصد الأقصى والمطلب الأعلى لكن لمن وقف على حقائقه واستقام في الإطلاع على دقائقه لأن حظي به فقد فاز فوزا ( 2 / 102 ) عظيما ومن زلت فيه قدمه أو طغى به قلمه فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا إذ الباطل يشاكل الحق في مأخذه والوهم يعارض العقل في دلائله - جل جناب الحق عن أن يكون شريعة الكل وارد أو يطلع على سرائر قدسه إلا واحد بعد واحد وقلما يوجد إنسان يصفو عقله عن كدر الأوهام ويخلص فهمه عن مهاوي الإيهام ويستسلم لما قرره الأعلام

(2/101)


واعلم أن من النظر رتبة تناظر طريق التصفية ويقرب حدها من حدها وهو طريق الذوق ويسمونه الحكمة الذوقية
وممن وصل إلى هذه الرتبة في السلف السهروردي وكتاب : ( ( حكمة الإشراق ) ) له صادر عن هذا المقام برمز أخفى من أن يعلم وفي المتأخرين : الفاضل الكامل مولانا شمس الدين الفناري في بلاد الروم ومولانا جلال الدين الدواني في بلاد العجم ورئيس هؤلاء الشيخ صدر الدين القونوي والعلامة قطب الدين الشيرازي . انتهى . ملخصا أو سيأتي تمام التفصيل في الحكمة عند تحقيق الأقسام - إن شاء الله العزيز العلام -
واعلم أن منبع العلوم الحكمية النظرية وأستاذ الكل فيها إدريس - عليه السلام - آتاه الله الحكمة والنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وعلم النجوم . وأفهمه عدد السنين والحساب وعلمه الألسنة حتى تكلم الناس في زمنه باثنين وتسعين لسانا ولد بمصر وسموه هرمس الهرامس وباليونانية أرمس بمعنى عطارد وعرب بهرمس واسمه الأصلي هنوخ وعرب أخنوخ وسماه الله تعالى في كتابه العربي المبين إدريس لكثرة دراسة كتاب الله تعالى
وقيل : إن معلمه غوثاديمون أو أغثاذيمون المصري وتفسيره السعيد الجد قيل : وهو شيث - عليه السلام -
ثم إن إدريس عرف الناس صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه يكون بريئا عن المذمات والآفات كلها كاملا في الفضائل الممدوحات لا يقصر عما يسأل عنه مما في الأرض والسماء ومما فيه دواء وشفاء وأنه يكون مستجاب الدعوة في كل ما يطلبه ( 2 / 103 ) ويكون مذهبه ودينه ما يصلح به العالم

(2/102)


وكانت قبلة إدريس جهة الجنوب على خط نصف النهار كان رجلا تام الخلقة حسن الوجه أجلح كث اللحية مليح الشمائل والتخاطيط تام الباع عريض المنكبين ضخم العظام قليل اللحم براق العين أكحلها متأنيا في كلامه كثير الصمت وإذا اغتاظ أخذ يحرك سبابته إذا تكلم وكانت مدة مقامه في الأرض اثنتين وثمانين سنة ثم دفعه الله مكانا عليا
وهو أول من خاط الثياب وحكم بالنجوم وأنذر بالطوفان وأول من بنى الهياكل ومجد الله فيها وأول من نظر في الطب وأول من ألف القصائد والأشعار وهو الذي بنى أهرام بمصر وصور فيها جميع العلوم والصناعات وآلاتها خشية أن يذهب رسمها بالطوفان

(2/103)


واعلم أيضا أن من أساتذة الحكمة الحكيم أفلاطون أحد الأساطين الخمسة للحكمة من يونان كبير القدر مقبول القول البليغ في مقاصده
أخذ عن فيثاغورس وشارك مع سقراط في الأخذ عنه وصنف في الحكمة كتبا لكن اختار فيها الرمز والإغلاق وكان يعلم تلاميذه وهو ماش ولهذا سموا المشائين وفوض الدرس في آخر عمره إلى أرشد أصحابه وانقطع هو للعبادة وعاش ثمانين سنة وولد في مدينة أنيس ولازم سقراط خمسين سنة وكان عمره إذ ذاك عشرون سنة وتزوج امرأتين وكانت نفسه في التعليم مباركة تخرج بها علماء اشتهروا من بعده
ومن جملة أساتذة الحكمة أرسطاطاليس تلميذ أفلاطون لازم خدمته مدة عشرين سنة وكان أفلاطون يؤثر على غيره ويسميه العقل وهو خاتم حكماءهم وسيد علمائهم وأول من استخرج المنطق وله كتب شريفة في الفلسفة وكان معلم الإسكندر بن فيلقوس وبآدابه وسياسته عمل هو فظهر الخير وفاض العدل وبه انقمع الشرك في بلاد اليونانيين . ( 2 / 104 )

(2/103)


ومعنى أرسطاطاليس محب الحكمة أو الفاضل الكامل عاش سبعا وستين سنة ومصنفاته تنيف على ثمانين وكان أبيض أجلح حسن القامة عظيم العظام صغير العينين والفم عريض الصدر كث اللحية أشهل العينين أقنى الأنف يسرع في مشيته ناظرا في الكتب دائما يقف عند كل كلمة ويطيل الإطراق عند السؤال قليل الجواب ينتقل في أوقات النهار في الفيافي ونحو الأنهار محبا لاستماع الألحان والاجتماع بأهل الرياضة وأصحاب الجدل منصفا في نفسه إذا خصم ويعرف بموضع الإصابة والخطأ معتدلا في الملابس والمآكل مات وله ثمان وتسعين سنة ثم إنه تخلف عن خدمة الملوك وبنى موضع التعليم وأقبل على العناية بمصالح الناس
وكان جليل القدر كثير التلاميذ من الملوك وأبناءهم وكان أهل مدينة أسطا إذا أشكل عليهم أمر يجتمعون إلى قبره حتى يفتح لهم ويزعمون أن قبره يصحح فكرهم ويذكي عقولهم واستيفاء أخباره لا يمكن إلا في مجلد

(2/104)


ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي وهو أبو نصر محمد بن محمد كان ذكيا حكيما مشهورا صاحب التصانيف في المنطق والمحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وتخرج ابن سينا في كتبه وبعلومه انتفع في تصانيفه كان رجلا تركيا تنقلت به الأسفار إلى أن وصل بغداد وهو يعرف كثيرا من اللغات غير العربي ثم تعلمه وأتقنه
ثم اشتغل بالحكمة فقرأ على أبي بشر - متى بن يونس الحكيم - من شرح كتاب أرسطو في المنطق سبعين سفرا وكان هو شيخا كبيرا له صيت عظيم يجتمعون في حلقته كل يوم المئون من المنطقيين ثم أخذ طرفا من المنطق من أبي حنا ابن خيلان الحكيم النصراني بمدينة حران ثم نقل إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة وتمهر في كتب أرسطو جميعها يقال وجد كتاب النفس لأرسطو عليه مكتوب بخط الفار أبي : إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة وقال : قرأت السماع الطبعي لأرسطو ( 2 / 105 ) أربعين مرة ومع ذلك إني محتاج إلى معاودته وكان يقول : لو أدركت أرسطو لكنت أكبر تلامذته
ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد إلى دمشق فأحسن إليه سلطانها سيف الدولة بن حمدان وأجرى عليه كل يوم أربعة دراهم لأنه كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكتسب ولا مسكن لذلك أقتصر على أربعة دراهم وكان منفردا بنفسه لا يكون إلا في مجتمع ماء أو مشبك رياض ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر تصانيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا قليلا فلذلك كانت أكثر تصانيفه فصولا وتعليقات وبعضها ناقصا
يحكى أن الآلات المسماة بالقونون من تركيبه
توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة

(2/104)


وعدد مصنفاته من الكتب والرسالة سبعون كلها نافعة سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما
أحدهما : المعروف بالسياسة المدنية
والأخرى : بالسيرة الفاضلة وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه أحد ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني عنه أحد من طلاب العلم وكذا كتابه في أغراض أفلاطون وأرسطو أطلع فيه على أسرار العلوم ( 2 / 106 ) وثمارها علما علما وبين كيفية التدرج من بعضها إليها بعض شيئا فشيئا ثم بدأ بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طلب الفلسفة منه
وفاراب : إحدى مدن الترك فيما وراء النهر

(2/105)


ومن جملة أساطين الحكمة : أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور وكان أبوه من بلخ ثم انتقل منها إلى بخارا وكان من العمال الكفاة وتولى العمل بقرية من بخارا يقال لها هرمين ثم انتقلوا إلى بخارا وانتقل الرئيس بعد ذلك في البلاد وأشتغل بالعلوم وحصل الفنون ولما بلغ عشر سنين من عمره أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة ثم قرأ كتاب : ( ( إيساغوجي ) ) علي أبي عبد الله النابلي وأحكم عليه ظواهر المنطق : لأنه لم يكن يعرف دقائقها ثم حل هو نفسه دقائق غفل عنها الأوائل وأحكم عليه إقليدس والمجسطي وفاقه أضعافا كثيرة
وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظرهم ثم اشتغل بتحصيل الطبعي والإلهي وغير ذلك وفتح الله عليه أبواب العلوم ثم فاق في علم الطب الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح عديم القرين فقيد المثيل
وقرأ عليه فضلاء هذا الفن أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة وسنه إذ ذاك نحو ستة عشر وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولم يشتغل في النهار بشيء سوى العلم والمطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسئلة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له فتح الله - تبارك وتعالى - مشكلاتها

(2/106)


ثم اتصل بخدمة نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان بسبب الطب ودخل إلى خزانة كتبه واطلع على كتب لم تقرع آذان الزمان بمثلها وحصل نخب ( 2 / 107 ) فوائدها وتحلى بنفائس فرائدها
ويحكى عنه أنه لم يطلع على مسئلة إلى آخر عمره إلا وكان يعرفها وكان في ثمانية عشر سنين من سنه حتى حكي عنه أنه قال : كل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزد عليه إلى اليوم وهذا أمر عظيم لا يكاد يقبله العقل لولا عرف حد ذكائه
ثم تنقلت به الأحوال بأمور يطول شرحها حتى استوزر ثم عزل وحبس وبعد هذه الأحوال كلها مرض ثم صلح ثم دخل إلى أن ضعف جدا ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات يوم الجمعة من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بهمذان وكانت ولادته سنة سبعين وثلاثمائة في شهر صفر وقيل : توفي بأصبهان وفضائله كثيرة شهيرة وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه
وعدة مؤلفاته ثمانية وستون على الأشهر وقيل : يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر
ورسائله بديعة منها : ( ( رسالة حي بن يقظان ) ) و : ( ( رسالة سلامان ) ) و : ( ( إبسال ) ) و : ( ( رسالة الطب ) ) و : ( ( قصيدة الورقاء ) ) يرمز بها عن النفس الناطقة

(2/106)


ومن جملة أساطين الحكمة الإمام فخر الدين الرازي وممن نحا نحو ابن سينا ( 2 / 108 ) والرازي
نصير الدين الطوسي وهو محمد بن محمد سلطان الحكماء المدققين وقدوتهم في زمانه جامع علوم المتقدمين والمتأخرين
ولد يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وخمسمائة توفي آخر نهار الاثنين ثامن عشر ذي الحجة وقت مغيب الشمس سنة اثنتين وسبعين وستمائة ودفن بالمشهد الكاظمي
وكان آية في التدقيق والتحقيق وحل المواضع المشكلة سيما : ( ( لطف التحرير ) ) الذي لم يلتفت إليه المتقدمون بل التفتوا إلى جانب المعنى فقط ثم إن الفاضل الشريف قلده في أمر التحرير والتقرير كما يظهر ذلك بالنظر في تصانيفهما
وكان غاليا في التشيع كما يفصح عنه المقصد السادس من التجريد إلا أن الشيخ أكمل الدين قال : في أواخر شرحه للتجريد سمعت شيخي العلامة قطب الدين الشيرازي قال : كان الناس مختلفين في أن هذا الكتاب يعني التجريد لخواجه نصير الدين أولا فسأل عن ذلك ابنه خواجه أصيل الدين فقال : كان والدي وضعه إلى باب الإمامة وتوفي فكمله ابن المطهر الحلي وكان من الشيعة وهو زائغ زيغا عظيما فعلى هذه الرواية يكون بريئا عن نقيصة التشيع إلا أن المشهور عند الجمهور خلاف

(2/107)


وبمن يلي هؤلاء في معرفة الحكمة الشيخ شهاب الدين السهروردي بل فاق كثيرا في الحكمة الذوقية
وممن خرط في سلكهم الشيخ قطب دن الشيرازي والشيخ قطب الدين الرازي وسعد الدين التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني ثم الجلال الدواني
قال الأرنيقي : بعد ما ذكر في : ( ( مدينة العلوم ) ) ومن فضلاء بلادنا مولانا مصلح ( 2 / 109 ) الدين مصطفى الشهير بخواجه زاده ومصلح الدين مصطفى الشهير بالقسطلاني لكن هؤلاء السبعة قد فاقوا على أكثر المتقدمين في الحديث والتفسير والأصول والفروع إلا أن الإمام فخر الدين الرازي فإنه تمهر فيها مع مشاركته لهؤلاء في علوم الحكمة بأقسامها وإن اتقانه أقوى من إتقانهم . انتهى

(2/108)


قلت : وفي قوله فاق على أكثر المتقدمين إلى آخره نظرا لأن العلم المجرد بالحديث والتفسير لا يكفي في صحة الاعتقاد والعمل حتى يستعملها على وجههما ويقول بمقتضاهما ويحقق فحواهما ( ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) )
والفخر الرازي أكثر كلاما من هؤلاء في علوم التفسير ولكن قال أهل التحقيق في حق كتابه : ( ( مفاتيح الغيب ) ) فيه كل شيء إلا التفسير وقد بحث في تفسيره هذا عن كل شيء لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد أخطأ في مواضع مما يتعلق بفهم القرآن الكريم ويقال : إنه لم يكمل تفسيره بل كمله بعض من جاء بعده والخطأ منه وقد أصاب في مواضع منها : رد التقليد واثبات الاتباع . - والله أعلم -
ثم قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : إن الكتب المؤلفة في العلم الإلهي لما لم يخل عن الرياضي والطبعي أيضا أحببنا أن نذكره بعد الفراغ عن الكل - اللهم إلا نادرا - : ( ( كالمباحث المشرقية ) ) للإمام فخر الدين الرازي وأمثاله ولا تظن أن العلوم الحكمية مخالفة للعلوم الشرعية مطلقا بل الخلاف في مسائل يسيرة وبعضها مخالف في مسائل قليلة ظاهرا لكن إن حقق يصافح أحدهما الآخر ويعانقه . انتهى
قال في : ( ( كشف الظنون ) ) ثم اعلم أن البحث والنظر في هذا العلم لا يخلو إما : أن يكون على طريق النظر أو : على طريق الذوق فالأول : إما على قانون فلاسفة المشائين فالمتكفل له كتب الحكمة أو على قانون المتكلمين فالمتكفل حينئذ كتب الكلام لأفاضل المتأخرين والثاني : إما على قانون فلاسفة الإشراقين فالمتكفل له حكمة الإشراق ونحوه أو على قانون الصوفية واصطلاحهم فكتب التصوف . ( 2 / 110 )
وقد علم موضوع هذا الفن ومطالبه فلا تغفل فإن هذا التنبيه والتعليم مما فات عن أصحاب الموضوعات - وفوق كل ذي علم عليم

(2/109)


وعبارة ابن خلدون في : ( ( تاريخه ) ) هكذا
قال : علم الإلهيات : هو علم ينظر في الوجود المطلق
فأولا : في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك
ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ

(2/110)


وهو عندهم : علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وإن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه : علم ما وراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجود بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب : ( ( الشفاء والنجاة ) ) وكذلك لخصها ابن رشد - من حكماء الأندلس -
ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها إلى آخر العلم
كما فعله الإمام ابن الخطيب في : ( ( المباحث المشرقية ) ) وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كان الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس وهي غير صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد ملتقاة من ( 2 / 111 ) الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره
وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثيرا ما بين المقامين من التفاوت في ذلك مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها
فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه

(2/110)


والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منه لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل وليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين
والمطلوب مفروض الصدق معلومه وكذا جاء المتأخرين من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحدا فيه كلها مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك
والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون ( 2 / 112 ) والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - . انتهى كلامه

(2/111)


علم أمارات النبوة

(2/112)


من الإرهاصات والمعجزات القولية والفعلية وأمثال ذلك وكيفية دلالة هذه على النبوة والفرق بينها وبين السحر وتمييز الصادق من الكاذب
وموضوعه وغايته : ظاهرة جدا ومنفعته أعظم المنافع
وفي هذا العلم مصنفات كثيرة لكنه لا أنفع ولا أحسن من كتاب : ( ( أعلام النبوة ) ) للشيخ الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي وهو كان من كبراء الفقهاء الشافعية توفي سنة 450 ، وعمره ست وثمانون سنة ذكره في ( ( مدينة العلوم ) )

(2/112)


علم الأمثال

(2/112)


وهذا من فروع علم اللغة وهو : معرفة الألفاظ الصادرة عن البليغ المشتهرة بين الأقوام بخصوص ألفاظها وهيئاتها وموردها وسبب ورودها وقائلها وزمانها ومكانها لئلا يقع الغلط عند استعمالاتها في مضاربها وهي : المواضع والمقامات المشبهة بمواردها ولا بد لمعاني تلك الألفاظ المذكورة من حيث ورودها في مواردها مضاربها بالنوع
ومباديه مقدمات حاصلة بالتواتر من ألفاظ الثقات
وأما غرضه ومنفعته : فغنيان عن البيان فإن الأمثال أشد ما يحتاج إليه المنشئ والشاعر لأنها تكسو الكلام حلة التزيين وترقيه أعلى درجات التحسين
ومن الكتب النافعة فيه : كتاب لابن الأنباري
ومنها : ( ( المستقصى في الأمثال ) ) للزمخشري
ومنها : ( ( مجمع الأمثال ) ) للإسفرائني وهو كتاب عظيم جامع كذا في : ( ( مدينة ( 2 / 113 ) العلوم ) )
وقلت : ومنها كتاب : ( ( الأمثال ) ) للميداني وهو أجمع ما جمع فيه
قال في ( ( كشف الظنون ) ) : علم الأمثال : يعني ضروبها وسيأتي في حرف الضاد

(2/112)


علم إملاء الخط

(2/113)


هو علم فيه بحسب الأينية والكمية عن الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية لا من حيث حسنها في السطور بل من حيث دلالتها على الألفاظ العربية بحسب الآلات الصناعية من القلم وأمثاله بعد رعاية حال بسائط الحروف من حيث الدلالة على الحروف التي هي من أجزاء الألفاظ
وهذا العلم من حيث حصول نقش الحروف بالآلة من أنواع علم الخط
ومن حيث دلالتها على الألفاظ من فروع علم العربية هذا حاصل ما ذكره أبوا لخير وجعله من العلوم التي تتعلق بإملاء الحروف المفردة وكتاب : ( ( المطالع النصرية للمطابع المصرية ) ) أحسن ما جمع في هذا العلم جمعه الشيخ العلامة نصر الوفا الهوريني في هذا الزمان وقد طبع بمصر القاهرة الآن

(2/113)


علم أنباط المياه

(2/113)


هو علم يتعرف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها ومنفعته ظاهرة وهي إحياء الأرضين وإفلاحها ونقل عن بعض العلماء أنه قال : لو علم عباد الله تعالى رضاء الله تعالى في إحياء أرضه لم يبق في وجه الأرض موضع خراب
وللكرخي فيه كتاب مختصر وفي خلال كتاب الفلاحة النبطية مهمات هذا العلم . انتهى ما في : ( ( مدينة العلوم ) ) و : ( ( مفتاح السعادة ) ) وأورده العلامة أبو الخير - رحمه ( 2 / 114 ) الله - في فروع علم الهندسة

(2/113)


علم الأنساب

(2/114)


هو علم يتعرف منه أنساب الناس
وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه : الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص وهو علم عظيم النفع جليل القدر أشار الكتاب العظيم في : ( ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) ) إلى تفهمه
وحث الرسول الكريم في : ( ( تعلموا أنساب كم تصلوا أرحامكم ) ) على تعلمه والعرب قد اعتنى في ضبط نسبه إلى أن اكثر أهل الإسلام واختلط أنسابهم بالأعاجم فتعذر ضبطه بالآباء فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك حتى غلب هذا النوع
قال صاحب : ( ( كشف الظنون ) ) : وهذا العلم من زياداتي على : ( ( مفتاح السعادة ) ) والعجب من ذلك الفاضل كيف غفل عنه مع أنه علم مشهور طويل الذيل وقد صنفوا فيه كتبا كثيرة
والذي فتح هذا الباب وضبط علم الأنساب هو : الإمام النسابة هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة أربع ومائتين فإنه صنف فيه خمسة كتب : ( ( المنزلة ) ) و : ( ( الجمهرة ) ) و : ( ( الوجيز ) ) و : ( ( الفريد ) ) و : ( ( الملوك ) ) ثم اقتفى أثره جماعة أوردنا آثارهم هنا

(2/114)


منها : ( ( أنساب الأشراف ) ) لأبي الحسن أحمد بن يحيى البلاذري وهو كتاب كبير كثير الفائدة كتب منه عشرين مجلدا ولم يتم
و : ( ( أنساب حمير وملوكها ) ) لعبد الملك بن هشام صاحب : ( ( السيرة ) )
و : ( ( أنساب الرشاطي ) )
و : ( ( أنساب الشعراء ) ) لأبي جعفر محمد بن حبيب البغدادي النحوي . ( 2 / 115 )
و : ( ( أنساب السمعاني ) )
و : ( ( أنساب قريش ) ) لزبير بن بكار القرشي
و : ( ( أنساب المحدثين ) ) للحافظ محب الدين محمد بن محمود بن النجار البغدادي
و ( ( أنساب القاضي المهذب ) ) . انتهى ملخصا . ولعلنا تكلمنا عن النسب في رسالتنا : ( ( لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان ) ) فليراجعها المحقق فإنه مفيد جدا

(2/114)


علم الإنشاء

(2/115)


أي إنشاء النثر وهو : علم يبحث فيه عن المنثور من حيث أنه بليغ وفصيح ومشتمل على الآداب المعتبرة عندهم في العبارات المستحسنة واللائقة بالمقام
وموضوعه وغرضه وغايته : ظاهرة مما ذكر
ومباديه : مأخوذة من تتبع الخطب والرسائل بل له استمداد من جميع العلوم سيما الحكمة العملية والعلوم الشرعية وسير الكمل وحكايات الأمم ووصايا الحكماء العقلاء وغير ذلك من الأمور الغير المتناهية هذا ما ذكره الأرنيقي وأبو الخير
وأما ابن صدر الدين فإنه لم يذكر سوى معرفة المحاسن والمعائب ونبذة من آداب المنشئ وزبدة كلامه : أن للنثر من حيث أنه نثر محاسن ومعائب يجب على المنشئ أن يفرق بينهما فيتحرز عن المعائب ولا بد أن يكون أعلى كعبا في العربية محترزا عن استعمال الألفاظ الغريبة وما يخل بفهم المراد ويوجب صعوبته وأن يتحرز من التكرار وأن يجعل الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس إذ المعاني إذا تركت في سجيتها طلب لأنفسها ألفاظا تليق فيها فيحسن اللفظ والمعنى جميعا
وأما جعل الألفاظ متكلفة والمعاني تابعة لها فهو كلباس مليح على منظر قبيح . ( 2 / 116 )
فيجب أن يجتنب عما يفعله بعض من لهم شغف بإيراد شيء من المحسنات اللفظية فيصرفون العناية إلى المحسنات ويجعلون الكلام كأنه غير مسوق لإفادة المعنى فلا يبالون بخفاء الدلالات وركاكة المعنى
ومن أعظم ما يليق لمن يتعاطى صناعة الإنشاء أن يكتب ما يراد لا ما يريد . كما قيل في الصاحب والصابي : إن الصابي يكتب ما يراد والصاحب يكتب ما يريد
ولا بد أن يلاحظ في كتاب النثر حال المرسل والمرسل إليه ويعنون الكتاب بما يناسب المقام . انتهى
والكتب المصنفة فيه كثيرة جدا منها : ( ( أبكار الأفكار ) ) للوطواط جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الكتبي المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة
ومنها كتاب : ( ( المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) ) لأبي الفتح ابن الأثير الجزري وهو في مجلدين
وكتاب : ( ( المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء ) ) لموفق الدين وله كتاب : ( ( الوشي المرقوم في حل المنظوم ) ) و : ( ( ديوان الترسل ) ) في عدة مجلدات

(2/115)


قال الأرنيقي : ومن العجب العجاب في علم الإنشاء : ( ( المقامات ) ) للحريري وقد عمل على أسلوبها كثير من الناس رأيت منها ثلاثة و : ( ( تواريخ العتبي ) ) وهذا يمكن عدهما من المحاضرات أيضا
و : ( ( قهوة الإنشاء ) ) لأبي بكر بن حجة أيضا . والعتبي : هو ابن النصر محمد بن عبد الجبار ذكر فيه أحوال محمود بن سبكتكين وحروبه مع الأعداء وهذا الكتاب علم في الفصاحة والبلاغة واللطافة . انتهى
قلت : ومن هذا الباب كتاب : ( ( عجائب المقدور في أحوال تيمور ) )
و : ( ( مقامات البديع الهمذاني ) ) و : ( ( مقامات السيوطي ) ) . ( 2 / 117 )
و : ( ( ريحانة الألباء ) ) و : ( ( نفحة الريحانة ) ) وما يليها من كتب الأدب العربية فإنها في علم الإنشاء
وقد طبع في هذا الزمن بمصر القاهرة كتب كثيرة لها تعلق بهذا الفن وبقي شيء كثير لم يطبع
وبالجملة فهذا العلم طويل الذيل عظيم السيل كثير النفع لكن قصرت عنه همم العلماء حتى اندرس وطمس - ولله الأمر من قبل ومن بعد - وعندنا ذخائر من صحف هذا الفن قد من الله - تعالى - لها علينا - ولله الحمد - وانتفعنا بها كثيرا

(2/116)


علم الأوائل

(2/117)


هو علم يتعرف منه أوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب
وموضوعه وغايته : ظاهرة
وهذا العلم من فروع علم التواريخ والمحاضرات لكنه ليس بمذكور في كتب الموضوعات وقد ألحق بعض المتأخرين مباحث الأواخر إليه وفيه كتب كثيرة منها :
كتاب : ( ( الأوائل ) ) لأبي هلال حسن بن عبد الله العسكري المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وهو أول من صنف فيه وهو رسالة مختصرة وملخصة المسمى ب : ( ( الوسائل ) ) لجلال الدين السيوطي
ومنها : ( ( إقامة الدلائل ) ) لابن حجر و : ( ( محاسن الوسائل ) ) للشبلي
و ( ( محاضرة الأوائل ) ) لعلي دده
و : ( ( أزهار الجمال ) ) لابن دوقة كين
و : ( ( الوسائل ) ) أرجوزة أيضا
وكتاب : ( ( الأوائل ) ) للطبراني
وكتاب : ( ( الأوائل ) ) لمحمد بن أبي القاسم الراشدي وكتاب الجلال بن خطيب داريا . ( 2 / 118 )

(2/117)


علم الأوراد المشهورة والأدعية المأثورة

(2/118)


قد تقدم في هذا الباب بلفظ علم الأدعية والأوراد فراجعه فإنه ينفعك

(2/118)


علم الأوزان والموازين

(2/118)


وهذا العلم لضبط أثقال الأحجار في البناء وضبط أثقال الأحمال ومعرفة مقاديرها ومعرفة الآلات التي توزن بها الأشياء من الميزان والقسطاس والصاع والكيل وأمثال ذلك وضبط هذه الأمور لا يتيسر إلا لمن له حظ في علم الهندسة كما لا يخفى

(2/118)


علم الأوزان والمقادير المستعملة في علم الطب من الدرهم والأوقية والرطل وغير ذلك

(2/118)


ولقد صنف له كتب مطولة ومختصرة يعرفها مزاولها هذا ما في : ( ( مفتاح السعادة ) ) وقد جعله من فروع علم الطب
قال في : ( ( الكشف ) ) : فيا ليت شعري ما هذه الكتب المطولة نعم هو باب من أبواب الكتب المطولة في الطب فلو كان أمثال ذلك علما متفرعا على علم الطب لكان له فرع بل وأزيد منه . انتهى
وقال ابن خلدون في تاريخه المسمى ب : ( ( العبران ) ) : الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالآفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيرا من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما . ( 2 / 119 )
فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي : هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبة من الشعير فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع فإن الدرهم الجاهل ي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري : وهو ثمانية دوانق والبغلي : وهو أربعة دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو : ستة دوانق فكانوا يوجبون الزكاة في مائة درهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطا
وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع الناس بعد عليه ذكر ذلك الخطابي في كتاب : ( ( معالم السنن ) ) والماوردي في : ( ( الأحكام السلطانية ) ) وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها

(2/118)


والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفا بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في : ( ( الدهر ) ) ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين وطرح النقود الجاهلية رأسا حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه
ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور ( 2 / 120 ) مقاديرهما الشرعية ذهنا كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية
وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم فإنه خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبدا لحق ورده المحققون وعدوه وهما وغلطا وهو الصحيح - والله يحق الحق بكلمته - وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهنا لا اختلاف فيها - والله خلق كل شيء فقدره تقديرا - . انتهى كلامه

(2/119)


علم الاهتداء بالبراري والأقفار

(2/120)


هو علم يتعرف به أحوال الأمكنة من غير دلالة عليه بالأمارات المحسوسة دلالة ظاهرة بل خفية بقوة الشامة فقط لا يعرفها إلا من تدرب فيه كالاستدلال برائحة التراب ومسامتة الكواكب الثابتة ومنازل القمر إذ لكل بقعة رائحة مخصوصة ولكل كوكب سمت يهتدي به كما قال الله تعالى : ( ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) )
ونفع هذا العلم عظيم بين وإلا لهلك القوافل وضلت الجيوش وضاعت في البراري والقفار
وقيل : قد يكون بعض من هو بليد في سائر العلوم ماهرا في هذا الفن كما يمكن عكسه وقد يحصل هذا النوع من التمييز في الإبل والفرس هذا إصلاح ما في : ( ( مفتاح السعادة ) )
وهو فرع من فروع علم الفراسة
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : حكى بعض المصنفين أني كنت في قافلة في مفازة خوارزم وضللنا الطريق وعجز الكل عن الاهتداء فقدموا جملا هرما وألقوا حبله ( 2 / 121 ) على غاربه فأخذ يتنقل من جانب إلى جانب ومن تل إلى تل ويتذبذب يمينا وشمالا وصعودا ونزولا واستمر على هذا الحال مقدار فرسخين وخفنا على أنفسنا حتى وصل إلى الجادة المستقيمة والصراط السوي والنهج القويم وتعجبنا منه كل العجب . انتهى . ولم أقف على تأليف في ذلك

(2/120)


علم الآيات المتشابهات

(2/121)


كإبراز القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع مقدما وفي آخر مؤخرا وفي موضع بزيادة وفي موضع بدونها أو مفردا ومنكرا وجمعا أو بحرف وبحرف أخرى أو مدغما ومنونا إلى غير ذلك من الاختلافات
وهو من فروع التفسير
وأول من صنف فيه الكسائي ونظمه السخاوي
ومما صنف فيه : ( ( البرهان في توجيه متشابه القرآن ) ) و : ( ( درة التنزيل وغرة التأويل ) ) وهو أحسن منه و : ( ( كشف المعاني عن متشابه المثاني ) ) و : ( ( ملاك التأويل ) ) أحسن من الجميع و : ( ( قطف الأزهار في كشف الأسرار ) )

(2/121)


علم أيام العرب

(2/121)


هو علم يبحث فيه عن الوقائع العظيمة والأهوال الشديدة بين قبائل العرب وتطلق الأيام فتراد هذه على طريق ذكر المحل وإرادة الحال والعلم المذكور ينبغي أن يجعل فرعا من فروع التواريخ وإن لم يذكره أبو الخير مع أنه ذكر ما هو ليس بمثابة ذلك
وصنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى سنة عشرة ومائتين كبيرا وصغيرا ذكر في الكبير ألفا ومائتي يوم وفي الصغير خمسة وسبعين يوما . ( 2 / 122 )
وأبو الفرج علي بن حسين الأصبهاني المتوفى سنة ست وخمسين وثلاثمائة زاد عليه وجعل ألفا وسبعمائة يوم

(2/121)


علم الإيجاز والإطناب

(2/122)


ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير ولا يخفى أنه من مباحث علم البلاغة فلا وجه لجعله فرعا من فروع علم التفسير إلا أنه التزم تسمية ما أورده السيوطي في : ( ( إتقانه ) ) من الأنواع علما وليس كما ينبغي وسيأتي تفصيل تلك الأنواع في باب الميم ( 2 / 123 )

(2/122)


باب الباء الموحدة

(2/123)


علم الباطن

(2/123)


هو معرفة أحوال القلب والتخلية ثم التحلية وهذا العلم يعبر عنه ب : علم الطريقة والحقيقة أيضا واشتهر علم التصوف به وسيأتي تمام تحقيقه فيه
وأما دعوى التقابل بين الظاهر والباطن كما يدعيه جهلة القوم فزعم باطل بشهادة العموم والخصوص

(2/123)


علم الباه

(2/123)


هو : علم باحث عن كيفية المعالجة المتعلقة بقوة المباشرة من الأغذية المصلحة لتلك القوة والأدوية المقوية والمزيدة للقوة أو الملذذة للجماع أو المعظمة أو المضيقة وغير ذلك من الأعمال والأفعال المتعلقة بها كذكر أشكال الجماع وآدابه الذين لهما مدخل في اللذة وحصول أمر الخيال إلا أنهم يذكرون لأجل إكثار الصناعة أشكالا يعسر فعلها بل يمتنع ويذيلون ذلك الإشكال بحكايات مشهية تحصل باستماعها الشهوة وتحرك قوة المجامعة وإنما وضعوها لمن ضعفت قوة مباشرته أو بطلت فإنها تعيدها له بعد الإياس . ( 2 / 124 )
روي أن ملكا بطلت عنه القوة فزوج عبدا من مماليكه جارية حسناء وهيأ لهما مكانا بحيث يراهما الملك ولا يريانه فعادت قوته بمشاهدة أفعالهما حتى خرجت من إحليله شبيهة الخبز الرطب فقدر بعد ذلك قدرة زائدة . انتهى ملخصا من : ( ( المفتاح ) ) ومثله في : ( ( مدينة العلوم ) )
وما يبعد أن يقال : وكذا النظر إلى تسافد الحيوانات ولكن النظر إلى فعل الإنسان أقوى في تأثير عود القوة
وهذا العلم من فروع علم الطب بل هو باب من أبوابه كبير غير أنهم أفردوه بالتأليف اهتماما بشأنه
ومن الكتب المصنفة فيه كتاب : ( ( الألفية والشلفية ) )

