الأحد، 4 سبتمبر 2022

ج1.وج2.السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون علي بن برهان الدين الحلبي

 

1 السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
علي بن برهان الدين الحلبي
سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044

السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لمن نضر وجوه أهل الحديث وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السر الحثيث
وبعد فيقول أفقر المحتاجين وأحوج المفتقرين لعفو ذي الفضل والطول المتين على بن برهان الدين الحلبي الشافعي إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام وحفاظ ملة الإسلام كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام والحامل على التخلق بالأخلاق العظام وقد قال الزهري رحمه الله في علم المغازي خير الدنيا والآخرة وهو أول من ألف في السير
قال بعضهم أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه فيقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس لما جمعت من تلك الدرارى والدرر ومن ثم سماها عيون الأثر غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الإعتداد وعليه لهم كثير الإعتماد إذ هو من خصائص هذه الأمة ومفتخر الأئمة لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع ولا تمتد إليه الأطماع وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى بما فيما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوى الأفهام كالمعادات
ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع ومن ثم قال الزين العراقي رحمه الله
____________________

** وليعلم الطالب أن السيرا ** تجمع ما صح وما قد أنكرا **
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روبنا في الفضائل ونحوها تساهلنا وفي الأصل والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق ومالا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجرى مجرى ذلك وأنه يقبل منها مالا يقبل في الحلال والحرام لعدم تعلق الأحكام بها فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه عن لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق الأحداق ويحلو للأذواق يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الإنسجام ونهاية الإنتظام ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى لكوني لست من أهل هذا الشان ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان حتى أشار علي بذلك وبسلوك تلك المسالك من إشارته واجبة الإتباع ومخالفة أمره لاتستطاع ذو البديهة المطاوعة والفضائل البارعة والفواضل الكثيرة النافعة من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف لا تراه يتوقف ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف ولا أخبر في كثير من الأوقاف عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم مولانا الشيخ أبو عبدالله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب وسرى سره في سائر المسارى والمسارب ولي الله والقائم بخدمته في الإسرار والإعلان والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع إثنان مولانا الأستاذ أبو عبدالله وأبو بكر محمد البكري الصديقي
ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين وأستاذ جميع الأستاذين والمعدود من المجتهدين صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة مولانا الأستاذ محمد أبو الحسن تاج العارفين البكري الصديقي أعاد الله تعالى على وعلى أحبابي من بركاتهم وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم فلما أشار على ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف ومسلك شريف لا تمله الأسماع ولا تنفر منه الطباع والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس الموسومة بعيون الأثر إن كثرت ميزتها بقولى في أولها قال وفي آخرها انتهى
____________________


وإن قلت أتيت بلفظه أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال وعن الكثيرة بأي وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل أعني عيون الأثر غالبا وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كمايعلم بالوقوف عليهما وربما ميزت تلك الزيادة بقولى في أولها أقول وفي آخرها والله أعلم وقد يكون من الزيادة ما أقول وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على الشين وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر ثم عن لي أن أذكر من أبيات القصيدة الهمزية المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة بالبردة وما تضمنته تلك الأبيات وأشارت إليه من ذلك السياق فإنه أحلى في الأذواق وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه ويظهر تركيب مبناه وربما أذكر أيضا من أبيات تائية الإمام السبكى ما يناسب المقام وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى ب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقد سميت مجموع ذلك إنسان العيون في سيرة الأ المأمون
وأسأل من لا مسئول إلا إياه أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين
____________________

& باب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم
هو محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبدالله ومعنى عبدالله الخاضع الذليل له تعالى وقد جاء أحب أسمائكم وفي رواية أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن وجاء أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به وقد سمى صلى الله عليه وسلم بعبد الله في القرآن قال الله تعالى وأنه لما قام عبدالله يدعوه وعبدالله هذا هو ابن عبدالمطلب ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع وقيل قيل له شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض أو سمى بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب قيل إسمه عامر وعاش مائة وأربعين سنة أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة وكان يقال له الفياض لجوده ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال قال وكان من حلماء قريش وحكمائها وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان وكان في جوار عبدالمطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله فلما علم عبدالمطلب بذلك ترك منادمة حرب ولم يفارقة حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لإبن عم اليهودي حفظا لجواره ثم نادم عبدالله بن جدعان انتهى ملخصا
وقيل له عبدالمطلب لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه أي وكان بهيئة رثة أي ثياب خلقة فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبدالمطلب ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم لكن غلب عليه
____________________

الوصف المذكور فقيل له عبدالمطلب أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبدالمطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور
وكان يقول لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبدالمطلب في ذلك ففكر وقال والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي معدة له في الآخرة ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام ووحد الله سبحانه وتعالى وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي ابن هاشم وهاشم هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته وهو أخو عبد شمس وكانا توءمين وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس ولم يمكن نزعها إلا بسيلان دم فكانوا يقولون سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية بن أخيه فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره فلم تدعه قريش فقال هاشم لأمية أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضى أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان فخرج كل منهما في نفر فنزلوا على الكاهن فقال قبل أن يخبروه خبرهم والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر فنصر هاشم على أمية فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل وأطعم الناس وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارث ذلك بنوهما وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار أي الذهب ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب
____________________


قال بعضهم ولا يعرف بنوا أب تباينوا في محال موتهم مثلهم فإن هاشما مات بغزة أي كما سيأتي وعبد شمس مات بمكة وقبر بأجياد ونوفلا مات بالعراق والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن أي قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم فإن إبراهيم أول من فعل ذلك أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين وفيه أن أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي ففي الإمتاع وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة وفيه أيضا هاشم عمرو العلا أول من أطعم الثريد بمكة وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحى فليتأمل
وقد يقال لامنافاة لأن الأولية في ذلك إضافية فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحى لكونه من خزاعة وأولية هاشم بإعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** وأطعم في المحل عمرو العلا ** فللمسنتين به خصب عام **
وقال أيضا ** عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ** مر السحاب ولا ريح تجاريه ** ** جفانه كالجوابي للوفود إذا ** لبوا بمكة ناداهم مناديه ** ** أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ** قوتا لحاضره منهم وباديه **
وقد قيل فيه ** قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف ** ** الرائشون وليس يوجد رائش ** والقائلون هلم للأضياف **
وعن بعض الصحابة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبدالدار ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقتار **
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أهكذا قال الشاعر قال لا والذي بعثك بالحق ولكنه قال ** يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف ** ** هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقراف ** **
____________________

الخالطين غنيهم بفقيرهم ** حتى يعود فقيرهم كالكافي **
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هكذا سمعت الرواة ينشدونه وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة فكان يعمل الطعام للحجاج يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد ويقال لذلك الرفادة
واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمى بذلك هاشما وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء
قال بعضهم لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء
قال ابن الصلاح روينا عن الإمام سهل الصعلوكي رضي الله عنه أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام أراد فضل ثريد عمرو العلا الذي عظم نفعه وقدره وعم خيره وبره وبقى له ولعقبه ذكره وقد أبعد سهل في تأويل الحديث
والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره وكان هاشم يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف
قال وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب يقول في خطبته يا معشر قريش إنكم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما أي عقولا وأوسط العرب أي أشرفها أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى أكرمكم الله تعالى بولايته وخصكم بجواره دون بني إسمعيل وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله مالم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل واسألكم بحرمة هذا البيت أن لايخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما
____________________

ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا فكانوا يجتهدون في ذلك ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى
وقيل في تسمية شيبة الحمد عبدالمطلب غير ما تقدم فقد قيل إنما سمى شيبة الحمد عبدالمطلب لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب فمن ثم سمى عبدالمطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم
وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة قيل وعمره حينئذ عشرون سنة وقيل أربع وقيل خمس وعشرون وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء فقال له الرجل ممن أنت يا غلام فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى فذهب إلى المدينة فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه
وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه أهذا ابن هاشم قالوا نعم فعرفهم أنه عمه فقالوا له إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه فدعاه المطلب وقال يا أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية ثم قدم به مكة فقالت قريش هذا عبد المطلب أي فإن هذا السياق يدل على أن عبدالمطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافى ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم وما وقع هنا
____________________

من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له
وفي السيرة الهشامية أن أم عبدالملطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم فقال شيبة لعمه إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي فأذنت له ودفعته إليه فأردفه خلفه على بعيره ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله فقالت قريش عبدالمطلب إبتاعه أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق فقال لهم ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم ولا يخالف هذا ما سبق من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا فيقول عبدي لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبدالمطلب ظنا منه وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره وهاشم بن عبد مناف وبعد مناف إسمه المغيرة أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله وهذا هو الحد الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنهما
ووجد كتاب في حجر أنا المغيرة بن قصي أوصى قريشا بتقوى الله جل وعلا وصلة الرحم ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن اسمه يزيد ويدعى مجمعا أيضا وقيل له قصى لأنه قصى أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم
أقول لا منافاة لجواز أن تكون أم قصى من بني كلب وأبوها من قضاعة وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها ولعل قضاعة كانت جهة الشام فلا يخالف ما قيل
____________________


وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام وقيل حزام بن ربيعة العذرى فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شر أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا
وفي لفظ لما قيل له قال ممن أنا قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه فقالت له بلادك خير من بلادهم وقومك خير من قومهم أنت أكرم أبا منهم أنت ابن كلاب بن مرة وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة فإني أخاف عليك فشخص مع الحجاج فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة فعرفوا له فضله وشرفه فأكرموه وقدموه عليهم فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه وهو آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة لأن قريشا أقرب إلى إسمعيل من خزاعة فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي ياء خزاعة وولى أمر مكة
وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة
وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لأبنته زوج قصي وقالت له لاقدرة لي على فتح البيت وإغلاقه وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر فقالت العرب أخسر صفقة من أبي غبشان
وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة
ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولى أمر البيت والحكم بمكة لجواز أن يكون المراد آخر من ولى ذلك واستمر كذلك إلى أن مات قال بعضهم وكان
____________________

أبو غبشان خالا لقصي وكان في عقله شيء فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل
والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الإقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها إثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي ومن ثم قيل له مجمع وفي كلام بعضهم ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم مجمعا وإلى ذلك يشير قول الشاعر ** قصي لعمرى كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر **
وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبدالمطلب مدحه بها حذافة بن غانم فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به فتلقاهم عبدالمطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره فلما نظر إليه حذافة هتف به فقال عبدالمطلب لأبي لهب ويلك ما هذا قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب قال الحقهم وأسألهم ما شأنهم فلحقهم فأخبروه الخبر فرجع إلى عبدالمطلب فقال ما معك قال والله ما معي شيء قال الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل فلحقهم أبو لهب فقال قد عرفتم تجارتي ومالي وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا وهذا ردائي رهنا بذلك فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به فلما سمع عبدالمطلب صوت أبي لهب قال وأبي إنك لعاص ارجع لا أم لك قال يا أبتاه هذا الرجل معي فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني فاردفه خلفه حتى دخل مكة فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها ** بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ** يضئ ظلام الليل كالقمر البدر **
هي القصيدة الجيدة
فإن قيل كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك
أجيب بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا
____________________

على أمر جليل لا يغدر بل يحرص على وفاء ما رهن عليه ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد رضي الله تعالى عنه إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى فقال له كسرى أنتم قوم غدر وأخاف على الرعايا منكم فقال له حاجب أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك فقال له كسرى ومن لي بوفائك قال هذه قوسي رهينة فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه فقيل له العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب أمر عطارد رضي الله عنه قومه بالذهاب إلى بلادهم وجاء عطارد رضي الله عنه إلى كسرى فطلب قوس أبيه فقال إنك لم تسلم إلى شيئا فقال أيها الملك أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة فدفعها له وكساه حلة فلما وفد عطارد على النبي صلى الله عليه وسلم دفعها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها وقال إنما يلبس هذه الحلة من لاخلاق له فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله ** تزهو علينا بقوس حاجبها ** تيه تميم بقوس حاجبها **
وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام مني بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم فأبت خزاعة فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر ثم تداعوا للصلح وإتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا فقال لهم موعدكم فناء الكعبة غدا فلما اجتمعوا قام يعمر فقال ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين فلا تباعة لأحد على أحد في دم وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية وفضى لقصي بأنه أولى بولاية مكة فتولاها قيل وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها أي بتجارة وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية
____________________

البيت فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولى أمر البيت بعد ثابت بن إسمعيل عليه الصلاة والسلام فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسمعيل لأمهم واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسمعيل في ذلك لخئولتهم وإعظاما لأن يكون بمكة بغى
ثم إن جرهما بغوا بمكة وظلموا من يدخلها من غير أهلها وأكلوا ما الكعبة الذي يهدى لها حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه فأجمعت أي عزمت خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة وذهب من بقى إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ** ** بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والدهور البواتر **
ومن غريب الإتفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال الأمر كما كان والله ذهب ملكنا وذل عزنا وانقضت أيام دولتنا قلت وما ذاك أصلح الله الوزير قال سمعت منشدا أنشدني كأن لم يكن بين الحجون البيت وأجبته من غير روية بلى نحن كنا أهلها البيت فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال أو قد فعل قال نعم فمازاد أن رمى القلم من يده وقال هكذا تقول الساعة بغتة
ومما يؤثر عن يحيى هذا ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع ويحفظ أحسن ما يكتب ويحدث بأحسن ما يحفظ وقال من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما
____________________


وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم وكان كبير خزاعة عمرو بن لحى وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره وقد بلغ عمرو بن لحى في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد والسدائف جمع سديف وهو شحم السنام وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف
وفي كلام بعضهم صار عمرو للعرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة
وهو أول من غير دين إبراهيم أي فقد قال بعضهم تضافرت نصوص العلماء على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو ابن لحى فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة
وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما
وعمرو أول من وصل الوصيلة وحمى الحامي ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي وأول من أدخل الشرك في التلبية فإنه كان يلبى بتلبية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك قال له ذلك الشيخ إلا شريكا هو لك فأنكر عمرو ذلك فقال له ذلك الشيخ تملكه وما ملك وهذا لا بأس به فقال ذلك عمرو فتبعه العرب على ذلك أي فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده قال تعالى توبيخا لهم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة فإن كل القبائل
____________________

من ولد إسمعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحى فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة قال كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت جهنم يحطم بضعها بضعا ورأيت عمرا يجر قصبه في النار وفي رواية أمعاءه أي وهي المراد بالقصب بصم القاف وفي رواية رأيته يؤذى أهل النار بريح قصبه ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره ياء موحدة ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار والإندلاق الخروج بسرعة وقال صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى وأكثم بالثاء المثلثة وهو في اللغة واسع البطن يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا اشبه من رجل منك به ولا بك منه فقال أكثم فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان أي ودين إسمعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة السلام فإن العرب من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الدجال فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى فقام أكثم فقال أيضرني شبهي إياه فقال لا أنت مؤمن وهو كافر ورده ابن عبدالبر حيث قال الحديث الذي فيه ذكر الدحال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو ابن لحي
وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأثان لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ورآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه قالوا هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده وكان عند هبل سبع قداح قدح فيه مكتوب الغفل إذا اختلفوا فيمن
____________________

يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله وقدح مكتوب فيه نعم وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أولا وقدح فيه بها وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان
وعاش عمرو بن لحى هذا ثلثمائة سنة وأربعين سنة ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصي ابنته كما تقدم
وقيل وكان لعمرو تابع من الجن فقال له اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان وقيل لهذيل ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن ويعوق لمراد وقيل لهمدان ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا فحزن أهل عصرهم عليهم فصور لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم فجعلوها في مؤخر المسجد فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم تعبدونها ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين
وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فمات ود فحزن الناس عليه حزنا شديدا واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه وذلك بأرض بابل فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه قالوا نعم فصور لهم صورته ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا تلك الصور بأسمائهم ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها فأرسل الله لهم نوحا فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك
____________________

ويقال إن عمرو بن لحى هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلى قديد وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه وكذلك الأوس والخزرج وغسان
وذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض } أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلى والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى هذا كلامه
وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بإمرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي
وقيل زنى بها فمسخا حجرين فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة فلما كان زمن عمرو بن لحى أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها إمرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتى بالطائف عند اللات ويصيف عن العزى فكانوا يعظمونهما وكانو يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة
وقصى هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه كباب بني شيبة وباب بني سهم وباب بني مخزوم وباب بني جمع وتركوا قدر الطواف بالبيت فبنى قصى دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف وليس حوله جدار زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن ولاية الصديق رضي الله عنه فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها ثم لما كان زمن ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى دورا أخر
____________________

وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد ثم إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في المسجد زيادة كثيرة ثم إن عبدالملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا ثم إن الوليد بن عبدالملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن
وكانت قريش قبل ذلك أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها وهو على ثلثي فرسخ من مكة وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها فقد كان بمكة شجر كثير من العضاة والسلم وشكوا ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها فهابوا ذلك فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا فقال قصي إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا بهلة الله أي لعنته على من أراد فسادا فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه
وفي كلام السهيلي عن الواقدي الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله
قال وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبدالله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع
وأنزل قصي القبائل من قريش أي فإنه جعلها إثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها وظواهرها ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر والأولى أشرف من الثانية ومن الأولى بنو هاشم وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله ** من بني هاشم بن عبد مناف ** وبنو هاشم بحار الحياء ** ** من قريش البطاح من عرف النا ** س لهم فضلهم بغير امتراء
قال بعضهم كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام فليخرج كل إسنان منكم من ماله خرجا ففعلوا فجمع من
____________________

ذلك شيئا كثيرا فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم وسقى الماء المحلى بالزبيب وسقى اللبن وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر
ومما يؤثر عن قصي من أكرم لئيما أشركه في لؤمه ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان والحسود العدو الخفى
ولما احتضر قال لأولاده اجتنبوا الخمرة فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان
وحاز قصي شرف مكة كله فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة
وكان عبدالدار أكثر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي وذهب شرفه كل مذهب وكان يليه في الشرف أخوه المطلب كان يقال لهما البدران وكانت قريش تسمى عبد مناف الفياض لكثرة جوده فأعطى قصي ولده عبدالدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة أي فإنه قال له أما والله يابني لألحقنك بالقوم يعنى أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفحتها له أي بسبب الحجابة للبيت ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك أي وهذا هو المراد باللواء ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك وهذا هو المراد بالسقاية ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعنى دار الندوة أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة
فلما مات عبدالدار وأخوه عبد مناف أراد بنوا عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب وهؤلاء إخوة لأب وأم أمهم عاتكة بنت مرة ونوفل أخوهم لأبيهم أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبدالدار وأجمعوا على المحاربة أي وأخرج بنوا عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا هم وحلفاؤهم ثم مسجوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت
____________________

عبدالمطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوءمة أبيه ووضعتها في الحجر وقالت من تطيب بهذا فهو منا فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر فالمطيبون من قريش خمس قبائل وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم وهم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم
وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنوا عدي خاصة ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف والحجابة واللواء لبني الدار ودار الندوة بينهم بالإشتراك وتخالفوا على ذلك هذا
والذي رأيتهم في المشرق فيم يحاضر به من آداب المشرق ولما شرف عبد مناف ابن قصي في حياة أبيه وذهب شرفه كل مذهب وكان قصي يحب إبنه عبد الدار أراد أن يبقى له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان وجعل دار الندوة لولده عبد مناف ابن عبدالدار ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبدالدار ثم وليها ولده من بعده
والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقى الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا وهذا السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم وبعده ولده عبدالمطلب وكان شريفا مطاعا جوادا وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده فلما كبر عبد المطلب فوض إليه أمر السقاية والرفادة فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا أي أفنية ودورا فسأل عبدالمطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل فلما وقف خاله أبو سعد ابن عدي بن النجار على كتابه بكى وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال فقال لا والله حتى ألقى نوفلا فقال تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش فأقبل أبو سعد حتى وقف
____________________

عليه فقام نوفل قائما وقال يا أبا سعد أنعم صباحا فقال له أبو سعد لا أنعم الله لك صباحا وسل سيفه وقال ورب هذه البنية لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأملأن منك هذا السيف فقال قد رددتها عليه فأشهد عليه مشايخ قريش ثم نزل على عبدالمطلب فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة
ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس أي فإن خزاعة قالت نحن أولى بنصرة عبدالمطلب لأن عبد مناف جد عبدالمطلب أمه حيى بنت حليل سيد خزاعة كما تقدم فقالوا لعبدالمطلب هلم فلنحالفك فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا بإسمك اللهم هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بل بحر صوفة وما أشرقت الشمس على ثبير وهب بفلاة بعير وما أقام الأخشبان واعتمر بمكة إنسان والمراد من ذلك الأبد
وعبدالمطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب ثم بعده قام بها ولده أبو طالب ثم اتفق أن أبا طالب أملق أي افتقر في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك فقال له العباس بشرط إن لم تعطنى تترك السقاية لأكفلها فقال نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية فصارت للعباس ثم لولده عبدالله بن عباس واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح ثم ترك بنو العباس ذلك
والرفادة إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم لولده عبد المطلب ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس ثم استمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر
____________________


وأما القيادة وهي إمارة الركب فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب ثم لابنه أبي سفيان فكان يقود الناس في غزواتهم قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب ومن ثم لما قال الوليد بن عبدالملك لخالد بن يزيد بن معاوية لست في العير ولا في النفير قال له ويحك العير والنفير عيبتي أي وعائي لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب جدى أبو سفيان صاحب العير وجدى عتبة بن ربيعة صاحب النفير
ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبدالدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب وهذه كانت سنة قصي فكان لا ينكح رجل إمرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة ولا يعقد لواء حرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها ويدرعها بيده فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حباته كالدين المتبع ولا زالت هذه الدار في يد بني عبدالدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم فلامه عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وقال أتبيع مكرمة آبائك وشرفهم فقال حكيم رضي الله عنه ذهبت المكارم إلا التقوى والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وقد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله تعالى فأينا المغبون
قيل وقصى هو جماع قريش فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي ونسب هذا القول لبعض الرافضة وهو قول باطل لأنه توصل به إلى أن لا يكون سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما من قريش فلا حق لهما في الإمامة العظمى التي هي الخلافة لقوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش ولقوله صلى الله عليه وسلم لقريش أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه لأنهما لم يلتقيا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا فيما بعد قصي لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه يجتمع معه في مرة كما سيأتي لأن تيم بن مرة بينه وبين أبي بكر رضي الله عنه خمسة آباء وعمر رضي الله عنه يجتمع معه في كعب كما سيأتي وبين عمر رضي الله عنه وكعب سبعة آباء وقصي بن كلاب أي وإسمه حكيم وقيل عروة ولقب بكلاب لأنه كان يحب
____________________

الصيد وأكثر صيده كان بالكلاب وهو الجد الثالث لآمنة أمه صلى الله عليه وسلم ففي كلاب يجتمع نسب أبيه وأمه ابن مرة وهو الجد السادس لأبي بكر رضي الله تعالى عنه والإمام مالك رضي الله تعالى عنه يجتمع معه صلى الله عليه وسلم في هذا الجد الذي هو مرة أيضا ابن كعب أي وهو الجد الثامن لعمر رضي الله تعالى عنه وكان كعب يجمع قومه يوم العروبة أي يوم الرحمة الذي هو يوم الجمعة ويقال إنه أول من سماه يوم الجمعة لإجتماع قريش فيه إليه لكن في الحديث كان أهل الجاهلية يسمون يوم الجمعة يوم العروبة وإسمه عند الله تعالى يوم الجمعة قال ابن دحية ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام وسيأتى في ذلك كلام فكانت قريش تجتمع إلى كعب ثم يعظهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم بأنه من ولده ويأمرهم بإتباعه ويقول سيأتي لحرمكم نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم وينشد أبياتا آخرها ** على غفلة يأتى النبي محمد ** فيخبر أخبارا صدوق خبيرها **
وينشد أيضا ** يا ليتني شاهد فحواء دعوته ** حين العشيرة تبغى الحق خذلانا ** د
وكان بينه وبين مبعثه صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة وفي الإمتاع وعشرون سنة لأن الحق أن الخمسمائة والستين إنما هي بين موت كعب والفيل الذي هو مولده صلى الله عليه وسلم كما ذكره أبو نعيم في الدلائل النبوية
وقيل إن كعبا أول من قال أما بعد فكان يقول أما بعد فاسمعوا وافهموا وتعلموا واعلموا ليل داج وفي رواية ليل ساج ونهار صاح والأرض مهاد والسماء بناء والجبال أوتاد والنجوم أعلام والأولون كالآخرين فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وثمروا أموالكم الدار أمامكم والظن غير ما تقولون أي وقيل له كعب لعلوه وإرتفاعه لأن كل شيء علا وارتفع فهو كعب ومن ثم قيل للكعبة كعبة ولعلوه وإرتفاع شأنه أرخوا بموته حتى كان عام الفيل أرخوا به ثم أرخوا بعد عام الفيل بموت عبدالمطلب وكعب بن لؤي أي بالهمزة أكثر من عدمها أي وفي سبب تصغيره خلاف ابن غالب به فهر سماه أبوه فهرا وقيل هو لقب واسمه قريش والمناسب أن يكون لقبا لقولهم إنما سمى قريشا لأنه كان يقرش أي يفتش على خلة حاجة المحتاج
____________________