(2/123)


قال أبو الخير : يحكى أن ملكا بطلت عنه قوة المباشرة بالكلية وعجز الأطباء عن معالجتها بالأدوية فاخترعوا حكايات عن لسان امرأة مسماة بالألفية لما أنها جامعها ألف رجل فحكت عن كل منهم أشكالا مختلفة وأوضاعا متشتة فعادت باستماعها قوة الملك . انتهى
ومثله في : ( ( مدينة العلوم ) )
و : ( ( الإيضاح في أسرار النكاح أي في الباه ) ) للشيخ عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيرازي وهو مختصر أوله : الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين وأنشد فيه :
عليك بمضمون الكتاب فإننا ... وجدناه حقا عندنا بالتجارب
يزيدك في الاتعاظ بطشا وقوة ... ويحظيك عند الغانيات الكواعب
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن الكتب الجامعة في هذا الباب كتاب : ( ( رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه ) ) وكتاب : ( ( رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب ) ) وكتاب : ( ( الفتح المنصوب إلى صيد المحبوب ) ) وكتاب : ( ( تحفة العروس وجلاء النفوس ) ) وكتاب نصير الطوسي نافع في هذا الباب وقد طبع الكتاب الأول بمصر القاهرة في هذا الزمان فليعلم . ( 2 / 125 )

(2/124)


علم بدائع القرآن

(2/125)


ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير ولا يخفى أنه : هو علم البديع إلا أنه وقع في الكلام القديم

(2/125)


علم البديع

(2/125)


هو علم تعرف به وجوه تفيد الحسن في الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال وبعد رعاية وضوح الدلالة على المرام فإن هذه الوجوه إنما تعد محسنة بعد تينك الرعايتين وإلا لكان كتعليق الدرر على أعناق الخنازير ومرتبة هذه العلم بعد مرتبة علمي : المعاني والبيان حتى أن بعضهم لم يجعله علما على حدة وجعله ذيلا لها لكن تأخر رتبته لا يمنع كونه علما مستقلا ولو أعتبر ذلك لما كان كثير من العلوم علما على حدة فتأمل وظهر من هذا موضوعه وغرضه وغايته
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : موضوعه : اللفظ العربي من حيث التحسين والتزيين العرضيين بعد تكميل دائرتي الفصاحة والبلاغة
وغرضه : تحصيل ملكة تحلية الكلام بالمحسنات العرضية وغايته : الاحتراز عن خلو الكلام عن التحلية المذكورة ومنفعته : النظرية لنشاط السامع وزيادة القبول في العقول ومباديه : تتبع الخطب والرسائل والأشعار المتحلية بالصنائع البديعية . انتهى
وعبارة : ( ( الكشاف ) ) : موضوعه اللفظ البليغ من حيث أن له توابع

(2/125)


قال في : ( ( الكشف ) ) : وأما منفعته : فإظهار رونق الكلام حتى يلج الأذن بغير إذن ويتعلق بالقلب من غير كد وإنما دونوا هذا العلم لأن الأصل وإن كان الحسن الذاتي وكان المعاني والبيان مما يكفي في تحصيله لكنهم اعتنوا بشأن الحسن العرضي أيضا لأن الحسناء إذا عريت عن المزينات ربما يذهل بعض القاهرين ( 2 / 126 ) عن تتبع محاسنها فيفوت التمتع بها ثم إن وجوه التحسين الزائد إما : راجعة إلى تحسين المعنى أصالة وإن كان لا يخلو عن تحسين اللفظ تبعا
وإما : راجعة إلى تحسين اللفظ كذلك فالأولى : تسمى معنوية والثانية : لفظية
وهذا الفن ذكره أهل البيان في أواخر علم البيان إلا أن المتأخرين زادوا عليها شيئا كثيرا ونظموا فيه قصائد وألفوا كتبا
ومن الكتب المختصة بعلم البديع كتاب : ( ( البديع ) ) لأبي العباس عبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ست وتسعين ومائتين وهو أول من صنف فيه وكان جملة ما جمع منها سبع عشرة نوعا ألفه سنة أربع وسبعين ومائتين ولأبى أحمد حسن العسكري وشهاب الدين أحمد بن شمس الدين الخولي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة و : ( ( زهرة الربيع ) ) للشيخ المطرزي ومنها : ( ( بديعيات الأدباء ) ) وهي قصائد مع شروحها

(2/125)


قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) و : ( ( البديع ) ) للتيفاشي و : ( ( التحرير والتحبير ) ) لابن أبي الأصبع و : ( ( شرح البديعيات ) ) لابن حجة ومن الكتب المشتملة على الفنون الثلاثة : ( ( روض الأذهان ) ) وكذا : ( ( المصباح ) ) لابن مالك وكتاب : ( ( مفتاح العلوم ) ) للسكاكي اشتمل على هذه الثلاثة وقدم عليها الاشتقاق والنحو والصرف وأورد عقيب الثلاثة المذكورة بطريق التكملة على الاستدلال علم العروض و القوافي ودفع المطاعن عن القرآن وله شروح كثيرة ذكرها في : ( ( كشف الظنون ) ) منها : ( ( شرح السعد التفتازاني ) )
ومن الكتب النافعة في العلوم المذكورة : ( ( تلخيص المفتاح ) ) و : ( ( الإيضاح ) ) وهو يجري مجرى الشرح ل : ( ( التخليص ) ) كلاهما لقاضي القضاة جلال لدين القزويني الشافعي
ومن أراد الوقوف في علم البلاغة على العجب العجاب والسحر في هذا الباب فعليه بكتاب : ( ( دلائل الإعجاز ) ) و : ( ( أسرار البلاغة ) ) كلاهما من مؤلفات الشيخ عبد القاهر الجرجاني وقيل : إن كتابيه في هذه الفنون بحران تنشعب منهما العيون ( 2 / 127 ) - والله أعلم - و : ( ( حدائق البلاغة ) ) للشيخ شمس الدين الفقير وهي بالفارسية

(2/126)


علم البرد ومسافاتها

(2/127)


البرد بضمتين : جمع بريد وهو عبارة عن أربعة فراسخ وهو : علم يتعرف منه كمية مسالك الأمصار فراسخ وأميالا وأنها مسافة شهرية أو أقل أو أكثر ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وذلك أولى بأن يسمى : علم مسالك الممالك مع أنه من مباحث جغرافيا

(2/127)


علم البلاغة

(2/127)


عبارة عن علم البيان والبديع والمعاني والغرض من تلك العلوم : أن البلاغة سواء كانت في الكلام أو في المتكلم رجوعها إلى أمرين :
أحدهما : الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد أي : ما هو مراد البليغ من الغرض المصوغ له الكلام كما هو المتبادر من إطلاق المعنى المراد في كتب علم البلاغة فلا يندرج فيه الاحتراز عن التعقيد المعنوي كما توهمه البعض ولا الاحتراز عن التعقيد مطلقا
والثاني : تمييز الفصيح عن غيره ومعرفة أن هذا الكلام فصيح وهذا غير فصيح فمنه : ما يبين في علم متن اللغة والتصريف أو : النحو أو يدرك بالحس وهو : أي ما يبين في هذه العلوم ما عدا التعقيد المعنوي فمست الحاجة للاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد إلى علم واللاحتراز عن التعقيد المعنوي إلى علم آخر فوضعوا لهما علمي : المعاني والبيان وسموهما : علم البلاغة لمزيد اختصاص لهما بها ثم احتاجوا لمعرفة ما يتبع البلاغة من وجوه التحسين إلى علم آخر فوضعوا له علم البديع فما يحترز به عن الأول أي الخط في التأدية : علم المعاني وما يحترز به عن ( 2 / 128 ) الثاني أي التعقيد المعنوي : علم البيان وما يعرف به وجوه التحسين : علم البديع

(2/127)


علم البنكامات

(2/128)


يعني : الصور والأشكال الموضوعة لمعرفة الساعات المستوية والزمانية فإذا هو علم يعرف به كيفية اتخاذ آلات يقدر بها الزمان
وموضوعه : حركات مخصوصة في أجسام مخصوصة تنقضي بقطع مسافات مخصوصة
وغايته : معرفة أوقات الصلوات وغيرها من غير ملاحظة حركات الكواكب وكذلك معرفة الأوقات المفروضة للقيام في الليل إما : للتهجد أو : للنظر في تدابير الدول والتأمل في الكتب والصكوك والخرائط المنضبط بها أحوال المملكة والرعايا ولا يخفى أن هذين الأمرين فرض كفاية - وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - واستمداده من قسمي الحكمة الرياضي والطبيعي ومع ذلك يحتاج إلى إدراك كثير وقوة تصرف ومهارة في كثير من الصنائع وهذا العلم عظيم النفع في الدين فانقسمت البنكامات إلى : الرملية وليس فيها كثير طائل وإلى : بنكامات الماء وهي : أصناف ولا طائل فيها أيضا وإلى : بنكامات دورية معمولة بالدواليب يدير بعضها بعضا
قال في : ( ( كشف الظنون ) ) : وهذا العلم من زياداتي على : ( ( مفتاح السعادة ) ) فإن ما ذكر صاحبه من أنه : علم بآلات الساعات ليس كما ينبغي فتأمل
ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( الكواكب الدرية ) ) و : ( ( الطرق السنية في الآلات الروحانية في بنكامات الماء ) ) وكلاهما للعلامة تقي الدين الراصد وكتاب : ( ( بديع الزمان في الآلات الروحانية ) ) . انتهى
وفي : ( ( مدينة العلوم ) ) كتاب أرشميدس هو العمدة في هذا الفن وللمتأخرين فيه تصانيف مفيدة حسنة جدا . ( 2 / 129 )

(2/128)


علم البيان

(2/129)


هو : علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض
وموضوعه : اللفظ العربي من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد
وغرضه : تحصيل ملكة الإفادة بالدلالة العقلية وفهم مدلولاتها ليختار الأوضح منها مع فصاحة المفردات
وغايته : الاحتراز من الخطأ في تعيين المعنى المراد بالدلالة الواضحة
ومباديه : بعضها : عقلية كأقسام الدلالات والتشبيهات والعلاقات المجازية ومراتب الكنايات وبعضها : وجدانية ذوقية كوجوه التشبيهات وأقسام الاستعارات وكيفية حسنها ولطفها وإنما اختاروا في علم البيان وضوح الدلالة لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية - أعني التضمنية والالتزامية - وكانت تلك الدلالات خفية سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات والطبائع وبحسب الألف فوجب التعبير عنهما بلفظ أوضح مثلا إذا كان المرئي دقيقا في الغاية تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي بخلاف المرئي إذا كان جليا وكذا الحال في الروية العقلية أعني الفهم والإدراك

(2/129)


والحاصل : أن المعتبر في علم البيان دقة المعاني المعتبرة فيها من الاستعارات والكنايات مع وضوح الألفاظ الدالة عليها
قال في : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : علم البيان : علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه كذا ذكر الخطيب في : ( ( التلخيص ) ) وقد احترز به عن ملكة الاقتدار على إيراد المعنى العادي عن الترتيب الذي يصير به المعنى معنى الكلام المطابق لمقتضى الحال بالطرق المذكورة فإنها ليست من علم البيان وهذه الفائدة أقوى مما ذكره السيد السند من أن فيما ذكره القوم تنبيها على ( 2 / 130 ) أن علم البيان ينبغي أن يتأخر عن علم المعاني في الاستعمال وذلك لأنه يعلم منه هذه الفائدة أيضا فإن رعاية مرابت الدلالة في الوضوح والخفاء على المعنى ينبغي أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال فإن هذه كالأصل في المقصودية وتلك فرع وتتمة لها وموضعه : اللفظ البليغ من حيث أنه كيف يستفاد منه المعنى الزائد على أصل المعنى وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى الأطول . انتهى
قال ابن خلدون في : ( ( بيان علم البيان ) ) : هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني
وذلك وأن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي : إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف

(2/129)


وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة ألا ترى أن قولهم : زيد جاءني مغاير لقولهم : جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم
ومن قال : جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه
ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند
وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم زيد قائم وإن زيدا قائم ( 2 / 131 ) وإن زيدا القائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الأعراف
فإن الأول : العادي عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن
والثاني : المؤكد بأن يفيد المتردد
والثالث : يفيد المنكر فهي مختلفة
وكذلك تقول جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية : وهي التي لها خارج تطابقه أولا وإنشائية : وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ ولا يريد منطوقه ويريد لازمه إن كان مفردا كما تقول : زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تزيد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة

(2/130)


وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول : زيد كثير الرماد وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال لواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى ب : البيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى : علم البلاغة
والصنف الثاني : يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي ( 2 / 132 ) الاستعارة والكناية - كما قلناه - ويسمى : علم البيان وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه وترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمى عندهم : علم البديع
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم : البيان وهو : اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى
وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم ملاءات غير وافية

(2/131)


ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من الترتيب وألف كتابه المسمى ب : ( ( المفتاح في النحو الصرف والبيان ) ) فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب : ( ( التبيان ) ) وابن مالك في كتاب : ( ( المصباح ) ) وجلال الدين القزويني في كتاب : ( ( الإيضاح والتلخيص ) ) وهو أصغر حجما من الإيضاح
والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه - والله أعلم - : أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمرانا من المغرب
أو نقول : لعناية العجم وهو معظم أهل المشرق ك : ( ( تفسير الزمخشري ) ) وهو كل مبني على هذا الفن وهو أصله وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه : علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوعوا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك : الولوع بتزيين الألفاظ . ( 2 / 133 )
وأن علم البديع سهل المأخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما
ومن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب : ( ( العمدة ) ) له مشهور وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه
واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منبه لجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن دركه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه

(2/132)


وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير حيث جاء بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع - والأهواء والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل - . انتهى كلام ابن خلدون
وأقول : إن تفسير أبي السعود قد وفى بحق المعاني والبيان والبديع التي في القرآن الكريم على نحو ما أشار إليه ابن خلدون بيد أنه رجل فقيه لا يفسر الكتاب على مناحي السلف ولا يعرف علم الحديث حق المعرفة فجاء الله ( 2 / 134 ) - سبحانه - بقاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني اليمني - رحمه الله - ووفقه لتفسير كتابه العزيز - على طريقة الصحابة والتابعين وحذا حذوهم وميز بين الأقوال الصحيحة والآراء السقيمة وفسر بالأخبار المرفوعة والآثار المأثورة وحل المعضلات وكشف القناع عن وجوه المشكلات إعرابا وقراءة - فجزاه الله عنا خير الجزاء -
ثم وفق الله - سبحانه - هذا العبد بتحرير تفسير جامع لهذه كلها على أبلغ أسلوب وأمتن طريقة يغني عن تفاسير الدنيا بتمامها وهو في أربعة مجلدات وسماه : ( ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) ) ولا أعلم تفسيرا على وجه البسيطة يساويه في اللطافة والتنقيح أو يوازيه في الرقة والتصحيح ومن يرتاب في دعواي هذه فعليه بتفاسير المحققين المعتمدين ينظر فيها أولا ثم يرنو في ذلك يتضح له الأمر كالنيرين ويسفر الصبح لذي عينين - وبالله التوفيق -
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن الكتب المفردة فيه : ( ( الجامع الكبير ) ) لابن أثير الجزري و : ( ( نهاية الإعجاز ) ) للإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - تعالى - . انتهى

(2/133)


علم البيرزة

(2/134)


هو : علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها وإزالة مرضها ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد وضعفها فيه
وموضوعه وغايته وغرضه : ظاهر لا يخفى على أحد وكتاب : ( ( القانون الواضح ) ) كاف في هذا العلم كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) ومثله في : ( ( مدينة العلوم ) )

(2/134)


علم البيطرة

(2/134)


هو : علم يبحث فيه عن أحوال الخيل من جهة ما يصح ويمرض وتحفظ صحته ويزول مرضه وهذا في الخيل بمنزلة الطب في الإنسان . ( 2 / 135 )
وموضوعه وغايته : ظاهره للمتبصر ومنفعته : عظيمة لأن الجهاد والحج لا يقوم ويقوى صاحبه إلا به
وعبارة : ( ( مدينة العلوم ) ) : وأما منفعته فمن أعظم المنافع جدا : لأنه عمود الإسلام وبه يقوى أحد مباني الإسلام أعني الجهاد في سبيل الله بل الحج أيضا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقها : ( ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ) ) إلى غير ذلك من أوصافها
والخيل ما زال ممدوحا بكل الألسنة في كل زمان وكتاب حنين بن إسحق كاف في هذا الباب . انتهى
وقد طبع بمصر القاهرة كتاب : ( ( مشكوة اللائذين في علم الأقراباذين البيطري ) ) وهو للماهر المعلم لابتوت وترجمه من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية الحاذق الطبيب محمد أفندي عبد الفتاح قال فيه : اعلم أن المادة البيطرية الطبية أهم فروع البيطرة وهي : علم يبحث فيه عن الأحوال المختلفة التي للأدوية وبه يتمكن الطبيب من انتخاب الأدوية ويعرف قوتها واستعمالها وكيفيات تحصيلها المختلفة فعلم من هذا التعريف موضوع المادة الطبية مع اختصار على حسب الآراء العامة المتعلقة به
والواقع أن الكليات التي يتخذها هذا الفرع من علم تاريخ الحيوانات الطبيعي من حيث أصل الجواهر الطبية وأوصافها الطبيعية وكيفية تركيبها وخواصها الكيمياوية واعتبار تأثيرها في بنية الحيوان فحينئذ يتمكن الطبيب من معرفة مقاديرها والأوقات الملائمة لاستعمالها يتم الفرع المذكور ويصير بها كاملا ويعلم منه كيفية تأثيرها الفيزيولوجي وكيفية تحصيلها واستعمالها في الأمراض ثم إن الأدوية المذكورة في هذا القانون : هي الأدوية التي جعلت وخصصت لمعالجة الحيوانات في الاسبيتاليات المصرية . انتهى كلامه
وهذا الكتاب مجلد لطيف يحتوي على مسائل من هذا العلم وقفت عليه . ( 2 / 136 ) ( 2 / 137 )

(2/134)


باب التاء

(2/137)


علم التاريخ

(2/137)


التاريخ في اللغة : تعريف الوقت مطلقا يقال أرخت الكتاب تأريخا وورخته توريخا كما في : ( ( الصحاح ) ) قيل : وهو معرب من ماه وروز
وعرفا : هو تعيين وقت لينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلقا : يعني سواء كان ماضيا أو مستقبلا
وقيل : تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل من الآثار العلوية والحوادث السفلية مما يندر وقوعه جعل ذلك مبدأ لمعرفة ما بينه وبين أوقات الحوادث والأمور التي يجب ضبط أوقاتها في مستأنف السنين
وقيل : عدد الأيام والليالي بالنظر إلى ما مضى من السنة والشهر وإلى ما بقي وفيه كتاب : ( ( لقطة العجلان مما تمس إليه حاجة الإنسان ) ) للمؤلف - عفا الله عنه -
وعلم التاريخ هو : معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم إلى غير ذلك
وموضوعه : أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم . ( 2 / 138 )
والغرض منه : الوقوف على الأحوال الماضية
وفائدته : العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار ويستجلب نظائرها من المنافع كذا في ( ( مدينة العلوم ) )
وهذا العلم كما قيل : عمر آخر للناظرين والانتفاع في مصره بمنافع تحصل للمسافرين . كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) وقد جعل صاحبه لهذا العلم فروعا : كعلوم الطبقات والوفيات لكن الموضوع مشتمل عليها فلا وجه للإفراد والتفصيل في مقدمة الفذلكة من مسودات جامع المجلة

(2/137)


وأما الكتب المصنفة في التاريخ فقد استقصيناها إلى ألف وثلاثمائة . انتهى ما في : ( ( كشف الظنون ) )
ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( تاريخ ابن كثير ) ) الحافظ عماد الدين
و ( ( تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ) ) وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها
وتاريخ ابن أثير الجزري سماه : ( ( الكامل ) ) ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة 238 ، وهو من خيار التواريخ
وتاريخ ابن الجوزي المحدث وهو مجلدات سماه : ( ( المنتظم في تواريخ الأمم ) )
وتاريخ : ( ( مرآة الزمان ) ) لسبط ابن الجوزي قال ابن خلكان : رأيته بخطه في أربعين مجلدا
وقال الأرنيقي : وأنا رأيته في ثمان مجلدات لكن في مجلدات ضخام بخط دقيق
و : ( ( تاريخ ابن خلكان ) ) البرمكي الشافعي قال الأرنيقي : رأيته في خمس مجلدات بخطه قلت : قد طبع بمصر القاهرة في مجلدين ضخمين
و : ( ( تاريخ الحافظ ابن حجر العسقلاني ) ) مجلدان
وتاريخ آخر له المسمى ب ( ( أنباء الغمر ) ) وهو مجلدان
وله أيضا : ( ( الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ) ) . ( 2 / 139 )
و ( ( تاريخ الخطيب البغدادي ) ) عشر مجلدات
و : ( ( ذيل تاريخ بغداد ) ) للحافظ محب الدين بن النجار جاوز ثلاثين مجلدا
و : ( ( تاريخ أبي سعيد السمعاني ) ) نحو خمسة عشر مجلدا و : ( ( ذيل تاريخ السمعاني ) ) للدبيثي قرية من نواحي واسط في ثلاث مجلدات
و : ( ( تاريخ الحافظ محمد بن أحمد الذهبي ) ) المحدث الإمام وصنف : ( ( التاريخ الكبير ) ) ثم الأوسط المسمى ب ( ( العبر ) ) والصغير المسمى : ( ( دول الإسلام ) )
وكتاب : ( ( البارع ) ) لهان روبن علي المنجم البغدادي
و : ( ( تاريخ يتيمة الدهر ) ) للثعالبي و : ( ( دمية القصر ) ) للباخوزي و : ( ( زينة الدهر ) ) للخطري
و : ( ( خريدة القصر تجريدة العصر ) ) للعماد الأصبهاني
و : ( ( تاريخ بدر الدين العيني الحنفي ) )
و : ( ( تاريخ الحافظ ابن عساكر ) ) سبعة وخمسون مجلدا قال الأرنيقي : ومن أصح التواريخ وأحسنها وألطفها : لوروده بعبارات عذبة وأنفعها للناس : لاشتماله على المهمات
( ( تاريخ اليافعي ) ) مجلدان كبيران وكتب التواريخ أكثر من أن تحصى لكن إن فزت بما ذكر فزت المرام وإن أردت التوغل فيه فعليك بكتاب : ( ( مروج الذهب ) ) للمسعودي و : ( ( أخبار الزمان ) ) له أيضا و ( ( بستان التواريخ ) ) و : ( ( معادن الذهب ) ) و : ( ( بوادر الأخبار ) ) و : ( ( عيون التواريخ ) ) . انتهى
وعد كتبا من التواريخ لا نطول بذكرها الكتاب ثم قال : وأما التواريخ : ( ( لسان الفرس ) ) فأكثر من أن تحصى تركنا ذكرها للاستغناء بما ذكرنا منها . انتهى . ( 2 / 140 )

(2/138)


قلت : وقد استوفى في : ( ( الكشف ) ) أسماء التواريخ مع أسماء مؤلفيها فإن شئت الاطلاع فارجع إليه
ومن الكتب النفيسة المعتبرة في هذا العلم : ( ( تاريخ القاضي عبد الرحمن بن محمد الإشبيلي الحضرمي المالكي ) ) المتوفى سنة ثمان وثمانمائة وهو كبير عظم النفع والفائدة رتب على السنين وروي أنه كان في وقعة تيمور قاضيا بحلب فحصل في قبضته أسيرا سميرا فكان يصاحبه وسافر معه إلى سمرقند فقال له يوما : لي تاريخ كبير جمعت فيه الوقائع بأسرها فخلفته بمصر وسيظفر به المجنون يشير إلى برقوق فقال له : هل يمكن تلافي هذا الأمر واستخلاص الكتاب فاستأذنه في أن يعود إلى مصر ليجيء به فأذن له
ولعل ذلك الكتاب هو كتاب : ( ( العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ) )
وقد اشتهر نحو ثلاثة بالمقدمة ودون مفردا وهو كتاب مفيد جامع لمنافع لا توجد في غيره شرح الشيخ أحمد المغربي المتوفى سنة إحدى وأربعين وألف مؤرخ الأندلس مقدمته كذا أخبر به ابن البيلوني
وترجم أوائل المقدمة شيخ الإسلام محمد صاحب المعروف ببيري زاده المتوفى سنة اثنتين وستين ومائة وألف . انتهى

(2/140)


علم تاريخ الخلفاء

(2/140)


هو : علم من فروع التواريخ وقد أفرد بعض العلماء تاريخ الخلفاء الأربعة وهم أحقاء بالاعتناء وبعضهم ضم معهم الأمويين والعباسيين لاشتمال أحوالهم على مزيد الاعتبار
والكتب المصنفة فيه كثيرة لا تخفى على ذوي الإحاطة منها . ( 2 / 141 )
( ( تحفة الظرفاء في تاريخ الخلفاء ) ) وفيه كتاب لجلال الدين السيوطي - رحمه الله - تعالى - سماه : ( ( تاريخ الخلفاء ) ) وقد طبع بمصر

(2/140)


علم التأويل

(2/141)


أصله : من الأول وهو الرجوع فكان المأول صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني
وقيل : من الإيالة وهي : السياسة فكأنه ساس الكلام ووضع المعنى موضعه
واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة : هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم
وقال الراغب : التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية
وقال غيره : التفسير : بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل : توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة
وقال الماتريدي : التفسير : القطع على أن المراد من اللفظ هذا والشهادة على الله - سبحانه وتعالى - أنه عني باللفظ هذا والتأويل : ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة وقال أبو طالب الثعلبي : التفسير : بيان وضع اللفظ : إما حقيقة أو : مجازا والتأويل : تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو : الرجوع لعاقبة الأمر فالتأويل : إخبار عن حقيقة المراد والتفسير : إخبار عن دليل المراد مثاله : قوله - سبحانه وتعالى - : ( ( إن ربك لبالمرصاد ) ) وتفسيره : أنه من الرصد مفعال منه وتأويله : التحذير من التهاون بأمر الله - سبحانه وتعالى -
وقال الأصبهاني : التفسير : كشف معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ أو بحسب المعنى والتأويل : أكثره باعتبار المعنى . ( 2 / 142 )
والتفسير : إما أن يستعمل في غريب الألفاظ أو في وجيز يتبين بشرحه وإما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها
وأما التأويل : فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود الباري خاصة
وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة
وقيل : يتعلق التفسير بالرواية والتأويل بالدراية
وقال أبو نصر القشيري : التفسير مقصور على السماع والاتباع والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل

(2/141)


وقال قوم : ما وقع مبينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : يسمى تفسير أو ليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد بل يحمل على المعنى الذي ورد فلا يتعداه والتأويل : ما استنبطه العلماء العالمون بمعنى الخطاب الماهرون في آلات العلوم
وقال قوم منهم : البغوي والكواشي : هو صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط انتهى
ولعله هو الصواب هذا خلاصة ما ذكره أبو الخير في مقدمة علم التفسير
وقد ذكر في فروع علم الحديث علم تأويل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هذا علم معلوم موضوعه وبين نفعه وظاهر غايته وغرضه وفيه رسالة نافعة لمولانا شمس الدين الفناري
وقد استخرج للأحاديث تأويلات موافقة للشرع بحيث يقول من رآها : لله دره وعلى الله أجره
وأيضا للشيخ صدر الدين القونوي شرح بعض الأحاديث على التأويلات لكن بعضها مخالف لما عرف من ظاهر الشرع مثل قوله : إن الفلك الأطلس المسمى بلسان الشارع العرش وفلك الثوابت المسمى عند أهل الشرع الكرسي قديمان وأحال ذلك إلى الكشف الصحيح والعيان الصريح وادعى أن هذا غير مخالف ( 2 / 143 ) للشرع . لأن الوارد فيه حدوث السموات السبع والأرضين إلا أن هذا الشيخ قد أبدع في سائر التأويلات بحيث ينشرح الصدر والبال والله - سبحانه وتعالى - أعلم بحقيقة الحال . انتهى
أقول شرح تسعة وعشرين حديثا سماه : ( ( كشف أسرار جواهر الحكم ) ) وما ذكره من القول بالقدم ليس هو أول من يقول به بل هو مذهب شيخه ابن عربي وشيوخ شيخه كما لا يخفى على من تتبع كلامهم

(2/142)


علم تبيين المصالح المرعية في كل باب من الأبواب الشرعية

(2/143)


وهو : علم يعرف به حكمة وضع القوانين الدينية وحفظ النسب الشرعية بأسرها
وأما موضوعه : فهو النظام التشريعي المحمدي الحنفي على صاحبه الصلاة والسلام من حيث المصلحة والمفسدة
وأما غايته : فهو عدم وجدان الحرج فيما قضى الله ورسوله والانقياد التام للأحكام الإلهية وكمال الوثوق والاطمئنان بها والمحافظة عليها بحيث تنجذب إليها النفس بالكلية ولا تميل إلى خلاف مسلكها
وفي هذا العلم كتاب : ( ( حجة الله البالغة ) ) للشيخ الأجل أحمد ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدهلوي المتوفى سنة 1174 الهجرية وقل من صنف فيه أو خاض في تأسيس مبانيه أو رتب منه الأصول والفروع أو أتى بما يسمن أو يغني من جوع كيف ولا تتبين أسراره إلا لمن تمكن في العلوم الشرعية بأسرها واستبد بالفنون الإلهية عن آخرها ولا يصفو مشربه إلا لمن شرح الله صدره لعلم لدني وملأ قلبه بسر وهبي وكان مع ذلك وقاد الطبيعة سيال القريحة حاذقا في التقرير والتحرير بارعا في التوجيه والتحبير وقد عرف كيف يوصل الأصول ويبني عليها الفروع وكيف يمهد القواعد ويأتي لها بشواهد المعقول والمسموع ولم ( 2 / 144 ) أعرف أحد آتاه الله منه حظا وجعل له منه نصيبا إلا صاحب الحجة فإنه قد تفرد بالتأليف في هذا العلم وهدى الناس إلى المحجة - والله أعلم

(2/143)


علم التجويد

(2/144)


هو : علم باحث عن تحسين تلاوة القرآن العظيم من جهة مخارج الحروف وصفاتها وترتيل النظم المبين بإعطاء حقها من الوصل والوقف والمد والقصر والروم والإدغام والإظهار والإخفاء والإمالة والتحقيق والتفخيم والتشديد والتخفيف والقلب والتسهيل إلى غير ذلك
وموضوعه وغايته ونفعه ظاهر
وهذا العلم نتيجة فنون القراءة وثمرتها وهو كالموسيقى من جهة أن العلم لا يكفي فيه بل هو : عبارة عن ملكة حاصلة عن تمرن امرؤ بمكة وتدربه بالتلقف عن أفواه معلميه ولذلك لم يذكره أبو الخير واكتفى عنه بذكر القراءة وفروعه والتجويد أعم من القراءة
وأول من صنف في التجويد موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقاني البغدادي المقري المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ذكره ابن الجزري ومن المصنفات فيه : ( ( الدر اليتيم ) ) و ( ( شرحه ) ) و : ( ( الرعاية ) ) و : ( ( غاية المراد المقدمة الجزرية ) ) وشروحها واضحة

(2/144)


علم تحسين الحروف

(2/144)


سيأتي تحقيقه في علم الخط هكذا في : ( ( الكشف ) ) قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم يعرف منه تحسين تلك النقوش وما يتعلق به من كيفية استعمال أدوات الكتابة وتمييز حسنها عن رديها وأسباب الحسن في الحروف آلة واستعمالا وترتيبا ومبنى هذا الفن ( 2 / 145 ) الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة وتختلف صورها بحسب الإلف والعادة والمزاج بل بحسب كل شخص ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه . انتهى

(2/144)


علم تدبير المنزل

(2/145)


هو : قسم من ثلاثة أقسام الحكمة العملية
وعرفوه : بأنه علم يعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدامه وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال ووجه الصواب فيها
وموضعه : أحوال الأشخاص المذكورة من حيث الانتظام ونفعه عظيم لا يخفى على أحد حتى العوام : لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبينهم ويتفرع على اعتدالها كسب السعادة الآجلة والعاجلة
والأخصر : أن يقال : هو علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل
وفائدته : أن يعرف كيفية المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل المنزل
واعلم : أنه ليس المراد بالمنزل في هذا المقام البيت المتخذ من الأحجار والأشجار بل المراد التآلف المخصوص الذي يكون بين الزوج والزوجة والوالد والولد والخادم والمخدوم والمتمول والمال سواء كانوا من أهل المدر أو أهل الوبر
وأما سبب الاحتياج إليه : فكون الإنسان مدنيا بالطبع وكتب علم الأخلاق متكفلة ببيان مسائل هذا الفن وقواعده وأشهر كتب هذا العلم كتاب : ( ( بردوش ) ) وفي هذا العلم كتب كثيرة غير هذا . ( 2 / 146 )

(2/145)


علم ترتيب حروف التهجي

(2/146)


سيأتي بيانه في الخط قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم يبحث فيه عن كيفية ترتيب حروف التهجي في الكتابة هذا التريب المعهود فيما بيننا واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط وإزالة التباسها بالنقط واختلاف تلك النقط بكونها تحتانية في البعض وفوقانية في الآخر ومثناة أو مثلثة كذلك إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن
وموضوع هذا العلم ومباديه وغرضه وغايته ومنفعته ظاهرة ولابن الجني والجزري رسالة في هذا الباب وكذا أورد القلقشندي ما فيه كفاية في كتاب : ( ( صبح الأعشى ) )

(2/146)


علم ترتيب العساكر

(2/146)


هو : علم باحث عن قود الجيوش وترتيبهم ونصب الرؤساء لضبط أحوالهم وتهيئة أرزاقهم وتمييز الشجاع عن الجبان واستمالة قلوبهم بالإحسان إليهم فوق الإحسان إلى الضعفاء من الأقران وتهيئة آلات القتال وألبسة الحروب والسلاح
ومن آداب قود العساكر أن يأمر كلا منهم بالزهد والصلاح ليفوز بالخير والفلاح يأمرهم أن لا يظلموا أحدا ولا ينقضوا عهدا ولا يهملوا ركنا من أركان الشريعة فإن إهمالها إلى استئصال الدولة ذريعة أي ذريعة هذا تلخيص ما ذكره أبو الخير وجعله من فروع الحكمة العملية لكنه على الوجه الذي ذكره مندرج في علم سياسة الملوك بل الأمور المذكورة من مسائل ذلك العلم
فأقول : ينبغي أن يكون موضوع هذا العلم ما ذكره الحكماء في كتب الثعلبي الحربية فهو علم يبحث فيه عن ترتيب الصفوف يوم الزحف وخواص أشكال التعابي وأحوال ترتيب الرجال والغرض منه والغاية لا يخفى على كل أحد . ( 2 / 147 )
وقالوا : إن الرجال كالأشباح والتعابي كالأرواح فإذا حلت الأرواح الأشباح حصلت الحياة
وقد أجرى الله سنته أن كل عسكر مرتب التعابي منصور
وقد صنف فيه بعض الكبار رسائل ظفرت ببعضها - ولله الحمد - وسيأتي في علم التعابي وأنه : هو ترتيب العساكر كما عرفه به ذلك الفاضل وفي : ( ( كتاب الأحكام السلطانية ) ) للماوردي ما يكفي في هذا الباب

(2/146)


علم الترسل

(2/147)


من فروع علم الإنشاء لأن هذا بطريق جزئي وذلك بطريق كلي
وهو : علم تذكر فيه أحوال الكاتب والمكتوب والمكتوب إليه من حيث الآدب والاصطلاحات الخاصة الملائمة لكل طائفة طائعة ومن حيث العبارات التي يجب الاحتراز عنها مثل : الاحتراز عن الدعاء للمخدرات بقولهم : أدام الله - سبحانه وتعالى - حراستها المكان لفظ الحر والأست وعن ذكر لفظ القيام كقولهم : إلى قيام الساعة وأمثال ذلك
وموضوعه وغايته وغرضه ظاهرة للمتأمل
ومباديه : أكثرها بديهية وبعضها أمور استحسانية كذا في ( ( مدينة العلوم ) )
قال : ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( مصطلح الكتاب ) ) و : ( ( بلغة الدواوين ) ) و : ( ( الحساب ) ) . انتهى
وله استمداد من الحكمة العملية وفيه كتب كثيرة مذكورة في علم الإنشاء فلا حاجة إلى التعرض لها

(2/147)


علم تركيب الأشكال

(2/147)


يعني أشكال بسائط الحروف وسيأتي بيانه في علم الخط . ( 2 / 148 )
وهو : علم يبحث فيه عن التراكيب بين أشكال بسائط الحروف مطلقا لا من حيث دلالتها على الألفاظ بل من حيث حسنها في السطور فكما أن للحروف حسنا حال بساطتها فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها من تناسب الشكل والنقط وتناسب خلال الكلمات والسطور
وموضوع هذا العلم وأغراضه وغاياته ظاهرة
ومباديه أمور استحسانية يرجع كلها أو جلها إلى غاية النسبة الطبيعية في الأشكال
وله استمداد من الهندسة وفي هذا الفن رسالة لابن جني ووضع القلقشندي في هذا العلم بابا مستقلا في كتابه : ( ( صبح الأعشى ) )

(2/147)


علم تركيب المداد

(2/148)


هو : علم يبحث فيه عن تركيب أنواع المداد من السواد والحمرة والصفرة وسائر الألوان مثل : الذهب واللازورد والياقوت والزمرد والسواد البراق ويسمونه : المداد الطاؤسي إلى غير ذلك من الألوان العجيبة اللطيفة كذا في ( ( مدينة العلوم ) ) وذكره أبو الخير في الشعبة الخامسة من فروع العلم الطبيعي ولا يخفى أنه من قبيل تكثير السواد وتضييع القرطاس والمداد لأنه أمر صناعي جزئي لا يعد مثله علما وإلا لبلغ العلوم إلى ألوف

(2/148)


علم تسطيح الكرة

(2/148)


هو : علم يتعرف منه كيفية إيجاد الآلات الشعاعية كذا في : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) )
وقال في : ( ( كشف الظنون ) ) : كيفية نقل الكرة إلى السطح مع حفظ الخطوط ( 2 / 149 ) والدوائر المرسومة على الكرة وكيفية نقل تلك الدوائر عن الدائرة إلى الخط وتصور هذا العلم عسير جدا يقرب من خرق العادة لكن عملها باليد كثيرا ما يتولاه الناس ولا عسر فيه مثل عسر التصور . انتهى ما ذكره أبو الخير
وقد جعله من فروع علم الهيئة وهو : من فروع علم الهندسة ودعوى عسر التصور ليست على اطلاقها بل هو بالنسبة إلى من لم يمارس في علم الهندسة . انتهى
ومنفعته : الإرتياض بعلم هذه الآلات وعملها وكيفية انتزاعها من أمور ذهنية مطابقة للأوضاع الخارجية والتوصل بها إلى استخراج المطالب الفلكية
ومن الكتب المصنفة فيه : كتاب : ( ( تسطيح الكرة ) ) لبطليموس و : ( ( الكامل ) ) للفرغاني و : ( ( الاستيعاب ) ) للبيروتي و : ( ( الدستور والرجيح في قواعد التسطيح ) ) لتقي الدين و : ( ( آلات التقويم ) ) للمراكشي - رحمهما الله تعالى

(2/148)


علم تشبيه القرآن واستعاراته

(2/149)


ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير وقال : التشبيه نوع من أشرف أنواع البلاغة . انتهى
فهو إذا من مباحث علم البيان كما لا يخفى

(2/149)


علم التشريح

(2/149)


هو : علم باحث عن كيفية إجراء البدن وترتيبها من العروق والأعصاب والغضاريف والعظام واللحم وغير ذلك من أحوال كل عضو منه
وموضوعه : أعضاء بدن الإنسان والغرض والمنفعة
والفائدة ظاهرة وكتب التشريح أكثر من أن تحصى ولا أنفع من تصنيف ابن سينا والإمام الرازي ورسالة لابن الهمام ومختصر نافع في هذا الباب . انتهى ما ذكره في ( ( مدينة العلوم ) ) . ومثله ذكر أبو الخير وجعله من فروع علم الطبيعي والرسالة ( 2 / 150 ) المذكورة ليست لابن الهمام وإنما هي لابن جماعة وقد قرأها ابن الهمام عليه
وقال ابن صدر الدين : هو علم بتفاصيل أعضاء الحيوان وكيفية نضدها وما أودع فيها من عجائب الفطرة وآثار القدرة ولهذا قيل : من لم يعرف الهيئة والتشريح فهو عنين في معرفة الله تعالى . انتهى
وأكثر كتب الطب متكفلة ببيان هذا العلم سوى ما فيه من التصانيف المستقلة المصورة

(2/149)


علم التصحيف

(2/150)


وهذا من أنواع علم البديع حقيقة لكن بعض الأدباء توغل فيه وأفرده بالتصنيف وجعله من فروعه
وموضوعه : الكلمات المصحفة التي وردت عن البلغاء وبهذا الإعتبار يكون من فروع المحاضرات
وفائدته وغرضه ومنفعته ظاهرة غير خافية على أهل البصائر
قال عبد الرحمن البسطامي : أول من تكلم في التصحيف الإمام علي - كرم الله وجهه - ومن كلامه في ذلك : خراب البصرة بالريح بالراء والحاء المهملتين بينهما آخر الحروف قال الحافظ الذهبي : ما علم تصحيف هذه الكلمة إلا بعد المائتين من الهجرة يعني خراب البصرة بالزنج بالزاي والنون والجيم
وللإمام في هذا العلم صنائع بديعة
ومن أمثلة التصحيف قولهم : متى يعود إشارة إلى رجل اسمه مسعود وقس عليه نظائره
قال الأرنيقي : ومن بدائع التصحيف ما نقشه نجم السائس على خاتم لابن أستاذه واسمه يحيى وكان يهواه وهو هذا نجم غسق بختي يريد نجم عشق يحيى
ومن بديع كلام علي - كرم الله وجهه - كل عنب الكرم يعطيه يعني كل عيب ( 2 / 151 ) الكرم يغطيه
ومن أمثلة التصحيف قولهم في المستنصرية : جنة والمستنصرية : اسم موضع وأراد به المس تضربه حية . انتهى
قلت : وفي كتب أصول الحديث أبحاث مستقلة لذلك مع أمثلة للتصحيف
ومن الكتب المصنفة فيه : كتاب : ( ( التصحيف ) ) للإمام أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري الأديب المتوفى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة الذي جمع فيه فأوعب

(2/150)


علم التصرف بالاسم الأعظم

(2/151)


ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير قال : وهذا العلم قلما وصل إليه أحد من الناس خلا الأنبياء والأولياء ولهذا لم يصنفوا في شأنه تصنيفا يعين هذا الاسم لأن كشفه على آحاد الناس لا يحل أصلا إذ فيه فساد العالم وارتفاع نظام بني آدم . انتهى
ومن التصانيف المفردة فيه : ( ( جواب من استفهم ) )
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : وتفصيل هذا العلم في كتاب : ( ( الدر للنظيم في خواص القرآن العظيم ) ) للإمام اليافعي وغير ذلك من كتب المشائخ . انتهى
قلت : ولكن لا يعتمد عليها لما اختص به الأنبياء - عليهم السلام

(2/151)


علم التصريف

(2/151)


هو علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية لمفردات كلام العرب من حيث صورها وهيئاتها كالإعلال والإدغام أي المفردات الموضوعة بالوضع النوعي ومدلولاتها والهيئات الأصلية العامة للمفردات والهيئات التغيرية كبيان المعتلات قبل الإعلال وبعد الإعلال وكيفية تغيرها عن هيئاتها الأصلية على الوجه ( 2 / 152 ) الكلي بالمقاييس الكلية كصيغ الماضي والمضارع ومعانيهما ومدلولاتهما
وموضوعه : الصيغ المخصوصة من الحيثية المذكورة
وغرضه : تحصيل ملكة يعرف بها ما ذكر من الأحوال
وغايته : الاحتراز عن الخطأ من تلك الجهات
ومباديه : مقدمات مستنبطة من تتبع استعمال العرب
وأول من دون علم التصريف : أبو عثمان المازني وكان قبيل ذلك مندرجا في النحو ذكره أبو الخير
وكتب التصريف كثيرة معظمها ما ذكره كاتب الجلبي في هذا المحل ولا نطول بذكرها وسيأتي ذكر هذا العلم في باب الصاد

(2/151)


علم التصرف بالحروف والأسماء

(2/152)


قال أبو الخير وهذا علم شريف يتوصل بالمداومة عليه على شرائط معينة ورياضة خاصة إلى ما يناسب تلك الحروف أو الأسماء من الخواص قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : هذا علم لا يتوصل إليه إلا برياضة ومجاهدة مراعيا لقواعد الشريعة حتى ينفتح له باب الملكوت فيتصرف في روحانيات تلك الحروف ويتوصل بها إلى مقاصدهم الدنيوية والأخروية . انتهى
وموضوعه وغايته ظاهرة وقيل : تحت هذا العلم مائة وثمانية وأربعون علما وكتب الشيخ أحمد البوني والبسطامي مشهورة في هذا العلم . انتهى
وقد جعله أبو الخير من فروع علم التفسير وسيأتي تفصيله في علم الحروف مع كتبها

(2/152)


علم التصوف

(2/152)


هو : علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية . ( 2 / 153 )
وأما التعبير عن هذه الدرجات والمقامات كما هو حقه فغير ممكن لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات
وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه فليس بممكن أن توضع لها الألفاظ فضلا عن أن يعبر عنها بالألفاظ
فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام والموهومات لا تدرك بالخياليات والتخيلات لا تدرك بالحواس كذلك ما من شأنه أن يعاين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين
فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان دون أن يطلبه بالبيان فإنه طور وراء طور العقل
علم التصوف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف
وليس يعرفه من ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
هذا ما ذكره ابن صدر الدين
وأما أبو الخير فإنه جعل الطرف الثاني من كتابه في العلوم المتعلقة بالتصفية التي هي ثمرة العمل بالعلم
ولهذا العلم أيضا ثمرة تسمى : علوم المكاشفة لا يكشف عنها العبارة غير الإشارة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة ) )
فرتب هذا الطرف في مقدمة ودوحة لها شعب وثمرة وقال : الدوحة في علوم الباطن لها أربع شعب : العبادات والعادات والمهلكات والمنجيات فلخص فيه ( 2 / 154 ) كتاب : ( ( الإحياء ) ) للغزالي ولم يذكر الثمرة فكأنه لم يذكر التصوف المعروف بين أهله

(2/152)


قال القشيري : اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة
ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة : بالتابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب
فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين : الزهاد والعباد
ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله - سبحانه وتعالى - الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف . واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة . انتهى
وأول من سمي بالصوفي : أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمس ومائة
واعلم : أن الإشراقيين من الحكماء الإلهيين كالصوفيين في المشرب والاصطلاح خصوصا المتأخرين منهم إلا ما يخالف مذهبهم مذهب أهل الإسلام ولا يبعد أن يؤخذ هذا الاصطلاح من اصطلاحهم كما لا يخفى على من تتبع كتب حكمة الإشراق وفي هذا الفن كتب غير محصورة ذكرها في : ( ( كشف الظنون ) ) على ترتيبه إجمالا ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني كتاب : ( ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) ) رد فيه على المتصوفة ردا لطيفا وهو سفر نافع جدا
فصل
قال عبد الرحمن بن خلدون : هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة
وأصله : أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية . ( 2 / 155 )
وأصلها : العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم : الصوفية والمتصوفة

(2/154)


وقال القشيري - رحمه الله - : ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس والظاهر إنه لقب ومن قال : اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي قال : وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه قلت : والأظهر إن قيل : بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان : إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضاء والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي يميز بها الإنسان وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء وكذلك المريد في مجاهدته لا بد وأن ينشأ عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة وتلك الحالة : إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن وسرور ونشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات
ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة . ( 2 / 156 )
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ) فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عن الأحوال والصفات نتائج وثمرات ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله
وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه عن أسبابه ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع

(2/155)


إنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والأمثال وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولا فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما ويترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه فلهذا أختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه وصار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص الفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقة وأصوله ( 2 / 157 ) والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في كتاب : ( ( الرسالة ) ) والسهروردي في كتاب : ( ( عوارف المعارف ) ) وأمثالهم وجمع الغزالي - رحمه الله - بين الأمرين في كتاب : ( ( الإحياء ) ) فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم وصار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والإطلاع على علم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم وسبب هذا الكشف : أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس والعلوم اللدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة

(2/156)


وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية وتصير طوع إرادتهم فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم تقع لهم بها عناية وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - كثير منها وتبعهم في ذلك أهل ( 2 / 158 ) الطريقة ممن اشتملت : ( ( رسالة القشيري ) ) على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم
ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها التي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم اكتشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش هكذا قال الغزالي في كتاب : ( ( الإحياء ) ) بعد أن ذكر صورة الرياضة

(2/157)


ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة : لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم تكن هناك استقامة كالسحرة والنصارى وغيرهم من المرتاضين وليس مراده إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة ومثاله أن المرآة الصقلية إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معرجا على غير صورته وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك وأهل القيابين منكر عليهم ومسلم لهم وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق ردا وقبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في : ( ( الديباجة ) ) التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه : أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير ويسمون هذا الصدور بالتجلي وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو ( 2 / 159 ) يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : ( ( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني ) )
وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين
والكمال من أهل الملة المحمدية وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة البهائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب

(2/158)


هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمى هذا المذهب : مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهو كلام يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول : بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بميولها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي : القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من ( 2 / 160 ) جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال

(2/159)


والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان : من أن وجودها مشروطة بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدرك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال
قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركة فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم : الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية

(2/160)


وهذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا . ( 2 / 161 )
والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون : إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة
ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب : ( ( المقامات ) ) له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم
وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلاهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب معناه : رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان
وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب : ( ( الإشارات ) ) في فصول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرحه لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به

(2/160)


ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في : ( ( النقباء ) ) حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي - رضي الله عنه - وهو من هذا المعنى أيضا وإلا فعلي - رضي الله عنه - لم يختص ( 2 / 162 ) من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شجنوا كتبهم به في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم - والله يهدي إلى الحق

(2/161)


ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير وسائر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع : أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره كما قلناه
وثانيها : الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل : الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها وتكونها كما مر
وثالثها : التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات
ورابعها : ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من كثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحيات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول

(2/162)


فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقيق بها هو عين السعادة . ( 2 / 163 )
وأما الكلام في كرامات القوم وأخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو : دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به قالوا : ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور : لأن دلالة المعجرة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور
وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثر من المحسوسات فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة - فأكرم بها سعادة

(2/162)


وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطيحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنهما بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور ( 2 / 164 ) معذور فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وإن العبارة عن المواجد صعبة : لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج : لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله - والله أعلم -
وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا ومن عرض له شيء من ذلك عرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها
وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد - والله الموفق للصواب - . انتهى كلام ابن خلدون - رحمه الله -
وما ذكر من كرامات الأولياء فهو حق يدل عليه القرآن والسنة وما ذكر من التصرفات في العوالم والأخبار عن المغيبات ففيه نظر وتفصيل ذكر في محله فليعلم - والله أعلم

(2/163)


علم التعابي العددية في الحروب

(2/164)


هو : علم يتعرف منه كيفية ترتيب العساكر في الحروب وكيفية تسوية صفوفها أزواجا وأفرادا وتعيين أعداد الصفوف وأعداد الرجال في كل صف ( 2 / 165 ) منها وهيئة الصفوف : إما على التدوير أو التثليث أو التربيع إلى غير ذلك حسبما تقتضيه الأحوال وبينوا أن في رعاية ترتيب المذكور ظفر بالمرام ونصرة على الأعداء ولا يكون مغلوبا أبدا بإذن الله - سبحانه وتعالى - إلا أن العلماء أخفوا هذا العلم وضنوا به عن الأغيار
وللشيخ عبد الرحمن من السادة الحرفية تصنيف في هذا العلم لكن ضن بعض الضن إلا أن من وقف على أسرار الخواص الحرفية والعددية لا تخفى عليه خافية
هذا ما ذكره أبو الخير وجعله من فروع علم العدد وذكر علم ترتيب العسكر من فروع الحكمة العملية كما مر . وفيه من الخلط والتكرار ولو بتغاير الاعتبار ما لا يخفى
وعبارة : ( ( مدينة العلوم ) ) : هكذا قالوا أن للهيئات المخصوصة وخصوصيات الأعداد حسبما يقتضيه الحال تأثيرا عظيما في قهر العدو والغلبة على الخصم وهذا العلم مما اختص به سادات الحرفية وأرباب الكشف والشهود من الصوفية الواقفين على أسرار الآيات القرآنية
ومن يخطب الحسناء من غير أهلها ... بعيد عليه أن يفوز بوصلها

(2/164)


والعلماء أخفوا هذا العلم ولم يبرزوه ولم يظهروه إلا لبعض من الكاملين من أرباب العفة والتقوى لما أن في إظهاره فسادا عظيما كما لا يخفى ومن أراد الوقوف على هذا العلم فعليه خدمة السادات الصوفية حتى يستأهل للمكاشفات القرآنية والأسرار الفرقانية وإلا فهو عن مثل هذا العلم بمعزل ومن الوصول إلى هذا المقصد بألف منزل ولله در الإمام الشافعي حيث قال :
كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف . ( 2 / 166 )
ولعبد الرحمن الأنطاكي رسالة لطيفة في هذا العلم لكن ضن ببيان أسراره كل الضنة . انتهى

(2/165)


علم تعبير الرؤيا

(2/166)


هو : علم يتعرف منه المناسبة بين التبخيلات النفسانية والأمور الغيبية لينتقل من الأولى إلى الثانية وليستدل بذلك على الأحوال النفسانية في الخارج أو على الأحوال الخارجية في الآفاق ومنفعته : البشرى أو الإنذار بما يروه
هذا ما ذكره الأرنيقي وأبو الخير وأورده في فروع العلم الطبيعي وذكر فيه أيضا ماهية الرؤيا وأقسامها وكذا فعل ابن صدر الدين لكني لست في صدد بيان ذلك فهو مبين في كتب هذا الفن
وقال في : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : هو علم يتعرف منه الاستدلال من المتخيلات الجملية على ما شاهدته النفس حالة النوم من عالم الغيب فخيلته القوة المتخيلة مثالا يدل عليه في عالم الشهادة وقد جاء أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة وهذه النسبة تعرفها من مدة الرسالة ومدة الوحي قبلها مناما وربما طابقت الرؤيا مدلولها دون تأويل وربما اتصل الخيال بالحس كالاحتلام ويختلف مأخذ التأويل بحسب الأشخاص وأحوالهم ومنفعته البشرى بما يرد على الإنسان من خير . والإنذار بما يتوقعه من شر والاطلاع على الحوادث في العالم قبل وقوعها . انتهى
وأما الكتب المصنفة في التعبير فكثيرة جدا منها : ( ( الآثار الرابعة في أسرار الواقعة ) ) و : ( ( أرجوزة العبير ) ) و : ( ( أصول دانيال ) ) و تعبير ابن المقري و أبي سهل المسيحي وأرسطو وأفلاطون وإقليدس وبطليموس والجاحظ وجالينوس و : ( ( التعبير المنيف والتأويل الشريف ) ) ( 2 / 167 ) لمحمد بن قطب الدين الرومي الأرنيقي المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة ذكر فيه أقوال المعبرين ثم عبر على اصطلاح أهل السلوك و : ( ( تعبير نامج ) ) لأبي طاهر إبراهيم بن يحيى الحنبلي المعبر المتوفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة وأيضا ليحيى الفتاحي النيسابوري الشاعر فارسي منظوم و : ( ( حواب وخيال ) ) للشيخ بير محمد اللكهنوي فارسي مختصر منثور
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : والذي تمهر في علم التعبير من السلف هو محمد بن سيرين ومن عجائب تعبيراته أنه رأى رجل يختم على أفواه الرجال والنساء وفروج هؤلاء فعبرها ابن سيرين : بأنك مؤذن أذنت في رمضان قبل طلوع الفجر وكان كذلك
ويحكى أن رجلا سأله أنه رأى أنه يدخل الزيت في الزيتون فقال ابن سيرين : إن صدقت فالتي تحتك أمك فاضطرب الرجل فتفحص عنها فكانت أمه لأنها سبيت بعد أبيه فاشتراها ابنها . انتهى
قال ابن خلدون - رحمه الله - : هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها

(2/166)


وأما الرؤيا والتعبير لها : فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف وربما كان في الملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها فلقد كان يوسف الصديق - عليه السلام - يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن المجيد وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والرؤيا مدرك من مدارك الغيب . ( 2 / 168 )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ) وقال : ( ( لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) ) وأول ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه : ( ( هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ) ) يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه
وأما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو : أن الروح القلبي وهو : البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس وتصرف القوى الظاهرة وغشى سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها وذلك هو معنى النوم

(2/167)


ثم إن هذا الروح القلبي هو ( 2 / 167 ) : مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك الجميع في ما عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو : عين الإدراك فيعقل كل مدرك فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع إلى بدنه إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية
والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال وكذلك تجرد النفس منها صورا أخرى ( 2 / 169 ) نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما ولذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي والخيال أيضا واسطة هذه حقيقة الرؤيا
ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم
لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهو : رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي : أضغاث أحلام

(2/168)


وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا : هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه به السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك ومن الرؤيا ما يكون صحيحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه
ولهذا وقع في الصحيح : ( ( الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان ) ) فالرؤيا التي من الله هي الصريحة : التي لا تفتقر إلى تأويل والتي من الملك : هي الرؤيا الصادقة : التي تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيطان : هي الأضغاث
واعلم أيضا أن الخيال إذا ألقى أليه الروح مدركة فإنما يصوره في القوالب ( 2 / 170 ) المعتادة للحس ما لم يكن الحس أدركه قط فلا يصور فيه فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات وليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير وفسد قانونه

(2/169)


ثم إن علم التعبير : علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله كما يقولون : البحر يدل على السلطان وفي موضع آخر يقولون : البحر يدل على الغيظ وفي موضع آخر يقولون : البحر يدل على الهم والأمر الفادح
ومثل ما يقولون : الحية تدل على العدو وفي موضع آخر يقولون : هي كاتم سر وفي موضع آخر يقولون : تدل على الحياة وأمثال ذلك فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليف بالرؤيا
وتلك القرائن منها : في اليقظة ومنها : في النوم ومنها : ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه - وكل ميسر لما خلق -
ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها الناس لهذا العهد وألف الكرماني فيه من بعده ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل : ( ( الممتع ) ) وغيره وكتاب : ( ( الإشارة ) ) للسالمي وهو : علم مضيء بنور النبوة للمناسبة بينهما كما وقع في الصحيح - والله علام الغيوب - . انتهى

(2/170)


علم التعديل

(2/170)


هو : علم يتعرف منه كيفية تفاوت الليل والنهار وتداخل الساعات فيهما عند ( 2 / 171 ) تفاوتها في الصيف والشتاء ونفع هذا العلم عظيم . انتهى كلام أبي الخير
وقد أورده من فروع علم الهندسة ولعل ما ذكره هو : التعديلات المستعملة في الدستور الموضوع لاستخراج التقويم من الزيج وفيه جدول تعديل الأيام وفي الزيج جداول لهذا العلم ولا يخفى على الأهل أنه إن كان مراده هذا المعنى فهو : من مسائل علم الزيج والتقويم لكن يأباه تعريفه بكيفية تفاوت الليل والنهار فإن ذلك العمل لتعديل حركات الكواكب
وأما التعديل بالمعنى الذي ذكره فلم ير في كتب الهندسة ولم يسمع مثله مسئلة فضلا عن كونه علما ولو قال : هو مسئلة من مسائل علم التقويم يعرف بالحساب الإسطرلاب لكان له وجه وجيه

(2/170)


علم تعلق القلب

(2/171)


هذا علم ربما يظهره بعض المتبتلين لمن في عقله خفة حتى يظنون أنه يعرف الاسم الأعظم أو أن الجن تطيعه وربما أداه انفعاله إلى مرض ونحوه أو مطاوعة ذلك المتبتل فيما قصده كذا في : ( ( مدينة العلوم ) )
وأورده من جملة العلوم المتفرعة على السحر وهذا كما ترى شعبة من علم أهل الحيل ولا وجه لإفراده

(2/171)


علم تعمير المساكن

(2/171)


ويسمى بعلم عقود الأبنية كما سيأتي في باب العين والمساكن : حماية للناس عن تأثيرات الجو وهي أقوى الوسائط في تغيير عوارض الأهوية
والكلام عليها منحصر في طرفين :
الأول : في اختيار الأماكن . ( 2 / 172 )
الثاني : في اختيار مؤن العمارة وطرق عمارة المساكن بها وما يتعلق بذلك من الاحتراسات
والأول : له مراتب : وهي درجة ارتفاع الأماكن وهي تختلف باختلاف الأشخاص وعيوب البقعة وجيرة الغابات والبحور والأنهار والبلاد
والثاني : له مراتب أيضا وهي علو البيوت وسفلها وفتحاتها وقياس البيوت واحتراسات تخص حفظ الصحة في البيوت
والمساكن أنواع
منها : الحمام والكلام على الاستحمام البارد والحار وعلى الأشياء التابعة له يطول
ومنها : المحال التي ترتب فيها العمارات
ومنها : المراحيض
ومنها : مقابر الموتى
ومنها : الأماكن العمومية وهي العمارات الحاوية لأناس كثيرين مثل : المارستان والسجون والمعابد والمدارس والربط ودواوين الحكم ومجمع الناس وبيوت العساكر وكتاب : ( ( قانون الصحة المسمى بالمنحة في سياسة الصحة ) ) للحكيم الماهر محمد الهراوي تكفل لبيان الكلام على تلك الأماكن وهذه المساكن على أحسن أسلوب وأبدع وضع وفيه ما يكفي لإدراك حقائق صحة الهواء والمسكن والملبس والسفن وغير ذلك

(2/171)


علم التفسير أي تفسير القرآن

(2/172)


هو : علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية
ومباديه : العلوم العربية وأصول الكلام وأصول الفقه والجدل وغير ذلك من العلوم الجمة . ( 2 / 173 )
والغرض منه : معرفة معاني النظم بقدر الطاقة البشرية
وفائدته : حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة والاتعاظ بما فيه من القصص والعبر والاتصاف بما تضمنه من مكارم الأخلاق إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن تعدادها لأنه بحر لا تنقضي عجائبه - وسبحانه من أنزله وأرشد به عباده -
وموضوعه : كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو : منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة
وغايته : التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفاز به إلى السعادة الدنيوية والأخروية وشرف العلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها هذا ما ذكره أبو الخير وابن صدر الدين والأرنيقي
قال في : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : علم التفسير : علم يعرف به نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وامتثالها وغيرها
قال أبوحيان : التفسير : علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي يحمل عليه حالة التركيب وتتمات ذلك
وقال الزركشي : التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات

(2/172)


وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم : اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتابه على ( 2 / 174 ) لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة وهي : أن كل من وضع من البشر كتاب فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :
أحدها : كمال فضيلة المصنف فإنه بقوته العلمية بجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز فربما عسر فهم مراده فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة من ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له
وثانيها : إغفاله بعض متممات المسئلة أو شروطها اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المتروك ومراتبه
وثالثها : احتمال اللفظ لمعان مختلفة كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط أو تكرار الشيء أو حذف المهم أو غير ذلك فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك وإذا تقرر هذا فنقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب وكانوا يعلمون ظاهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر كسؤالهم لما نزل : ( ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) ) فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك واستدل عليه أن الشرك لظلم عظيم وغير ذلك مما سألوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه مع أحكام الظاهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير

(2/173)


وأما شرفه : فلا يخفى قال الله تعالى : ( ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) )
وقال الأصبهاني : شرفه من وجوه : ( 2 / 175 )
أحدها : من جهة الموضوع : فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة
وثانيها : من جهة الغرض : فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى
وثالثها : من جهة شدة الحاجة : فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى
واختلف الناس في تفسير القرآن : هل يجوز لكل أحد الخوض فيه ؟ فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وأن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك
ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما : اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع وعلم القراءات : لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض وأصول الدين : أي الكلام وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه والناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بحديث : ( ( من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم ) )
قال البغوي والكواشي وغيرهما : التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتملها الآية غير مخالف للكتاب والسنة غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى : ( ( انفروا خفافا وثقالا ) ) قيل : شبابا وشيوخا
وقيل : أغنياء وفقراء
وقيل : نشاطا أو غير نشاط ( 2 / 176 )
وقيل : أصحاء ومرضى وكل ذلك سائغ والآية تحتمله

(2/174)


وأما التأويل المخالف للآية والشرخ فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى : ( ( مرج البحرين يلتقيان ) ) أنهما علي وفاطمة ( ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ) يعني الحسن والحسين . انتهى
وذكر العلامة الفناري في : ( ( تفسير الفاتحة ) ) فصلا مفيدا في تعريف هذا العلم ولا بأس بإيراده اذ هو مشتمل على لطائف التعريف
قال قطب الدين الرازي في شرحه ل : ( ( الكشاف ) ) : هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المجيد ويرد عليه أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ : كمباحث القراءات وناسخية الألفاظ ومنسوخيتها وأسباب نزولها وترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها أحد
وأيضا يدخل فيه البحث في الفقه الأكبر والأصغر عما يثبت بالكتاب فإنه بحث عن مراد الله تعالى من قرآنه فلا يمنعه أحد فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك إلى قوله : هو العلم الباحث عن أحوال الألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث الدلالة على مراد الله وترد على مختاره أيضا وجوه :
الأول : أن البحث المتعلق بألفاظ القرآن ربما لا يكون بحيث يؤثر في المعنى المراد بالدلالة والبيان : كمباحث علم القراءة عن أمثال التفخيم والإمالة إلى ما لا يحصى فإن علم القراءة جزء من علم التفسير أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب والفرائض من الفقه
وقد خرج بقيد الحيثية ولم يجمعه فإن قيل : أراد تعريفه بعد إفراز علم القراءة

(2/176)


قلنا : فلا يناسب الشرح المشروح للبحث في التفسير عما لا يتغير به المعنى في مواضع لا تحصى
الثاني : أن المراد بالمراد إن كان المراد بمطلق الكلام فقد دخل العلوم الأدبية ( 2 / 177 ) وإن كان مراد الله تعالى بكلامه
فإن أريد مراده في نفس الأمر فلا يفيده بحث التفسير لأن : طريقه غالبا : إما رواية الآحاد أو الدراية بطريق العربية وكلاهما ظني كما عرف ولأن فهم كل أحد بقدر استعداده ولذلك أوصى المشائخ - رحمهم الله - في الإيمان أن يقال : آمنت بالله وبما جاء من عنده على مراده وآمنت برسول الله وبما قاله على مراده ولا يعين بما ذكره أهل التفسير ويكرر ذلك على الهدي في تأويلاته
وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المفسر ففيه خرازة من وجهين :
الأول : كون علم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر بل إلى كل أحد شيئا آخر وهذا مثل ما اعترض على حد الفقه لصاحب : ( ( التنقيح ) ) وظن وروده وإلا فإني أجيب عنه بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية بل في جزئياتها المختلفة باختلاف القوابل
وأيضا ذكر الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير : ( ( مالك يوم الدين ) ) : أن جميع المعاني المفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين مراد الله - سبحانه وتعالى - لكن بحسب المراتب والقوابل لا في حق كل أحد
الثاني : أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ إلى ما في نفس الأمر على ما عرف فلا بد لصرفها عنه من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى -
الثالث : أن عبارة العلم الباحث في المتعارف ينصرف إلى الأصول والقواعد أو ملكتها وليس لعلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلا في مواضع نادرة فلا يتناول غير تلك المواضع إلا بالعناية فالأولى : أن يقال علم التفسير معرفة أحوال كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث القرآنية ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى - بقدر الطاقة الإنسانية فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها . انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص . ( 2 / 178 )
ثم أورد فصولا في تقسيم هذا الحد إلى تفسير وتأويل وبيان الحاجة إليه وجواز الخوض فيهما ومعرفة وجوههما المسماة بطونا أو ظهرا أو بطنا فمن أراد الإطلاع على حقائق علم التفسير فعليه بمطالعته ولا ينبؤه مثل خبير
ثم إن أبا الخير أطال في ذكر : ( ( طبقات المفسرين ) ) ونحن أشرنا إلى من ليس لهم تصنيف فيه من مفسري الصحابة والتابعين إشارة جمالية والباقي مذكور عند ذكر كتابه