فيسدها بماله وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم فسموا بذلك قريشا قال بعضهم وهو جماع قريش عند الأكثر قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر وفهر هذا هو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح ولما جاء حسان بن عبد كلال من اليمن في حمير وغيرهم لأخذ أحجار الكعبة إلى اليمن ليبنى بها بيتا ويجعل حج الناس إليه ونزل بنخلة خرج فهر إلى مقاتلته بعد أن جمع قبائل العرب فقاتله وأسره وأنهزمت حمير ومن انضم إليهم واستمر حسان في الأسر ثلاث سنين ثم افتدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة واليمن فهابت العرب فهرا وعظموه وعلا أمره
ومما يؤثر عن فهر قوله لولده غالب قليل ما في يديك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك وفهر هو ابن مالك قيل له ذلك لأنه ملك العرب ابن النضر أي ولقب به لنضارته وحسنه وجماله وإسمه قيس وهو جماعة قريش عند الفقهاء فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي ويقال لكل من أولاده الذين منهم مالك وأولاده قرشي فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش فقال من ولد النضر أي وعلى أن جماع قريش فهر كما تقدم فمالك وأولاده والنضر جده وأولاده ليسوا من قريش والنضر بن كنانة قيل له كنانة لأنه لم يزل في كن من قومه وقيل لستره على قومه وحفظه لأسرارهم وكان شيخا حسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله وكان يقول قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق فاتبعوه تزدادوا شرفا وعزا إلى عزكم ولا تعتدوا أي تكذبوا ما جاء به فهو الحق
قال ابن دحية رحمه الله كان كنانة يأنف أن يأكل وحده فإذا لم يجد أحدا أكل لقمة ورمى لقمة إلى صحرة ينصبها بين يديه أنفة من أن يأكل وحده
ومما يؤثر عنه رب صورة تخالف المخبرة قد غرت بجمالها واختبر قبح فعالها فاحذر الصور واطلب الخبر وكنانة بن خزيمة بن مدركة ومدركة اسمه عمرو وقيل له مدركة لأنه أدرك كل عز وفخر كان في آبائه وكان فيه نور رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولعل المراد ظهوره فيه ومدركة بن إلياس بهمزة قطع مكسورة وقيل مفتوحة أيضا وقيل همزة وصل ونسب للجمهور قيل سمى بذلك لأن أباه مضر
____________________

كان قد كبر سنه ولم يولد له ولد فولد له هذا الولد فسماه إلياس وعظم أمره عند العرب حتى كانت تدعوه بكبير قومه وسيد عشيرته وكانت لا تقضى أمرا دونه
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت وأول من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح عليه السلام فوضعه في زاوية البيت كذا في حياة الحيوان فليتأمل وجاء في حديث لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا وقيل إنه جماع قريش أي فلا يقال لأولاد من فوقه قرشى وكان إلياس يسمع من صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة في الحج قيل وكان في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه وهو أول من مات بعلة السل ولما مات حزنت عليه زوجته خندف حزنا شديدا لم يظلها سقف بعد موته حتى ماتت ومن ثم قيل أحزن من خندف وإلياس بن مضر قيل هو جماع قريش فلا يقل لأولاد من فوق مضر قرشي ففي جماع قريش خمسة أقوال قيل قصي وقيل فهر وقيل النضر وقيل إلياس وقيل مضر ويقال له مضر الحمراء قيل لأنه لما اقتسم هو وأخوه ربيعة مال والدهما أعنى نزارا أخذ مضر الذهب الحمراء وأخذ ربيعة الخيل ومن ثم قيل له ربيعة الفرس وجاء في حديث لاتسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مؤمنين أي وفي رواية لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم وفي حديث غريب لا تسبوا مضر فإنه كان على دين إسمعيل وما حفظ عنه من يزرع شرا يحصد ندامة
أقول سيأتي في بنيان قريش الكعبة أنهم وجدوا فيها كتبا بالسريانية من جملتها كتاب فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة إلى آخر ما يأتى وعن أبي عبيدة البكري أن قبر مضر بالروحاء يزار والروحاء على ليلتين من المدينة والله أعلم وكان مضر من أحسن الناس صوتا وهو أول من حدا للإبل فإنه وقع فانكسرت يده فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من المرعى فلما صح وركب حدا وقيل أول من سن الحداء للإبل عبد له ضرب مضر يده ضربا وجيعا فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من مرعاها أي لأن الحداء مما ينشط الإبل لاسيما إن كان بصوت حسن فإنها عند سماعه تمد أعناقها وتصغى إلى الحادي وتسرع في سيرها وتستخف الأحمال الثقيلة فربما قطعت المسافة البعيدة في زمن قصير
____________________

وربما أخذت ثلاثة أيام من يوم واحد وفي ذلك حكاية مشهورة ولأجل ما ذكر ذكر أئمتنا أنه مستحب
وفي الأذكار للإمام النووي رضي الله تعالى عنه باب استحباب الحداء للسرعة في السير وتنشيط النفوس وترويحها وتسهيل السير عليها فيه أحاديث كثيرة مشهورة ومضر بن نزار بكسر النون كان يرى نور النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وهو أول من كتب الكتاب العربي على الصحيح والإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه يجتمع معه صلى الله عليه وسلم في هذا الجد الذي هو نزار بن معد بن عدنان هذا هو النسب المجمع عليه في نسبه صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالأنساب ومن ثم لما قال فقهاؤنا شرط الإمام الأعظم أن يكون قرشيا فإن لم يوجد قرشي جامعا للشروط التي ذكروها فكنانى قال بعضهم وقياس ذلك أن يقال فإن لم يوجد كناني فخزيمي فإن لم يوجد خزيمي فمدركى فإن لم يوجد مدركي فإلياسي فإن لم يوجد إلياسي فمضري فإن لم يوجد مضرى فنزاري فإن لم يوجد نزاري فمعدي فإن لم يوجد معدي فعدناني فإن لم يوجد عدناني فمن ولد إسمعيل لإن من فوق عدنان لا يصح فيه شيء ولا يمكن حفظ النسب فيه منه إلى إسمعيل
وقيل له معد لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر والظفر قال بعضهم ولا يخرج عربي في الأنساب عن عدنان وقحطان وقيل وولد عدنان يقال لهم قيس وولد قحطان يقال لهم يمن ولما سلط الله بختنصر على العرب أمر الله تعالى أرمياء أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كيلا تصيبه النقمة وقال فإني سأخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل ففعل أرمياء ذلك واحتمله معه إلى أرض الشام فنشأ مع بني إسرائيل ثم عاد بعد أن هدأت الفتن أي بموت بختنصر وكان عدنان في زمن عيسى عليه السلام وقيل في زمن موسى عليه السلام قال الحافظ ابن حجر وهو أولى أي ومما يضعف الأول ما في الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا في عسكر موسى عليه الصلاة والسلام فانتهبوه فدعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام فأوحى الله تعالى إليه لا تدع عليهم فإن منهم النبي الأمي البشير النذير الحديث إذ يبعد بقاء معد إلى زمن عيسى
____________________

عليه الصلاة والسلام ومعلوم أنه لا خلاف في أن عدنان من ولد إسمعيل نبي الله تعالى أي أرسله الله تعالى إلى جرهم وإلى العماليق وإلى قبائل اليمن في زمن أبيه إبراهيم وكذا بعث أخوه إسحق إلى أهل الشام وبعث ولده يعقوب إلى الكنعانيين في حياة إبراهيم فكانوا أنبياء على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وذكر بعضهم أن من العماليق فرعون موسى عليه الصلاة والسلام ومنهم الريان بن الوليد فرعون يوسف عليه الصلاة والسلام
وكان إسمعيل بكر أبيه جاء له وقد بلغ أبوه من العمر سبعين سنة وقيل ستا وثمانين سنة ولد بين الرملة وإيليا وكان بين عدنان وإسمعيل أربعون أبا وقيل سبعة وثلاثون
وفي النهر لأبي حيان رحمه الله أن إبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
ولا يخفى أن إسمعيل أول من تسمى بهذا الإسم من بني آدم ومعناه بالعبرانية مطيع الله وأول من تكلم بالعربية أي البينة الفصيحة وإلا فقد تعلم أصل العربية من جرهم ثم ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها وفي الحديث أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسمعيل وهو ابن أربع عشرة سنة
وفي كلام بعضهم لما خرج إبراهيم بهاجر وولدها إسمعيل إلى مكة على البراق واحتمل معه قربة ماء ومزودا فيه تمر فلما أنزلهما بها وولى راجعا تبعته هاجر وهي تقول آلله أمرك أن تدعني وهذا الصبي في هذا المحل الموحش الذي ليس به أنيس قال نعم فقالت إذن لا يضيعنا ولا زالت تأكل من التمر وتشرب من الماء إلى أن نفد الماء الحديث وكان إنزاله لهما بموضع الحجر وذلك لمضى مائة سنة من عمر إبراهيم
وكون إسمعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافى ماقيل أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من قيل له أنعم صباحا ويعرب هذا قيل له أيمن لأن هودا نبي الله عليه الصلاة والسلام قال له أنت أيمن ولدى وسمى اليمن يمنا بنزوله فيه وهو أول من قال القريض والرجز وقيل سمى اليمن يمنا لأنه على يمين الكعبة وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي إسمعيل والصحيح أن أول من كتب ذلك نزار بن معد كما تقدم وكذا كون إسماعيل أول من تكلم
____________________

بالعربية البينة لا ينافى ما قيل أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية قيل وسميت سريانية لأن الله تعالى علمها آدم سرا من الملائكة وأنطقه بها
وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرها من بقية الإثنى عشر كتابا وهي الحميري واليوناني والرومي والقبطى والبربري والأندلسي والهندي والصيني آدم عليه الصلاة والسلام كتبها في طين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه فأصاب إسمعيل الكتاب العربي أي وأما ما جاء أول من خط بالقلم إدريس فالمراد به خط الرمل
وفي كلام بعضهم أول من تكلم بالعربية المحضة وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن إسمعيل وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسمعيل ويقال لمن يتكلم بلغة هؤلاء العرب العاربة ويقال لمن يتكلم بلغة إسمعيل العرب المستعربة وهي لغة الحجاز وما والاها
وجاء من أحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق
وقد ذكر بعضهم أن أهل الكهف كلهم أعجام ولا يتكلمون إلا بالعربية وأنهم يكونون وزراء المهدى واشتهر على ألسنة الناس أنه صلى الله عليه وسلم قال أنا أفصح من نطق بالضاد قال جمع لا أصل له ومعناه صحيح لأن المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم
وإسمعيل عليه الصلاة والسلام أول من ركب الخيل وكانت وحوشا أي ومن ثم قيل لها العراب أو لما سيأتي وقد قال صلى الله عليه وسلم أركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسمعيل عليه الصلاة والسلام
وفي رواية أوحى الله تعالى إلى إسمعيل أن أخرج إلى أجياد الموضع المعروف سمى بذلك لأنه قتل فيه مائة رجل من العمالقة من جياد الرجال فادع يأتك الكنز فخرج إلى أجياد فألهمه الله تعالى دعاء فدعا به فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نواصيها وذللها الله تعالى له فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين وهي ميراث أبيكم إسمعيل
وذكر الحافظ السيوطي رحمه الله أن له كتابا في الخيل سماه جر الذيل في علم الخيل وفي العرائس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخيل قال لريح الجنوب إني خالق منك
____________________

خلقا فأجعله عزا لأوليائي ومذلة على أعدائي وجمالا لأهل طاعتي فقالت افعل ما تشاء فقبض قبضة فخلق فرسا فقال لها خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بناصيتك والغنائم مجموعة على ظهرك وعطفت عليك صاحبك وجعلتك تطيري بلا جناح فأنت للطلب وأنت للهرب
وعن وهب أنه قيل لسليمان صلوات الله وسلامه عليه إن خيلا بلقا لها أجنحة تطير بها وترد ماء كذا فقال للشياطين على بها فصبوا في العين التي تردها خمرا فشربت فسكرت فربطوها وساسوها حتى تأنست
قيل ويجوز أن يكون المراد من تلك الخيل الفرس الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام
وجاء إن الله تعالى لما عرض على آدم عليه الصلاة والسلام كل شيء مما خلق قال له اختر من خلقي ما شئت فاختار الفرس فقيل له اخترت عزك وعز ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين ودهر الداهرين وهذا صريح في أن الخيل خلقت قبل آدم
وقد سئل الإمام السبكى هل خلقت الخيل قبل آدم أو بعده وهل خلقت الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور فأجاب بأنا نختار أن خلق الخيل قبل آدم عليه الصلاة والسلام لأن الدواب خلقت يوم الخميس وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر وأن الذكور خلقت قبل الإناث لأمرين أحدهما أن الذكر أشرف من الأنثى والثاني حرارة الذكر أقوى من الأنثى ولذلك كان خلق آدم قبل خلق حواء فليتأمل
وقد ذكر الإمام السهيلي أن في الفرس عشرين عضوا كل عضو منها يسمى بإسم طائر ذكرها وبينها الأصمعي فمنها النسر والنعامة والقطاة والذباب والعصفور والغراب والصرد والصقر قالوا وفي الحيوان أعضاء باردة يابسة كالعظام نظير السوداء وأعضاء باردة رطبة كالدماغ نظير البلغم وأعضاء حارة يابسة كالقلب نظير الصفراء وأعضاء حارة رطبة كالكبد نظير الدم
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل وجاء ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ويقول رب إنك سخرتني لإبن آدم وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده وقيل لبعض
____________________