(2/176)


أما المفسرون من الصحابة فمنهم : الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -
ثم اعلم أن الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب والرواية عن الثلاثة في ندرة جدا والسبب فيه تقدم وفاتهم وأما علي رضي الله عنه فروي عنه الكثير وروي عن ابن مسعود أنه قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن عليا - رضي الله عنه - عنده من الظاهر والباطن
وأما ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روي عن علي مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين
وأما ابن عباس المتوفى سنة ثمان وستين بالطائف فهو : ترجمان القرآن وحبر الأمة ورئيس المفسرين دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) )
وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه
ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب . ( 2 / 179 )
وطريق ابن إسحاق صاحب : ( ( السير ) )

(2/178)


وأوهى طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح والكلبي : هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير المتوفى سنة ست وثمانين ومائة فهي سلسلة الكذب وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من المذاهب الردية وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي المتوفى سنة اثنتين مائة عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفا لأن جريرا شديد الضعف متروك وإنما أخرج عنه ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان دون ابن جرير
وأما أبي ابن كعب المتوفى سنة عشرين على خلاف فيه فعن نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح وهو أحد الأربعة الذي جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أقرأ الصحابة وسيد القراء
ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك بن النضر المتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على خلاف المتوفى بالمدينة سنة سبع وخمسين
وعبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى بمكة المكرمة سنة ثلاث وسبعين
وجابر بن عبد الله الأنصاري المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين
وأبو موسى عبد الرحمن بن قيس الأشرعي المتوفى سنة أربع وأربعين
وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المتوفى سنة ثلاث وستين وهو أحد ( 2 / 180 ) العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم في آخر عهد الصحابة
وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوفى سنة خمس وأربعين

(2/179)


وأما المفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم : علماء مكة المكرمة - شرفها الله تعالى -
ومنهم : مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ثلاث ومائة قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري
وسعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين
وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة
وطاووس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ست ومائة
وعطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة أربع عشرة ومائة
ومنهم أصحاب ابن مسعود وهم علماء الكوفة :
كعلقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة
والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس وسبعين
وإبراهيم النخعي المتوفى سنة خمس وتسعين
والشعبي المتوفى سنة خمس ومائة
ومنهم : أصحاب زيد بن أسلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس
ومنهم : الحسن البصري المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبع عشرة ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة عشرة ومائة والربيع بن أنس والسدي
ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن ( 2 / 181 ) هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة وعبد لله بن حميد و أبي بكر بن أبي شيبة وآخرين
ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم : عبد الرزاق علي بن أبي طلحة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان وابن المنذر في آخرين
ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل : أبي أسحق الزجاج و أبي علي الفارسي
وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ومثل مكي بن أبي طالب و أبي العباس المهدوي
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من سنح له قول يورده ومن خطر بباله شيء يعتمده ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم القدوة في هذا الباب

(2/180)


ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه وكان القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير مع أن فيه تبيان كل شيء
فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته ك : ( ( الزجاج ) ) و : ( ( الواحدي ) ) في البسيط و أبي حيان في : ( ( البحر ) ) و : ( ( النهر ) )
والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة ومنهم الثعلبي
والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع ( 2 / 182 ) الفقهية التي لا تعلو لها بالآية أصلا والجواب عن الأدلة للمخالفين كالقرطبي
وصاحب العلوم العقلية خصوصا الإمام فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب قال أبو حيان في : ( ( البحر ) ) : جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ولذلك قال بعض العلماء فيه : كل شيء إلا التفسير وللمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه كما نقل عن البلقيني أنه قال : استخرجت من : ( ( الكشاف ) ) اعتزالا بالمناقيش منها أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى - : ( ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) ) أي فوز أعظم من دخول الجنة أشار به إلى عدم الرؤية والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله تعالى وافترائه على الله تعالى ما لم يقله كقول بعضهم : ( ( إن هي إلا فتنتك ) ) وما علي العباد أضر من ربهم وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب أبي طالب المكي

(2/181)


ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه : ( ( العجائب والغرائب ) ) ضمنه أقوالا هي : عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير من ذلك قول من قال في : ( ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) ) إنه الحب والعشق ومن ذلك قولهم في : ( ( ومن شر غاسق إذا وقب ) ) إنه الذكر إذا قام وقولهم : ( ( من ذا الذي يشفع عنده ) ) معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفاء جواب من وع أمر من الوعي
وسئل البلقيني عمن فسر بهذا ؟ فأفتى بأنه ملحد . ( 2 / 183 )
وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير
قال ابن الصلاح في فتاواه : وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال : صنف السلمي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر
قال النسفي في : ( ( عقائده ) ) : النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحادا
وقال التفتازاني في : ( ( شرحه ) ) : سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعلمها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية
وقال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان
وقال تاج الدين عطاء الله في : ( ( لطائف المنن ) ) : اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله تعالى قلبه

(2/182)


وقد جاء في الحديث : ( ( لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل : هذا إحالة كلام الله - تعالى - وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قال : لا معنى للآية إلا هذا وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها . انتهى
قال في : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : أما الظهر والبطن ففي معناهما أوجه ثم ذكرها قال : قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المعاني من القرآن مجالا متسعا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي ( 2 / 184 ) الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع اللغط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لا بد منه أولا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر وإن شئت الزيادة فارجع إلى : ( ( الإتقان ) ) . انتهى
قال صاحب ( ( مفتاح السعادة ) ) : الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام - وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى - وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية الموافقة للقواعد الشرعية والأحاديث النبوية مراد الله - سبحانه وتعالى

(2/183)


ومن جملة ما علم من الشرائع أن مراد الله - سبحانه - من القرآن لا ينحصر في هذا القدر لما قد ثبت في الأحاديث أن لكل آية ظهرا وبطنا وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطي فهما وعلما من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية وأن لا يخالف القواعد الشرعية ولا يباين إعجاز القرآن ولا يناقض النصوص الواقعة فيها فإن وجد فيه هذه الشرائط فلا يطعن فيه وألا فهو بمعزل عن القبول
قال الزمخشري : من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمشاهدات الكشفية فهم القدوة في هذه المسالك ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك ثم ذكر ما وجب على المفسر من آداب
وقال : ثم اعلم أن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المفسر أيضا شرائط لا يحل التعاطي لمن عري عنها وهو فيها راجل وهي : أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الإتقان والكمال : اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق ( 2 / 185 ) والمعنى والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو : علم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمن عمل بما علم وهذه العلوم التي لا مندوحة للمفسر عنها وإلا فعلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم

(2/184)


ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام :
الأول : علم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه
والثاني : ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمن أذن له قيل : وأوائل السور من هذا القسم وقيل : من الأول والثالث علوم علمها الله تعالى نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا ينقسم إلى قسمين :
منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع : كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقرآن واللغات وقصص الأمم وأخبار ما هو كائن
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ وهو قسمان :
قسم اختلفوا في جوازه وهو : تأويل الآيات المتشابهات
وقسم اتفقوا عليه وهو : استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية : لأن مبناها على الأقيسة وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك وما عدا هذه الأمور هو التفسير بالرأي الذي نهى عنه وفيه خمسة أنواع :
الأول : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها
التفسير الثاني : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه ألا الله - سبحانه وتعالى - . ( 2 / 186 )
الثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا
والرابع : التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع من غير دليل
الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى
وإذا عرفت هذه الفوائد وإن أطنبنا فيها لكونه رأس العلوم ورئيسها فاعلم أن كتب التفاسير كثيرة ذكرنا منها في كتابنا : ( ( الإكسير في أصول التفسير ) ) ما هو مسطور في : ( ( كشف الظنون ) وزدنا عليه أشياء على ترتيب حروف الهجاء
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : والكتب المصنفة في التفسير ثلاثة أنواع : وجيز ووسيط وبسيط
ومن الكتب الوجيزة فيه : ( ( زاد المسيرة ) ) لابن الجوزي و : ( ( الوجيز ) ) للواحدي و : ( ( تفسير الواضح ) ) للرازي و : ( ( تفسير الجلالين ) ) إذ عمل نصفه الآخر جلال الدين المحلى وكمله جلال الدين السيوطي والشهير لأبي حيان
ومن الكتب المتوسطة : ( ( الوسيط ) ) للواحدي و : ( ( تفسير الماتريدي ) ) و : ( ( تفسير التيسير ) ) لنجم الدين النسفي و : ( ( تفسير الكشاف ) ) للزمخشري و : ( ( تفسير الطيبي ) ) و : ( ( تفسير البغوي ) ) و : ( ( تفسير الكواشي ) ) و : ( ( تفسير البيضاوي ) ) و : ( ( تفسير القرطبي ) ) و : ( ( تفسير سراج الدين الهندي ) ) و : ( ( تفسير مدارك التنزيل ) ) لأبي البركات النسفي
ومن الكتب المبسوطة : ( ( البسيط ) ) للواحدي و : ( ( تفسير الراغب ) ) للأصفهاني وتفسير أبي حيان المسمى ب : ( ( البحر ) ) و : ( ( التفسير الكبير ) ) للرازي و : ( ( تفسير العلامي ) ) ورأيته في أربعين مجلدا و : ( ( تفسير ابن عطية الدمشقي ) ) و : ( ( تفسير الخرقي ) ) نسبة إلى بائع الخرق والثياب و : ( ( تفسير الحوفي ) ) و : ( ( تفسير القشيري ) ) و : ( ( تفسير ابن عقيل ) ) وتفسير السيوطي المسمى ب : ( ( الدر المنثور في التفسير المأثور ) ) و : ( ( تفسير الطبري ) ) ومن التفاسير : ( ( إعراب القرآن ) ) للسفاقسي . انتهى . ( 2 / 187 )

(2/185)


قلت : ومن الحسن التفاسير المؤلفة في هذا الزمان الأخير تفسير شيخنا الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة بصنعاء اليمن محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية المسمى ب : ( ( فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ) ) ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى ب : ( ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) ) وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من علماء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمغرب وغير هؤلاء - ولله الحمد كل الحمد على ذلك -
فصل
قال ابن خلدون في : ( ( بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات ) ) :
أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها : ما هو في العقائد الإيمانية ومنها : ما هو في أحكام الجوارح ومنها : ما يتقدم ومنها : ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالى : ( ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ) : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار . ( 2 / 188 )

(2/187)


ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين : تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي : معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود والسبب في ذلك : أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل : أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل : كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمة أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ لما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيض ( 2 / 189 )
وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى
وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق

(2/188)


والصنف الآخر من التفسير وهو : ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة نعم قد يكون في بعض التفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب : ( ( الكشاف ) ) للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في أي في القرآن من طرق البلاغة فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السنية محسنا للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة - وفوق كل ذي علم عليم - . انتهى كلامه
فصل
قال الله تعالى : ( ( وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ) وقال تعالى : ( ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( 2 / 190 )
( ( ستكون فتن قيل : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله : فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ) ) أخرجه الترمذي وغيره
وقال أبو مسعود : ( ( من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين ) ) أخرجه سعيد بن منصور في سننه قال البيهقي : أراد به أصول العلم
وقال بعض السلف : ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى
وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : أنزل في هذا القرآن كل علم وميز لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة ) ) أخرجه أبو الشيخ في كتاب : ( ( العظمة ) )
وقال الشافعي : جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ما فهمه من القرآن قلت : ويؤيد قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ) ) رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة - رضي الله عنها -
وقال الشافعي أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها لا يقال : إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع من القرآن وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه ولهذا نهى عن التقليد وجميع السنة شرح للقرآن وتفسير للفرقان
قال الشافعي مرة بمكة المكرمة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله
فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور
فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : ( ( ما أتاكم الرسول فخذوه وما ( 2 / 191 ) نهاكم عنه فانتهوا ) ) ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده أنه قال : ( ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ) ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات وغيرهن واستدلاله بالآية الكريمة المذكورة وهي معروفة رواها البخاري

(2/189)


ونحوه حكاية المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بالقرآن وهي :
أنها قال عبد الله بن المبارك : خرجت قاصدا بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فبينما أنا سائر في الطريق وإذا بسواد فمررت به وإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت : ( ( سلام قولا من رب رحيم ) ) فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المكان ؟
فقالت : ( ( من يضلل الله فلا هادي له ) ) فقلت أنها ضالة عن الطريق فقلت : أين تريدين :
فقالت : ( ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) ) فعلمت أنها قضت حجها وتريد بيت المقدس فقلت : أنت مذ كم في هذا المكان ؟
فقالت : ( ( ثلاث ليال سويا ) ) فقلت أما أرفعك طعاما
فقالت : ( ( وأتموا الصيام إلى الليل ) ) فقلت لها ليس هذا شهر رمضان
فقالت : ( ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) ) فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر
فقالت : ( ( وأن تصوموا خير لكم ) ) فقلت لها لم لا تكلميني مثل ما أكلمك به فقالت : ( ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ) فقلت لها : من أي الناس أنت ؟
فقالت : ( ( ولاتقفو ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) ) فقلت لها : قد أخطأت فاجعلني في حل . ( 2 / 192 ) فقالت : ( ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) ) قلت لها : هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة
قالت : ( ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ) فأنخت مطيتي لها

(2/191)


فقالت : ( ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) ) فغضضت بصري عنها فقلت : اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها ومزقت ثيابها
فقال : ( ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ) فقلت لها : اصبري حتى أعقلها
فقالت : ( ( ففهمناها سليمان ) ) فشددت لها الناقة وقلت لها : اركبي فلما ركبت
قالت : ( ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ) فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح طربا
فقالت لي : ( ( واقصد في مشيتك وغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) ) فجعلت أمشي وأترنم بالشعر
فقالت : ( ( واقرأوا ما تيسر من القرآن ) ) فقلت : ليس هو بحرام
قالت : ( ( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) ) فطرقت عنها ساعة فقلت لها : هل لك ربع ؟
قالت : ( ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ) فسكت عنها ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة فقلت : لها هذه القافلة فمن لك فيها ؟
فقالت : ( ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) ) فعلمت أن لها أولادا ومالا فقلت لها : ما شأنهم في الحاج ؟
قالت : ( ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) ) فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بي القبابات والعمارات فقلت : من لك فيها ؟
فقالت : ( ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) ) ( ( وكلم الله موسى تكليما ) ) ( 2 / 193 ) ( ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) ) فناديت : يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فجاءوني بالتلبية فإذا هم شبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت لهم : ( ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ) ) فقام أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي وقالت : ( ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) ) فقلت لهم : طعامكم هذا علي حرام حتى تخبروني بامرأتكم هذه فقالوا : هذه لها أربعون سنة ما تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء - . انتهت الحكاية وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء

(2/192)


قال بعض السلف : ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين سنة من قوله تعالى في سورة المنافقين : ( ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) ) فإنها رأس ثلاث وستين وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده
قال المرسي : جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتقال أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علمه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتزم قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعدد كلماته وآياته وسوره وأجزائه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته ( 2 / 194 ) والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهات والآيات المتماثلات من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا : القراء
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة
واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى : ( ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العلم ب : أصول الدين

(2/193)


وتأملت طائفة منهم معاني خطابه وإن منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغات من الحقيقة والمجاز وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن : أصول الفقه
وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فابتنوا أصوله وفروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه ب : علم الفروع وب : الفقه أيضا
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية ونقلوا ( 2 / 195 ) أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا أول الأشياء حتى سموا ذلك بالتاريخ والقصص
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي ترقق قلوب الرجال وتكاد تدكدك شوامخ الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولا من المواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك : الخطباء والوعاظ

(2/194)


واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه : تعبير الرؤيا
واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال
ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطبتهم وعرف عادمهم الذي أشار إليه القرآن بقوله : ( ( وأمر بالعرف ) )
وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك : علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول واستخرجوا منها أحكام الوصايا
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج غير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جلالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ( 2 / 196 ) ذلك فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها من الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك

(2/195)


هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه وقد احتوى على علوم أخر مثل : الطب والجلد والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك
أما الطب : فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وغير ذلك وإنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله : ( ( وكان بين ذلك قواما ) ) وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاطه وحدوث الشفاء للبدن بعد إعلاله في قوله : ( ( شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) ) ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب : ( ( وشفاء لما في الصدور ) )
وأما الهيئة : ففي تضاعيف سور من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات
وأما الهندسة : ففي قوله تعالى : ( ( انطقوا إلى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ) ) فإن فيه القاعدة الهندسية وهي : أن الشكل المثلث لا ظل له
وأما الجدل : فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم
وأما الجبر والمقابلة : فقد قيل : أن أوائل السور فيها ذكر مدد أعوام وأيام وتواريخ أمم سابقة وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ هذه الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض
وأما النجامة : ففي قوله : ( ( أو أثارة من علم ) ) فقد فسره ابن عباس بذلك وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها فمن الصنائع : الخياطة في قوله : ( ( وطفقا يخصفان ) ) ( 2 / 197 ) والحدادة في قوله : ( ( آتوني زبر الحديد ) ) وقوله : ( ( وألنا له الحديد ) )
والبناء في آيات
والنجارة : ( ( أن اصنع الفلك ) ) 0
والغزل : ( ( نقضت غزلها ) )
والنسج : ( ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) )
والفلاحة : ( ( أفرأيتم ما تحرثون ) ) وفي آيات أخر
والضية في آيات
والغوص : ( ( كل بناء وغواص ) ) ( ( وتخرجون منه حلية ) )
والصياغة : ( ( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا ) )
والزجاجة : ( ( صرح ممرد من قوارير ) ) و : ( ( المصباح في زجاجة ) )
والفخارة : ( ( فأوقد لي يا هامان على الطين ) )
والملاحة : ( ( أما السفينة ) ) الآية
والكتابة : ( ( علم بالقلم ) ) وفي آيات أخر
والخبز والعجن : ( ( احمل فوق رأسي خبزا ) )
والطبخ : ( ( فجاء بعجل حنيذ ) )
والغسل والقصارة : ( ( وثيابك فطهر ) ) وقال الحواريون وهم القصارون
والجزارة : ( ( إلا ما ذكيتم ) )
والبيع والشراء في آيات كثيرة
والصبغ صبغة الله : ( ( ومن أحسن من الله صبغة ) ) و : ( ( بيض ) ) و : ( ( حمر ) )
والحجارة : ( ( تنحتون الجبال بيوتا
والكيالة والوزن في آيات كثيرة
والرمي : ( ( وما رميت إذ رميت ) ) ( ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) )

(2/196)


وفيه من أسماء الآلات وضرب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله : ( ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ) . انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات . ( 2 / 198 )
قال السيوطي في : ( ( الإكليل ) ) : وأنا أقول : قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء
أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه علم عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السابقة : كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة
وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وغرق قوم نوح
وقصة عاد الأولى والثانية وقوم تبع ويونس وأصحاب الرس وثمود والناقة وقوم لوط وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين
وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتله القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصاعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته في قتل الجبارين وقصته مع الخضر والقوم ساروا في سرب من الأرض إلى الصين
وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذي خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرة نمرود وقصة وضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وأحسنها قصصا
وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أيوب وذي الكفل وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبناء السد وقصة أهل الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء . انتهى
وبقيت قصص لم يشر إليها السيوطي منها : قصة قتل قابيل أخاه هابيل وقصة دفن هابيل بدلالة الغراب وقصة وصية يعقوب بنيه إلى غير ذلك قال : وفيه ( 2 / 199 ) من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم وبشارة عيسى وبعثه وهجرته

(2/197)


ومن غزواته : غزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والنضير في الحشر والحديبية في الفتح وتبوك في براءة وحجة الوداع في المائدة
ونكاحة زينب بنت جحش وتحريم سرية وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعد عودها إلى السماء وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى العشرة وهي : نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة والخسف وأحوال البعث : من نفخ الصور للفزع وللصعق وللقيام والحشر والنشر وأهوال الموقف وشدة الشمس وظل العرش والصراط والميزان والحوض والحساب لقوم ونجاه آخرين
ومنه : شهادة الأعضاء وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة أي بالإذن والجنة وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤية الله تعالى
والنار وما فيها من الأودية وأنواع العقاب وأصناف العذاب والزقوم ( 2 / 200 ) والحميم إلى غير ذلك مما لو بسط لجاء في مجلدات
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في الحديث وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم
وفيه : من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أي سبعون اسما ذكرها السيوطي في آخر : ( ( الإكليل ) )
وفيه : شعب الإيمان البضع والسبعون

(2/199)


وفيه : شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه : أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال الحسن البصري : أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها : التوارة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ثم أودع علوم الفرقان المفصل ثم أودع علوم الفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة . أخرجه البيهقي
قلت : ولذلك كانت قراءتها في كل ركعة من الصلاة وإن كان مأموما واجبة عند أهل المعرفة بالحق وكانت السبع المثاني والقرآن العظيم وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها ما خلا ما صرح بوضعها أهل النقد من علم الحديث وقد فسرها جماعة من أهل العلم مفردة بالتأليف وأبسطوا القول فيها وأجملوا واستنبط الفخر الرازي الإمام منها عشرة آلاف مسئلة كما صرح بذلك في أول : ( ( تفسيره الكبير ) ) وكل ذلك يدل على عظم مرتبة الكتاب العزيز ورفعة شأن الفرقان الكريم قال الشافعي - رحمه الله - : جميع ما تقول الأئمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن
قلت : ولذا كان الحديث والقرآن أصلي الشرع لا ثالث لهما وقول الأصوليين أن أدلة الشرع وأصوله أربعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس تسامح ظاهر كيف وهما كفيلان لحكم كل ما حدث في العالم ويحدث فيه إلى يوم ( 2 / 201 ) القيامة دلت على ذلك آيات من الكتاب العزيز وآثار من السنة المطهرة وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر وهم الذين قال فيهم رسول - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ) الحديث قال بعض السلف : ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا وهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد فهم من فهم وعمي منه من عمي وكذا كل ما حكم أو قضى به . انتهى
فإذا كانت السنة شرحا للكتاب فماذا يقال من فضل الكتاب نفسه وكفى له شرفا أنه كلام ربنا الخلاق الرزاق المنعم بلا استحقاق أنزله حكما عدلا جامعا للعلوم والفضائل كلها والفنون بأسرها والفواضل والمحاسن والمكارم والمحامد والمناقب والمراتب بقلها وكثرها لا يساويه كتاب ولا يوازيه خطاب وهذه جملة القول فيه

(2/200)


وقد أكثر الناس التصنيف في أنواع علوم القرآن وتفاسيرها وألف الشيخ الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - في جملة من أنواعه : كأسباب النزول والمعرب والمبهمات ومواطن الورود وغير ذلك وما من كتاب منها إلا وقد فاق الكتب المؤلفة في نوعه ببديع اختصاره وحسن تحريره وكثرة جمعه
وقد أفرد الناس في أحكامه كتبا : كالقاضي إسماعيل والبكر بن العلاء وأبي بكر الرزاي والكيا الهراسي وأبي بكر بن العربي وابن الفرس والموزعي وغيرهم وكل منهم أفاد وأجاد وجمع فأبدع وأوعى
وللسيوطي في ذلك كتاب : ( ( الإكليل في استنباط التنزيل ) ) أورد فيه كل ما استنبط منه واستدل به عليه من مسئلة فقهية أو أصولية أو اعتقادية فاشدد بذلك الكتاب يديك وعض عليه بناجذيك
وألفت أنا في الأحكام خاصة كتاب : ( ( نيل المرام من تفسير آيات الأحكام ) ) وبالجملة فعلوم الكتاب لا تحصى وتفاسيره لا تستقصى وفنونه لا تتناهى وبركاته لا ( 2 / 202 ) تقف عند حد وأنواره لا ترسم برسم ولا تحد بحد
وإذا تقرر ذلك عرفت أن العلوم التي ذكرناها في هذا الكتاب كلها موجودة في ذلك الكتاب دلالة وإشارة منطوقا أو مفهوما مفسرا أو مجملا ولا يعرفها إلا من رسخ قدمه في الكمال وسبح فهمه في بحار العلم بالتفصيل والإجمال _________ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

(2/201)


علم تقاسيم العلوم

(2/202)


هو : علم يبحث فيه عن التدرج من أعم الموضوعات إلى أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم ولما كان أعم العلوم موضوعا العلم الإلهي جعل تقسيم العلوم من فروعه ويمكن التدرج فيه من الأخص إلى الأعم على عكس ما ذكر لكن الأول أسهل وأيسر
وموضوع هذا العلم وغايته والغرض منه ومنفعته كلها لا يخفى على أحد
وصنف ابن سينا في هذا العلم رسالة وهذا الكتاب الذي نحن بصدد تنقيحه وتهذيبه عظيم النفع في هذا الباب - إن شاء الله تعالى - وتقدم الكلام على هذه التقاسيم في القسم الأول من هذا الكتاب على وجه التفصيل

(2/202)


علم تلفيق الحديث

(2/202)


هو : علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتنافية ظاهرا إما بتخصيص العام تارة أو بتقييد المطلق أخرى أو بالحمل على تعدد الحادثة إلى غير ذلك من وجوه التأويل وكثيرا ما يورده شراح الأحاديث أثناء شروحهم إلا أن بعضا من العلماء قد اعتنى بذلك فدونوه على حده ذكره أبو الخير من فروع علم الحديث والتصانيف في هذا الفن قليلة . ( 2 / 203 )

(2/202)


باب الثاء المثلثة

(2/203)


علم الثقات والضعفاء من رواة الحديث

(2/203)


هو : من أجل نوع وأفخمه من أنواع علم الأسماء والرجال فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه
وإلى الاحتياط في أمور الدين وتمييز مواقع الغلط والخطأ في بدء الأصل الأعظم الذي عليه مبنى الإسلام وأساس الشريعة
وللحافظ فيه تصانيف كثيرة منها : ما أفرد في الثقات ككتاب : ( ( الثقات ) ) للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي - المتوفى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وكتاب : ( ( الثقات ) ) ممن لم يقع في الكتب الستة للشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة تسع وسبعين وثمانمائة وهو كبير في أربع مجلدات وكتاب : ( ( الثقات ) ) لخليل بن شاهين وكتاب : ( ( الثقات ) ) للعجلي
ومنها : ما أفرد في الضعفاء ككتاب : ( ( الضعفاء ) ) للبخاري و كتاب : ( ( الضعفاء ) ) للنسائي و : ( ( الضعفاء ) ) لمحمد بن عمرو العقيلي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
ومنها : ما جمع بينهما ك : ( ( تاريخ البخاري ) ) و : ( ( تاريخ ابن أبي حيثمة ) ) قال ابن الصلاح - رحمه الله - : وما أغزر فوائده وكتاب : ( ( الجرح والتعديل ) ) لابن أبي حاتم - رحمه الله - . ( 2 / 204 ) ( 2 / 205 )

(2/203)


باب الجيم

(2/205)


علم الجبر والمقابلة

(2/205)


هو : من فروع علم الحساب لأنه : علم يعرف فيه كيفية استخراج مجهولات عديدية بمعادلتها المعلومات مخصوصة على وجه مخصوص
ومعنى الجبر : زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى لتتعادلا
ومعنى المقابلة : إسقاط الزائد من إحدى الجملتين للتعادل
وبيانه : أنهم اصطلحوا على أن يجعلوا للمجهولات مراتب من نسبة تقتضي ذلك بطريق التضعيف بالضرب
أولها : العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة للمجهول إليه
وثانيها : الشيء لأن كل مجهول فهو من حيث إبهامه : شيء وهو أيضا : جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية
وثالثها : المال وهو : مربع مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين
ثم يقع العمل للفروض في المسئلة فيخرج العمل المفروض إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض ويجبرون ما فيها من ( 2 / 206 ) الكسر حتى يصير صحيحا ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يؤول إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم وهي : العدد والشيء والمال
توضحيه : أن كل عدد يضرب في تفسير يمسي بالنسبة إلى حاصل ضربه في نفسه شيئا في هذا العلم يفرض هناك كل مجهول يتصرف فيه شيئا أيضا ويسمى الحاصل من الضرب : بالقياس إلى العدد المذكور مالا في هذا العلم فإن كان في أحد المتعادلين من الأجناس استثناء كما في قولنا : عشرة الأشياء يعدل أربعة شيئا
فالجبر : رفع الإسنثناء : بأن يزاد مثل المستثنى على المستثنى منه فيجعل العشرة كاملة كأنه يجبر نقصانها أو يزاد مثل المستثنى على عديله كزيادة الشيء في المثال بعد جبر العشرة على أربعة أشياء حتى تصير خمسة
وإن كان في الطرفين أجناس متماثلة : فالمقابلة أن تنقص الأجناس من الطرفين بعدة واحدة
وقيل : هي تقابل بعض الأشياء ببعض على المساواة كما في المثال المذكور إذا قوبلت العشرة بالخمسة على المساواة

(2/205)


وسمي العلم بهذين العملين : علم الجبر والمقابلة لكثرة وقعهما فيه
قال ابن خلدون : فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعين فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين
والمال وإن عادل الجذور يتعين بعدتها وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفضيل الصرف في الاثنين
وأكثر ما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد وجزر أي شيء ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة
ومنفعته : استعلام المجهولات العددية إذا كانت معلومة العوارض ورياضة الذهن . ( 2 / 207 )

(2/206)


وأول من كتب هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا
ومن أحسن شروحه كتاب : ( ( القرشي ) ) وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلها أعمالا وأتبعه ببراهين هندسية - والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى - . انتهى
قال الشيخ عمر بن إبراهيم الخيامي : إن أحد المعاني التعليمية من الرياضي هو : الجبر والمقابلة وفيه ما يحتاج إلى أصناف من المقدمات معتاصة جدا متعذر حلها
أما المتقدمون : فلم يصل إلينا منهم كلام فيها العلم لم يتفطنوا لها بعد الطلب والنظر أو لم يضطر البحث إلى النظر فيها ولم ينقل إلى لساننا كلامهم
وأما المتأخرون : فقد عن لهم تحليل المقدمة استعملها أرخميدس في الرابعة من الثانية في الكرة والأسطوانة بالجبر فنادى إلى كتاب وأموال وأعداد متعادلة فلم يتفق له حلها بعد أن أنكر فيها مليا فجزم بأنه ممتنع حتى تبعه أبو جعفر الخازن وحلها بالقطوع المخروطية ثم افتقر بعده جماعة من المهندسين إلى عدة أصناف منها فبعضهم حل البعض . انتهى

(2/207)


قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن الكتب المختصرة فيه : ( ( نصاب الجبر ) ) لابن فلوس المارديني و : ( ( المفيد ) ) لابن المحلي الموصلي
ومن المتوسطة : كتاب : ( ( الظفر ) ) للطوسي
ومن المبسوطة : ( ( جامع الأصول ) ) لابن المحلي و : ( ( الكامل ) ) لأبي شجاع بن أسلم وبرهن السموك على مسائله بالبراهين العددية والهندسية و : ( ( أرجوزة ابن الياسمين ) ) و : ( ( شرحه ) ) مختصر نافع أورد فيه ما لا بد منه
ومن الرسائل الوافية بالمقصود : رسالة شرف الدين محمد بن مسعود بن محمد المسعودي . ( 2 / 208 )

(2/207)


علم الجدل

(2/208)


هو : علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد ونقض أي وضع كان
وهو : من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف
مأخوذ : من الجدل الذي هو : أحد أجزاء مباحث المنطق لكنه خص بالعلوم الدينية
ومبادئه : بعضها أمور مبينة في علم النظر وبعضها خط أبية وبعضها أمور عادية
وله استمداد من علم المناظرة المشهور بآداب البحث
وموضوعه : تلك الطرق
والغرض منه : تحصيل ملكة النقض والإبرام والهدم والأحكام
وفائدته : كثيرة في الأحكام العملية والعلمية من جهة الإلزام على المخالفين ودفع شكوكهم كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) )
ولا يبعد أن يقال : إن علم الجدل هو : علم المناظرة لأن المال منهما واحد إلا أن الجدل أخص منه ويؤيده كلام ابن خلدون في : ( ( المقدمة ) ) حيث قال : هو : معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا وكل واحد من المناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا منقطعا ومحل اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السكوت ( 2 / 209 ) ولخصمه الكلام والاستدلال ولذلك قيل فيه : إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره

(2/208)


وهي طريقتان :
طريقة البزدوي : وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال
وطريقة العميدي : وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان وأكثره استدلال وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة
وإذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة تتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي
وهذا العميدي : هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة إليه وضع الكتاب المسمى ب : ( ( الإرشاد ) ) مختصرا وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية والله - سبحانه وتعالى - أعلم وبه التوفيق . انتهى
وقال أبو الخير : وللناس فيه طرق أحسنها : طريق ركن الدين العميدي
وأول من صنف فيه من الفقهاء الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الشافعي المتوفى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة
وعن بعض العلماء : إياك أن تشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء فإنه يبعد عن الفقه ويضيع العمر ويورث الوحشة والعداوة وهو من أشراط الساعة وارتفاع العلم والفقه كذا ورد في الحديث حيثما ذكر في تعليم المتعلم ولله در القائل : ( 2 / 210 )
أرى فقهاء العصر طرا ... أضاعوا العلم واشتغلوا بلم لم
إذا ناظرتهم لم تلق منهم ... سوى حرفين لم لم لا نسلم
قلنا : والإنصاف أن الجدل لإظهار الصواب على مقتضى قوله تعالى : ( ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ) لا بأس به وربما ينتفع به في تشحيذ الأذهان وتصقيل الخواطر وتمرين الطبائع والممنوع : هو الجدل الذي يضيع الأوقات ولا يحصل منه طائل وكثيرا مالا يخلو عن التحاسد والتنافس المذمومين في الشرع فعليك الاحتياط لئلا تقع في المهالك من حيث لا تشعر . انتهى
قال في : ( ( مدينة العلوم ) ) : ومن الكتب المختصرة فيه : ( ( المغني ) ) للأبهري و : ( ( الفصول ) ) للنسفي و : ( ( الخلاصة ) ) للمراغي و : ( ( مقدمة النسفي ) ) وعليها شروح أحسنها : ( ( شرح السمرقندي ) )
ومن المتوسطة : ( ( النفائس ) ) للعميدي و : ( ( الرسائل ) ) للأرموي و : ( ( تهذيب النكت ) ) للأبهري
وفي هذا العلم مصنفات كثيرة لكنها لم تشتهر في بلادنا غير ما ذكرناه . انتهى