الحكماء أي المال أشرف قال فرس يتبعها فرس وفي بطنها فرس ومن ثم قيل ظهر الخيل حرز وبطنها كنز
وفي الحديث لما أراد ذو القرنين أن يسلك في الظلمة إلى عين الحياة سأل أي الدواب في الليل أبصر فقالوا الخيل فقال أي الخيل أبصر فقالوا الإناث قال فأي الإناث أبصر قالوا البكارة فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك
وأعطى الله إسمعيل القوس العربية وكان لا يرمى شيئا إلا أصابه وفي الحديث ارموا بني إسمعيل فإن أباكم كان راميا أي قال ذلك لجماعة مر عليه وهم ينتضلون فقال حسن هذا اللهو مرتين أو ثلاثا زاد في بعض الروايات أرموا وأنا مع بني فلان فأمسك الفريق الآخر فقال لهم مابالكم لا ترمون فقالوا يا رسول الله كيف نرمى وأنت معهم إذن ينضلونا قال ارموا وأنا معكم كلكم أخرجه البخاري في صحيحه زاد البيهقي في دلائل النبوة فرموا عامة يومهم ذلك ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا وقد جاء أحب اللهو إلي إجراء الخيل ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وقد جاء أحب اللهو إلى الله تعالى إجراء الخيل والرمى وجاء كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمى الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته أمرأته فإنهم من الحق وجاء علموا أولادكم السباحة والرمى وفي رواية الرماية وفي رواية علموا بنيكم الرمى فإنه نكاية العدو وقد جاء تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة وروى مرفوعا حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمى وجاء من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا وفي رواية فهو نعمة جحدها
قال الحافظ السيوطي رضي الله عنه والأحاديث المتعقلة بالرمى كثيرة قال وقد ألفت كتابا في الرمى سميته غرس الأنشاب في الرمى النشاب وفي العرائس كان إسمعيل مولعا بالصيد مخصوصا بالقنص والفروسية والرمى والصراع والرمى سنة إذا نوى به التأهب للجهاد لقوله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } وقوله صلى الله عليه وسلم القوة الرمى على حد قوله الحج عرفة وإلا فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال الرمى والسيوف والسلاح وسئل الحافظ السيوطي رضي الله عنه هل ما ذكره الطبري والمسعودي في تاريخهما أن أول من
____________________

رمى بالقوس العربية آدم عليه الصلاة والسلام وذلك لما أمره الله تعالى بالزراعة حين أهبط من الجنة وزرع أرسل الله تعالى له طائرين يخرجان ما بذره ويأكلانه فشكا إلى الله تعالى ذلك فهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان فقال آدم ما هذا يا جبريل فأعطاه القوس وقال هذه قوة الله تعالى وأعطاه الوتر وقال هذه شدة الله تعالى وأعطاه السهمين وقال هذه نكاية الله تعالى وعلمه الرمى بهما فرمى الطائرين فقتلهما وجعلهما يعني السهمين عدة في غربتة وأنسا عند وحشته ثم صار القوس العربية إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ثم إلى ولده إسمعيل وهو يدل على أن قوس إبراهيم هي القوس التي هبطت على آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة وأنه ادخرها لإبراهيم وهو خلاف قول بعضهم إنها غيرها أهبطت إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الجنة فأجاب الحافظ السيوطي رضي الله عنه بقوله راجعت تاريح الطبري في تاريخ آدم وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فلم أجده فيه ولا تبعد صحته فإن الله تعالى علم آدم علم كل شيء
وذكر أن ابن أبي الدنيا ذكر في كتاب الرمى من طريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أول من عمل القسى إبراهيم عمل لإسمعيل ولإسحق قوسين فكانا يرميان بهما وتقدم أن إسحاق جاء لإبراهيم بعد إسمعيل بثلاث عشرة وقيل بأربع عشرة سنة أي حملت به أمه سارة في الليلة التي خسف الله تعالى بقوم لوط فيها ولها من العمر تسعون سنة
وفي جامع ابن شداد يرفعه كان اللواط في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة ثم استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال فخسف الله تعالى بهم قيل ولا يعمل عمل قوم لوط من الحيوان إلا الحمار والخنزير وكان أول من اتخذ القسى الفارسية نمرود فليتأمل الجمع
وقد يقال لا منافاة لجواز أن يكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من عمل القسى بعد ذهاب تلك القوس فالأولية إضافية ومعلوم أن إسمعيل بن إبراهيم خليل الله تعالى عليهما الصلاة والسلام أي ولم يبعث بشريعة مستقلة من العرب بعد إسمعيل إلا محمد صلى الله عليه وسلم وأما خالد بن سنان وإن كان من ولد إسمعيل على ما قيل فقال بعضهم لم يكن في بني إسمعيل نبي غيره قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يبعث
____________________

بشريعة مستقلة بل بتقرير شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام أي وكان بينه وبين عيسى ثلاثمائة سنة وخالد هذا هو الذي أطفأ النار التي خرجت بالبادية بين مكة والمدينة كادت العرب أن تعبدها كالمجوس كان يرى ضوءها من مسافة ثمان ليال وربما كان يخرج منها العنق فيذهب في الأرض فلا يجد شيئا إلا أكله فأمر الله تعالى خالد بن سنان بإطفائها وكانت تخرج من بئر ثم تنتشر فلما خرجت وانتشرت أخذ خالد بن سنان يضربها ويقول بدا بدا بدا كل هدى وهي تتأخر حتى نزلت إلى البئر فنزل إلى البئر خلفها فوجد كلابا تحتها فضربها وضرب النار حتى أطفأها ويذكر أنه كان هو السبب في خروجها فإنه لما دعا قومه وكذبوه وقالوا له إنما تخوفنا بالنار فإن تسل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك فتوضأ ثم قال اللهم إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا فأسلها عليهم نارا فخرجت فقالوا يا خالد ارددها فإنا مؤمنون بك فردها
قيل وكان خالد بن سنان إذا استسقى يدخل رأسه في جيبه فيجىء المطر ولا يقلع إلا إن رفع رأسه قيل وقدمت ابنته وهي عجوز على النبي صلى الله عليه وسلم فتلقاها بخير وأكرمها وبسط لها رداءه وقال لها مرحبا بابنة أخي مرحبا بابنة نبي صيعة قومه فأسلمت وهذا الحديث مرسل رجاله ثقات وفي البخاري أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة وليس بيني وبينه نبي قال بعضهم وبه يرد على من قال كان بينهما خالد بن سنان وقد يقال مراده صلى الله عليه وسلم بالنبي الرسول الذي يأتي بشريعة مستقلة وحينئذ لا يشكل هذا لما علمت أنه لم يأت بشريعة مستقلة ولا ما جاء في رواية أخرى ليس بيني وبينه نبي ولا رسول ولا ما في كلام البيضاوي تبعا للكشاف من أن بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وبعده حنظلة بن صفوان عليهما الصلاة والسلام أرسله الله تعالى لأصحاب الرس بعد خالد بمائة سنة لأنه يجوز أن يكون كل من هؤلاء الثلاثة لم يبعث بشريعة مستقلة بل كان مقررا لشريعة عيسى عليه الصلاة والسلام أيضا كخالد بن سنان
والرس البئر الغير المطوية أي الغير المبنية كذا في الكشاف والذي في القاموس كالصحاح المطوية بإسقاط غير فإنهم قتلوا حنظلة ودسوه فيها أي وحين
____________________

دسوه فيها غار ماؤها وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفى أرضهم جميعا وتبدلوا بعد الأنس الوحشة وبعد الإجتماع الفرقة لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام أي وكان إبتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل كان فيه من كل لون فكان ينقض على صبيانهم يخطفهم إذا أعوذه الصيد وكان إذا خطف أحدا منهم أغرب به أي ذهب به إلى جهة المغرب فقيل له لطول عنقه ولذهابه إلى جهة المغرب عنقاء مغرب فشكوا ذلك إلى حنظلة عليه الصلاة والسلام فدعا على تلك العنقاء فأرسل الله تعالى عليها صاعقة فأهلكتها ولم تعقب وكان جزاؤه منهم أن قتلوه وفعلوا به ما تقدم
وذكر بعضهم أن حنظلة هذا كان من العرب من ولد إسمعيل أيضا عليه الصلاة والسلام ثم رأيت ابن كثير ذكر أن حنظلة هذا كان قبل موسى عليه الصلاة والسلام وأنه لما ذكر أن في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عته فتحت تستر المدينة المعروفة وجدوا تابوتا وفي لفظ سريرا عليه دانيال عليه الصلاة والسلام ووجدوا طول أنفه شبرا وقيل ذراعا ووجدوا عند رأسه مصحفا فيه ما يحدث إلى يوم القيامة وأن من وفاته إلى ذلك اليوم ثلاثمائة سنة وقال إن كان تاريخ وفاته القدر المذكور فليس بنبي بل هو رجل صالح لأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي بنص الحديث في البخاري
أقول قد علمت الجواب عن ذلك بأن المراد بالنبي الرسول وفيه أن هذا يبعده عطف الرسول على النبي المتقدم في بعض الروايات إلا أن يجعل من عطف التفسير والله أعلم
والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة وقيل ستمائة وقيل بزيادة عشرين سنة قالت عائشة رضي الله عنها ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا أي كذبا لأن الخراص الكذاب كذا قيل
أقول لعل المراد بالكذب الغير المقطوع بصحته لأن الخرص حقيقته الحزر التخمين وكل من تكلم كلاما بناه على ذلك قيل له خراص ثم قيل للكذاب خراص توسعا وحينئذ كان القياس أن يقال إلاخرصا أي حزرا وتخمينا وعلى هذا كأن الصديقية رضي الله تعالى عنها أرادت المبالغة للتنفير عن الخوض في ذلك والله أعلم
____________________


وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال فمن قال غير ذلك أي مما زاد على ذلك فقد كذب
أقول إطلاق الكذب على من زاد على كنانة إلى عدنان يخالف ما سبق من أن المجمع عليه إلى عدنان إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عمرو بن العاص لم يسمع مازاد على النضر بن كنانة إلى عدنان مع ذكره صلى الله عليه وسلم له الذي سمعه غيره وفي إطلاقه الكذب على ذلك التأويل السابق وأخرج الجلال السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم انتسب فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب إلى أن قال ابن مضر بن نزار وهذا هو الترتيب المألوف وهو الإبتداء بالأب ثم بالجد ثم بأب الجد وهكذا وقد جاء في القرآن على خلافه في قوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب قال بعضهم والحكمة في ذلك أنه لم يرد مجرد ذكر الآباء وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها فبدأ بصاحب الملة ثم بمن أخذها عنه أولا فأولا على الترتيب والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان بن أدد ثم يمسك ويقول كذب النسابون مرتين أو ثلاثا
قال البيهقي والأصح أن ذلك أي قوله كذب النسابون من قول ابن مسعود رضي الله عنه أي لامن قوله صلى الله عليه وسلم
أقول والدليل على ذلك ما جاء كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } قال كذب النسابون يعنى الذين يدعون علم الأنساب ونفى الله تعالى علمهما عن العباد ولا مانع أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم أولا ثم تابعه ابن مسعود عليه
وقد يقال هذه الرواية تقتضى إما الزيادة على المجمع عليه وإما النقص عنه أي زيادة أدد أو نقص عدنان فهي مخالفة لما قبلها
وفي كلام بعضهم أن بين عدنان وأدد أد فيقال عدنان بن أد بن أدد قيل له أدد لأنه كان مديد الصوت وكان طويل العز والشرف
قيل وهو أول من تعلم الكتابة أي العربية من ولد إسمعيل وتقدم أن الصحيح أن أول من كتب نزار
____________________


وانظر هل يشكل على ذلك ما رواه الهيثم بن عدى أن الناقل لهذه الكتابة يعنى العربية من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية بن عبد شمس وقد يقال الأولية إضافية أي من قريش وعدنان سمى بذلك قيل لأن أعين الإنس والجن كانت إليه ناظرة
قال بعضهم اختلف الناس فيما بين عدنان وإسمعيل من الآباء فقيل سبعة وقيل تسعة وقيل خمسة عشرة وقيل أربعون والله أعلم قال الله عز وجل { وقرونا بين ذلك كثيرا } أي لا يكاد يحاط بها فقد جاء كان ما بين آدم ونوح عليها السلام عشرة قرون وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة قرون
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مدة الدنيا أي من آدم عليه السلام سبعة آلاف سنة أي وقد مضى بها قبل وجود النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وسبعمائة وأربعون سنة وعن أبي خيثمة وثمانمائة سنة
قلت وفي كلام بعضهم من خلق آدم إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة وثلاثون سنة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق صحاح أنه قال الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها
وفي كلام الحافظ السيوطي دلت الأحاديث والآثار على أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف سنة ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة أصلا وإنما تزيد بنحو أربعمائة سنة تقريبا وما أشتهر على ألسنة الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكث في قبره أكثر من ألف سنة باطل لا أصل له هذا كلامه وقوله لا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة هل يخالفه ما أخرجه أبو داود لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم يعنى خمسمائة سنة
وفي كلام بعضهم قد أكثر المنجمون في تقدير مدة الدنيا فقال بعضهم عمرها سبعة آلاف سنة بعدد النجوم السيارة أي وهو سبعة وبعضهم أثنا عشر ألف سنة بعدد البروج وبعضهم بثلثمائة ألف وستون ألفا بعدد درجات الفلك وكلها تحكمات عقلية لا دليل عليها
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي أكمل الله خلق الموجودات من الجمادات والنباتات والحيوان بعد إنتهاء خلق العالم الطبيعي بإحدى وسبعين ألف سنة ثم خلق الله الدنيا بعد أن انقضى من مدة خلق العالم الطبيعي أربع وخمسون ألف سنة ثم خلق الله تعالى
____________________

الآخرة يعنى الجنة والنار بعد الدنيا بتسعة آلاف سنة ولم يجعل الله تعالى للجنة والنار أمدا ينتهى إليه بقاؤهما فلهما الدوام قال وخلق الله تعالى طينة آدم بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة ومن عمر الآخرة التي لا نهاية لها في الدوام ثمانية آلاف سنة وخلق الله تعالى الجان في الأرض قبل آدم بستين ألف سنة أي ولعل هذا هو المعنى بقول بعضهم خلق الله آدم خلقا في صورة البهائم ثم أماتهم قبل وهم الجن واللبن والطم والرم والحس والبس فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء كما سيأتي
قال الشيخ محيى الدين وقد طفت بالكعبة مع قوم لا أعرفهم فقال لي واحد منهم أما تعرفني فقلت لا قال أنا من أجدادك الأول فقلت له كم لك منذ مت قال لي بضع وأربعون ألف سنة فقلت ليس لآدم هذاالقدر من السنين فقال لي عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك أم عن غيره فتذكرت حديثا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق مائة ألف آدم فقلت قد يكون ذلك الجد الذين نسبنى إليه من أولئك والتاريخ في ذلك مجهول مع حدوث العالم بلا شك هذا كلامه
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني وكان وهب بن منبه رضي الله تعالى عنه يقول سأل بنو إسرائيل المسيح عليه الصلاة والسلام أن يحيى لهم سام بن نوح عليهما الصلاة والسلام فقال أروني قبره فوقف على قبره وقال يا سام قم بإذن الله تعالى فقام وإذا رأسه ولحيته بيضاء فقال إنك مت وشعرك أسود فقال لما سمعت النداء ظننت أنها القيامة فشاب رأسي ولحيتي الآن فقال له عيسى عليه السلام كم لك من السنين ميت قال خمسة آلاف سنة إلى الآن لم تذهب عني حرارة طلوع روحى
وسبب الإختلاف فيما بين عدنان وآدم أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض ولعله لا يخالفه ما تقدم من أن أول من كتب معد أو نزار
وفي كلام سبط بن الجوزي أن سبب الإختلاف المذكور إختلاف اليهود فإنهم اختلفوا إختلافا متفاوتا فيما بين آدم ونوح وفيما بين الأنبياء من السنين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه أي لو أراد أن يعلم ذلك للناس لعلمه لهم وهذا أولى من يعلمه بفتح الياء وسكون العين
____________________


وذكر ابن الجوزي أن بين آدم ونوح شيئا وإدريس وبين نوح وإبراهيم هود وصالح وبين إبراهيم وموسى بن عمران إسمعيل وإسحق ولوط وهو ابن أخت إبراهيم وكان كاتبا لإبراهيم وشعيب وكان يقال له خطيب الأنبياء ويعقوب ويوسف ولد يوسف ليعقوب وله من العمر إحدى وتسعون سنة وكان فراقه له وليوسف من العمر ثماني عشرة سنة وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة وبقيا مجتمعين بعد ذلك سبع عشرة سنة هذا
وفي الإتقان ألقى يوسف في الجب وهو ابن ثنتى عشرة سنة ولقى أباه بعد الثمانين وعاش مائة وعشرين سنة وكان كاتبا للعزيز
قيل وسبب الفرقة بين سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف عليهما السلام أن سيدنا يعقوب ذبح جديا بين يدى أمه فلم يرض الله تعالى له ذلك فأراه دما بدم وفرقة بفرقة وحرقة بحرقة وموسى بن عمران بن منشاء وبين موسى بن عمران وهو أول أنبياء بني إسرائيل وداود يوشع وكان يوشع كهرون يكتب لموسى ويذكر أن مما أوصى به داود ولده سليمان عليهما السلام لما استخلفه يا بني إياك والهزل فإن نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان أي ومن ثم قيل لا تمازح الصبيان فتهون عليهم ولا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنئ فيجترئ عليك ولكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح
وقد قيل المزاح يذهب بالمهابة ويورث الضغينة وقيل آكد أسباب القطيعة المزاح وقد قيل من كثر مزاحه لم يخل من إستخفاف به أو حقد عليه واقطع طمعك من الناس فإن ذلك هو الغنى وإياك وما تعتذر فيه من القول أو الفعل وعود لسانك الصدق والزم الإحسان ولا تجالس السفهاء وإذا غضبت فالصق نفسك بالأرض أي وقد جاء في الحديث إذا جهل على أحدكم جاهل فإن كان قائما جلس وإن كان جالسا فليضطجع
وممن مات من الأنبياء فجأة داود وولده سليمان وإبراهيم الخليل عليهم أفضل الصلاة والسلام ثم بعد يوشع كالب بن يوفنا وهو خليفة يوشع ثم حزقيل وهو خليفة كالب ويقال له ابن العجوز لأنه أمه سألت الله تعالى أن يرزقها ولدا بعد ما كبرت وعقمت فجاءت به وهو ذو الكفل بسبعين نبيا وأنجادهم من القتل
____________________


وإلياس ثم طالوت الملك أي فإن شمويل عليه السلام لما حضرته الوفاة سأله بنو إسرائيل أن يقيم فيهم ملكا فأقام فيهم طالوت ملكا ولم يكن من أعيانهم بل كان راعيا وقيل سقاء وقيل غير ذلك وبين داود وعيسى عليهما السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل أيوب ثم يونس ثم شعياء ثم أحصياء ثم زكريا ويحيى عليهم السلام
وفي النهر لأبي حيان في تفسير قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } كان بينه وبين عيسى من الرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود و سليمان وشعياء وأرمياء وعزير أي وهو من أولاد هرون بن عمران وحزقيل وإلياس ويونس وزكرياء ويحيى وكان بين موسى وعيسى ألف نبي هذا كلامه وكان يحيى يكتب لعيسى وتقدم الكلام على من بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم
ومما يدل على شرف هذا النسب وإرتفاع شأنه وفخامته وعلو مكانه ما جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله قتل فلان لرجل من ثقيف فقال أبعده الله إنه كان يبغض قريشا
وفي الجامع الصغير قريش صلاح الناس ولا يصلح الناس إلا بهم كما أن الطعام لا يصلح إلا بالملح قريش خالصة لله تعالى فمن نصب لها حربا سلب ومن أرادها بسوء خزى في الدنيا والآخرة
قال وعن سعد بن أبي وقاص ايضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يرد هوان قريش أهانه الله تعالى أه أي وأشد الإهانة ما كان في الآخرة وحينئذ إما أن يراد بالإرادة العزم والتصميم أو المراد المبالغة أو يكون ذلك من خصائص قريش فلال ينافى أن حكم الله المطرد في عدله أن لا يعاقب على مجرد الإرادات إنما يعاقب ويجازى على الأفعال والأقوال الواقعة أو ما هو منزل منزلة الواقعة كالتصميم فإن من خصائص هذه الأمة عدم مؤاخذتها بما تحدث به نفسها
وعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل قريشا أي ذكر تفضيلهم بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم النبوة فيهم والخلافة فيهم والحجابة فيهم والسقاية فيهم ونصروا على الفيل أي على أصحابه وعبدوا الله سبع سنين وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش وتسمية
____________________

لإيلاف قريش سورة يرد ما قيل إن سورة الفيل ولإيلاف قريش سورة واحدة ولينظر ما معنى عبادتهم الله تعالى دون غيرهم في تلك المدة
وعن أنس رضي الله تعالى عنه حب قريش إيمان وبغضهم كفر
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الناس تبع لقريش مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم وقال صلى الله عليه وسلم العلم في قريش أي وقال الأئمة من قريش وقد جمع الحافظ بن حجر طرق هذا الحديث في كتاب سماه لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش
وفي الحديث عالم قريش يملأ طباق الأرض علما وفي رواية لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما وفي رواية اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما قال جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد هذا العالم هو الشافعي رضي الله تعالى عنه لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قريشى من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي
وفي كلام بعضهم ليس في الأئمة المتبوعين في الفروع قرشي غيره وفيه أن الإمام مالك بن أنس من قريش ويجاب بأنه إنما يكون قرشيا على القول الباطل من أن جماع قريش قصى
وقد ذكر السبكى أنهم ذكروا أن من خواص الشافعي رضي الله تعالى عنه من بين الأئمة أن من تعرض إليه أو إلى مذهبه بسوء أو نقص هلك قريبا وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم من أهان قريشا أهانه الله تعالى هذا كلامه قال الحافظ العراقي إسناد هذا الحديث يعنى لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما لا يخلو عن ضعف وبه يرد ما زعمه الصغائي من أنه موضوع وحاشا الإمام أحمد أن يحتج بحديث موضوع أو يستأنس به على فضل الشافعي
وقال ابن حجر الهيتمي هو حديث معمول به في مثل ذلك أي في المناقب وزعم وضعه حسد أو غلط فاحش أي وعن الربيع قال رأيت في المنام كأن آدم مات فسألت عن ذلك فقيل لي هذا موت أعلم أهل الأرض لأن الله علم آدم الأسماء كلها فما كان إلا يسير حتى مات الشافعي رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به
ومما يؤثر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من أطراك في وجهك بما ليس
____________________

فيك فقد شتمك ومن نقل إليك نقل عنك ومن نم عندك نم عليك ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك إذا أسخطته قال فيك ما ليس فيك وقال صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا ولا تقدموها أي لا تتقدموها وفي رواية ولا تعالموها أي لا تغالبوها بالعلم ولا تكاثروها فيه وفي رواية ولا تعلموها أي لا تجعلوها في المقام الأدنى الذي هو مقام المتعلم بالنسبة للمعلم وقال صلى الله عليه وسلم أحبوا قريشا فإنه من أحبهم أحبه الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله عز وجل
وفي السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه رواية المزنى عنه قال الطحاوي حدثنا المزنى قال حدثنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن قتادة بن النعمان وقع بقريش وكأنه نال منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلا يا قتادة لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منهم رجالا إذا رأيتهم عجبت ليهم لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله تعالى أي لولا أنها إذا علمت مالها عندالله من الخير المدخر لها تركت العمل بل ربما أرتكبت مالا يحل إتكالا على ذلك لأعلمتها به لكن في رواية لأخبرتها بما لمحسنها عندالله من الثواب وهذا دليل على علو منزلتها وإرتفاع قدرها عندالله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم يوما يا أيها الناس إن قريشا أهل أمانة من بغاها العواثر أي من طلب لها المكايد أكبه الله تعالى لمنخريه أي أكبه الله على وجهه قال ذلك ثلاث مرات وعن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان بالمسجد فمر عليه سعيد بن العاص فسلم عليه فقال له والله يا ابن أخي ما قتلت أباك يوم بدر وما لي أن أكون أعتذر من قتل مشرك فقال له سعيد بن العاص لو قتلته كنت على الحق وكان على الباطل فعجب عمر من قوله وقال قريش أفضل الناس أحلاما وأعظم الناس أمانة ومن يرد بقريش سواء بكبه الله لفيه هذا كلامه
والذي قتل العاص والد سعيد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال قتلت يوم بدر العاص وأخذت سيفه ذا الكثيفة وقال صلى الله عليه وسلم شرار قريش خير شرار الناس وفي رواية خيار قريش خيار الناس وشرار قريش شرار الناس أي ولعله سقط من هذه الرواية قبل شرار الثانية لفظ خيار لتوافق الرواية قبلها المقتضى لذلك المقام ويحتمل إبقاء ذلك على ظاهره لأنه ممن يقتدى به فكانوا أشر ألأشرار ويكون هذا هو المراد بوصفهم بأنهم خيار شرار الناس
____________________


ثم رأيت في كتاب السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه ما رواه المزنى عنه خيار قريش خيار الناس وشرار قريش خيار شرار الناس وفي الحديث ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم ومن ثم قال الطحاوي قريش أهل أمانة هكذا قرأه علينا المزنى أهل أمانة أي بالنون وإنما هو أهل إمامة أي بالميم وفي كلام فقهائنا قريش قطب العرب وفيهم الفتوة
ومما يدل على شرف هذا النسب أيضا ما جاء عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إن الله اختار العرب على الناس واختارني على من أنا منه من أولئك العرب وما جاء عن وائلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله اصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
أقول وجاء بلفظ آخر عن وائلة بن الأسقع وهو إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم عليهما السلام وأتخذه خليلا واصطفى من ولد إبراهيم إسمعيل ثم اصطفى من ولد إسمعيل نزارا ثم اصطفى من ولد نزار مضر ثم اصطفى من ولد مضر كنانة ثم اصطفى من كنانة قريشا ثم اصطفى من قريش بني هاشم ثم اصطفى من بين هاشم بني عبد المطلب ثم اصطفاني من بني عبدالمطلب والله أعلم قال وفي رواية إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسمعيل واصطفى من ولد إسمعيل كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
وما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فقال لي يا محمد إن الله بعثني فطفت شرق الأرض ومغربها وسهلها وجبلها فلم أجد حيا خير من مضر ثم أمرني فطفت في مضر فلم أجد حيا خيرا من كنانة ثم أمرني فطفت في كنانة فلم أجد حيا خيرا من قريش ثم أمرني فطفت في قريش فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم ثم أمرني أن أختار في أنفسهم أي أختار نفسا من أنفسهم فلم أجد نفسا خير من نفسك انتهى
وفي الوفاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعتها ويمانيها وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________

إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار إلى خيار انتهى وقوله واختار من مضر قريشا يدل على أن مضر ليس جماع قريش وإلا كانت أولاده كلها قريشا
وعن أبي هريرة يرفعه بسند حسنه الحافظ العراقي إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل فقسم الناس قسمين قسم العرب قسما وقسم العجم قسما وكانت خيرة الله في العرب ثم قسم العرب إلى قسمين فقسم اليمن قسما وقسم مضر قسما وكانت خيرة الله في مضر وقسم مضر قسمين فكانت قريش قسما وكانت خيرة الله في قريش ثم أخرجني من خيار من أنا منه
قال بعضهم وما جاء في فضل قريش فهو ثابت لبني هاشم والمطلب لأنهم أخص وما ثبت للأعم يثبت للأخص ولا عكس
وفي الشفاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى قسم الخلق قسمين فجعلني من خيرهم قسما فذلك قوله تعالى { أصحاب اليمين } { وأصحاب الشمال } فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون } فأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى { وجعلناكم شعوبا وقبائل } الآية فأنا أبر ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر وجعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا ولا فخر فذلك قوله تعالى { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } الآية هذا كلام الشفاء فليتأمل وإلى شرف هذا النسب يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله ** وبدا للوجود منك كريم ** من كريم آباؤه كرماء ** ** نسب تحسب العلا بحلاه ** قلدتها نجومها الجوزاء ** ** حبذا عقد سودد وفخار ** أنت فيه اليتيمة العصماء **
أي يظهر لهذا العالم منك كريم أي جامع لكل صفة كمال وهذا على حد قولهم لي من فلان صديق حميم وذلك الكريم الذي ظهر وجد من أب كريم سالم من نقص الجاهلية آباؤه الشامل للأمهات جميعهم كرماء أي سالمون من نقائص الجاهلية أي
____________________

ما يعد في الإسلام نقصا من أوصاف الجاهلية وهذا نسب لا أجل منه ولجلالته إذا تأملته تظن بسبب ما تحلى به من الكمالات أي معاليها جعلت الجوزاء نجومها التي يقال لها نطاق الجوزاء قلادة لتلك المعالى وهذه القلادة نعم هي قلادة سيادة وتمدح موصوفة بأنك في تلك القلادة الدرة اليتيمة التي لا مشابه لها المحفوظة عن الأعين لجلالتها
لا يقال شمول الآباء للأمهات لا يناسب قوله نسب لأن النسب الشرعي في الآباء خاصة لأنا نقول المراد بالنسب ما يعم اللغوي أو قد يقال سلامة آبائه من النقائص إنما هو من حيث أبيه أي كونه متفرعا عنه وذلك يستلزم أن تكون أمهاته كذلك وسيأتي لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى
وقال المارودي في كتاب أعلام النبوة وإذا اختبرت حال نسبه صلى الله عليه وسلم وعرفت طهارة مولده صلى الله عليه وسلم علمت أنه سلالة آباء كرام ليس فيهم مستزل بل كلهم سادة قادة وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة هذا كلامه ومن كلام عمه أبي طالب ** إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ** فعبد مناف سرها وصميمها ** ** وإن حصلت أنساب عبد منافها ** ففي هاشم أشرافها وقديمها ** ** وإن فخرت يوما فإن محمدا ** هو المصطفى من سرها وكريمها **
بالرفع عطفا على المصطفى وسر القوم وسطهم فأشرف القوم قومه وأشرف القبائل قبيلته وأشرف الأفخاذ فخذه
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب العرب فبحبى أحبهم ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم
وعن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سلمان لا تبغضنى فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله تعالى قال تبغض العرب فتبغضني
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبغض العرب إلا منافق
وفي الترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________


قال من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي قال الترمذي هذا حديث غريب وقال صلى الله عليه وسلم ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم وقال صلى الله عليه وسلم أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي وقال صلى الله عليه وسلم إن لواء الحمد يوم القيامة بيدي وإن أقرب الخلق من لوائي يومئذ العرب وقال صلى الله عليه وسلم إذا ذلت العرب ذل الإسلام وفي كلام فقهائنا العرب أولى الأمم لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما خير العرب مضر وخير مضر عبد مناف وخير بني عبد مناف بنوا هاشم وخير بني هاشم بنو عبدالمطلب والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله تعالى آدم إلا كنت في خيرهما
أقول وفي لفظ آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حين خلقني جعلني من خير خلقه ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم بيتا وأنا خيرهم نسبا وفي لفظ آخر عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا ثم جعل الثلث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها ثلثا وتقدم عن الشفاء مثل ذلك مع زيادة الإستدلال بالآيات وتقدم الأمر بالتأمل في ذلك والله أعلم وفيه أنه ورد النهى في الأحاديث الكثيرة عن الإنتساب إلى الآباء في الجاهلية على سبيل الإفتخار من ذلك لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده ما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية أي والذي يدحرجه الجعل وهو النتن وجاء في الحديث ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس وجاء آفة الحسب الفخر أي عاهة الشرف بالآباء التعاظم بذلك
وأجاب الإمام الحليمي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك الفخر إنما أراد تعريف منازل أولئك ومراتبهم أي ومن ثم جاء في بعض الروايات قوله ولا فخر أي فهو من التعريف بما يجب إعتقاده وإن لزم منه الفخر وهو أشار إلى نعمة الله تعالى عليه فهو
____________________

من التحدث بالنعمة وإن لزم من ذلك الفخر أيضا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { وتقلبك في الساجدين } قال من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا أي وجدت الأنبياء في آبائه فسيأتي أنه قذف بي في صلب آدم ثم في صلب نوح ثم في صلب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام بدليل ما يأتي فيه وفي لفظ آخر عنه مازال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء أي المذكورين أو غيرهم حتى ولدته أمه أي وهذا كما لا يخفى لا ينافى وقوع من ليس نبيا في آبائه فالمراد وقوع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في نسبه عليه الصلاة والسلام كما علمت ضرورة أن آباءه كلهم ليسوا أنبياء لكن قال غيره لا زال نوره صلى الله عليه وسلم ينقل من ساجد إلى ساجد قال أبو حيان واستدل بذلك أي بما ذكر من الآية المذكورة أي المفسرة بما ذكر الرافضة على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانو مؤمنين أي لأن الساجد لا يكون إلا مؤمنا فقد عبر عن الإيمان بالسجود وسيأتي مزيد الكلام في ذلك وهو إستدلال ظاهري وإلا فالآية قيل معناها وتصفحك أحوال المتهجدين من أصحابك لأنه لما نسخ فرض قيام الليل عليه وعليهم بناء على أنه كان واجبا عليه وعلى أمته وهو الأصح
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان واجبا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله صلى الله عليه وسلم طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر حالهم أي هل تركوا قيام الليل لكونه نسخ وجوبه بالصلوات الخمس ليلة المعراج حرصا على كثرة طاعتهم فوجدوها كبيوت الزنابير أي لأن الله عز وجل افترض عليه صلى الله عليه وسلم أي وعلى أمته قيام الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر في أول سوة المزمل ثم نسخ ذلك في آخر السورة بما تيسر أي وكان نزول ذلك بعد سنة ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ليلة المعراج كما سيأتي وجعل بعضهم ذلك من نسخ الناسخ فيصير منسوخات لما علمت أن آخر هذه السورة ناسخ لأولها ومنسوخ بفرض الصلوات الخمس
واعترض بأن الأخبار دالة على أن قوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } إنما نزل بالمدينة يدل على ذلك قوله تعالى { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } لأن القتال في سبيل الله إنما كان بالمدينة فقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } إختيار لا إيجاب
____________________


وقيل معنى وتقلبك في الساجدين وتقلبك في أركان الصلاة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا في الساجدين أي في المصلين ففي الساجدين ليس متعلقا بتقلبك بل بساجد المحذوف
لا يقال يعارض جعل الساجدين عبارة عن المؤمنين أن من جملة آبائه صلى الله عليه وسلم آزر والد إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم وكان كافرا
لأنا نقول أجمع أهل الكتاب على أن آزر كان عمه والعرب تسمى العم أبا كما تسمى الخالة أما فقد حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال آبائي إبراهيم وإسماعيل ومعلوم أن إسماعيل إنما هو عمه أي ويدل لذلك أن أبا إبراهيم كان اسمه تارخ بالمثناة فوق المعجمة كما عليه جمهور أهل النسب وقيل المهملة وعليه اقتصر الحافظ في الفتح لا آزر لكن ادعى بعضهم أنه لقب له لأن آزر اسم صنم كان يعبده فصار له أسمان آزر وتارخ كيعقوب وإسرائيل
قال بعضهم وقد تساهل من أخذ بظاهر الآية كالقاضي البيضاوي وغيره فقال إن أبا إبراهيم مات على الكفر وما قيل إنه عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل
ويوافقه ما في النهر نقلا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آزر كان اسم أبيه ويرد ذلك قول الحافظ السيوطي رحمه الله يستنبط من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربنا أغفر لي ولوالدى وللمؤمنين يوم يقول الحساب وكان ذلك بعد موت عمه بمدة طويلة أن المذكور في القرآن بالكفر والتبرى من الإستغفار له أي في قوله تعالى { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } هو عمه لا أبوه الحقيقي قال فلله الحمد على ما ألهم أي ولا يخفى أن هذا لايتم إلا إذا كان أبوه الحقيقي حيا وقت التبري منه وأن التبري سببه الموت أي موت عمه على الكفر لا الوحى بأنه يموت كافرا فليتأمل وحينئذ يكون أبوه الحقيقي هو المعنى بقول أبي هريرة أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم أن قال لما رأى ولده وقد ألقى في النار أي على تلك الحالة أي في روضة خضراء وحوله النار لم تحرق منه إلا كتافه نعم الرب ربك يا إبراهيم وكان سنه حين ألقى في النار ست عشرة سنة كما في الكشاف وفي كلام غيره كان سنة ثلاثين سنة بعد ما سجن ثلاث عشرة سنة
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى
____________________

قبل أن يخلق آدم عليه الصلاة والسلام بألفى عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام ألقى ذلك النور في صلبه قال صلى الله عليه وسلم فأحبطني الله تعالى إلى الأرض في صلب آدم وجعلني في صلب نوح وقذفني في صلب إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني من بين أبوى لم يلتقيا على سفاح قط
أقول قوله صلى الله عليه وسلم فأهبطني ينبغي أن لا يكون معطوفا على ما قبله من قوله إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى الخ فيكون نوره صلى الله عليه وسلم من جملة نور قريش وإنه صلى الله عليه وسلم انفرد عن نور قريش وأودع في صلب نوح عليه الصلاة والسلام ألخ بل على ما يأتى من قوله كنت نوارا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام اللازم لذلك أن يكون نوره سابقا على نور قريش ويكون نور قريش من نوره صلى الله عليه وسلم
وحكمة إقتصاره صلى الله عليه وسلم على من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تخفى وهي أنهم آباء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ذرية نوح هود وصالح عليها الصلاة والسلام ومن ذرية إبراهيم إسمعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وهرون بناء على أنه شقيق موسى أو لأبيه وإلا فسيأتى أن نوره انتقل إلى شيث وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من ذرية إسمعيل
عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نورا بين يدى ربي قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأربعة عشر ألف عام ورأيت في كتاب التشريفات في الخصائص والمعجزات لم أقف على اسم مؤلفه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال يا جبريل كم عمرت من السنين فقال يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجما يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة رأيته إثنين وسبعين ألف مرة فقال يا جبريل وعزة ربي جل جلاله أنا ذلك الكوكب رواه البخاري هذه كلامه فلما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام جعل ذلك النور في ظهره أي فهو حالة كونه نورا سابق على قريش حالة كونها نورا بل سيأتي ما يدل على أن نوره صلى الله عليه وسلم سابق على سائر المخلوقات بل وتلك المخلوقات خلقت من ذلك النور آدم وذريته وحينئذ يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره صلى الله عليه وسلم وجعل نوره
____________________

صلى الله عليه وسلم في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام فقد تقدم في الخبر لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره أي فكان يلمع في جبينه فيغلب على سائر نوره الخ مايأتى ثم انتقل إلى ولده شيث الذي هو وصيه وكان من جملة ما أوصاه به أنه يوصى من انتقل إليه ذلك النور من ولده أنه لا يضع ذلك النور الذي انتقل إليه إلا في المطهرة من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولا بها في القرون الماضية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبدالمطلب أي وهذا السياق يدل على أن ذلك النور كان ظاهرا فيمن ينتقل إليه من آبائه وهو قد يخالف ما تقدم من تخصيص بعض آبائه بذلك ولم تلد حواء ولدا مفردا إلا شيئا كرامة لهذا النور قيل مكث في بطنها حتى نبتت أسنانه وكان ينظر إلى وجهه من صفاء بطنها وهو الثالث من ولد آدم عليه الصلاة والسلام وكانت تلد ذكر وأنثى معا أي فقد قيل إنها ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا وقيل ولدت مائة وعشرين ولدا وقيل مائة وثمانين ولدا وقيل خمسمائة ويقال إن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات بكى عليه من ولده وولد ولده أربعون ألفا ولم يحفظ من نسل آدم إلا ما كان من صلب شيث دون إخوته أي فإنهم لم يعقبوا أصلا فهو أبو البشر
وعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما قال قلت يارسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء قال يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره الحديث وفيه أنه اصل لكل موجود والله سبحانه وتعالى أعلم
واختلف الناس في عد طبقات أنساب العرب وترتيبها والذي في الأصل عن الزبير بن بكار أنها ست طبقات وأن أولها شعب ثم قبيلة ثم عمارة بكسر العين المهملة ثم بطن ثم فخذ ثم فصيلة قال وقد نظمها الزين العراقي في قوله ** للعرب العربا طباق عدة ** فصلها الزبير وهي ستة ** ** أعم ذاك الشعب فالقبيلة ** عمارة بطن فخذ فصيلة **
أي فالشعب أصل القبائل والقبيلة أصل العمارة والعمارة أصل البطون والبطن أصل الفخذ والفخذ أصل الفصيلة فيقال مضر شعب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقيل شعبه خزيمة وكنانة قبيلته صلى الله عليه وسلم وقريش عمارته صلى الله عليه وسلم وقصى بطنه صلى الله عليه وسلم وهاشم فخذه صلى الله عليه وسلم
____________________