(2/209)


علم الجراحة

(2/210)


هو : علم باحث عن أحوال الجراحات العارضة لبدن الإنسان وكيفية برئها وعلاجها ومعرفة أنواعها وكيفية القطع أن احتيج إليه ومعرفة كيفية المراهم والضمادات وأنواعها ومعرفة الأدوات اللازمة لها
وهذا العلم : جزء من علم الطب وقد يفرد عنه بالتدوين ومنفعته عظيمة جدا وهذا العلم بالعمل أشبه منه بالعلم وفي كتاب : ( ( منهاج البيان ) ) ما فيه كفاية في هذا الشأن
أقول : الأصل فيه : ( ( عمدة الجراحين ) ) لأبي الفرج . ( 2 / 211 )
ومن الكتب المؤلفة فيه : ( ( جراح نامة تركي ) ) لإبراهيم بن عبد الله الجراج ذكر فيه أن قلعة متون لما فتحت وجد فيها كتابا يونانيا اسمه : ( ( جندار ) ) فترجمه ورتب على ثلاثة وعشرين بابا و : ( ( جراحات الرأس ) ) لبقراط وغيره والله أعلم بالصواب

(2/210)


علم جر الأثقال

(2/211)


هو : علم يبحث فيه عن كيفية اتخاذ آلات تجر الأشياء الثقيلة بالقوة اليسيرة
ومنفعته : ظاهرة حتى للعوام وقد برهن إيدن في كتابه : ( ( في هذا العلم على نقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة وهذا أمر يستبعده العقول القاصرة
وهو : من فروع علم الهندسة وبرهن الإمام في آخر : ( ( جامع العلوم ) ) على بعض مسائله ولم يذكر صاحب : ( ( مفتاح السعادة ) ) كتابا في هذا الفن وكذا صاحب : ( ( مدينة العلوم ) ) ولكن حدثت في هذا الزمان كتب كثيرة في هذا العلم بلسان الفرنج ولهم يد طولى في ذلك وقد أوجدوا في زماننا هذا أشياء تجر الأثقال والأحمال الكثيرة إلى مسافات شاسعة عسيرة في أزمنة قليلة يسيرة تحار منها الأفهام وتأبى عن ضبطها الأقلام منها : العجلة الدخانية تقطع مسيرة شهر في يوم وليلة

(2/211)


علم الجرح والتعديل

(2/211)


هو : علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ
وهذا العلم : من فروع علم رجال الأحاديث ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات مع أنه فرع عظيم والكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم جوز ذلك تورعا وصونا للشريعة لا طعنا في الناس وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك ( 2 / 212 ) وأول من عني بذلك من الأئمة الحفاظ شعبة بن الحجاج ثم تبعه يحيى بن سعيد
قال الذهبي في : ( ( ميزان الاعتدال ) ) : أول من جمع في ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان وتكلم فيه بعده تلامذته يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي القلانسي وأبوحيثمة زهير وتلامذتهم كأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري ومسلم وأبي إسحاق الجوزجاني والنسائي وابن خزيمة والترمذي والدولابي والعقيلي وابن عدي وأبي الفتح الأزدي والدارقطني والحاكم إلى غير ذلك

(2/211)


أقول : ومن الكتب المصنفة فيه كتاب : ( ( الجرح والتعديل ) ) لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي نزيل طرابلس المغرب المتوفى سنة إحدى وستين
وكتاب : ( ( الجرح والتعديل ) ) للإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد الرازي المتوفى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وهو : كتاب كبير أوله : الحمد لله رب العالمين بجميع محامده كلها ذكر فيه أنه لما لم يجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله - سبحانه وتعالى - ولا من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من جهة النقل والرواية وجب أن يميز بين العدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الحديث الكاذب والكذب . انتهى
و : ( ( الكامل ) ) لابن عدي وهو : أكمل الكتب فيه و : ( ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) ) للذهبي وهو أجمع ما جمع فيه و : ( ( لسان الميزان ) ) لابن حجر العسقلاني - رحمه الله

(2/212)


علم جغرافيا

(2/212)


هي : كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض ويقال : جغراويا بالواو على الأصل . ( 2 / 213 )
وهو : علم يتعرف منه أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الربع المسكون من كرة الأرض وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها وعدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) و : ( ( مدينة العلوم ) )
قال الشيخ داود في : ( ( تذكرته ) ) : جغرافيا علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه . انتهى . وهو الصواب لشموله على غير السبعة وجغرافيا علم لم ينقل له في العربية لفظ مخصوص

(2/212)


وأول من صنف فيه : بطلميوس القلوزي فإنه صنف كتابه المعروف ب : ( ( جغرافيا ) ) بعد ما صنف المجسطي وذكر أن عدد المدن أربعة آلاف وخمسمائة وثلاثون مدينة في عصره وسماها مدينة مدينة وإن عدد جبال الأرض مائتا جبل ونيف وذكر مقدارها وما فيها من المعادن والجواهر وذكر البحار أيضا وما فيها من الجزائر والحيوانات وخواصها وذكر أقطار الأرض وما فيها من الخلائق على صورهم وأخلاقهم وما يأكلون وما يشربون وما في كل سقع مما ليس في الآخر غيره من الأرزاق والتحف والأمتعة فصار أصلا يرجع إليه من صنف بعده لكن اندرس كثير مما ذكره وتغيرت أسماؤه وخبره فانسد باب الانتفاع منه وقد عربوه في عهد المأمون ولم يوجد الآن تعريبه . انتهى
أقول : وفي كتابي : ( ( لقطة العجلان ) ) طرف من هذا العلم على سبيل الاختصار وكذا في : ( ( مقدمة ابن خلدون ) ) وأريد أن أفرز هذا العلم منها فإنه أحسن في بيانه وأجاد وحرر وأفاد . ( 2 / 214 )
وفي لسان الإفرنج والهندكية حدثت كتب كثيرة في هذا العلم في عصرنا هذا يعسر عدها ويطول حدها وأوضحوا فيها ما عليه الأقاليم السبعة الآن من المدن والأمصار والقرى والأبحار والسواحل والأنهار والبراري والقفار مع اختلاف لغات الأمم في أسمائها - ولله الأمر من قبل ومن بعد

(2/213)


علم الجفر والجامعة

(2/214)


قال أهل المعرفة بهذا العلم : هو عبارة عن العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر المحتوي على كل ما كان وما يكون كليا وجزئيا
والجفر : عبارة عن لوح القضاء الذي هو عقل الكل
والجامعة : لوح القدر الذي هو نفس الكل وقد ادعى طائفة أن الإمام علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه - وضع الحروف الثمانية والعشرين على طريق البسط الأعظم في جلد الجفر يستخرج منها بطرق مخصوصة وشرائط معينة ألفاظ مخصوصة تدل على ما في لوح القضاء والقدر
وهذا علم توارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم ويأخذ منهم من المشائخ الكاملين وكبار الأولياء وكانوا يكتمونه عن غيرهم كل الكتمان وقيل : لا يفقه في هذا الكتاب حقيقة إلا المهدي المنتظر خروجه في آخر الزمان
وورد هذا في كتب الأنبياء السالفة كما نقل عن عيسى بن مريم - عليهما الصلاة والسلام - : ( ( نحن معاشر الأنبياء نأتيكم بالتنزيل وأما التأويل فسيأتيكم به البارقليط الذي سيأتيكم بعدي ) )
نقل أن الخليفة المأمون لما عهد بالخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا وكتب إليه كتابه عهده كتب هو في آخر ذلك الكتاب : نعم إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أن هذا الأمر لا يتم وكان كما قال لأن : المأمون استشعر لأجل ذلك فتنة ( 2 / 215 ) من طرف ابن العباس فسم الإمام علي بن موسى الرضا في عنب على ما هو المسطور في كتب التواريخ كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) و : ( ( مدينة العلوم ) )

(2/214)


قال ابن طلحة : ( ( الجفر ) ) و : ( ( الجامعة ) ) : كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب وهو يخطب على المنبر بالكوفة والآخر أسره إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره بتدوينه فكتبه علي حروفا متفرقة على طريق سفر آدم في جفر يعني في رق صنع من جلد البعير فاشتهر بين الناس به لأنه وجد فيه ما جرى للأزلين والآخرين
والناس مختلفون في وضعه وتكسيره
فمنهم : من كسره بالتكسير الصغير وهو : جعفر الصادق وجعل في حافية البار الكبير ( ا ب ت ث ) إلى آخرها والباب الصغير أبجد إلى قرشت وبعض العلماء قد سمى الباب الكبير بالجفر الكبير والصغير بالجفر الصغير فيخرج من الكبير ألف مصدر ومن الصغير سبعمائة
ومنهم : من يضعه بالتكسير المتوسط وهي : الطريقة التي توضع بها الأوفاق الحرفية وهو الأولى والأحسن وعليه مدار الحافية القمرية والشمسية
ومنهم : من يضعه بطريق التكسير الكبير وهو الذي يخرج منه جميع اللغات والأسماء
ومنهم : من يضعه بطريق التركيب الحرفي وهو مذهب أفلاطون
ومنهم : من يضعه بطريق التركيب العددي وهو مذهب سائر أهل السنة وكل موصل إلى المطلوب
ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( الجفر الجامع والنور اللامع ) ) للشيخ كمال الدين أبي سالم محمد بن طلحة النصيبي الشافعي المتوفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة مجلد صغير أوله : الحمد لله الذي أطلع من اجتباه . إلخ
ذكر فيه أن الأئمة من أولاد جعفر يعرفون الجفر فاختار من أسرارهم فيه . انتهى ما في : ( ( كشف الظنون ) ) أقول : وهذه أقوال ( 2 / 216 ) ساقطة جدا والحق في الباب ما ذكرناه وحققناه في كتابنا : ( ( لقطة العجلان ) ) فارجع إليه

(2/215)


علم الجناس

(2/216)


وهو وإن كان من أنواع البديع لكن لما كان البحث هناك على وجه كلي في مطلق الكلام وهنا على وجه جزئي في كلام منقول عن الفضلاء والبلغاء أفردوه بالتدوين وجعلوه فرعا على البديع أو على المحاضرات
وهو : علم باحث عن اللفظين الذين بينهما تشابه في اللفظ فقط أو فيه وفي الخط مع تغايرهما في المعاني وإلا فلا تجنيس أصلا
ووجوه التشابه وأقسامه : مذكورة في موضعها وليس هذا المقام موضع الاستقصاء فيه قبل التجنيس على نوعين : جناس شكلي وجناس غير شكلي قال أبو الفتح البستي : من أصلح فاسده أرغم حاسده ومن أطاع غضبه أضاع أدبه عادات السادات سادات العادات من سعادة جدك وقوفك عند حدك الروشة رشا الحاجات المنية تضحك من الأمنية حد العفاف الرضا بالكفاف ومن ذلك قول رشيد الدين الوطواط : رب رب غني غي سرته شرته فجاءه فجاءة بعد بعد عشرته عسرته أي : يا رب كم من غني متصف بالغباوة سرته إضراره بالناس حتى جاءه بغته بعد طول معاشرته ونعمه العسر والفقر
ومنه : إن لم يكن لنا حظ في درك درك فخلصنا من شرك شرك
ومنه : إن أخليتنا من مبارك مبارك فأرحنا من معارك معارك . ( 2 / 217 )
ومن غرائب التجنيس قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : عزك عزل فصار قصارى ذلك فاخش فاحش فعلك وفعلك تهدى بهذا فأجابه معاوية : على قدري غلى قدري

(2/216)


علم الجواهر

(2/217)


هو : علم يبحث فيه عن كيفية الجواهر المعدنية البرية : كالألماس واللعل والياقوت والفيروز والبحرية : كالدر والمرجان وغير ذلك ومعرفة جيدها من رديها بعلامات تختص بكل نوع منها ومعرفة خواص كل منها
وغايته وغرضه : ظاهرة لا تخفى على الإنسان
والتصانيف فيه كثيرة شهيرة بالعربية والفارسية أيضا

(2/217)


علم الجهاد

(2/217)


هو : علم يعرف به أحوال الحرب وكيفية ترتيب العسكر واستعمال السلاح ونحو ذلك وهو باب من أبواب الفقه تذكر فيه أحكامه الشرعية وقد بينوا أحواله العادية وقواعده الحكمية في كتب مستقلة ولم يذكره أصحاب الموضوعات بلفظ علم الجهاد ولكنهم ذكروه في ضمن علوم : كعلم ترتيب العسكر وعلم الآلات الحربية ونحو ذلك لكن الأولى أنه يذكر ههنا . ( 2 / 218 )
ومن الكتب المصنفة فيه : ( ( الاجتهاد في طلب الجهاد ) ) وجمعت كتابا في أحكام الجهاد سميته : ( ( العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة ) ) وللسيد الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في ذلك الباب ذكر فيها مسئلة : هل قتال الكفار لطلب إسلامهم أم لدفع شرهم ؟ وله - رحمة الله - أيضا كلام فيها في : ( ( منحة الغفار حاشية ضوء النهار ) ) من كتاب : ( ( السير ) ) . ( 2 / 219 ) باب الحاء المهملة

(2/217)


علم الحجامة

(2/219)


علم : يتعرف به أحوال الحجامة وكيفية مصها وشرطها بالمحجمة وأنها في أي موضع من البدن نافعة وفي أي موضع مضرة إلى غير ذلك من الأحوال ذكره في : ( ( مدينة العلوم ) ) فروع العلم الطبيعي

(2/219)


علم الحديث الشريف

(2/219)


ويسمى ب : علم الرواية والأخبار أيضا على ما في : ( ( مجمع السلوك ) ) ويسمى جملة : علم الرواية والأخبار : علم الأحاديث . انتهى
فعلى هذا علم الحديث يشتمل على علم الآثار أيضا بخلاف ما قيل فإنه لا يشمله والظاهر أن هذا مبني على عدم إطلاق الحديث على أقوال الصحابة وأفعالهم على ما عرف وهو الحق ولا حجة في قول أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلم الحديث هو : علم يعرف به أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله فاندرج فيه معرفة موضوعه
وأما غايته : فهي الفوز بسعادة الدارين كذا في : ( ( الفوائد الخاقانية ) )
وهو ينقسم إلى : العلم برواية الحديث وهو : علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول - عليه الصلاة والسلام - من حيث أحوال رواتها ضبطا وعدالة ( 2 / 220 ) ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك وقد اشتهر بأصول الحديث - كما سبق -
وإلى : العلم بدراية الحديث وهو : علم باحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث وعن المراد منها مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم

(2/219)


وموضوعه : أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث دلالتها على المعنى المفهوم أو المراد
وغايته : التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه
ومنفعته : أعظم المنافع كما لا يخفى على المتأمل
ومبادئه : العلوم العربية كلها ومعرفة القصص والأخبار المتعلقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة الأصلين والفقه وغير ذلك كذا في : ( ( مفتاح السعادة ) ) و : ( ( مدينة العلوم ) )
والصواب : ما ذكر في : ( ( الفوائد ) ) إذ الحديث أعم من القول والفعل والتقرير كما حقق في محله
وفي : ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : علم الحديث : علم تعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله
أما أقواله : فهي الكلام العربي فمن لم يعرف حال الكلام العربي فهو بمعزل عن هذا العلم وهو كونه حقيقة ومجازا وكناية وصريحا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومنطوقا ومفهوما ونحو ذلك مع كونه على قانون العربية الذي بينه النحاة بتفاصيله وعلى قواعد استعمال العرب وهو المعبر بعلم اللغة
وأما أفعاله : فهي الأمور الصادرة عنه التي أمرنا باتباعه فيها أولا : كالأفعال الصادرة عنه طبعا أو خاصة كذا في : ( ( العيني شرح صحيح البخاري ) ) و : ( ( زاد الكرماني وأحواله ) )
ثم في العيني وموضعه ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه رسول الله - صلى ( 2 / 221 ) الله عليه وسلم
ومبادئه : هي ما تتوقف عليه المباحث وهي : أحوال الحديث وصفاته
ومسائله : هي الأشياء المقصودة منه
وغايته : الفوز بسعادة الدارين . انتهى

(2/220)


قال ابن الأثير في : ( ( جامع الأصول ) ) : علوم الشريعة تنقسم إلى : فرض ونفل والفرض : ينقسم إلى : فرض عين وفرض كفاية
ومن أصول فروض الكفايات علم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه التي هي ثاني أدلة الأحكام وله أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات ذكرها العلماء وشرحها المحدثون والفقهاء
يحتاج طالبه إلى معرفتها والوقوف عليها بعد تقديم معرفة اللغة الإعراب اللذين هما أصل المعرفة الحديث وغيره لورود الشريعة المطهرة على لسان العرب وتلك الأشياء كالعلم بالرجال وأساميهم وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم والعلم بصفات الرواة وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم والعلم بمستند الرواة وكيفية أخذهم الحديث وتقسيم طرقه والعلم بلفظ الرواة وإيرادهم ما سمعوه واتصاله إلى من يأخذه عنهم وذكر مراتبه
والعلم بجواز نقل الحديث بالمعنى ورواية بعضه والزيادة فيه والإضافة إليه بما ليس منه وانفراد الثقة بزيادة فيه والعلم بالمسند وشرائطه والعالي منه والنازل والعلم بالمرسل وانقسامه إلى المنقطع والموقوف والمعضل وغير ذلك لاختلاف الناس في قبوله ورده
والعلم بالجرح والتعديل وجوازهما ووقوعهما وبيان طبقات المجروحين والعلم بأقسام الصحيح من الحديث والكذب وانقسام الخبر إليهما وإلى الغريب والحسن وغيرهما والعلم بأخبار التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما توافق عليه أئمة أهل الحديث
وهو بينهم متعارف فمن أتقنها أتى دار هذا العلم من بابها وأحاط بها من جميع جهاتها وبقدر ما يفوته منها تزل درجته وتنحط رتبته إلا أن معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وإن تعلقت بعلم الحديث إن المحدث لا يفتقر إليه لأن ذلك ( 2 / 222 ) من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ فأما المحدث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه فإن تصدى لما رواه فزيادة في الفضل

(2/221)


وأما مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به والاهتمام بضبطه وحفظه ولذلك يسر الله - سبحانه وتعالى - للعلماء الثقات الذين حفظوا قوانينه وأحاطوا فيه فتناقلوه كابرا عن كابر وأوصله كما سمعه أول إلى آخر وحيه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته
فما زال هذا العلم من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين خلفا بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله - سبحانه وتعالى - إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه فتوفرت الرغبات فيه فما زال لهم من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن انعطفت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ويقطع الفيافي والمفاوز ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه
فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه وإما لعلو إسناده فانبعثت العزائم إلى تحصيله
وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله - سبحانه وتعالى - فلما انتشر الإسلام واتسعت البلاد وتفرقت الصحابة في الأقطار ومات معظمهم قل الضبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري إنها الأصل فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما فدونوا الحديث حتى قيل ( 2 / 223 ) :

(2/222)


إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج وقيل : موطأ مالك بن أنس وقيل : إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح بالبصرة ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب . وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري و أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فدونا كتابيهما وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته وثبت عندهما نقله وسميا الصحيحين من الحديث ولقد صدقا فيما قالا والله مجازيهما عليه ولذلك رزقهما الله تعالى حسن القبول شرقا وغربا
ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي قد اجتمعوا واتفقوا فيه مثل : أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ومثل : أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني و أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم وإليه المنتهى
ثم نقص ذلك الطلب وقل الحرص وفترت الهمم فكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود وكأن غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرها ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله
ثم إن هذا العلم على شرفه وعلو منزلته كان علما عزيزا مشكل اللفظ أو المعنى ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض
فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه ويستنبط منه الحكم كما فعله عبد الله بن موسى الضبي وأبو داود الطيالسي وغيرهما أولا
وثانيا : أحمد بن حنبل ومن بعده فأنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد رواتها فيذكرون مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويثنون فيه كل ما رووا عنه ثم يذكرون بعده الصحابة واحدا بعد واحد على هذا النسق ( 2 / 224 )
ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها فيضعون لكل حديث بابا يختص به فإن كان في معنى الصلاة ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها كما فعل مالك في الموطأ إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه ثم اقتدى به من بعده

(2/223)


فلما انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومسلم وكثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما كثرت أبوابهما واقتدى بهما من جاء بعدهما وهذا النوع أسهل مطلبا من الأول لأن الإنسان قد يعرف المعنى وإن لم يعرف رواية بل ربما لا يحتاج إلى معرفة رواية فإذا أراد حديثا يتعلق بالصلاة طلبه من كتاب الصلاة لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة علم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم فلا يحتاج أن يفكر فيه بخلاف الأول
ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظ لغوية ومعاني مشكلة فوضع لها كتابا قصره على ذكر متن الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة وغيرهما
ومنهم من أضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل : أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي في ( معالم السنن ) و ( أعلام السنن ) وغيره من العلماء
ومنهم من قصد ذكر الغريب دون متن الحديث واستخراج الكلمات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي وغيره من العلماء
ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاما شرعية غير جامعة فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود والبغوي في ( المصابيح ) وغير هؤلاء
ولما كان أولئك الأعلام هم السابقون فيه لم يأت صنيعهم على أكمل ( 2 / 225 ) الأوضاع فإن غرضهم كان أولا حفظ الحديث مطلقا وإثباته ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم واعتبار أحوالهم والتفتيش عن أمورهم حتى قدحوا وجرحوا وعدلوا وأخذوا وتركوا هذا بعد الاحتياط والضبط والتدبر
فكان هذا مقصدهم الأكبر وغرضهم الأوفى ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم والمهم الأعظم ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع بل ولا يجوز لهم ذلك فإن الواجب أولا إثبات الذات ثم ترتيب الصفات
والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه وتحسين وضعه ففعلوا ما هو الغرض المتعين واخترمتهم المنايا قبل الفراغ والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم فتعبوا الراحة من بعدهم

(2/224)


ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة ويشيعوا هذه العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها إما بإيداع ترتيب أو بزيادة تهذيب أو اختصار أو تقريب أو استنباط حكم وشرح غريب
فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم مثل : أبي بكر أحمد بن محمد الرماني وأبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي و أبي عبد الله محمد الحميدي فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب
وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء الحديث وأكثرهم حفظا وإليهم المنتهى
وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري فجمع بين ( 2 / 226 ) كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه ترتيب أبوابه وتسهيل مطالبه وشرح غريبه في جامع الأصول فكان أجمع ما جمع فيه
ثم جاء الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في جمع الجوامع فكان أعظم بكثير من جامع الأصول من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة
وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم حذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من روى الحديث من الصحابي إن كان خبرا وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثرا والرمز إلى المخرج لأن الغرض ممن ذكر الأسانيد كان أولا إثبات الحديث وتصحيحه وهذه كانت وظيفة الأولين وقد كفوا تلك المؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه
ووضعوا الأصحاب الكتب الستة علامة ورمزا بالحروف
فجعلوا البخاري ( خ ) لأن نسبته إلى بلده أشهر من اسمه وكنيته وليس في حروف باقي الأسماء خاء
ولمسلم ( م ) لأن اسمه أشهر من نسبه وكنيته
ولمالك ( طه ) لأن اشتهار كتابه بالموطأ أكثر
ولأن الميم أول حروف اسمه وقد أعطوها مسلما وباقي حروفه مشتبه بغيرها
والترمذي ( ت ) لأن اشتهاره بنسبه أكثر
ولأبي داود ( د ) لأن كنيته أشهر من اسمه ونسبه والدال أشهر حروفها وأبعدها من الاشتباه
وللنسائي ( س ) لأن نسبه أشهر من اسمه وكنيته والسين أشهر حروف ( 2 / 227 ) نسبه وكذلك وضعوا لأصحاب المسانيد بالإفراد والتركيب كما هو مسطور في الجامع

(2/225)


قال في ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) : لأهل الحديث مراتب
أولها الطلب وهو المبتدئ الراغب فيه
ثم المحدث وهو الأستاذ الكامل وكذا الشيخ والإمام بمعناه
ثم الحافظ وهو الذي أحاط علمه بمائة ألف حديث متنا وإسنادا وأحوال رواته جرحا وتعديلا وتاريخا
ثم الحجة وهو الذي أحاط علمه بثلاثمائة ألف حديث كذلك قاله ابن المطري
وقال الجزري : الراوي ناقل الحديث بالإسناد والمحدث من تحمل بروايته واعتنى بدرايته
والحافظ من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج إليه انتهى . قال أبو الخير : اعلم أن قصارى نظر أبناء هذا الزمان في علم الحديث النظر في مشارق الأنوار فإن ترفعت إلى مصابيح البغوي ظننت أنها تصل إلى درجة المحدثين وما ذلك إلا لجهلهم بالحديث بل لو حفظهما عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط
وإنما الذي يعده أهل الزمان بالغا إلى النهاية وينادونه محدث المحدثين وبخاري العصر من اشتغل بجامع الأصول لابن الأثير مع حفظ علوم الحديث لابن الصلاح أو التقريب للنووي إلا أنه ليس في شيء من رتبة المحدثين وإنما المحدث من عرف المسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطبقات ورد على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات ( 2 / 228 ) والأسانيد كان في أول درجة المحدثين
ثم يزيد الله - سبحانه وتعالى - من يشاء ما يشاء هذا ما ذكره تاج الدين السبكي

(2/227)


وذكر صدر الشريعة في تعديل العلوم أن مشائخ الحديث مشهورون بطول الأعمار
وذكر السبكي في ( ( طبقات الشافعية ) ) أن أبا سهل قال : سمعت ابن الصلاح يقول : سمعت شيوخنا يقولون : دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصدقه التجربة فان أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول انتهى
الكتب المصنفة في علم الحديث أكثر من أن تحصى لكن استوعبنا ما وقفنا عليه في كتابنا إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين بالفارسية على ترتيب حروف المعجم
قال في ( مدينة العلوم ) لكن اتفق السلف من مشائخ الحديث على أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيح البخاري وصحيح مسلم وأصحهما صحيح البخاري وهو الإمام شيخ السنة ونور الإسلام وحافظ العصر وبركة الله في أرضه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رحمه الله
كان والي بخارا جعفيا وهو نسبة إلى قبيلة باليمن ونسب البخاري إليها بالولاء
والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ وأعلم المحدثين إمام خراسان في الحديث بعد البخاري
ومن الصحاح كتاب سنن أبي داود الأزدي السجستاني وكتاب الترمذي وكتاب النسائي
والنووي عدد هذه الخمسة في الأصول إلا أن الجمهور جعلها ستة وعدوا منها كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة وقدوة المتقين وأحد الأئمة المجتهدين الإمام ( 2 / 229 ) مالك بن انس
وجعل بعضهم كتاب الموطأ بعد الترمذي وقيل النسائي والأصح انه بعد مسلم في الرتبة
وعد بعضهم بدل الموطأ كتاب ابن ماجة محمد بن يزيد الحافظ القزويني
واعلم أن المحدثين ألحقوا بالكتب الستة جامع أبي الحسن رزين العبدري صاحب الجمع بين الصحاح وجامع الحميدي بين الصحيحين وجامع البرقاتي لجمعه بينهما وجامع أبي مسعود الدمشقي أيضا لجمعه بين الصحيحين

(2/228)


ثم اختاروا من المصنفين سبعة وألحقوا كتبهم بالصحاح لعظم نفعها منهم الدارقطني والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وأبو محمد عبد الغني الأزدي المصري وأبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية وابن عبد البر حافظ المغرب والبيهقي والخطيب البغدادي انتهى ملخصا
فصل في ذكر علوم الحديث
قال ابن خلدون : وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل لهم بها قال تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )
فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل وعلم تقدم أحدهما تعين أن المتأخر ناسخ ومعرفة الناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها
قال الزهري : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله ( 2 / 230 ) - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه وكان للشافعي - رحمه الله - قدم راسخة فيه
ومن علوم الأحاديث النظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو الترك
وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك تميزهم فيه واحدا واحدا وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها بأن يكون الراوي الذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى الطرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن
ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم
وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة هذا الشأن أو الوفاق
ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد ثم أتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو مصحف أو ( 2 / 231 ) مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه

(2/229)


وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلدة فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشام ومصر والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم
وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم و أمتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك
وسند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأمثالهم
وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها
وكتب مالك - رحمه الله - كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المختلفة وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها
وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام الحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال انه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب
ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري - رحمه الله - فألف مسنده الصحيح ( 2 / 232 ) حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله وقد استدرك الناس عليهما في ذلك
ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي و أبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح كما هو معروف وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسنة والعمل

(2/231)


وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب وللناس فيه تآليف مشهورة
ثم المؤتلف والمختلف وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثر
ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة
وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى صحيح الأمهات المكتوبة وضبطها بالرواية عن مصنفيها والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمسة إلا في ( 2 / 233 ) القليل
فأما البخاري وهو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه واستغفلوا منحاه من اجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها
ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال وابن المهلب وابن التين ونحوهم ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون : شرح كتاب البخاري دين على الأمة . يعنون أن أحدا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار

(2/232)


قال في ( كشف الظنون ) أقول ولعل ذلك الدين قضي بشرحي المحقق ابن حجر العسقلاني والعيني بعد ذلك انتهى
قلت وشرح الحافظ ابن حجر أو في الشروح لا يعادله شرح ولا كتاب ولذا لما قيل للشوكاني لشرح البخاري أجاب : أنه لا هجرة بعد الفتح يعني فتح الباري وما ألطف هذا الجواب عند من يفهم لطف الخطاب
ثم قال ابن خلدون :
وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التراجم
وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحا وسماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه ثم أملاه القاضي عياض من بعده وتممه وسماه إكمال المعلم
وتلاهما محيي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء ( 2 / 234 ) شرحا وافيا

(2/233)


وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاته والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة
واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها لم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه
ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال : لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان . . ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح ورد كل متن إلى سنده وأقروا له بالإمامة قف
قال ابن خلدون :
واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال
فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو ( 2 / 235 ) نحوها
ومالك - رحمه الله - إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها
وأحمد بن حنبل - رحمه الله - تعالى في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك
وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها
وإنما قلل منهم من قلل الرواية الأجل المطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق
هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر
والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلت من أجلها روايته فقل حديثه لأنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولا

(2/234)


وأما غيره من المحدثين وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم والكل عن اجتهاد وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم
وروى الطحاوي فأكثر وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل ( 2 / 236 ) الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه
وشروط الطحاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدم الصحيحان بل وكتب السنن المعروفة عليه لتأخر شرطه عن شروطهم ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها
فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم بما في حقائق الأمور

(2/235)


علم الحروف والأسماء

(2/236)


قال الشيخ داود الأنطاكي وهو علم باحث عن خواص الحروف أفرادا وتركيبا وموضوعه الحروف الهجائية ومادته الأوفاق والتراكيب
وصورته تقسيمها كما وكيفا وتأليف الأقسام والعزائم وما ينتج منها وفاعله المتصرف وغايته التصرف على وجه يحصل به المطلوب إيقاعا وانتزاعا ومرتبته بعد الروحانيات والفلك والنجامة
قال ابن خلدون في المقدمة :

(2/236)


علم أسرار الحروف وهو المسمى لهذا العهد السيميا نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة فاستعمل استعمال العام في الخاص وحدث هذا العلم في الملة بعد الصدر الأول عند ظهور الغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر
وزعموا أن الكمال الاسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان وهو من تفاريع علوم السيميا لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله تعددت فيه تأليف البوني وابن العربي وغيرهما
وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء ( 2 / 237 ) الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان
ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بم هو . فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه وقسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلا وانفعالا بذلك الصنف فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير
ومنهم من جعل هذا السر للنسبة العددية فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعا وطبعا وللأسماء أوفاق كما للأعداد
ويختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف وامتزج التصرف من السر الحرفي والسر العددي لأجل التناسب الذي بينهما
فأما سر هذا التناسب الذي بينهما يعني بين الحروف وأمزجة الطبائع أو بين الحروف والأعداد فأمر عسر على الفهم وليس من قبيل العلوم والقياسات وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف
قال البوني : ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي
وأما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركبة فيها وتأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا وقد يظن أن تصرف هؤلاء وتصرف أصحاب أسماء الطلسمات واحد وليس كذلك
ثم ذكر الفرق بينهما وأطال وقد ذكرنا طرفا من التفصيل في كتابنا المسمى بروح الحروف والكتب المصنفة في هذا العلم كثيرة جدا انتهى ما في ( ( كشف الظنون ) )

(2/236)


وقد أطال ابن خلدون في بيان هذا العلم إلى ثلاثة عشر ورقا وعقد له فصولا ( 2 / 238 ) لسنا بصدد ذكره لقلة الفائدة منه في هذا العصر وعدم الحاجة إليه في ذلك الدهر

(2/237)


علم الحروف النورانية والظلمانية

(2/238)


قال في ( مدينة العلوم ) أن الحروف قسمان :
أحدهما حروف نورانية تستعمل في أعمال الخير وهي نص حكيم له سر قاطع
والآخر حروف ظلمانية تستعمل في الشر وهي ما عدا الحروف النورانية وأجمعوا على أنه ليس في سورة الفاتحة ولا في المقطعات في أوائل السور القرآنية شيء من الحروف الظلمانية وتفصيل هذا العلم في كتاب غاية للمغنم في أسرار العلم الأعظم انتهى

(2/238)


علم الحساب

(2/238)


هو علم بقواعد تعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة من الجمع والتفريق والتصنيف والتضعيف والضرب والقسمة
والمراد بالاستخراج معرفة كمياتها
وموضوعه العدد إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والعدد هو الكمية المتألفة من الوحدات فالوحدة مقومة للعدد وأما الواحد فليس بعدد ولا مقوم له وقد يقال لكل ما يقع تحت العد فيقع على الواحد
وعبارة ابن خلدون هي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق فالضم يكون في الأعداد بالإفراد هو الجمع وبالتضعيف وهو تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضا يكون في الأعداد . ( 2 / 239 )
أما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح
أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة وسواء كان هذا الضم التفريق في الصحيح من العدد أو الكسر
ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد تلك النسبة تسمى كسر أو كذلك يكون بالضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم والتفريق
وهذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات انتهى