وبنوا العباس فصيلته صلى الله عليه وسلم وقيل بعد الفصيلة العشيرة وليس بعد العشيرة شيء وقيل بعدها الفصيلة قال ثم الرهط وزاد بعضهم الذرية والعترة والأسرة ولم يرتب بينها وقد ذكرها محمد بن سعد إثنى عشر فقال الجذم ثم الجمهور ثم الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم العشيرة ثم الفصيلة ثم الرهط ثم الأسرة ثم الذرية وسكت عن العترة
وفي كلام بعضهم الأسباط بطون بني إسرائيل والشعب في لسان العرب الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان والأوراق والقبائل بطون العرب والشعوب بطون العجم فيتأمل & باب تزويج عبدالله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وحفر زمزم وما يتعلق بذلك
قيل خرج عبدالمطلب ومعه ولده عبدالله وكان أحسن رجل في قريش خلقا وخلقا وكان نور النبي صلى الله عليه وسلم بينا في وجهه وفي رواية أنه كان أحسن رجل رئاء بكسر الراء وبضمها ثم همزة مفتوحة منظرا في قريش وفي رواية أنه كان أكمل بني أبيه وأحسنهم وأعفهم وأحبهم إلى قريش وقد هدى الله تعالى والده فسماه بأحب الأسماء إلى الله تعالى ففي الحديث أحب الأسماء إلى الله تعالى عبدالله وعبدالرحمن وهو الذبيح
وذلك لأن أباه عبدالمطلب حين أمر في النوم بحفر زمزم بئر إسمعيل عليه السلام أي لأن الله تعالى أخرج زمزم لإسمعيل بواسطة جبريل كما يأتي إن شاء الله تعالى في بناء الكعبة أخرج زمزم مرتين مرة لآدم ومرة لإسمعيل عليهما الصلاة والسلام وكانت جرهم قد دفنتها أي فإن جرهما لما أستخفت بأمر البيت الحرام وارتكبوا الأمور العظام قام فيهم رئيسهم مضاض بكسر الميم وحكى ضمها ابن عمرو خطيبا ووعظهم فلم يرعووا فلما رأى ذلك منهم عمد إلى غزالتين من ذهب كانتا في الكعبة وما وجد فيها من الأموال أي السيوف والدروع على ما سيأتي التي كانت تهدى إلى الكعبة ودفنها في بئر زمزم
____________________


وفي مرآة الزمان أن هاتين الغزالتين أهداهما للكعبة وكذا السيوف ماسان أول ملوك الفرس الثانية ورد بأن الفرس لم يحكموا على البيت ولا حجوه هذا كلامه وفيه أن هذا لا ينافي ذلك فيتأمل وكانت بئر زمزم نضب ماؤها أي ذهب فحفرها مضاض بالليل وأعمق الحفر ودفن فيها ذلك أي ودفن الحجر الأسود أيضا كما قيل وطم البئر واعتزل قومه فسلط الله تعالى عليهم خزاعة فأخرجتهم من الحرم وتفرقوا وهلكوا كما تقدم ثم لا زالت زمرم مطمومة لا يعرف محلها مدة خزاعة ومدة قصي من بعده إلى زمن عبدالمطلب ورؤياه التي أمر فيها بحفرها قيل وتلك المدة خمسمائة سنة أي وكان قصى احتفر بئرا في الدار التي سكنتها أم هانئ أخت علي رضي الله تعالى عنهما وهي أول سقاية احتفرت بمكة
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال عبدالمطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة فقلت وما طيبة فذهب وتركني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة فقلت وما برة فذهب وتركني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني وقال احفر المضنونة فقلت وما المضنونة فذهب وتركني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم فقلت وما زمزم قال لا تنزف ولا تذم تسقى الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل وقوله لا تنزف أي لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها
وفيه أنه ذكر أنه وقع فيها عبد حبشي فمات بها وانتفخ فنزحت من أجله ووجدوا قعرها فوجدوا ماءها يفور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها التي من ناحية الحجر الأسود
وقوله ولا تذم بالذال المعجمة أي لا توجد قليلة الماء من قولهم بئر ذمة أي قليلة الماء قيل وليس المراد أنه لا يذمها أحد لأن خالد بن عبدالله القسري أمير العراق من جهة الوليد بن عبدالملك ذمها وسماها أم جعلان واحتفر بئرا خارج مكة بإسم الوليد بن عبدالملك وجعل يفضلها على زمزم ويحمل الناس على التبرك بها
وفيه أن هذا جراءة منه على الله تعالى وقلة حياء منه وهو الذي كان يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على المنبر فلا عبرة بذمه
وقيل لزمزم طيبة لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وقيل لها برة لأنها فاضت
____________________

للأبرار وقيل لها المضنونة لأنه ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلع منها منافق وقد جاء في رواية يقول الله تعالى ضننت بها على الناس إلا عليك ولعل المراد إلا على أتباعك فيكون بمعنى ما قبله وفي رواية أنه قيل لعبد المطلب احفر زمزم ولم يذكر له علامتها فجاء إلى قومه وقال لهم إني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي قال لا قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يكن حقا من الله تعالى بين لك وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك فرجع عبدالمطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتاه فقال احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم وهي ميراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم تسقى الحجيج الأعظم فقال عبدالمطلب أين هي فقال هي بين الفرث والدم عند قرية النمل حيث ينقر الغراب الأعصم غدا أي والأعصم قيل أحمر المنقار والرجلين وقيل أبيض البطن وعلى هذا اقتصر الإمام الغزالي حيث قال في قوله صلى الله عليه وسلم مثل المرأة الصالحة في النساء مثل الغراب الأعصم بين مائة غراب يعني الأبيض البطن هذا كلامه وقيل الأعصم أبيض الجناحين وقيل أبيض إحدى الرجلين فلما كان الغد ذهب عبدالمطلب وولده الحارث ليس له ولد غيره فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الفرث والدم أي في محلهما وذلك بين إساف نائلة الصنمين اللذين تقدم ذكرهما وتقدم أن قريشا كانت تذبح عندهما ذبائحها أي التي كانت تتقرب بها وهذا يبعد ما جاء في رواية أنه لما قام بحفرها رأى ما رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب ولم ير الفرث والدم فبينما هو كذلك دنت بقرة من ذابحها فلم يدركها حتى دخلت المسجد فنحرها في الموضع الذي رسم له
وقد يقال لا يبعد لأنه يجوز أن يكون فهم أن يكون الفرث والدم موجودين بالفعل فلا يلزم من كون المحل المذكور محلهما وجودهما فيه في ذلك الوقت فلم يكتف بنقرة الغراب في محلهما فأرسل الله له تلك البقرة ليرى الأمر عيانا
وذكر السهيلي رحمه الله لذكر هذه العلامات الثلاث حكمة لا بأس بها ولعل إسافا ونالة نقلا بعد ذلك إلى الصفا والمروة بعد أن نقلهما عمرو بن لحى من جوف الكعبة إلى المحل المذكور فلا يخالف ما ذكره القاضي البيضاوي وغيره إن إسافا كان على الصفا ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما أي ومن ثم لما جاء الإسلام
____________________

وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف أي السعى بينهما وقالوا يارسول الله هذا كان شعارنا في الجاهلية لأجل التمسح بالصنمين فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية ويقال إن بقرة نحرت بالحزورة بوزن قسورة فانفلتت ودخلت المسجد في موضع زمزم فوقعت مكانها فاحتمل لحمها فأقبل غراب أعصم فوقع في الفرث فليتأمل الجمع
وقد يقال لا منافاة لأن قوله في الرواية الأولى فندت بقرة من ذابحها أي ممن شرع في ذبحها ولم يتمه حتى دخلت المسجد فنحرها أي تمم ذبحها فقد نحرت بالحزورة وبالمسجد أو يراد بنحرها في الحزورة ذبحها وبنحرها في المسجد سلخها وتقطيع لحمها فقد رأينا الحيوان بعد ذبحه يذهب إلى موضع آخر ثم يقع به وعند ذلك جاء عبدالمطلب بالمعول وقام ليحفر فقامت إليه قريش فقالوا له والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبدالمطلب لولده الحرث ذد عنى أي امنع عني حتى أحفر فوالله لأمضين لما أمرت به فلما رأوه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطى أي البناء فكبر وقال هذا طى إسمعيل عليه السلام أي بناؤه فعرفت قريش أنه أصاب حاجته فقاموا إليه وقالوا والله يا عبدالمطلب إنها بئر أبينا إسمعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فقال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم فقالوا نخاصمك فيها فقال اجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأعالي الشام أي ولعلها التي لما حضرتها الوفاة طلبت شقا وسطيحا وتفلت في فمهما وذكر أن سطيحا يخلفها في كهانتها ثم ماتت في يومها ذلك وسطيح ستأتي ترجمته وأما شق فقيل له ذلك لأنه كان شق إنسان يدا واحدة ورجلا واحدة وعينا واحدة فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر وكان إذ ذاك ما بين الحجاز والشام مفازات لا ماء بها فلما كان عبدالمطلب ببعض تلك المفاوز فنى ماؤء وماء أصحابه فظمئوا ظمأ شديدا حتى أيقنوا بالهلكة فاستقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا نخشى عن أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبدالمطلب لأصحابه ما ترون قالوا مارأينا إلا تبع لرأيك فقال إني أرى أن يحفر كل أحد منكم حفيرة يكون فيها إلى أن يموت فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا
____________________

واحدا فضيعة رجل واحد أي يترك بلا مواراة أيسر من ضيعة ركب جميعا فقالوا نعم ما أمرت به فحفر كل حفيرة لنفسه ثم قعدوا ينتظرون الموت ثم قال عبدالمطلب لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا إلى الموت لعجز فلنضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا فانطلقوا كل ذلك وقومهم ينظرون إليهم ماهم فاعلون فتقدم عبدالمطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت أنفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبدالمطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم ثم دعا القبائل فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا لعبدالمطلب قد والله قضى لك علينا يا عبدالمطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة فلما جاء وأخذ في الحفر وجد فيها الغزالتين من الذهب اللتين دفنتهما جرهم ووجد فيها أسيافا وأدراعا فقالت له قريش يا عبدالمطلب لنا معك في هذا شرك فقال لا ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم والنصف بكسر النون وسكون الصاد المهملة وبفتحها النصفة بفتحات نضرب عليها بالقداح قالوا كيف تصنع قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش ثم أعطوها لصاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل أي وجعلوا الغزالتين قسما والأسياف والأدراع قسما آخر وقام عبدالمطلب يدعو ربه بشعر مذكرو في الإمتاع فضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالتين وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع وتخلف قدحا قريش فضرب عبدالمطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالتين فكان أول ذهب حليت به الكعبة ذلك ومن ثم جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما واله إن أول من جعل باب الكعبة ذهبا لعبدالمطلب
وفي شفاء الغرام أن عبدالمطلب علق الغزالتين في الكعبة فكان أول من علق المعاليق بالكعبة وسيأتي الجمع بين كونهما علقا بالكعبة وبين جعلهما حليا لباب الكعبة وقد كان بالكعبة بعد ذلك معاليق فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما فتحت مدائن كسرى كان مما بعث إليه منها هلالان فعلقا بالكعبة وعلق بها عبدالملك بن مروان شمستين وقدحين من قوارير وعلق بها الوليد بن يزيد سريرا
____________________