(2/238)


ومنفعته ضبط المعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة المواريث والتركات وضبط ارتفاعات المماليك وغير ذلك
ويحتاج إليه في العلوم الفكلية وفي المساحة والطب وقيل يحتاج إليه في جميع العلوم بالجملة ولا يستغني عنه ملك ولا عالم ولا سوقة وزاد شرفا بقوله - سبحانه وتعالى - : ( وكفى بنا حسابين )
وبقوله تعالى : ( ولتعلموا عدد السنين والحساب )
وقوله تعالى : ( فاسئل العادين )
ولذلك ألف فيه الناس كثيرا وتداولوه في الأمصار بالتعليم للولدان
ومن أحسن التعليم عند الحكماء الابتداء به لأنه معارف متضحة وبراهينه منتظمة فينشأ عنه في الغالب عقل مضيء يدل على الصواب وقد يقال إن من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومنافسة النفس فيصير له ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا
وهو مستغلق على المبتدئ إذا كان من طريق البرهان وهذا شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة وإذا قصد شرحها وهو التعليل في تلك الأعمال ظهر من العسر على الفهم مالا يوجد في أعمال المسائل
وهو فرع علم العدد المسمى بالأرتماطيقي وله فروع أوردها صاحب ( مفتاح السعادة ) بعد أن جعل علم العدد أصلا وعلم الحساب مرادفا له مع كونه ( 2 / 240 ) فرعا حيث قال :
الشعبة الثامنة في فروع علم العدد وقد يسمى بعلم الحساب فعرفه بتعريف مغاير لتعريف علم العدد

(2/239)


قال في ( ( مدينة العلوم ) ) ولعلم الحساب فروع :
منها علم حساب التخت والميل وهو علم يتعرف منه كيفية مزاولة الأعمال الحسابية برقوم تدل على الآحاد وتغني عما عداها بحفظ المراتب وتنسب هذه الأرقام إلى الهند انتهى
وقال صاحب الكشف :
بل هو علم بصور الرقوم الدالة على الأعداد مطلقا ولكل طائفة أرقام دالة على الآحاد الأرقام الهندية والرومية والمغربية والإفرنجية والنجومية وغيرها ويقال له التخت والتراب أيضا انتهى
ونفع هذا العلم ظاهر ولابن الهيثم كتاب برهن فيه بمعرفة أصول أعماله ببراهين عددية لما فيسه من تسيهل الأعمال الحسابية
ومن الكتب الشاملة فيه كتاب نصير الدين الطوسي وكتاب : ( ( البهائية ) ) وشرحه وكتاب المحمدية لعلي القوشجي وغير ذلك من الكتب التي لا تحصى
ولأهل المغرب طرق ينفردون بها في الأعمال الجزئية من هذا العلم فمنها قريبة المآخذ لطرق ابن الياسين ومنها بعيدة كطرق الحضار كذا في المدينة
ومنها علم الجبر والمقابلة وقد سبق في الجيم
ومنها علم حساب الخطأين وهو قسم من مطلق الحساب وسيأتي في الخاء المعجمة وإنما جعل علما برأسه لتكثير الأنواع
ومنها علم حساب النجوم وهو علم يبحث فيه عن كيفية حساب الأرقام الواقعة في الزيجات وهذا وإن كان من فروع علم العدد إلا أنه لما امتازت عن سائر علم الحساب بقواعد مخصوصة يعرفها أهلها وتوقف علم التقويم عليه جعلوه علما برأسه . ( 2 / 241 )
ومنها علم حساب الدور والوصايا وهو علم يتعرف منه مقدار ما يوصي به إذا تعلق بدور في بادئ النظر
مثال : رجل وهب لعتقه في مرض موته مائة درهم لا مال له غيرها فقبضها ومات قبل موت سيده وخلف بنتا والسيد المذكور ثم مات السيد فظاهر المسئلة أن الهبة تمضي من المائة في ثلثها فإذا مات المعتق رجع إلى السيد نصف الجائز بالهبة فيزداد مال السيد من إرثه وهلم جرا
وبهذا العلم يتعين مقدار الجائز بالهبة

(2/240)


وظاهر أن منفعة هذا العلم جليلة وإن كانت الحاجة إليه قليلة ومن كتبه كتاب لأفضل الدين الخونجي
أقول هذا العلم يؤول إلى علم الجبر والمقابلة وفيه تأليف لطيف لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة إحدى وثمانين ومائتين وكتاب نافع لأحمد بن محمد الكرابيسي وكتاب مفيد لأبي كامل شجاع بن مسلم ذكر فيه كتاب الوصايا بالجذور للحجاج بن يوسف
ومنها علم حساب الدرهم والدينار وهي علم يتعرف منه كيفية استخراج المجهولات العددية التي تزيد عدتها على المعادلات الجبرية ولهذه الزيادة لقبوا تلك المجهولات بالدرهم والدينار والفلس وغير ذلك ومنفعته كمنفعة الجبر والمقابلة فيما يكثر فيه الأجناس المعادلة
ومن الكتب المؤلفة فيه كتاب لابن فلوس إسماعيل بن إبراهيم بن غازي المارديني الحنبلي المتوفى سنة سبع وثلاثين وستمائة والرسالة المغربية والرسالة الشاملة للخرقي والكافي الكرخي ومختصره للسمؤل بن يحيى بن عباس المغربي الإسرائيلي المتوفى سنة ست وسبعين وخمسمائة كذا في إرشاد القاصد وكتاب لابن المحلي الموصلي
ومن المبسوطة فيه الكافي والكامل لأبي القاسم بن السمح . ( 2 / 242 )
ومنها علم حساب الفرائض وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة مما نصح باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حساب يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزية
وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدد لذلك بعدد أكثر وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان
وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ وينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان وكان غالبا فيه وجعلوه فناء مفردا وللناس فيه تآليف كثيرة
أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي
ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم
وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب

(2/241)


وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه ( إن الفرائض ثلث العلم وإنها أول ما ينسى ) وفي رواية ( نصف العلم ) خرجه أبو نعيم الحافظ واحتج به أهل الفرائض بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة
والذي يظهر أن هذا المحمل بعيد وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها وبهذا المعنى يصحح فيها المنصفية والثلثية
وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علم الشريعة كلها أو يعين هذا المراد أن حمل اللفظ للفرائض على هذا الفن المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنما لهو صلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون ( 2 / 243 ) والاصطلاحات ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا الأعلى عموم مشتقا من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشرعية فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم وبه التوفيق انتهى كلام ابن خلدون ملخصا
ومنها علم حساب الهواء وهو علم يتعرف منه كيفية حساب الأموال العظيمة في الخيال بلا كتابة ولها طرق وقوانين مذكورة في بعض الكتب الحسابية وهذا العلم عظيم النفع للتجار في الأسفار وأهل السوق من العوام الذين لا يعرفون الكتابة وللخواص إذا عجزوا عن إحضار آلات الكتابة
ومنها علم حساب العقود أي عقود الأصابع وقد وضعوا كلا منها بإزاء عدد مخصوص ثم رتبوا الأوضاع الأصابع آحادا وعشرات ومئات وألوفا ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة
وهذا عظيم النفع للتجار سيما عند استعجام كل من المتبايعين لسان الأخر عند فقد آلات الكتابة
والعصمة عن الخطأ في هذا العلم أكثر من حساب الهواء
وكان هذا العلم يستعمله الصحابة رضي الله عنهم كما وقع في الحديث في كيفية وضع اليد على الفخذ

(2/242)


ومنه في التشهد أنه عقد خمسا وخمسين وأراد بذلك هيئة وضع الأصابع لأن هيئة عقد خمس وخمسين في علم العقود هي عقد أصابع اليد غير السبابة والإبهام وتحليق الإبهام معها وهذا الشكل في العلم المذكور دال على العدد المرقوم فالراوي ذكر المدلول وأراد الدال
وهذا دليل على شيوع هذا العلم عندهم والمراد بالعقود في تمثيل الدلالة غير اللفظية الوضعية هي عقود الأصابع حيث مثلوها بالخطوط والعقود والإشارات والنصب وفي هذا العلم أرجوزة لابن الحرب أورد فيها مقدار الحاجة ورسالة ( 2 / 244 ) لشرف الدين اليزدي أورد فيها قدر الكفاية
ومنها علم إعداد الوفق وتقدم في الألف
ومنها علم خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة وسيأتي في الخاء
ومنها علم التعابي العددية وقد سبق في التاء وهذه الثلاثة من فروع علم العدد من حيث الحساب ومن فروع الخواص من جهة أخرى ولذلك أوردناها إجمالا كما أوردها صاحب ( ( مفتاح السعادة ) ) و ( ( مدينة العلوم ) ) وأما علم حساب النجوم فهو علم يتعرف منه قوانين حساب الدرج والدقائق والثواني والثوالث بالضرب والقسمة والتجذير والتفريق ومرابتها في الصعود والنزول وتقدم وفيه كتب مفردة غير ما بين في مبسوطات الكتب الحسابية
وأما المصنفات في علم الحساب مطلقا فكثيرة ذكرها صاحب ( كشف الظنون ) على ترتيب الكتاب إجمالا لا نطول بذكرها

(2/243)


علم الحضري والسفري من الآيات

(2/244)


هو من فروع علم التفسير ذكره أبو الخير لمجرد تكثير السواد وإلا فلا وجه لعده علما برأسه وكذا أكثر ما ذكره من التفاريع قال وأمثلة الحضري كثيرة وأما أمثلة السفري فقد ضبطوها وارتقت إلى نيف وأربعين كما في ( ( الإتقان ) )

(2/244)


علم حكايات الصالحين

(2/244)


قال أبو الخير هو من فروع علم التواريخ والمحاضرة وقد اعتنى بجمعها طائفة وافردوها بالتدوين كصفوة الصفوة لابن الجوزي وروض الرياحين لليافعي وغير ذلك ( 2 / 245 )
وغايته وغرضه ظاهرة ومنفعته أجل المنافع وأعظمها انتهى ما في ( ( كشف الظنون ) )

(2/244)


علم الحكمة

(2/245)


هو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وموضوعه الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان
وعرفه بعض المحققين بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية
عني بذل جهده الإنساني بتمامه في أن يكون بحثه مطابقا لنفس الأمر فدخلت في التعريف المسائل المخالفة لنفس الأمر المبذولة الجهد بتمامه في تطبيقها على نفس الأمر
فيكون موضوعه الأعيان الموجودة وفوائد قيود هذه الحدود مذكورة في ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) بما لها وعليها
وغايته هي التشريف بالكمالات في العاجل والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل
وتلك الأعيان إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا اختيارنا أولا
فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية لأن غايتها ابتداء الأعمال التي لقدرتنا مدخل فيها فنسبت إلى الغاية الابتدائية

(2/245)


والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية لأن المقصود منها حصل بالنظر ( 2 / 246 ) وهو الإدراكات التصورية والتصديقية المتعلقة بالأمور التي لا مدخل لقدرتنا واختيارنا فيها
ولا يرد أن الحكمة العملية أيضا منسوبة إلى النظر لأن النظر ليس غايتها ولأن وجه التسمية لا يلزم اطراده وذكر الحركة والسكون والمكان في الحكمة الطبيعية بناء على كونها من أحوال الجسم الطبيعي الذي ليس وجوده بقدرتنا وإن كانت تلك مقدورة لنا
وكل منهما ثلاثة أقسام :
أما العلمية فلأنها أمام علم بمصالح شخص بانفراده ويسمى تهذيب الأخلاق وقد ذكر في علم الأخلاق ويسمى الحكمة الخلقية وفائدتها تنقيح الطبائع بأن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكي بها النفس وإن تعلم الرذائل وكيفية توقيها لتطهر عنها النفس
وأما علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملولك ونحو ذلك ويسمى تدبير المنزل والحكمة المنزلية وقد سبق في التاء
وأما علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ويسمى : السياسة المدنية وسيأتي في السين
وفائدتها : أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان كما أن فائدة تدبير المنزل أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود
وفائدة هذه الحكمة عامة شاملة لجميع أقسام الحكمة العملية ثم مبادئ هذه الثلاثة من جهة الشريعة وبها تتبين كمالات حدودها أي بعض هذه الأمور معلومة من صاحب الشرع على ما يدل عليه تقسيمهم الحكمة المدنية إلى ما يتعلق بالسلك والسلطنة إذ ليس العلم بهما من عند صاحب الشرع كذا ذكر السيد السند في حواشي شرح حكمة العين . ( 2 / 247 )

(2/245)


وأما النظرية فلأنها إما علم بأحوال مالا يفتقر في الوجود الخارجي والتعقل إلى المادة كالإله وهو العلم الإلهي وقد سبق في الألف
وأما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقل كالكرة وهو العلم الأوسط يسمى بالرياضي والتعليمي وسيأتي في الراء
وأما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والعقل كالإنسان وهو العلم الأدنى ويسمى بالطبيعي وسيأتي في الطاء
وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلا قسمين ما لا يقارنها مطلقا كالإله والعقول وما يقارنها لكن لا على وجه الافتقار كالوحدة والكثرة وسائر الأمور العامة فيسمى العلم بأحوال الأول : علما إلهيا
والعلم بأحوال الثاني : علما كليا وفلسفة أولى
واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا ؟ فمن فسرها بما يخرج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل جعله منها بل جعل العمل أيضا منها وكذا من ترك الأعيان من تعريفها جعله من أقسام الحكمة النظرية إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا
وأما من فسرها بأحوال الأعيان الموجودة وهو المشهور بينهم فلم يعده منها لأن موضوعه ليس من أعيان الموجودات والأمور العامة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت بالأعيان فتدخل في التعريف
ومن الناس من جعل الحكمة اسما لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية أي : خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية والتصديقية بحسب الطاقة البشرية

(2/247)


ومنهم من جعلها اسما لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة واستكمال القوة العملية باكتساب الملكة التامة على الأقوال الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط وكلام الشيخ في ( ( عيون الحكمة ) ) يشعر بالقول الأول وهو جعل الحكمة اسما للكمالات المعتبرة في القوة النظيرة فقط وذلك لأنه فسر الحكمة ( 2 / 248 ) باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات سواء كانت في الأشياء النظرية أو في الأشياء العملية فهي مفسرة عنده باكتساب هذه الإدراكات
وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة فما جعلها جزء منها بل جعلها غاية للحكمة العملية
وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية كما إن الحكمة الطبيعية و الإلهية منها بمنزلة الكلام منها وبيان ذلك أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان بما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة
والجملة معرفة المبدأ والمعاد والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين :
أحدهما : طريقة أهل النظر والاستدلال
وثانيهما : طريقة أهل الرياضة والمجاهدات . والسالكون للطريقة الأولى إن التزموا ملة من ملل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم المتكلمون إلا فهم الحكماء المشاؤون والسالكون إلى الطريقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية وإلا فهم الحكماء الإشراقيون فلكل طريقة طائفتان

(2/247)


وحاصل الطريقة الأولى : الاستكمال بالقوة النظرية والترقي في مراتبها الأربعة - أعني مرتبة العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل بالملكة والعقل المستفاد - والأخيرة هي الغاية القصوى لكونها عبارة عن مشاهدة النظريات التي أدركتها النفس بحيث لا يغيب عنها شيء ولهذا قيل :
لا يوجد المستفاد لأحد في هذه الدار بل في دار القرار اللهم إلا لبعض المتجردين عن علائق البدن والمنخرطين في سلك المجردات
وحاصل الطريقة الثانية : الاستكمال بالقوة العملية والترقي في درجاتها التي أولها : تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والنواميس الإلهية ( 2 / 249 )
وثانيها : تهذيب الباطن عن الأخلاق الذميمة
وثالثها : تحلي النفس بالصور القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام
ورابعها : ملاحظة جمال الله - سبحانه وتعالى - وجلاله وقصر النظر على كماله والدرجة الثالثة من هذه القوة وإن شاركتها المرتبة الرابعة من القوة النظرية فإنها تفيض على النفس منها صور المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العقل المستفاد إلا أنها تفارقها من وجهين :
أحدهما : إن الحاصل المستفاد لا يخلو عن الشبهات الوهمية لأن الوهم له استيلاء في طريق المباحثة بخلاف تلك الصور القدسية فإن القوى الحسية قد تسخرت هناك للقوة العقلية فلا تنازعها فيما تحكم به
وثانيهما : إن الفائض على النفس في الدرجة الثالثة قد تكون صورا كثيرة استعدت النفس بصفائها عن الكدورات وصقالتها عن أوساخ التعلقات لأن تفيض تلك الصور عليها كرات صقلت وحوذي بها ما فيه صور كثيرة فإنه يتراءى فيها ما تسع هي من تلك الصور والفائض عليها في العقل المستفاد هو العلوم التي تناسب تلك المبادئ التي رتبت معا للتأدي إلى مجهول كمرآة صقل شيء يسير منها فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياء المحاذية لها . ذكره ابن خلدون في ( ( المقدمة ) )

(2/248)


وأما العلوم العقلية التي هي طبيعة للإنسان من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني مذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم : علوم الفلسفة والحكمة
وهي سبعة : المنطق وهو المقدم
وبعده التعاليم فالأرثماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم ( 2 / 250 ) الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه
واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الأمتان العظيمتان فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام لهم
وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين والقبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعهما من التأثيرات والطلسمات . وأخذ عنهم الأمم من فارس ويونان ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه إلا بقايا تناقلها المنتحلون

(2/249)


وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ولقد يقال : إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل إسكندر دارا وغلب على مملكته واستولى على كتبهم وعلومهم إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين
فكتب إليه عمر رضي الله عنه : أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله تعالى فطرحوها في الماء أو في النار فذهبت علوم الفرس فيها
وأما الروم : فكانت الدولة فيهم ليونان أولا وكان لهذه العلوم شأن عظيم وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الذوق واتصل سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه إسكندر الأفرودوسي وكان أرسطو أرسخهم في هذه العلوم ولذلك يسمى : المعلم الأول
ولما انقرض أمر اليونانيين وصار الأمر للقياصرة وتنصروا هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع وبقيت من صحفها ودواوينها مجلدات في خزائنهم ( 2 / 251 )

(2/250)


ثم جاء الإسلام وظهر أهله عليهم وكان ابتداء أمرهم بالغفلة عن الصنائع حتى إذا اتضح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم : أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات وقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها
وجاء المأمون من بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة فأوفد الرسل إلى ملك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأخذ منها واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول ودونوا في ذلك الدواوين
وكان من أكابرهم في الملة : أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا في المشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصانع بالأندلس بلغوا الغاية في هذه العلوم
واقتصر كثير على انتحال التعاليم وما يضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقفت الشهرة على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس
ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منه إلا قليلا من رسومه وبلغنا عن أهل المشرق :
أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما وراء النهر لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم وكذلك يبلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الفرنجة وما يليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وإن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة انتهى خلاصة ما ذكره ابن خلدون

(2/251)


أقول : وكانت سوق الفلسفة والحكمة نافقة في الروم أيضا بعد الفتح ( 2 / 252 ) الإسلامي إلى أواسط الدولة العثمانية وكان شرف الرجل في تلك الأعصار بمقدار تحصيله وإحاطته من العلوم العقلية والنقلية وكان في عصرهم فحول ممن جمع بين الحكمة والشريعة كالعلامة شمس الدين الفناري والفاضل قاضي زاده الرومي والعلامة خواجه زاده والعلامة علي القوشجي والفاضل ابن المؤيد وميرجلبي والعلامة ابن الكمال والفاضل ابن الحنائي وهو آخرهم
ولما حل أوان الانحطاط ركدت ريح العلوم وتناقصت بسبب منع بعض المفتين عن تدريس الفلسفة وسوقه إلى درس الهداية والأكمل فاندرست العلوم بأسرها إلا قليلا من رسومه فكان المولى المذكور سببا لانقراض العلوم من الروم وذلك من جملة أمارة انحطاط الدولة كما ذكره ابن خلدون والحكم لله العلي العظيم
ونقل في الفهرس : أنه كانت الحكمة في القديم ممنوعا منها إلا من كان من أهلها ومن علم أنه يتقبلها طبعا

(2/251)


وكانت الفلاسفة تنظر في مواليد من يريد الحكمة والفلسفة فإن علمت منها أن صاحب المولد في مولده حصول ذلك استخدموه وناولوه الحكمة وإلا فلا
وكانت الفلسفة ظاهرة في اليونانيين والروم قبل شريعة المسيح عليه السلام فلما تنصرت الروم منعوا منها وأحرقوا بعضها وخزنوا البعض إذ كانت بضد الشرائع
ثم إن الروم عادت إلى مذهب الفلاسفة وكان السبب في ذلك أن جوليانوس بن قسطنطين وزر له تامسطيوس مفسر كتب أرسطاطاليس
ثم قتل جوليانوس في حرب الفرس ثم عادت النصرانية إلى حالها وعاد المنع أيضا وكانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وكان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى : حكيم آل مروان فاضلا في نفسه له همة ومحبة للعلوم خطر بباله ( 2 / 253 ) الصنعة فأحضر جماعة من الفلاسفة فأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اليوناني إلى العربي وهذا أول نقل كان في الإسلام
ثم إن المأمون رأى في منامه رجلا حسن الشمائل فقال : من أنت ؟ فقال : أرسطاطاليس فسأل عن الحسن فقال : ما حسن في العقل ثم ماذا ؟ فقال : فما حسن في الشرع فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب
وكان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله إنفاد ما يختار من الكتب القديمة المخزونة بالروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم : الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة فأخذوا ما اختاروا وحملوا إليه فأمرهم بنقله فنقل
وكان يوحنا بن مأسويه ممن ينفد إلى الروم وكان محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم ممن عني بإخراج الكتب وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئا فنقل له

(2/252)


وأول من تكلم في الفلسفة على زعم فرفوريوس الصوري في تاريخه السرياني سبعة أولهم : ثاليس
قال آخرون : قوتاغورس وهو أول من سمى الفلسفة بهذا الاسم وله رسائل تعرف بالذهبيات لأن جالينوس كان يكتبها بالذهب
ثم تكلم على الفلسفة سقراط من مدينة أيتنه بلد الحكمة
ومن أصحاب سقراط أفلاطون كان من أشراف يونان وكان في قديم أمره يميل إلى الشعر فأخذ منه بحظ عظيم ثم حضر مجلس سقراط فرآه يسب الشعراء فتركه ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة وعنه أخذ أرسطاطاليس وألف كتبا وترتيب كتبه هكذا : المنطقيات الطبيعيات الإلهيات الخلقيات
أما المنطقية فهي ثمان كتب قاطيغورياس معناه : المقالات نقله حنين وفسره فرفوريوس والفارابي ( 2 / 254 )
ياريمنياس : معناه العبارة نقله حنين إلى السريانية وإسحاق إلى العربي وفسره الكندي
أنالوطيقا معناه : تحليل القياس نقله تيودورس إلى العربي وفسره الكندي
أنورطيقا ومعناه : البرهان نقله إسحاق إلى السرياني ونقل متى نقل إسحاق إلى العربي وشرحه الفارابي
طوبيقا ومعناه : الجدل نقله إسحاق إلى السرياني ونقل يحيى هذا النقل إلى العربي وفسره الفارابي
سوفسطيقا ومعناه : المغالطة والحكمة المموهة نقله ابن ناعمة إلى السرياني ونقله يحيى بن عدي إلى العربي من السرياني وفسره الكندي
ريطوريقا معناه : الخطابة قيل : إن إسحاق نقله إلى العربية وفسره الفارابي
أنوطيقا معناه : الشعر نقله متى من السرياني إلى العربي
وأما الطبيعيات والإلهيات ففيهما كتاب السماع الطبيعي بتفسير الإسكندر وهو ثمان مقالات فوجد تفسير مقالة بجماعة
وكتاب السماء والعالم وهو أربع مقالات نقله متى وشرح الأفرودات
وكتاب الكون والفساد نقله حنين إلى السرياني وإسحاق إلى العربي
وكتاب الأخلاق فسره فرفوريوس
أسماء النقلة اصطفن القديم نقل لخالد بن يزيد كتب الصنعة وغيرها
والبطريق كان في أيام المنصور ونقل أشياء بأمره
وابن يحيى الحجاج بن مطر وهو الذي نقل المجسطي وإقليدس للمأمون
وابن ناعمة عبد المسيح الحمصي وسلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة
وحسين بن بهريق فسر المأمون عدة كتب وهلال بن أبي هلال الحمصي وابن آوى وأبو نوح بن الصلت وابن رابطة وعيسى بن نوح وقسطا بن لوقا البعلبكي جيد النقل وحنين وإسحاق وثابت وإبراهيم بن الصلت ويحيى بن عدي وابن المقفع نقل من الفارسية إلى العربية وكذا موسى ويوسف ابنا خالد والحسن ( 2 / 255 ) ابن سهل والبلاذري وكنكه الهندي نقل من الهندية إلى العربية وابن وحشية نقل من النبطية إلى العربية

(2/253)


وذكر الشهرستاني في ( ( الملل والنحل ) ) : إن فلاسفة الإسلام الذين فسروا ونقلوا كتبها من اليونانية إلى العربية وأكثرهم على رأي أرسطو منهم :
حنين وأبو الفرج وأبو سليمان السنجري ويحيى النحوي ويعقوب بن إسحاق الكندي وأبو سليمان محمد ابن بكير المقدسي وثابت بن قرة الحراني وأبوتمام يوسف بن محمد النيسابوري وأبو زيد أحمد بن سهل البلخي وأبو الحارث حسن بن سهل القمي وأبو حامد بن محمد الإسفرائني وأبو زكريا يحيى الصيمري وأبو نصر الفارابي وطلحة النسفي وأبو الحسن العامري وابن سينا
وفي ( ( حاشية المطالع ) ) لمولانا لطفي أن المأمون جمع مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق وثابت بن قرة وترجموها بتراجم متخالفة مخلوطة غير ملخصة ومحررة لا توافق ترجمة أحدهم للآخر فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة بل أشرف إن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي
ثم إنه التمس منه ملك زمانه مصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه بالتعليم الثاني فلذلك لقب : بالمعلم الثاني
وكان هذا في خزانة المنصور إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد منصور كما هو مسودا بخط الفارابي غير مخرج إلى البياض إذ الفارابي غير ملتفت إلى جمع تصانيفه وكان الغالب عليه السياحة على زي القلندرية وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسمى : صوان الحكمة
وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزير المسعود وتقرب إليه بسبب الطب حتى استورده وسلم إليه خزانة الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب ( ( الشفاء ) ) ( 2 / 256 )
ثم إن الخزانة أصابها آفة فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته ثم أحرقها لئلا ينتشر بين الناس ولا يطلع عليه فإنه بهتان وإفك لأن الشيخ مقر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح في بعض رسائله
وأيضا يفهم في كثير من مواضع ( ( الشفاء ) ) أنه تلخيص التعليم الثاني انتهى إلى هنا خلاصة ما ذكروه في أحوال العلوم العقلية وكتبها ونقلها إلى العربية والتفصيل في تاريخ الحكماء

(2/255)


ثم إن الإسلاميين لما رأوا في العلوم الحكمية ما يخالف الشرع الشريف صنفوا فنا للعقائد واشتهر بعلم الكلام
لكن المتأخرين من المحققين أخذوا من الفلسفة ما لا يخالف الشرع وخلطوا به الكلام لشدة الاحتياج إليه كما قال العلامة سعد الدين في ( ( شرح المقاصد ) ) فصار كلامهم حكمة إسلامية ولم يبالوا برد المتعصبين وإنكارهم على خلطهم لأن المرء مجبول على عداوة ما جهله
لكنهم لما لم يكن أخذهم وخلطهم على طريق النقل والاستفادة بل على سبيل الرد والاعتراض والنقص والإبرام في كثير من الأمور الطبيعية والفلكية والعنصرية . قام أشخاص من الإسلاميين كالنصير وابن رشد ومن غير الإسلاميين وانتصبوا في ردهم وتزييفهم فصار فن الكلام كالحكمة في النقض وتزييف الدلائل
كما قال الفاضل القاضي مير حسين الميبذي في آخر رسالته المعرفة ( ( بجام كيتي نما ) ) : فاللائق بحال الطالب أن ينظر في كلام الفريقيين وكلام أهل المتصوف ويستفيد من كل منهما ولا ينكر إذ الإنكار سبب البعد عن الشيء كما قال الشيخ في آخر ( ( الإشارات ) )
وأما الكتب المصنفة في الحكمة الطبيعية والإلهية والرياضية فأكثرها ليس بإسلامي بل يوناني ولاتيني لأن معظم الكتب بقي في بلادهم ولم ينقل إلى العربي إلا الشاذ النادر وما نقل لم يبق على أصل معناه لكثرة التحريفات في خلال ( 2 / 257 ) التراجم كما هو أمر مقرر في نقل الكتب من لسان إلى لسان

(2/256)


وقد اختبرنا وحققنا ذلك حين الاشتغال بنقل كتاب أطلس وغيره من لغة لاتن إلى اللغة التركية فوجدناه كذلك ولم نر أعظم كتابا من ( ( الشفا ) ) في هذا الفن مع أنه شيء يسير بالنسبة إلى ما صنف أهل أقاديميا التي في بلاد أورفا
ثم إن بعض المحققين أخذ طرفا من كتب الشيخ ( ( كالشفا ) ) و ( ( النجاة ) ) و ( ( الإشارات ) ) و ( ( عيون الحكمة ) ) وغيرها وجعل مقدمة ومدخلا للعلوم العقلية ( ( كالهداية ) ) لأثير الدين الأبهري و ( ( عين القواعد ) ) للكابر القزويني فصار قصارى همم أهل زماننا الاكتفاء بشيء من قراءة الهداية ولو تجرد بعض المشتغلين وسعى إلى مذاكرة حكمة العين لكان ذلك أقصى الغاية فيما بينهم وقليل ما هم . انتهى ما في ( ( كشف الظنون ) )

(2/257)


علم الحمامات

(2/257)


ويقال له : علم الديماس والحمام : وضع صناعي مركب الكيفية للتدبير والاستفراغ في الداخل والخارج معا
وغايته : جلب المنافع للبدن ودفع المضار عنه باعتبار حالة عناصر ذلك البدن فيتبعها صحة أو فساد والحاجة باعثة إلى اتخذاه
وهذا العلم من فروع علم الطب وفيه رسالة للسيوطي ورسالة للحكيم محمد أحسن الحاجي فوري نزيل بهوبال لطف الله به في الحال والمال
قال الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني في كتابه ( ( وبل الغمام ) ) :
إنها قد وردت في الحمامات روايات غالبها الضعاف فيها ما هو في رتبة الحسن وحاصل ( 2 / 258 ) ما دلت عليه تحريم دخوله على النساء مطلقا وعلى الرجال إلا في المآزر وقد استوفيت ذلك في الرسالة المسماة ( ( تفويق النبال إلى إرسال المقال ) ) جعلتها جوابا لرسالة سماها مؤلفها إرسال المقال إلى حل الإشكال ) ) انتهى كلامه - رحمه الله - تعالى

(2/257)


علم الحيل الساسانية

(2/258)


ذكره أبو الخير من فروع علم السحر وقال : هو : علم يعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع وتحصيل الأموال والذي باشرها يتزيا في كل بلدة بزي يناسب تلك البلدة بأن يعتقد أهلها في أصحاب ذلك الزي فتارة يختارون زي الفقهاء وتارة زي الوعاظ وتارة زي الأشراف وتارة زي الصوفية إلى غير ذلك
ثم إنهم يحتالون في خداع العوام بأمور تعجز العقول عن ضبطها والتفطن لها منها ما حكى واحد أنه رأى في جامع البصرة قردا على مركب مثل ما يركبه أبناء الملوك وعليه ألبسة نفيسة نحو ملبوساتهم وهو يبكي وينوح وحوله خدم يتبعونه ويبكون ويقولون :
يا أهل العافية اعتبروا بسيدنا هذا فإنه كان من أبناء الملوك عشق امرأة ساحرة وبلغ حاله بسحرها إلى أن مسخ إلى صورة القرد وطلبت منه مالا عظيما لتخليصه من هذه الحالة والقرد يبكي بأنين وحنين والعامة يرقون عليه ويبكون وجمعوا لأجله شيئا عظيما من الأموال ثم فرشوا له في الجامع سجادة فصلى عليها ركعتين ثم صلى الجمعة مع الناس ثم ذهبوا بعد الفراغ عن الجمعة بتلك الأموال
وأمثال هذه الحيل كثيرة جدا قلت : ذكرت هذه الحكاية في تاريخ ميراخوند ( 2 / 259 ) أيضا وكتاب ( ( المختار في كشف الأستار ) ) بالغ في كشف هذه الأسرار والله أعلم

(2/258)


علم الحيل الشرعية

(2/259)


هو : باب من أبواب الفقه بل فن من فنونه كالفرائض وقد صنفوا فيه كتبا أشهرها : ( ( كتاب الحيل ) ) للشيخ الإمام أبي بكر أحمد بن عمر المعروف بالخصاف الخفي المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين وهو في مجلدين ذكره التميمي في ( ( طبقات الحنفية ) )
وله شروح منها ( ( شرح شمس الأئمة ) ) الحلواني
وشرح ( ( شمس الأئمة ) ) السرخسي وشرح الإمام خواهر زاده
ومنها : كتاب محمد بن علي النخعي . وابن سراقة . و أبي بكر الصيرفي . و أبي حاتم القزويني . وغير ذلك ذكروا فيه الحيل الدافعة للمغالبة وأقسامها من المحرمة والمكروهة والمباحة
وقد أطال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتاب ( ( أعلام الموقعين عن رب العالمين ) ) في إبطال الحيل التي أحدثها الفقهاء وأجاد

(2/259)


علم الحيوان

(2/259)


هو : علم باحث عن أحوال خواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها
وموضوعه : جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر وغير ذلك
والغرض منه : التداوي والانتفاع بالحيوانات والاجتناب عن مضارها والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها ( 2 / 260 )
مثلا : في غرب الأندلس حيوان لو أكل الإنسان أعلاه أعطي بالخاصية علم النجوم وإذا أكل وسطه أعطي علم النبات وإذا أكل عجزه - وهو ما يلي ذنبه - أعطي علم المياه المغيبة في الأرض فيعرف إذا أتى أرضا لا ماء فيها على كم ذراع يكون الماء فيها
وفيه كتب قديمة وإسلامية منها كتاب ( ( الحيوان ) ) لديموقراس ذكر فيه طبائعه ومنافعه وكتاب ( ( الحيوان ) ) لأرسطاطاليس تسع عشرة مقالة نقله ابن البطريق من اليوناني إلى العربي وقد يوجد سريانيا نقلا قديما أجود من العربي ولأرسطو أيضا كتاب في نعت الحيوان الغير الناطق وما فيه من المنافع والمضار وكتاب ( ( الحيوان ) ) لأبي عثمان عمرو ابن بحر الجاحظ البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وهو كبير أوله ( جنبك الله تعالى الشبهة وعصمك من الحيرة . . . . الخ )
قال الصفدي : ومن وقف على كتابه هذا وغالب تصانيفه ورأى فيها الاستطرادات التي استطردها والانتقالات التي ينتقل إليها والجهالات التي يعترض بها في غصون كلامه بأدنى ملابسه علم ما يلزم الأديب وما يتعين عليه من مشاركة المعارف

(2/259)


أقول : ما ذكره الصفدي من إسناد الجهالات إليه صحيح واقع فيما يرجع إلى الأمور الطبيعية فإن الجاحظ من شيوخ الفصاحة والبلاغة لا من أهل هذا الفن
ومختصر حيوان الجاحظ لأبي القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد جعفر المتوفى سنة ثمان وستمائة . وكتاب ( ( حياة الحيوان ) ) للشيخ كمال الدين محمد بن عيسى الدميري الشافعي المتوفى سنة ثمان وثمانمائة وهو كتاب مشهور في هذا الفن جامع بين الغث والسمين لأن المصنف فقيه فاضل محقق في العلوم الدينية لكنه ليس من أهل هذا الفن كالجاحظ وإنما مقصده تصحيح الألفاظ وتفسير الأسماء المبهمة كما أشار إليه في أول كتابه هذا وذكر أنه جمعه من خمسمائة وستين كتاب أو مائة وتسعة وتسعين ديوانا من دواوين شعراء العرب وجعله نسختين صغرى ( 2 / 261 ) وكبرى في كبيراه زيادة التاريخ وتعبير الرؤيا وله مختصرات ذكرها في ( ( كشف الظنون ) )
وعبارة ( ( مدينة العلوم ) ) : وقد صنف فيه كمال الدين الدميري تصنيفا حسنا مطولا ومختصرا ورأيت مختصرا يسمى ( ( بخواص الحيوان ) ) وهو كاف في هذا الباب إلا أني لم أعرف مصنفه انتهى
قلت : وقد طبع كتاب ( ( حياة الحيوان الكبرى ) ) بمصر القاهرة ولهذا الزمان وعم نفعه في البلاد ( 2 / 262 ) ( 2 / 263 )

(2/260)


باب الخاء المعجمة

(2/263)


علم الخطأين

(2/263)


من فروع علم الحساب وهو علم يتعرف منه استخراج المجهولات العددية إذا أمكن صيرورتها في أربعة أعداد متناسبة
ومنفعته : نحو منفعة الجبر والمقابلة إلا أنه أقل عموما منه وأسهل عملا
وإنما سمي به : لأنه يفرض المطلوب شيئا ويختبر وإن وافق فذاك وإلا حفظ ذلك الخطأ وفرض المطلوب شيئا آخر ويختبر فإن وافق فذاك وإلا حفظ الثاني ويستخرج المطلوب منهما ومن المقدارين المفروضين
وعلى هذا فإذا اتفق وقوع المسألة أولا في أربعة أعداد متناسبة أمكن استخراجها بخطأ واحدا ومن الكتب الكافية فيه كتاب لزين الدين المغربي وبرهن عليه ابن علي الحسن بن الحسن بن الهيثم الفيلسوف المتوفى سنة ثلاثين وأربعمائة على طرق

(2/263)


علم الخط

(2/263)


هو : معرفة كيفية تصوير اللفظ بحروف هجائه إلى أسماء الحروف إذا قصد بها المسمى هو في بإحداكم رحيم معين فإنما يكتب هذه الصورة جعفر لأنه سماها ( 2 / 264 ) خطا ولفظا ولذلك
قال الخليل لما سألهم : كيف تنطقون بالجيم جعفر ؟ فقالوا : جيم إنما نطقتم بالاسم ولم تنطقوا بالمسؤول عنه والجواب : جه لأنه المسمى فإن سمي به مسمى آخر كتب كغيرها نحو ياسين وحاميم ( يس ) و ( حم )
هذا ما ذكروه في تعريفه والغرض والغاية ظاهران لكنهم أطنبوا في بيان أحوال الخط وأنواعه ونحن نذكر خلاصة ما ذكروا في فصول
فصل في فضل الخط
اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - أضاف تعليم الخط إلى نفسه وامتن به على عباده في قوله : ( علم بالقلم ) وناهيك بذلك شرفا
وقال عبد الله بن عباس : الخط لسان اليد قيل : ما من أمر إلا والكتابة موكل به مدبر له ومعبر عنه وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز به عن سائر الحيوانات
وقيل : الخط أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر فقط والخط يفهم الحاضر والغائب وفضائله كثيرة معروفة
فصل في وجه الحاجة إليه

(2/263)


اعلم أن فائدة التخاطب لما لم تتبين إلا بالألفاظ وأحوالها وكان ضبط أحوالها مما اعتنى العلماء كان ضبط أحوال ما يدل على الألفاظ أيضا ما يعتني بشأنه وهو الخطوط والنقوش الدالة على الألفاظ
فبحثوا عن أحوال الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وحركاتها وسكناتها ونقطها وشكلها وضوابطها من شداتها ( 2 / 265 ) ومداتها وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المعاني الحاصلة في الأذهان
فصل في كيفية وضعه وأنواعه
قيل : أول من وضع الخط آدم عليه السلام كتبه في طين وطبخه ليبقى بعد الطوفان
وقيل : إدريس وعن ابن عباس أن أول من وضع الخط العربي ثلاثة رجال من بولان قبيلة من طي نزلوا مدينة الأنبار فأولهم : مراز وضع الصور وثانيهم : أسلم وصل وفصل وثالثهم : عامر وضع الأعجام ثم انتشر
وقيل : أول من اخترعه ستة أشخاص من طلسم أسماؤهم : أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت فوضعوا الكتابة والخط وما شذ من أسمائهم من الحروف وألحقوها ويروى : أنها أسماء ملوك مدين
وفي السيرة لابن هاشم : أن أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ
قال السهيلي في ( ( التعريف والأعلام ) ) والأصح ما رويناه من طريق ابن عبد البر يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول من كتب بالعربية إسماعيل عليه السلام
قال أبو الخير : واعلم أن جميع كتابات الأمم اثنتا عشرة كتابة : بالعربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبرية والأندلسية والهندية والصينية
فخمس منها اضمحلت وذهب من يعرفها وهي : الحميرية واليونانية والقبطية والأندلسية والبريرية
وثلاثة بقي استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي : الرومية والهندية والصينية
وبقيت أربع هي المستعملات في بلاد الإسلام هي : العربية والفارسية والسريانية والعبرانية ( 2 / 266 )

(2/264)


أقول : في كلامه بحث من وجوه
أما أولا : فلأن الحصر في العدد المذكور غير صحيح إذ الأقلام المتداولة بين الأمم الآن أكثر من ذلك سوى المنقرضة فإن من نظر في كتب القدماء المدونة باللغة اليونانية والقبطية وكتب أصحاب الحرف الذين بينوا فيها أنواع الأقلام والخطوط علم صحة ما قلنا وهذا الحصر يبنى عن قلة الإطلاع
وأما ثانيا : فلأن قوله خمس منها اضمحلت ليس بصحيح أيضا لأن اليونانية مستعملة في خواص الملة النصرانية أعني : أهل أقاديميا المشهورة الواقعة في بلاد إسبانيا وفرنسا ونمسه وهي مماليك كثيرة واليونانية أصل علومهم وكتبهم
وأما ثالثا : فلأن قوله وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الرومية كلام سقيم أيضا إذ من يعرف الرومية في بلاد الإسلام أكثر من أن يحصى وينبغي أن يعلم أن الرومية المستعملة في زماننا منحرفة من اليونانية بتحريف قليل وأما القلم المستعمل بين كفرة الروم فغير القلم اليوناني
وأما رابعا : فلأن جعله السريانية والعبرانية من المستعملات في بلاد الإسلام ليس كما ينبغي لأن السرياني خط قديم بل هو أقدم الخطوط منسوب إلى سوريا وهي البلاد الشامية وأهلها منقرضون فلم يبق منهم أثر ثبت في التواريخ والعمرانية المستعملة فيما بين اليهود وهي مأخذ اللغة العربية وخطها . والعبراني يشبه العربي في اللفظ والخط مشابهة قليلة

(2/266)


فصل

(2/266)


واعلم : أن جميع الأقلام مرتب على ترتيب أبجد إلا القلم العربي وجميعها منفصل إلا العربي والسرياني والمغولي واليوناني
والرومية والقبطية من اليسار إلى اليمين والعبرانية والسريانية والعربية من اليمين إلى اليسار وكذا التركية والفارسية . ( 2 / 267 )
الخط السرياني :
ثلاثة أنواع : المفتوح
والمحقق ويسمى : ( ( أسطريحالا ) ) وهو أجلها
والشكل المدور ويقال له الخط الثقيل ويسمى ( ( أسكولينا ) ) وهو أحسنها والخط الشرطاوي يكتبون به الترسل والسرياني أصل النبطي
الخط العبراني :
أول من كتب به عامر بن شالح وهو مشتق من السرياني وإنما لقب بذلك حيث عبر إبراهيم الفرات يريد الشام
وزعمت اليهود والنصارى لا خلاف بينهم أن الكتابة العبرانية في لوحين من حجارة و : أن الله - سبحانه وتعالى - دفع ذلك إليه
الخط الرومي :
وهو أربعة وعشرون حرفا كما ذكرنا في المقدمة ولهم قلم يعرف ب ( المسميا ) ولا نظير له عندنا
فإن الحرف الواحد منه يدل على معان وقد ذكره جالينوس في ثابت كتبه
الخط الصيني :
خط لا يمكن تعلمه في زمان قليل لأنه يتعب كاتبه الماهر فيه ولا يمكن للخفيف اليد أن يكتب به في اليوم أكثر من ورقتين أو ثلاثة وبه يكتبون كتب ديانتهم وعلومهم
ولهم كتابة يقال لها كتابة المجموع وهو أن كل كلمة تكتب بثلاثة أحرف أو أكثر في صورة واحدة ولكل كلام طويل شكل من الحروف يأتي علم المعاني الكثيرة فإذا أرادوا أن يكتبوا ما يكتب في مائة ورقة كتبوه في صفحة واحدة ( 2 / 268 ) بهذا القلم
الخط المانوي :

(2/266)


مستخرج من الفارسي والسرياني استخرجه ماني كما أن مذهبه مركب من المجوسية والنصرانية وحروفه زائدة على حروف العربي
وهذا القلم يكتب به قدماء أهل ما رواء النهر كتب شرائعهم وللمرقنونية قلم يختصون به
الخط الهندي والسندي :
هو أقلام عدة يقال أن لهم نحو مائتي قلم بعضهم يكتب بالأرقام التسعة على معنى أبجد وينقطون تحته نقطتين أو ثلاثا
الخط الزنجي والحبشي :
على ندرة لهم قلم حروفه متصلة كحروف الحميري يبتدئ من الشمال إلى اليمين يفرقون بين كل اسم منها بثلاث نقط
الخط العربي :
في غاية تعويج إلى يمنة اليد وقال ابن إسحاق أول خطوط العربية :
الخط المكي وبعده المدني ثم البصري ثم الكوفي وأما المكي والمدني ففي شكله انضجاع يسير قال الكندي : لا أعلم كتابة يحتمل منها تحليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية ويمكن فيها سرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات . ( 2 / 269 )
فصل في أهل الخط العربي :
قال ابن اسحق : أول من كتب المصاحف في الصدر الأول ويوصف بحسن الخط خالد بن أبي الهياج وكان سعد نصبه لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك وكان الخط العربي حينئذ هو المعروف الآن بالكوفي ومنه استنبطت الأقلام كما في ( شرح العقيلة )
ومن كتاب المصاحف : خشنام البصري والمهدي الكوفي وكانا في أيام الرشيد
ومنهم أبو حدى وكان يكتب المصاحف في أيام المعتصم من كبار الكوفيين وحذاقهم

(2/268)


وأول من كتب في أيام بني أمية : قطبة وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض وكان أكتب الناس
ثم كان بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبة
ثم كان إسحاق بن حماد في خلافة المنصور والمهدي وله عدة تلامذة كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة وهي اثنا عشر قلما :
قلم الجليل قلم السجلات قلم الديباج قلم أسطورمار الكبير قلم الثلاثين قلم الزنبور قلم المفتح قلم الحرم قلم المدامرات قلم العهود قلم القصص قلم الحرفاج فحين ظهر الهاشميون حدث خط يسمى العراقي وهو المحقق ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ كتابه بتجويد خطوطهم وظهر رجل يعرف بالأحوال المحرر فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعا
ثم ظهر قلم المرضع وقلم النساخ وقلم الرياسي اختراع ذي الرياستين : الفضل بن سهل وقلم الرقاع وقلم غبار الحلية
ثم كان إسحاق بن إبراهيم التميمي المكنى بأبي الحسن معلم المقتدر وأولاده أكتب أهل زمانه وله رسالة في الخط اسماها ( تحفة الوامق ) . ( 2 / 270 )

(2/269)


ومن الوزراء الكتاب : أبو علي محمد بن علي بن مقلة المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وهو أول من كتب الخط البديع ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضا في نهاية الحسن
لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد الكاتب
ثم ظهر أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المتوفى سنة ست وعشرين وستمائة
ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة ثمان وتسعين وستمائة وهو الذي سار ذكره في الآفاق واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته
ثم اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي : الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع
ومن الماهرين في هذه الأنواع : ابن مقلة وابن البواب وياقوت وعبد الله أرغون وعبد الله الصيرفي ويحيى الصوفي والشيخ أحمد السهروردي ومبارك شاه السيوفي ومبارك شاه القطب وأسد الله الكرماني
ومن المشهورين في البلاد الرومية : حمد الله بن الشيخ الأماسي وابنه دده جلبي والجلال والجمال وأحمد القرة الحصاري وتلميذه حسن وعبد الله القريمي وغيرهم من النساخين

(2/270)


ثم ظهر قلم التعليق والديواني والدشتي وكان ممن اشتهر بالتعليق سلطان علي المشهدي ومير علي ومير عماد وفي الديواني تاج وغيرهم مدون في غير هذا المحل مفصلا ولسنا نخوض بذكرهم لأن غرضنا بيان علم الخط
وأما أبو الخير فأورد في الشعبة الأولى من ( ( مفتاح السعادة ) ) علوم متعلقة بكيفية الصناعة الخطية فنذكرها إجمالا في فصل
فمما ذكره : ( 2 / 271 )
أولا : علم أدوات الخط من القلم وطريق بريها وأحوال الشق والقط ومن الدواة والمداد والكاغد . فأقول هذه الأمور من أحوال علم الخط فلا وجه لإفراده ولو كان مثل ذلك علما لكان الأمر عسيرا
وذكر ابن البواب نظم فيه قصيدة رائية بليغة استقصى فيها أدوات الكتابة ولياقوت رسالة فيه أيضا
ومنها علم قوانين الكتابة : أي معرفة كيفية نقص صور الحروف البسائط وكيف يوضع القلم ومن أي جانب يبتدئ في الكتابة وكيف يسهل تصوير تلك الحروف
ومن المصنفات فيه : الباب الواحد من كتاب ( صبح الأعشى ) وما ذلك إلا علم الخط
ومنها علم تحسين الحروف وتقدم في باب التاء وهو أيضا من قبيل تكثير السواد قال : ومبنى هذا الفن الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة بحسب الألف والعادة والمزاج بل بحسب كل شخص وغير ذلك مما يؤثر في استحسان الصور واستقباحها ولهذا يتنوع هذا العلم بحسب قوم وقوم
ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه

(2/270)


أقول ما ذكره في الاستحسان مسلم لكن تنوعه ليس بمتفرع عليه وعدم وجدان الخطين المتماثلين لا يترتب على الاستحسان بل هو أمر عادي قريب إلى الجبلي كسائر أخلاق الكاتب وشمائله وفيه سر إلهي لا يطلع عليه إلا الأفراد
ومنها علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها بالاختصار والزيادة وغير ذلك من أنواع التغيرات بحسب قوم وقوم وبحسب أغراض معلومة في فنه
وحداق الخطاطين صنفوا فيها رسائل كثيرة سيما كتاب ( صبح الأعشى ) فإن فيه كفاية في هذا الباب لكن هو أيضا من هذا القبيل
ومنها علم ترتيب حروف التهجي بهذا الترتيب المعهود فيما بيننا واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط وإزالة التباسها بالنقط ( 2 / 272 ) واختلاف تلك النقط وتقدم ذكره في باء التاء
ولابن جني والجزي رسالة في هذا الباب أما ترتيب الحروف فهو من أحوال علم الحروف وإعجامها من أحوال علم الخط
ذكر النقط والإعجام في الإسلام :
اعلم أن الصدر الأول أخذ القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين ثم لما كثر أهل الإسلام اضطروا إلى وضع النقط والإعجام فقيل : أول من وضع النقط مراد والإعجام عامر وقيل : الحجاج وقيل : أبو الأسود الدؤلي بتلقين علي كرم الله وجهه إلا أن الظاهر أنهما موضوعان مع الحروف
إذ يبعدان الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف وقد روي أن الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط ولو لم توجد في زمانهم لما يصح التجريد منها

(2/271)


وذكر ابن خلكان في ترجمة الحجاج أنه حكم أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس مكثوا يقرؤون في مصحف عثمان - رضي الله عنه - نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات . فيقال : أن نصر بن عاصم وقيل : يحيى بن يعمر قام بذلك فوضع النقط وكان معه ذلك أيضا يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام انتهى
واعلم أن النقط والإعجام في زماننا واجبات في المصحف وأما في غير المصحف فعند خوف اللبس واجبان البتة لأنهما ما وضعا إلا لإزالته وأما مع أمن اللبس فتركه أولى سيما إذا كان المكتوب إليه أهلا . ( 2 / 273 )
وقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال : ما أحسنه لولا أكثر شونيزة
ويقال : كثرة النقط في الكتاب سوء الظن بالمكتوب إليه
وقد يقع بالنقط ضرر كما حكي أن جعفر المتوكل كتب إلى بعض عماله : أن أخص من قبلك من الذميين وعرفنا بمبلغ عددهم فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين
إلا في حروف لا يحتمل غيرها كصورة الياء والنون والقاف والفاء المفردات وفيها أيضا مخير
ثم أورد في الشعبة الثانية علوما متعلقة بإملاء الحروف المفردة وهي أيضا كالأولى
فمنها :

(2/272)


علم تركيب أشكال بسائط الحروف من حيث حسنها فكما أن للحروف حسنا حال بساطتها فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها من تناسب الشكل ومباديها أمور استحسانية ترجع إلى رعاية النسبة الطبيعية في الأشكال وله استمداد من الهندسيات
وذلك الحسن نوعان :
حسن التشكيل في الحروف يكون بخمسة :
أولها : التوفية : وهي أن يوفى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والرقة والغلظة
والثاني : الإتمام : وهو أن يعطى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والغلظة
والثالث : الانكباب والاستلقاء
والرابع : الإشباع
والخامس : الإرسال : وهو أن يرسل يده بسرعة
وحسن الوضع في الكلمات وهي ستة :
الترصيف : وهو وصل حرف إلى حرف . ( 2 / 274 )
والتأليف : وهو جمع حرف غير متصل
والتسطير : وهو إضافة كلمة إلى كلمة
والتفصيل : وهو مواقع المدات المستحسنة ومراعات فواصل الكلام وحسن التدبير في قطع كلمة واحدة بوقوعها إلى آخر السطر وفصل الكلمة التامة ووصلها بأن يكتب بعضها في آخر السطر وبعضها في أوله

(2/273)


ومنها علم إملاء الخط العربي : أي الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية لا من حيث حسنها بل من حيث دلالتها على الألفاظ وهو أيضا من قبيل تكثير السواد
ومنها علم خط المصحف : على ما اصطلح عليه الصحابة عند جمع القرآن الكريم على ما اختاره زيد بن ثابت ويسمى الاصطلاح السلفي أيضا
وهذا العلم وإن كان من فروع علم الخط من حيث كونه باحثا عن نوع من الخط لكن بحث عنه صاحب ( ( مدينة العلوم ) ) في علوم تتعلق بالقرآن الكريم وإنما تعرضنا له هنا تتميما للأقسام
وفيه العقيلة الرائية للشاطبي
ومنها علم خط العروض : وهو ما اصطلح عليه أهل العروض في تقطيع الشعر واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المعنى المعبثة به في صنعة العروض إنما هو اللفظ لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحركا وساكنا
فيكتبون التنوين نونا ساكنة ولا يراعون حذفها في الوقف ويكتبون الحرف المدغم بحرفين ويحذفون اللام مما يدغم فيه في الحرف الذي بعده كالرحمان والذاهب والضارب ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفاعيل ويقطعون حروف الكلم بحسب قطعها كما في قول الشاعر :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود بها
فيكتبون على هذه الصورة . ( 2 / 275 )
ستبدي لكلايا مما كن تجاهلا ... ويأتي كبلا خبار منلم تزودي
قال في الكشاف : وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياس ثم ما دعا ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الخط وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف
وقال ابن درستوري في كتاب الكتاب : خطان لا يقاسان خط المصحف لأنه سنة وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه
هذا خلاصة ما ذكروه في علم الخط ومتفرعاته
وأما الكتب المصنفة فيه فقد سبق ذكر بعض الرسائل وما عداها نادر جدا سوى أوراق ومختصرات كأرجوزة عون الدين

(2/274)


علم الخفاء

(2/275)


هو علم يتعرف منه كيفية إخفاء الشخص نفسه عن الحاضرين بحيث يراهم ولا يرونه ذكره أبو الخير من فروع علم السحر وقال : وله دعوات وعزائم إلا أن الغالب على ظني أن ذلك لا يمكن إلا بالولاية بطريق خرق العادة لا بمباشرة أسباب يترتب عليها ذلك عادة وكثيرا ما نسمع هذا لكن لم نر من فعله إلا أن خوارق العادات لا تنكر سيما من أولياء هذه الأمة انتهى . ( 2 / 276 )
أقول كونه علما من جهة تفرعه على السحر لا من جهة الكرامة فلا وجه لغلبة ظنه في عدم إمكانه إذ هو بطريق السحر ممكن لا شبهة فيه بل طريق الدعوة والعزائم أيضا كما يدعيه أهله وعدم الرؤية لا يدل على عدم الوقوع ويقال له علم الإخفاء ولذا تقدم في باب الألف

(2/275)


علم الخلاف

(2/276)


هو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية وهو الجدل الذي هو قسم من المنطق إلا أنه خص بالمقاصد الدينية
وقد يعرف بأنه علم يقتدر به على حفظ أي وضع وهدم أي وضع كان بقدر الإمكان ولهذا قيل الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا أو سائل يهدم وضعا وقد سبق في علم الجدل
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) الفرق بين الجدل الواقع بين أصحاب المذاهب الفرعية كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما وبين علم الخلاف أن البحث في الجدل بحسب المادة وفي الخلاف بحسب الصورة
وقد صنف بعض العلماء في الخلاف المسائل العشرة وبعضهم العشرين وبعضهم الثلاثين لتكون مثالا يحتذى بها في غيرها انتهى
وقال ابن خلدون في مقدمته : اعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه
واتسع ذلك إلى الأمة الأربعين من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبة وتشعب العلوم التي هي مواده باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة
فأقامت هذه المذاهب الأربعة ( 2 / 277 ) أصول الملة وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية
وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي قلده وتمسك به
وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه
فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما
وتارة بين مالك وأبو حنيفة والشافعي يوافق أحدهما
وتارة بين الشافعي و أبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما
وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة مثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم
ك@ ان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته
وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومن أن المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه
وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت لذلك أهل النظر والبحث
وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر
وأيضا فأكثرهم أهل المغرب وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل
وللغزالي وفيه كتاب ( ( المآخذ ) )
ولأبي زيد الدبوسي كتاب ( ( التعليقة ) )
ولابن القصار من شيوخ المالكية ( ( عيون الأدلة ( ( وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبتنى عليها من الفقه الخلافي مدرجا في كل مسئلة ما يبتنى عليها من الخلافيات انتهى . ( 2 / 278 )

(2/276)


ومن الكتب المؤلفة فيه أيضا المنظومة النسفية وخلافيات الإمام الحافظ أبي بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة جمع فيه المسائل الخلافية بين الشافعي - رحمه الله - و أبي حنيفة - رحمه الله -
وقال في ( ( مدينة العلوم ) ) : وعلم الخلاف علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء أفضلهم وأمثلهم : أبو حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي ومن أصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر والإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل
ثم البحث عنها بحسب الإبرام والنقض لأي وضع أريد في تلك الوجوه ومباديه مستنبطة من علم الجدل والجدل بمنزلة المادة والخلاف بمنزلة الصورة
وله استمداد من العلوم العربية الشرعية
وغرضه تحصيل ملكة الإبرام والنقض
وفائدته : دفع الشكوك عن المذاهب وإيقاعها في المذهب المخالف
وقد أورد علم الخلاف والجدل الإمام فخر الدين الرازي في كتاب ( المعالم ) وغير ذلك من الرسائل والتعليقات لكن قد ضاع كتبه وانطمس آثاره وبطل معالمه في زماننا هذا
واعلم أن أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة ( 432 ) وهو ابن ثلاث وستين ناظر مرة رجلا فجعل الرجل يبتسم ويضحك فأنشد أبو زيد لنفسه :
مالي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقهة
إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالضب في الصحراء ما أفقهه
ويمكن جعل علم الجدل والخلاف من فروع علم أصول الفقه انتهى كلامه - رحمه الله - ( 2 / 279 )

(2/278)


علم خواص الأقاليم

(2/279)


علم يتعرف منه ما في كل إقليم أو بلد من المنافع والمضار والغرائب وهذا علم جليل ترتاح إليه النفوس مثل ما روي أن ببلاد الهند وردا مكتوب في الورقة منها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الذهبي في الميزان ونظيره ما ذكره ابن العديم في تاريخه في ترجمة الحسن بن أحمد بن الحسن الوراق المصيصي أنه روى مسند إلى علي بن عبد ربه الهاشمي أنه رأى في بعض الهند وردة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض ( لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق ) قال : ظننت أنه معمول ففتحت وردة فلم تفتح بعد فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير
وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة ولا يعرفون الله عز وجل
وحكى الشيخ اليافعي في كتابه المسمى ( بروض الرياحين ) عن بعض الشيوخ أنه رأى ببلاد الهند شجرة مكتوبة عليها بالحمرة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) كتابة جليلة وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث فحدث بها أبا يعقوب الصياد فقال : ما أستعظم هذا كنت أصطاد على نهر أبلة فاصطدت سمكة مكتوب على جبينها الأيمن وأذنها اليمنى ( لا إله إلا الله ) وعلى جنبها الأيسر وأذنها اليسرى ( محمد رسول الله ) فقذفتها في الماء احتراما لما عليها

(2/279)


قلت : سمعت ممن أثق به أنه يروي عمن يثق به أنه رأى جرادة في إحدى جناحيها ( لا إله إلا الله ) وفي الأخرى ( محمد رسول الله )
وأمثال هذه الغرائب في الآفاق خارجة عن إحاطة الأوراق سبحان مبدعها ومخترعها جل جلاله وعم نواله
وكتاب ( عجائب المخلوقات ) للقزويني التي فيه بالعجيب العجاب وكتاب آخر في هذه الباب أحسن من كتاب القزويني لكني لم أتذكر اسمه ثم سألت واحدا من أصحابي فقال : أنه ( خريدة العجائب ) لابن الوردي وفيها كتاب آخر وهو ( 2 / 280 ) ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ) للشريف الصقلي و ( تقويم البلدان ) للياقوت الحموي وغير ذلك وانتهى ما في ( ( مدينة العلوم ) )
وأقول قد وقفت على الكتابين الأولين ورأيت فيهما من ذكر العجائب وغرائب الدنيا ما يستبعده العقل ولا يصدقه القلب المستقيم وإن كان الله عز وجل قادرا على كل محال وما ذكر من أوراد الهند أعجب من كل عجاب لأن إقليم الهند حاله مع بعد مسافة بلاده معلوم لكل واحد ولم يسمع ممن يسكنه إلى الآن أن مثل هذه الأوراد في بلد من بلدانها موجود ولم يعين الحاكي لها اسم ذلك البلد أو كانت تلك الأوراد في وقت من الأزمنة الخالية ولم يبق لها الآن أثر ولا عين مع أن كل محال في حقه - سبحانه وتعالى - ممكن سهل الحصول والقدرة صالحة لأمثال تلك الأحوال لكن الكلام في صحة هذا الكلام وفيما ذكره من عجائب الأنام ولا توجد ولا تعلم منها إحدى العلامات والله أعلم

(2/279)


علم خواص الحروف

(2/280)


اعلم أن الحروف لا سيما المقطعات التي في أوائل السور لها خواص شريفة وأحوال عجيبة يعرفها أهلها وقد فصلها أحسن تفصيل الشيخ عبد الرحمن البسطامي في كتبه المؤلفة في هذا الشأن كذا ( ( مدينة العلوم ) ) للأرنيفي رحمه الله

(2/280)


علم الخواص

(2/280)


وهو علم باحث عن الخواص المترتبة على قراءة أسماء الله - سبحانه وتعالى - ( 2 / 281 ) وكتبه المنزلة وعلى قراءة الأدعية ويترتب على كل من تلك الأسماء والدعوات خواص مناسبة لها كذا في ( ( مفتاح السعادة ) ) لطاشكبري زاده
قال : واعلم أن النفس بسبب اشتغالها بأسماء الله تعالى والدعوات الواردة في الكتب المنزلة تتوجه إلى الجناب المقدس وتتخلى عن الأمور الشاغلة لها عنه فبواسطة ذلك التوجه والتخلي تفيض عليها آثار وأنوار تناسب استعدادها الحاصل لها بسبب الاشتغال
ومن هذا القبيل الاستعانة بخواص الأدعية بحيث يعتقد الراقي أن ذلك يفعل السحر انتهى
أقول : خواص الأشياء ثابتة وأسبابها خفية لأننا نعلم أن المغناطيس يجذب الحديد ولا نعرف وجهه وسببه وكذلك في جميع الخواص إلا أن علل بعضها معقولة وبعضها غير معقولة
ثم إن تلك الخواص تنقسم إلى أقسام كثيرة منها :
خواص الأسماء المذكورة الداخلة تحت قواعد علم الحروف وكذلك خواص الحروف المركبة عنها الأسماء وخواص الأدعية المستعملة في العزائم وخواص القرآن
قال أبو الخير : غاية ما يذكر في ذلك تجارب الصالحين وورد في ذلك بعض من الأحاديث أوردها السيوطي في الإتقان وقال :
بعضها موقوفات على الصحابة والتابعين وما لم يرد أثره فقد ذكر الناس من ذلك كثيرا والله - سبحانه وتعالى - أعلم بصحته
ويقال : أن الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفا بإذن الله - سبحانه وتعالى -
فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني ويشير إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( 2 / 282 )
( ( لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال ) )
وأجاز القرطبي الرقية بأسماء الله وكلامه - سبحانه وتعالى - قال : فإن كان مأثورا استحب
قال الربيع : سألت الشافعي عن الرقية فقال : لا بأس أن يرقى بكتاب الله تعالى وبما يعرف من ذكر الله
قال الحسن البصري ومجاهد والأوزاعي : لا بأس بكتب القرآن في إناء ثم غسله وسقيه المريض وكرهه النخعي
ومنها : خواص العدد والوفق والتكسير
ومنها : خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : أن كنكة الملك من حكماء الهند استنبط الأعداد المتحابة وذكر أنها إذا وضعت في طعام أو شراب أو غير ذلك مما يستعمله شخصان تآلف بينهما محبة عجيبة
وإن رسمتها على ثوبك لم يفارقك والعدد الأصغر منها كزد والعدد الأكبر منها فرد ترسمها برسم قلم الغبار وتعطي الأصغر من شئت وتأكل أنت الأكبر فإن الأصغر يطيع الأكبر بخاصية ظريفة ويستعمل في الزبيب وحب الرمان وأشباههما عدد الأسماء
ثم إن أفلاطون الآلهي بين خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة وذكر أنه لو كتب أعداد المتحابة في كوز لم يمسه الماء وشرب منه شخصين فإنه يتولد بينهما محبة أكيدة لم يعهد ذلك قبل وأنه لو فعل في الأعداد المتباغضة مثل ذلك فإنه يظهر بينهما عداوة راسخة بإذن الله انتهى
وبينه في ( تذكرة الأحباب في بيان التحاب ) مستوفى ببراهين عددية وخواص البروج والكواكب وخواص المعدنيات وخواص النباتات وخواص الحيوانات وخواص الأقاليم والبلدان وخواص البر والبحر وغير ذلك

(2/280)


وصنف في هذه الخواص جماعة منهم : أحمد البوني والغزالي والتميمي والجلنكي في ( كنز الاختصاص ) وهو كتاب مفيد في تلك المقاصد وغيرهم
و ( خواص الأسرار في بواهر الأنوار ) و ( خواص الأسماء الحسنى ) للشيخ أبي العباس ( 2 / 283 ) أحمد البوني مختصر وللشيخ جمال الدين قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : علم الخواص علم يحصل بسبب ترتيب ما له الخواص من المعادن والإبحار وغير ذلك آثار عجيبة وأمور غريبة يتحير فيها الناظرون
ومنها أن بعضا من الأوائل بنى دارا وجعل في جدرانها الأربعة والسقف والأرض ومن أحجار المغناطيس متساوية المقدار وجعل في وسطها صليبا إلى نفسه فوقف ذلك الحديد بالضرورة في الهواء في وسط البيت وافتتن بذلك جمع من النصارى

(2/282)


ومنها : أن في النبات نبتا إذا طلى به الإنسان بدنه لم تحرقه النار وأمثال ذلك كثيرة مذكورة في كتب الخواص
واعلم أن الخواص قد تترتب على أسماء الله تعالى وعلى الآيات التنزيلية وآيات التوراة والإنجيل لكن تلك الخواص ليست من فروع علم السحر بل هي من فروع علم القرآن انتهى . ( 2 / 284 ) ( 2 / 285 )

(2/283)


باب الدال المهملة

(2/285)


علم دراية الحديث

(2/285)


تقدم الكلام عليه في علم الحديث
وقال الشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي : دراية الحديث علم تتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواية وأصناف المرويات واستخراج معانيها ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة انتهى
ولنا كتاب سميناه ( الحطة بذكر الصحاح الستة ) ذكرنا فيه جميع فروع علم الحديث
وشرف هذا العلم وأحوال الأمهات الست وتراجم أصحابها فإن شئت الزيادة فارجع إليه
وذكر في ( ( مدينة العلوم ) ) أن لفظ الصحيح في علم الحديث إذا أطلق يراد به عند المحدثين البخاري وإذا أطلق لفظ الصحيحين يراد به عندهم صحيح البخاري وصحيح مسلم
وإذا أطلق لفظ الصحاح يراد به عندهم الصحيحان وصحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن عوانة وصحيح مستدرك الحاكم وهذه هي ( 2 / 286 ) الصحاح الستة انتهى . وفيه نظر واضح
قال : ثم إن السنن إذا أطلقت يراد بها في اصطلاحهم سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة القزويني
وأما سنن غير هؤلاء فتذكر مقيدة كسنن الدارقطني وسنن البيهقي وإذا أطلق المسانيد يراد بها في اصطلاحهم مسندا للإمام أحمد بن حنبل ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الدارمي ومسند البزار

(2/285)


ثم إن المعاجم إذا أطلقت يراد بها المعجم الكبير والأوسط والصغير الثلاثة للطبراني
قال : ولما فرغنا عن ذكر الأقدمين من المحدثين اقتضى الرأي أن نورد ههنا بعضا من المتأخرين منهم وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة
ثم ذكر أبا سليمان الخطابي وابن الجوزي والنووي وأبا السعادات الجزري وأبا محمد حسين البغوي وابن الصلاح والحسن الصغاني اللاهوري الهندي وأكمل الدين البابرني شارح المشارق والقاضي عياض وذكر تراجمهم بالاختصار
وكتابنا ( إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين ) قد قضى الوطر عن ذكر الكتب المؤلفة في علم الحديث وتراجم أكابر هذا العلم

(2/286)


علم : دعوة الكواكب

(2/286)


قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : كما أن استحضار الجن وبعض الملائكة ممكن فكذلك يمكن تسخير روحانية الكواكب سيما السبعة السيارة فيتوصل بذلك إلى المقاصد المهمة . من قتل الأعداء وإحضار المال والغائب وأمثال ذلك
فيستحضرها متى شاء بعد الدعوة بلا تكلف ومشقة
حكي أن ملكا كان مشتغلا بدعوة زحل وكان أصحابه يلومونه في ذلك وفي بعض الأيام عرض له عدو وكان ذلك العدو ملكا عظيما أعجزه دفعه بالمحاربة فاشتغل ذلك الملك بدعوة زحل فإذا نزل من السماء شيء فخاف أهل المجلس عنه ( 2 / 287 ) فتفرقوا فدعاهم الملك وأحضروا عنده فرأوا ظروفا من نحاس مثلث الشكل وفيه رأس الملك الذي خاصمه مقطوعا ففرحوا بذلك
وهرب العسكر ونصر الملك بروحانية زحل وقال أنتم سفهتموني باشتغالي بالدعوة وهذا نفعه الأدنى فاعتقدوا الدعوة كلهم
وأما كون الظرف من النحاس وكونه مثلثا فلاقتضاء طبيعة زحل ذلك المعدن وذلك الشكل
واعلم أن دعوة الكواكب كانت مما اشتغل فيها الصابئة فبعث عليهم إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم وإذا جاء نهر الله بطل نهر العقل انتهى
قلت : وليست هذه الدعوة بعد ما نزل شرع نبينا - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر الدين بل هو شرك بحت وكفر محض أعاذنا الله وإخواننا المسلمين عن أمثال هذه العلوم

(2/286)


علم : دفع مطاعن الحديث

(2/287)


لم يزد في ( كشف الظنون ) على ذلك والظاهر أنه من فروع علم الحديث
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : موضوعه ونفعه ظاهران لأولي الألباب وقد طعن في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من الملاحدة وهم القرامطة
وعلماء الإسلام جزاهم الله تعالى خير الجزاء انتصبوا لدفع تلك الأوهام الفاضحة بأدلة قوية وبراهين واضحة وصنفوا فيه كتبا يجدها من يطلبها انتهى

(2/287)


علم : دفع مطاعن القرآن

(2/287)


علم باحث عن دفع شبهات أرباب الضلال الموردة على القرآن الكريم بحسب لفظه أو بحسب معناه
ومباديه العلوم العربية وعلم الأصلين والله أعلم ( 2 / 288 )

(2/287)


علم : دلائل الإعجاز

(2/288)


هكذا في ( كشف الظنون ) ولم يكشفه والظاهر أنها من فروع : علم البيان والمعاني

(2/288)


علم الدواوين

(2/288)


لم يزد في ( كشف الظنون ) على هذا
وذكر تحته أسماء دواوين الشعراء من العرب والعجم وأكثر وأطنب وأجاد
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : اعلم أن الكلام إما منثور أو منظوم . ولما كانت المحاضرة تقع بالمنظوم كما تقع بالمنثور دونوا الدواوين المشتملة بالقصائد والمقاطيع والأراجيز والمجاميع
وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة مما تقدم . ولا يخفي أن أفضل الشعراء شرفا وفضلا وأولاهم بالتقدم : حسان بن ثابت رضي الله عنه
لفضيلته بشرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفه بمدحه - صلى الله عليه وسلم - وهو شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بروح القدس
يكنى بأبي الحسام لمناضلته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغازي به أعراض المشركين
عاش مائة وعشرين سنة . ستين في الإسلام وستين في الجاهلية وكذا أبوه وجده وأبو جده ولا يعرف في العرب أربعة من صلب واحد اتفقت مدة عمرهم غيرهم وكان له القدر الجليل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى

(2/288)


ثم ذكر دواوين كثيرة وقال منها :
( نهاية الأرب في أشعار العرب ) يشتمل على ألف قصيدة مختارة ( 2 / 289 ) ومنها ( الحماسة ) اختيار أبي تمام الطائي وله مجموع آخر سماه : ( فحول الشعراء ) جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين
وكتاب ( الاختيارات من شعر الشعراء )
ومنها : ( الذخيرة ) لابن بسام
وديوان أبي العلاء المعري وكان مهتما في دينه يرى رأي البراهمة لا يرى أكل اللحم ولا يؤمن بالبعث والنشر وبعث الرسل وشعره المتضمن للإلحاد كثير
قال ابن العميد في كتابه ( وقع التحري على أبي العلاء المعري ) : كان يرميه أهل الحسد بالتعطيل ويعملون على لسانه أشعار أو يضمنونها أقوال الملاحدة قصدا لهلاكه وقد نقل عنه أشعار تتضمن صحة عقيدته وكذب ما ينسب إليه من إسناد الإلحاد إليه
وقال الذهبي : أنه ملحد وحكم بزندقته . ( 2 / 290 )
وقال السلفي أظنه تاب أناب
وديوان أبي الطيب المتنبي وكان شعره بلغ الغاية من الفصاحة والبلاغة والحكمة وسائر المحاسن بحيث لا حاجة إلى مدحه والناس في شعره على اختلاف
منهم من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده
ومنهم من يرجح شعر أبي تمام عليه
واعتنى العلماء بشرح ديوانه حتى قال بعضهم : وقفت له على أكثر من أربعين شرحا ما بين مطول ومختصر
وكان رجلا مسعودا ورزق السعادة في شعره وإنما يقال له المتنبي لأنه ادعى النبوة حتى حبس ثم تاب وأطلق
وديوان البحتري سئل المعري أي الثلاثة أشعر : أبو تمام أم البحتري أم المتنبي فقال : هما حكيمان والشاعر البحتري وشعره سائر وديوانه موجود
وديوان جرير بن عطية الخطفي التميمي كان من فحول شعراء الإسلام وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة جرير وفرزدق وأخطل

(2/288)


ويقال : أن بيوت الشعر أربعة فخر ومديح ونسيب وهجاء وفي الأربعة فاق جرير ( 2 / 291 ) على غيره
وديوان الفرزدق
وديوان أبي نواس حسن بن هاني الشاعر المشهور
كان المأمون يقول : لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قوله :
ألا كل حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وديوان الطغرائي ومن محاسن شعره قصيدة لامية العجم وكان عملها ببغداد في سنة يصف حاله ويشكو زمانه وشرحها الصفدي في مجلدين وسماه ( الغيث ) الذي انسجم وقد ملأ شرحه بالفوائد الأدبية والغرائب الجدية والهزلية وبالجملة أنه من أحسن المجاميع وأنفعها
وديوان ابن نباته بالضم
وديوان ابن المعتز بالله الخليفة العباسي
وديوان ابن فارض وشعره لطيف وأسلوبه فيه رائق طريف
وديوان بهاء الدين زهير
وديوان دعبل الخزاعي بكسر الدال مدح علي بن موسى الرضا بقصيدة أولها :
مدارس آيات خلت عن تلاوة ... ومهبط وحي مقفر العرصات ( 2 / 292 )

(2/290)


وديوان التنوخي وله كتاب ( الفرج بعد الشدة )
وديوان شمس الدين بن عفيف التلمساني
وديوان ابن سناء الملك
وديوان القاضي الفاضل
وديوان ابن الوكيل
وديوان التهامي هؤلاء شعراء الإسلام
وأما الشعراء القدماء فأشعرهم عشرة نذكر أسماءهم ههنا : منهم امرئ القيس الكندي والنابغة الذبياني ومنهم زهير بن أبي سلمى وابنه كعب أسلم ومدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأعشى وطرفة بن العبد وأوس بن حجر ولبيد بن ربيعة وعدي بن زيد وعبيد بن الأبرص وبشر الأسدي وهو عاشرهم
وأهل الحجاز يقدمونه عليهم ويرون أنه أشعرهم وأسدهم سياقا للحديث ( 2 / 293 )

(2/292)


باب الدال المعجمة

(2/293)


علم : الذكر والأنثى

(2/293)


لم أر من ذكره في موضوعات العلوم وأن كان يستحق لذلك لما ألف في هذا الباب كتب مستقلة وهو في الأصل فرع من علم النحو ولذا دونوه معه
وأقول : هو علم يبحث فيه عن ألفاظ ولغات استعملت في العبارات مذكرة ومؤنثة أو مؤنثة وهي على شكل الألفاظ الغير المؤنثة
وموضوعه اللفظ من حيث أنه يذكر ويؤنث
والغرض من استعمال الألفاظ على وجهها في التذكير والتأنيث
وغايته الاحتراز عن الخطأ في ذلك الاستعمال والإتيان به على ما هو عليه في كتب الأدباء
والمؤنث : ما فيه علامة التأنيث لفظا حقيقة كامرأة وظلمة أو حكما كزينب وعقرب فإن الحرف الزائد في المؤنث في حكم تاء التأنيث ولهذا لا يظهر التاء في تصغير غير الثلاثي من المؤنثات أو تقديرا كهند ودار والمذكر بخلافه أي ما لم يوجد فيه علامة التأنيث لا لفظا ولا تقديرا ولا حكما

(2/293)


ولجماعة من أئمة النحو كتب في هذا العلم
منها كتاب ( المذكر والمؤنث ) لابن خالويه حسين بن أحمد النحوي المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة ولأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني ( 2 / 294 )
ولأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة
وليحيى بن زياد العزي المتوفى سنة سبع ومائتين
ولابن شقير أحمد بن حسن النحوي المتوفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة
ولأبي جعفر أحمد بن عبيد الكوفي الدئلمي المتوفى سنة ثلث وسبعين وسبعمائة
ولكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة مختصر سماه ( المبلغة )
أوله ( الحمد لله المتفرد بجلال الأحدية . . . )
ولأبي محمد القاسم بن محمد الأنباري المتوفى سنة أربع وسبعين وثلاثمائة
ولابنه أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

(2/293)


قال ابن خلكان : ما عمل أتم منه
ولأبي بكر محمد بن عثمان المعروف بالجعد أحد أصحاب بن كيسان
ولابن مقسم محمد بن حسن بن أبي بكر العطار المقري النحوي المتوفى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة
ولأبي عبيدة قاسم بن سلام النحوي المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين
ولأبي الحسن عبد الله بن محمد بن سفيان الجزار النحوي المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
ولأبي الجود قاسم بن محمد العجلاني وكان في عصر ابن جني وطبقته كذا في ( كشف الظنون )
ولابن الحاجب المالكي صاحب ( الكفاية والشافية ) في النحو والصرف قصيدة مختصرة في المؤنث السماعي أولها
نفسي الفداء لسائل وافاني ... بمسائل فاحت كغصن البان
وللشيخ الفاضل اللغوي النحوي عبد الرحيم الصفي بوري أيضا رسالة ( 2 / 295 ) مختصرة في ذلك سماها ( بضرورة الأديب )
ولصاحب المكمل شارح ( المفصل ) أيضا رسالة في ذلك فكذا الكمال باشا
ولمحمد باقر الطهراني أيضا
وللسيد الفاضل العلامة النحوي ذو الفقار أحمد بن السيد المرحوم همت علي التقوي البهوبالي طابت له الأيام والليالي كتاب في ذلك جمع فيه ما لم يتفق لغيره واستقرأه من كتب شتى ومواضع مختلفة حتى جاء حافلا في بابه خطيبا في محرابه قلما يوجد كتاب حاو لمثله في هذا الباب كما يظهر ذلك من النظر في هذا الكتاب . ( 2 / 296 ) ( 2 / 297 )

(2/294)


باب الراء المهملة

(2/297)


علم : ربع الدائرة

(2/297)


لم يزد عليه في ( كشف الظنون ) والظاهر أنه من فروع علم الهيئة وسيأتي في الهاء

(2/297)


علم : رجال الأحاديث

(2/297)


قال فيه سبط أبي شامة العلامة في وصف علم التاريخ وذم من عابه وشانه وقد ألف العلماء في ذلك تصانيف كثيرة لكن قد اقتصر كثير منهم على ذكر الحوادث من غير تعرض لذكر الوفيات كتاريخ ابن جرير ومروج الذهب والكامل وإن ذكر اسم من توفي في تلك السنة فهو عار عما له من المناقب والمحاسن
ومنهم من كتب في الوفيات مجردا عن الحوادث ك ( تاريخ نيسابور ) للحاكم و ( تاريخ بغداد ) لأبي بكر الخطيب والذيل عليه للسمعاني وهذا وإن كان أهم النوعين فالفائدة إنما تتم بالجمع بين الفنين وقد جمع بينهما جماعة من الحفاظ منهم : أبو الفرج بن الجوزي في ( المنتظم ) وأبو شامة في ( الروضتين ) والذيل عليه وصل إلى سنة خمس وستين وستمائة
وقد ذيل عليه الحافظ علم الدين البرزالي ( 2 / 298 )
وممن جمع بين النوعين أيضا الحافظ شمس الدين الذهبي لكن الغالب في العبر الوفيات وجمع بينهما عماد الدين بن كثير في ( البداية والنهاية ) وأجود ما فيه السير النبوية وقد أخل بذكر خلائق من العلماء وقد يكون من أخل بذكره أولى ممن ذكره مع الإسهاب المخل وفيه أوهام قبيحة لا يسامح فيها وقد صار الاعتماد في مصر والشام في نقل التواريخ في هذا الزمان على هؤلاء الحفاظ الثلاثة : البرزالي والذهبي وابن كثير
أما تاريخ البرزالي فانتهى إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ومات في السنة الآتية
وأما الذهبي فانتهى تاريخه إلى آخر سنة أربعين وسبعمائة
وأما ابن كثير فالمشهور أن تاريخه انتهى إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو آخر ما لخصه من تاريخ البرزالي وكتب حوادث إلى قبيل وفاته بسنتين

(2/297)


ولما لم يكن من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ما يجمع الأمرين على الوجه الأتم شرع شيخنا الحافظ مفتي الشام شهاب الدين أحمد بن يحيى السعدي في كتابه ( ذيل من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة على وجه الاستعياب للحوادث والوفيات ) فكتب منه سبع سنين ثم شرع من أول سنة تسع وستين وسبعمائة فانتهى إلى أثناء ذي القعدة سنة خمس عشرة وثمانمائة وذلك قبل ضعفه ضعفة الموت غير أنه سقط منه سنة خمس وسبعين فعدمت وكان قد أوصاني أن أكمل الخرم من أول سنة ثمان وأربعين إلى آخر سنة ثمان وستين فاستخرت الله تعالى في تكميل ما أشار إليه ثم التذييل عليه من حين وفاته ثم رأيت في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فما بعدها إلى آخر سنة ثمان وأربعين فوائد جمة من حوادث ووفيات قد أهملها شيخنا ويحتاج الكتاب إليها فألحقت كثيرا منها والحوادث وشرعت من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة جامعا بين كلامه وتلك الفوائد على أن الجميع في الحقيقة له ( 2 / 299 )

(2/298)


علم : رسم كتابة القرآن في المصاحف

(2/299)


وهذا العلم وإن كان من فروع علم الخط لكن باختصاصه بخط المصحف جعله صاحب ( ( مدينة العلوم ) ) من فروعه
وموضوعه رسم خط المصحف من الحذف والزيادة والبدل والفصل والوصل وما فيه قراءتان فيكتب على إحداهما
وغايته حفظ المصحف الإمام
نقل عن مالك أنه لم يجوز كتابة المصحف على ما عليه الناس من الهجاء وأوجب اتباع المصحف الإمام ونقل عن أحمد أنه حرم مخالفته
وصنف فيه أبو عمرو الداني المقنع وأبو العباس المراكشي ( عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل ) و ( القصيدة الرائية الموسومة بالعقلية ) للشيخ الشاطبي وشرحها برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري المتوفى سنة 733 وسماه جميلة أرباب المراصد

(2/299)


علم : الرصد

(2/299)


أول رصد وضع في الإسلام رصد وضع بدمشق سنة أربع عشرة ومائتين قلت : قال الفاضل أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتاب ( التعريف بطبقات الأمم ) : لما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون بن الرشيد العباسي وطمحت نفسه الفاضلة إلى درك الحكمة وسمت همته الشريفة إلى الإشراف على علوم الفلسفة ووقف العلماء في وقته على كتاب ( المجسطي )
وفهموا صورة آلات الرصد الموصوفة فيه فجمع علماء عصره من أقطار مملكته وأمرهم أن يصنعوا مثل تلك الآلات وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا أحوالها بهما كما صنعه بطليموس ومن كان قبله ( 2 / 300 )
ففعلوا ذلك وتولوا الرصد بها بمدينة الشماسية وبلاد دمشق من أرض الشام سنة أربع عشرة ومائتين
فوقفوا على زمان سنة الشمس الرصدية ومقدار ميلها وخروج مراكزها ومواضع أوجها وعرفوا مع ذلك بعض أحوال ما في الكواكب من السيارة والثابتة ثم قطع بهم عن استيفاء عرفهم موت الخليفة المأمون في سنة ثمان عشرة ومائتين فقيدوا ما انتهوا إليه وسموه الرصد المأموني

(2/299)


وكان الذي تولى ذلك يحيى بن أبي منصور كبير المنجمين في عصره وخالد بن عبد الملك المروزي وسند بن علي والعباس بن سفيد الجوهري وألف كل منهم في ذلك زيجا منسوبا إليه وكان إرصاد هؤلاء أول إرصاد كان في مملكة الإسلام وذكر تقي الدين في ( سدرة منتهى الأفكار ) : أن المعلم الكبير بطليموس ختم كتب التعاليم ب ( المجسطي ) الذي أعيت أولي الألباب عبارته وكان له مسك الختام تحرير النصير فلقد أتى فيه من الإيجاز ما تبهر به العقول ومن الاستدراكات والزيادات المهمة بما تحير فيه الفحول ولم يزل أصحاب الإرصاد ماشين على تلك الأصول إلى أن جاء العلامة الماهر والفهامة الباهر علي بن إبراهيم الشاطر فأصل أصولا عظيمة وفرع منها فروعا جسيمة وهي وإن لم تكن بصورها النوعية خارجة عن الأصل التدويري المبرهن على صحته في ( المجسطي ) برد مقدمات وقعت في أمثالها ونقود عبارات لم تسلم من النسج على منوالها وزيادات أفلاك مخلة بالقرب من المساحة والبساطة سلم ذلك الكتاب عن أمثالها
تالله إنه لكتاب لا يتيسر لأحد كشف مجملاته إلا بتطليق الشهوات ولا يتيسر لبشر حل مشكلاته إلا بالانقطاع في الخلوات مع عقد القلب وربط اللب على ما عقد هو عليه قلبه من طلب الحق وإيثار الصدق وعدم قصد التكبر والفخار والوصول إلى درجات الاعتبار
قال : ولما كنت ممن ولد ونشأ في البقاع المقدسة وطالعت الأصلين بالجمل مطالعة وفتحت مغلقات حصولها بعد الممانعة والمدافعة ورأيته ما في الزيجات ( 2 / 301 ) المتداولة من الخلل الواضح والزلل الفاضح تعلق البال والخلد بتجديد تحرير الرصد
ومن الله - سبحانه وتعالى - علي بتلقي جملة الطرائق الرصدية من الكتب المعتبرة ومن أفواه المشائخ العظام واخترعت آلات أخرى من المهمات بطريق التوفيق وأقمت على صحة ما يتعاطى بها من الأرصاد البراهين
ونصبتها بأمر الملك الأعظم السلطان مراد خان وبإشارة الأستاذ الأعظم حضرة سعد الدين أفندي ملقن الحضرة الشريفة وشرعت في تقرير التحريرات الرصدية الجديدة حاذيا حذو العلامة النصير ومقتفيا أثر المعلم الكبير وربما نقلت عبارته بعينها وزدت فيه من الوجوه القريبة والتحريرات الغريبة

(2/300)


حكي أن نصير الدين لما أراد العمل بالرصد رأى هولاكو ما ينصرف عليه فقال له : هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته أيرفع ما قدر فقال : أنا أضرب لمنفعته مثالا ألقاه أن يأمر من يطلع إلى أعلى هذا المكان ويدعه يرمي من أعلاه طشت نحاس كبير من غير أن يعلم به أحد ففعل ذلك فلما وقع ذلك كانت له وقعة عظيمة هائلة روعت كل من هناك وكاد بعضهم يصعق وأما هو وهولاكو فإنهما ما تغير عليهما شيء لعلمها بأن ذلك يقع
فقال له : هذا العلم النجومي بهذه الفائدة يعلم المتحدث فيه ما يحدث فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للغافل الذاهل منه
فقال : لا بأس بهذا وأمره بالشروع فيه وحكى من دخل الرصد وتفرجه أنه رأى فيه من آلات الرصد شيئا كثيرا
منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس : الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ودائرة معدل النهار ودائرة منطقة البروج ودائرة العرض ودائرة الميل
وفيه الدائرة السمتية يعرف بها سمت الكواكب واصطرلاب يكون سعة قطره ذراعا واصطرلابات كثيرة وحكي عن العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو ( 2 / 302 ) بسبب عمارة الرصد ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإصلاحها عشرين ألف دينار
رصد ابرخس قبل الهجرة بسنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ومنه إلى رصد مراغة أربعون ومائة سنة
رصد ابن الشاطر بالشام
رصد أبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري بأصبهان سنة خمس وثلاثين ومائتين
رصد أبي الريحان البيروني
رصد الغ بيك وبسمرقند سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة
رصد أيلخاني بمراغة سنة سبع وخمسين وستمائة
رصد بطليموس بعد رصد ابزخس بسنة خمس وثمانين ومائتين وقبل الهجرة بسنة ثمان وخمسين وأربعمائة
رصد بني الأعلم ببغداد سنة خمسين ومائتين . رصد تانجو بسواحل المحيط الغربي
رصد التباني بالشام
رصد ثاون الإسكندراني قبل الهجرة بسنة إحدى وعشرين وتسعمائة استعمل في زيجه المسمى ( بالقانون المحصول من الرصد المذكور ) تاريخ سلس الرومي أخ ذي القرنين
رصد الحاكمي بمصر سنة خمسين ومائتين ومنه الزيج المصطلح
رصد طيموحارس بالإسكندرية سنة أربع وخسمين وأربعمائة لبخت نصر قبل الهجرة بسنة خمس عشرة وتسعمائة
رصد مأمون الخليفة ببغداد سنة سبع وعشرين ومائتين
رصد مالانوس برومة سنة أربع وخمسين وثمانمائة قبل الهجرة بسنة خمس ( 2 / 303 ) عشرة وخمسمائة
رصد راجه جي سنكة بالهند ببلدة جيبور

(2/301)


علم : الرقص

(2/303)


لم يزد صاحب الكشف على هذا قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم باحث عن كيفية صدور الحركات الموزونة عن الشخص بحيث يورث الطرب والسرور لمن يشاهدها ويرغب فيها أصحاب الرفه والأغنياء ومن يحذو حذوهم وأهل الهند ماهرون في الرقص ولهم فيها يد طولى إلا أن هذا العلم محرم في شريعتنا وإنما تعرضنا له تتميما لأقسام العلوم انتهى كلامه

(2/303)


علم : الرقى

(2/303)


هكذا في ( كشف الظنون ) وقال في ( ( مدينة العلوم ) ) : هو علم باحث عن مباشرة أفعال مخصوصة كعقد الخيط والشعر وغيرهما أو كلمات مخصوصة بعضها بهلوية وبعضها قبطية وبعضها هندكية تترتب على تلك الأعمال والكلمات آثار مخصوصة من إبراء المرض ورفع أثر النظرة وحل المعقود وأمثال ذلك
وإنما سميت رقية لأنها كلمات رقيت من صدر الراقي وأهل الفرس يسمونها ( أبسون ) وإنما سموا بذلك لأنهم كثيرا ما يقرؤونها على الماء ويسقونه المريض أو يصبونه عليه والشرع أذن بالرقية لكن إذا كانت بكلمات معلومة من أسماء الله تعالى والآيات التنزيلية والدعوات المأثورة وهذا الذي أذن به الشرع من الرقي ليس من فروع علم السحر بل هي من فروع علم القرآن انتهى . ( 2 / 304 )
وفيه فضل واحد من كتاب ( القول الجميل في بيان سواء السبيل ) للشيخ المحدث ولي الله أحمد الدهلوي - رحمه الله -
وحكم المسألة مصرح في ( نيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار ) لشيخنا القاضي محمد بن علي الشوكاني

(2/303)


علم : الرمل

(2/304)


هو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسئلة حين السؤال بأشكال الرمل وهي اثنا عشر شكلا على عدد البروج وأكثر مسائل هذا الفن أمور تخمينية مبنية على التجارب فليس بتام الكفاية ولا يفيد اليقين في مثل هذه الأمور الخفية لأنهم يقولون كل واحد من البروج يقتضي حرفا معينا وشكلا من أشكال الرمل

(2/304)


فإذا سئل عن المطلوب فح يقتضي وقوع أوضاع البروج شكلا معينا فبدل بسبب المدلولات وهي البروج على أحكام مخصوصة مناسبة لأوضاع تلك البروج لكن المذكورات أمور تقريبية لا يقينية ولذلك قال عليه السلام : ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك ) قيل هو : إدريس عليه السلام وهو معجزة له والمراد التعليق بالمحال وإلا لما بقي الفرق بين المعجزة والصناعة
روي عن بعض المشايخ أنه سئل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال من جملة الآثار التي ذكر الله - سبحانه وتعالى - قال : ( ( ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) )
( 2 / 305 ) في هذا الباب كتب كثيرة يعرفها أهلها
منها ( أبواب الرمل أصل مفاتيح أصول الرمل )
( أنوار إقليدي ) تأليف مولانا بشه تحفه شاهي
( تقويم الرمل ) تلخيص توضيح تهذيب ( جامع الأسرار )
( جهان رمل ) خلاصة ( البحرين )
( ذخيرة رسالة يونس )
( رسالة سرخواب )
( رسالة كله كبود روشي )
( رياض الطالبين )
( أوزان نزهة العقول ) وافي نصير طوسي
( هداية النقطة ) وكتاب ( تجارب العرب ) وكتاب ( الزماني ) أصح طرق هذا الفن

(2/304)


علم رموز الحديث

(2/305)


لم يذكر في الكشف غير ذلك وقال في ( ( مدينة العلوم ) ) : علم رموز أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشاراته وهذا علم ظاهر الموضوع باهر النفع لا يخفى غايته وغرضه ورأيت في هذا الفن تصنيفا لطيفا انتهى

(2/305)


علم الرمي

(2/305)


لم يزد في الكشف على ذلك وقال في ( ( مدينة العلوم ) ) : علم الرمي مثل : رمي القوس والبنادق علم يتعرف منه رمي الأمور المذكورة بالمزاولة ليكون عملها على وجه الإصابة ومنفعته عظيمة في كل الأمور انتهى
قلت : ويلتحق بالبناديق المدافع وما يشابهها وحكام البرطانية أكمل الناس في هذا العلم في هذا الزمان وكذا الأتراك ويدل له قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( 2 / 306 )

(2/305)


علم رواة الحديث

(2/306)


وهو : علم أسماء الرجال وقد مر . وهذا العلم من فروع علم التواريخ من وجه لأنه يبحث فيه عن وفياتهم وقبائلهم وأوطانهم وتعديلهم وجرحهم وغير ذلك والمصنفات في هذا العلم كثيرة وقد سبق نبذ منها

(2/306)


علم رواية الحديث

(2/306)


هو علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث أحوال رواتها ضبطا وعدالة ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك من الأحوال يعرفها نقاد الأحاديث
وموضوعه : ألفاظ الرسول من حيث صحة صدورها عنه - صلى الله عليه وسلم - وضعفه إلى غير ذلك
وفي هذا الفن منفعة بينة وغاية عظيمة بل هو أحد أركان الدين
والكتب المصنفة في هذا العلم أكثر من أن تحصى
منها :
كتاب ( ( ابن الصلاح ) ) وفيه تصنيف النووي
وكتاب الشيخ الإمام حافظ العصر نخبة الدهر أمير المؤمنين في الحديث شهاب الدين أحمد المعروف : بابن حجر العسقلاني مولدا المصري محتدا كذا في ( ( مدينة العلوم ) ) وقد تقدم الكلام عليه تحت علم الحديث مفصلا

(2/306)


علم الرياضة

(2/306)


الرياضي من أقسام الحكمة النظرية
وهو : علم باحث عن أمور مادية يمكن تجريدها عن المادة في البحث سمي به لأن من عادة الحكماء أن يرتاضوا به في مبدأ تعليمهم إلى صبيانهم ولذا يسمى ( 2 / 307 ) : علما تعليميا أيضا . وبالعلم الأوسط المتوسطة بين ما لا يحتاج إلى المادة وبين ما يحتاج إليها مطلقا لافتقاره من وجه وعدم افتقاره من وجه آخر
وله أصول ولكل منها فروع فأصوله أربعة : الهندسة والهيئة والحساب والموسيقى وذلك لأن موضوعه الكم . وهو إما متصل أو منفصل
والأول متحرك أو ساكن فالمتحرك هو : الهيئة والساكن هو : الهندسة
والثاني : إما أن يكون له نسبة تأليفة أو لا
فالأول هو : الموسيقى
والثاني هو : الحساب وفروعه ستة :
الأول : علم الجمع والتفريق
الثاني : علم الجبر والمقابلة
الثالث : علم المساحة
الرابع : علم جر الأثقال
الخامس : علم الزيجات والتقاويم
السادس : علم الأرغنوة وهو اتخاذ الآلات الغريبة
قال صاحب ( ( كشاف اصطلاحات الفنون ) ) الرياضي علم بأحوال ما يفتقر في الوجود الخارجي دون التعقل إلى المادة كالتربيع والثتليث والتدوير والكروية والمخروطية والعدد وخواصه فإنها أمور تفتقر إلى المادة في وجودها لا حدودها ويسمى : بالحكمة الوسطى
وقد اختلف قدماء الفلاسفة في ترجيح أحد من الرياضي والطبعي على الآخر في الشرف والفضل وكل قد مال إلى طرف بحجج مذكورة فيما بينهم والحق أن الحكم بجزم فضيلة أحدهما على الآخر غير سديد بل كل واحد أفضل من الآخر من وجه

(2/306)


فالطبعي أفضل من الرياضي من جهة أن موضوعه جسم طبعي وهو ( 2 / 308 ) جوهر والرياضي موضوعه كم وهو عرض والجواهر أشرف من العرض
وأيضا الطبعي في الأغلب معطي اللم والرياضي الآن ومعطي اللم أفضل وأيضا هو يشتمل على علم النفس وهو أم الحكمة وأصل الفضائل
والرياضي أفضل من الطبعي من جهة أن الأحوال الوهمية والخيالية غير متناهية القسمة فهناك لا تقف عند حد فهو أفضل مما هو محصور بين الحواصر . وأيضا الأمور الرياضية أصفى وألطف وألذ وأتم عن الأمور المكدرة الجسمانية وأيضا يقل التشويش والغلط في براهينه العددية والهندسية بخلاف الطبعي بل الإلهي ومن أجل ذلك قيل : إدراك الإلهي والطبعي من جهة ما هو أشبه وأحرى لا باليقين كذا في الصدر انتهى حاصله

(2/307)


علم رياضة النفس وتهذيب الأخلاق

(2/308)


قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : الخلق عبارة عن هيئة راسخة للنفس تصدر عنها الأفعال المحمودة بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية فإن صدر عنها الأفعال المحمودة عقلا وشرعا كذلك يسمى : خلقا حسنا وإن صدر عنها الأفعال الذميمة عقلا وشرعا كذلك
ويسمى : خلقا سيئا وقد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية تغيير الأخلاق السيئة إلى الأخلاق الحسنة
وقد دلت الشواهد النقلية والتجارب الحسية على أن ذلك التغيير لا يمكن إلا برياضة النفس وتلك الرياضة ليست في شريعتنا هذه إلا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن ذلك إلا بمجاهدات ورياضات يعرفها أهلها ويشعر بها أهل السلوك وليس هذا المختصر موضع تفصيلها انتهى ( 2 / 309 )

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج7.السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون علي بن برهان الدين الحلبي سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044.

  7. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون علي بن برهان الدين الحلبي سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044 . وفي زمن خلافة عمر رضي الله...