وعلق بها السفاح صحفة خضراء وعلق بها المنصور القارورة الفرعونية وبعث المأمون ياقوتة كانت تعلق كل سنة في وجه الكعبة في زمن الموسم في سلسلة من ذهب
ولما أسلم بعض الملوك في زمنه أرسل إليها بصنمه الذي كان يعبده وكان من ذهب متوجا ومكللا بالجواهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد فجعل في خزانة الكعبة
ثم إن الغزالتين سرقتا وأبيعتا من قوم تجار قدموا مكة بخمر وغيرها فاشتروا بثمنها خمرا
وقد ذكر أن أبا لهب مع جماعة نفدت خمرهم في بعض الأيام وأقبلت قافلة من الشام معها خمر فسرقوا غزالة واشتروا بها خمرا وطلبتها قريش وكان أشدهم طلبا لها عبدالله بن جدعان فعلموا بهم فقطعوا بعضهم وهرب بعضهم وكان فيمن هرب أبو لهب هرب إلى أخواله من خزاعة فمنعوا عنه قريشا ومن ثم كان يقال لأبي لهب سارق غزالة الكعبة
وقد قيل منافع الخمر المذكورة فيها أنهم كانوا يتغالون فيها إذا جلبوها من النواحي لكثرة ما يربحون فيها لأنه كان المشتري إذا ترك المماكسة في شرائها عدوه فضيلة له ومكرمة فكانت أرباحهم تتكثر بسبب ذلك
وما قيل في منافعها أنها تقوى الضعيف وتهضم الطعام وتعين على الباه وتسلى المحزون وتشجع الجبان وتصفى اللون وتنعش الحرارة الغريزية وتزيد في الهمة والإستعلاء فذلك كان قبل تحريمها ثم لما حرمت سلبت جميع هذه المنافع وصارت ضررا صرفا ينشأ عنها الصداع والرعشة في الدنيا لشاربها وفي الآخرة يسقى عصارة أهل النار
وفي كلام بعضهم من لازم شربها حصل له خلل في جوهر العقل وفساد الدماغ والبخر في الفم وضعف البصر والعصب وموت الفجاءة ومميتة للقلب ومسخطة للرب ومن ثم جاء أنها أي الخمرة ليست بدواء ولكنها داء وجاء اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر أي كان مغلقا وجاء الخمر أم الفواحش وفي رواية أم الخبائث وجاء في الخمر لا طيب الله من تطيب بها ولا شفى الله من استشفى بها
وقد قيل لا منافاة بين كون الغزالتين علقتا في الكعبة وسرقتا أو سرقت إحداهما
____________________

وبين كون عبدالمطلب جعلهما حليا للباب لأنه يجوز أن يكون عبدالمطلب استخلص الغزالتين أو الغزالة من التجار ثم جعلهما حليا للباب بعد أن كان علقهما
وفي الإمتاع وكان الناس قبل ظهور زمزم تشرب من آبار حفرت بمكة وأول من حفر بها بئرا قصي كما تقدم وكان الماء العذب بمكة قليلا ولما حفر عبدالمطلب زمزم بنى عليها حوضا وصار هو وولده يملآنه فيكسره قوم من قريش ليلا حسدا فيصلحه نهارا حين يصبح فلما أكثروا من ذلك وجاء شخص واغتسل به غضب عبدالمطلب غضبا شديدا فأرى في المنام أن قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل أي حلال مباح ثم كفيتهم فقام عبدالمطلب حين أختلفت قريش في المسجد ونادى بذلك فلم يكن يفسد حوضه أحد أو اغتسل إلا رمى في جسده بداء
ثم إن عبدالمطلب لما قال لولده الحرث ذد عني أي امنع عني حتى أحفر وعلم أنه لا قدرة له على ذلك نذر إن رزق عشرة من الولد الذكور يمنعونه ممن يتعالى عليه ليذبحن أحدهم عند الكعبة
أي وقيل إن سبب ذلك أن عدى بن نوفل بن عبد مناف أبا المطعم قال له يا عبدالمطلب تستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك أي متعدد بل لك ولدا واحدا ولا مال لك وما أنت إلا واحد من قومك فقال له عبدالمطلب أتقول هذا وإنما كان نوفل أبوك في حجر هاشم أي لأن هاشما كان خلف على أم نوفل وهو صغير فقال له عدي وأنت أيضا قد كنت في يثرب عند غير أبيك كنت عند أخوالك من بني النجار حتى ردك عمك المطلب فقال له عبدالمطلب أو بالقلة تعيرني فلله على النذر لئن آتاني الله عشرة من الأولاد الذكور لأنحرن أحدهم عند الكعبة وفي لفظ أن أجعل أحدهم لله نحيرة
قيل إن عبدالمطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم فعن معاوية رضي الله عنه أن عبدالمطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولد فلما صاروا عشرة أي وحفر زمزم أمر في اليوم بالوفاء بنذره أي قيل له قرب أحد أولادك أي بعد أن نسى ذلك وقد قيل له قبل ذلك أوف بنذرك فذبح كبشا أطعمه الفقراء ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح ثورا ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح جملا ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك
____________________

فقال وماهو أكبر من ذلك فقيل له قرب أحد أولادك الذي نذرت ذبحه فضرب القداح على أولاده بعد أن جمعهم وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء وأطاعوه
ويقال إن أول من أطاعه عبدالله وكتب إسم كل واحد على قدح ودفعت تلك القداح للسادن والقائم بخدمة هبل وضرب بتلك القداح فخرجت على عبدالله أي وكان أصغر ولده وأحبهم إليه مع ما تقدم من أوصافه فأخذه عبدالمطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به على إساف ونائلة وألقاه على الأرض ووضع رجله على عنقه فجذب العباس عبدالله من تحت رجل أبيه حتى أثر في وجهه شجة لم تزل في وجه عبدالله إلى أن مات كذا قيل
وفيه أن العباس لما ولد صلى الله عليه وسلم كان عمره ثلاث سنين ونحوها فعنه رضي الله عنه أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها فجيء به حتى نظرت إليه وجعلت النسوة يقلن لي قبل أخاك فقبلته وقيل منعه أخواله بنوا مخزوم وقالوا له والله ما أحسنت عشرة أمه وقالوا له أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة وفي رواية وأعظمت قريش ذلك أي وقامت سادة قريش من أنديتها إليه ومنعوه من ذلك وقالوا له والله لا نفعل حتى تستفتي فيه فلانه الكاهنة أي لعلك تعذر فيه إلى ربك لئن فعلت هذا لايزال الرجل ياتي بإبنه حتى يذبحه أي ويكون سنة ولعل المراد إذا وقع له مثل ما وقع لك من النذر وقال له بعض عظماء قريش لا تفعل إن كان فداؤه بأموالنا فديناه وتلك الكاهنة قيل إسمها قطبة وقيل غير ذلك كانت بخيبر فأتها فاسألها فإن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته فأتاها أي مع بعض قومه وفيهم جماعة من أخوال عبدالله بن مخزوم فسألها وقص عليها القصة فقالت ارجعوا عني اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله فرجعوا من عندها ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم فقالوا عشرة من الإبل فقال تخرج عشرة من الإبل وتقدح وكلما وقعت عليه يزاد الإبل حتى تخرج القداح عليها فضرب على عشرة فخرجت عليه فما زال يزيد عشرة عشرة حتى بلغت مائة فخرجت القداح عليها فقالت قريش ومن حضره قد انتهى رضا ربك فقال عبدالمطلب لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات أي ففعل ذلك وذبح الإبل عند الكعبة لا يصد عنها أحدا أي من آدمى ووحش وطير قال الزهري فكان
____________________

عبدالمطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل أي بعد أن كانت عشرة كما تقدم وقيل أول من سن ذلك أبو يسار العدواني وقيل عامر بن الظرب فجرت في قريش أي وعلى ذلك فأولية عبدالمطلب إضافية ثم فشت في العرب وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأول من ودى بالإبل عن العرب زيد بن بكر من هوازن قتله أخوه أي وأما ما قيل إن القدح بعد المائة خرج على عبدالله أيضا ولا زال يخرج عليه حتى جعلوا الإبل ثلثمائة فخرج على الإبل فنحرها عبدالمطلب فضعيف جدا
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن ابن عباس رضي الله عنهما سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل أخذا من هذه القصة ثم سألت عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فلم يفتها بشيء فبلغ مروان بن الحكم وكان أميرا على المدينة فأمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير بدل ذبح ولدها وقال إن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما لم يصيبا الفتيا ولا يخفى أن هذا نذر باطل عندنا معاشر الشافعية فلا يلزمها به شيء
وعند أبي حنيفة ومحمد يلزمها ذبح شاة في أيام النحر في الحرم أخذا من قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال القاضي البيضاوي وليس فيه ما يدل عليه
وفي الكشاف أنه صلى الله عليه وسلم قال أنا ابن الذبيحين أي عبدالله وإسمعيل وعن بعضهم قال كنا عند معاوية رضي الله تعالى عنه فتذاكر القوم الذبيح هل هو إسمعيل أو إسحق فقال معاوية على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي أي يشكو جدب أرضه فقال يا رسول الله خلفت البلاد يابسة هلك المال وضاع العيال فعد على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم من الذبيحان يا أمير المؤمنين قال عبدالله وإسمعيل قال الحافظ السيوطي هذا حديث غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله قال بعضهم لما أحب إبراهيم ولده إسمعيل بطبع البشرية أي لا سيما وهو بكره ووحيده إذ ذاك وقد أجرى الله العادة البشرية أن يكر الأولاد أحب إلى الوالد أي وخصوصا إذا كان لا ولد له غيره أمره الله بذبحه ليخلص سره من حب غيره بأبلغ الأسباب الذي هو الذبح للولد فلما امتثل وخلص سره له ورجع عن عادة الطبع
____________________

فداه بذبح عظيم أن مقام الخلة يقتضى توحيد المحبوب بالمحبة فلما خلصت الخلة من شائبة المشاركة لم يبق في الذبح مصلحة فنسخ الأمر وفدى هذا
وجاء مما يدل على أن الذبيح إسحق حديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النسب أشرف وفي رواية من أكرم الناس فقال يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام كذا روى
قال بعضهم والثابت يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وما زاد على ذلك الراوي
وما ذكر أن يعقوب لما بلغه أن ولده بنيامين أخذ بسبب السرقة كتب إلى العزيز وهو يومئذ ولده يوسف بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فربطت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه بردا وسلاما وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليذبح ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته على وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام لم يثبت
ففي كلام القاضي البيضاوي وما روى أن يعقوب كتب ليوسف من يعقوب ابن إسحق ذبيح الله لم يثبت أي ولعله لم يثبت أيضا ما في أنس الجليل أن موسى لما أراد مفارقة شعيب وذهابه إلى وطنه بمملكة فرعون بسط شعيب يديه وقال يا رب إبراهيم الخليل وإسمعيل الصفي وإسحق الذبيح ويعقوب الكظيم ويوسف الصديق رد على قوتي وبصري فأمن موسى على دعائه فرد الله عليه بصره وقوته
وذكر أن يعقوب رأى ملك الموت في منامه فقال له هل قبضت روح يوسف فقال لا والله هو حي وعلمه ما يدعو به وهو يا ذا المعروف الدائم الذي لا ينقطع معروفه أبدا ولا يحصيه غيره فرج عني
وذكر أن سبب ذبح إسحق أي على القول بأنه الذبيح أن الخليل قال لسارة إن
____________________

جاءني منك ولد فهو لله ذبيح فحاءت سارة بإسحق وكان بينه وبين ولادة هاجر لإسمعيل ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة وإسحق إسمه بالعبرانية الضحاك وجاء في حديث راويه ضعيف الذبيح إسحق وأن داود سأل ربه فقال أي ربي اجعلني مثل آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه إني أبتليت إبراهيم بالنار فصبر وأبتليت إسحق بالذبح فصبر وأبتليت يعقوب أي بفقد ولده يوسف فصبر الحديث
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { وبشرناه بإسحاق نبيا } قال بشر به نبيا حين فداه الله تعالى من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده أي لما صبر الأب على ما أمر به وسلم الولد الأمر الله تعالى جعلت المجازاة على ذلك بإعطاء النبوة قال الحافظ السيوطى وجزم بهذا القول عياض في الشفاء والبيهقي في التعريف والإعلام وكنت ملت إليه في علم التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك أي كون إسحق هو الذبيح هذا كلامه وقد تنبأ كل من إسمعيل وإسحق ويعقوب في حياة إبراهيم عليهم الصلاة والسلام فبعث الله إسمعيل لجرهم وإسحق إلى أرض الشام ويعقوب إلى أرض كنعان ولا ينافي ذلك أي كون إسحق هو الذبيح تبسمه صلى الله عليه وسلم من قول القائل له يا ابن الذبيحين ولم ينكر عليه لأن العرب كما تقدم تسمى العم أبا
وفي الهدى إسمعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم وأما القول بأن إسحق فمردود بأكثر من عشرين وجها ونقل عن الإمام أبن تيمية أن هذا القول متلقى من أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم الذي هو التوراة فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح إبنه بكره وفي لفظ وحيده وقد حرفوا ذلك في التوراة التي بأيديهم اذبح إبنك إسحق أي ومن ثم ذكر المعافي بن زكريا أن عمر بن عبدالعزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال والله يا أمير المؤمنين إن اليهود يعلمون أنه إسمعيل ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم للفضل الذي ذكره الله تعالى عنه فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحق لأن إسحق أبوهم ولى رسالة في ذلك سميتها القول المليح في تعيين الذبيح رجحت فيها القول بأن الذبيح إسماعيل جواب عن سؤال رفعه إلي بعض الفضلاء
____________________


وعلى أن الذبيح إسمعيل فمحل الذبح بمنى وعلى أنه إسحق فمحله معروف بالأرض المقدسة على ميلين من بيت المقدس
وفي كلام ابن القيم تأييد كون الذبيح إسمعيل لا إسحاق ولو كان الذبيح بالشام كما يزعم أهل الكتاب لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة
واستشكل كون أولاد عبد المطلب عند إرادة ذبح عبدالله كانوا عشرة بأن حمزة ثم العباس إنما ولدا بعد ذلك وإنما كانوا عشرة بهما وحينئذ يشكل قول بعضهم فلما تكامل بنوه عشرة وهو الحرث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبدالله هذا كلامه
وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون له حينئذ أي عند إرادة الذبح ولدا ولد أي فقد ذكر أن لولده الحرث ولدين أبو سفيان ونوفل وولد الولد يقال له ولد حقيقة هذا
وذكر بعضهم أن أعمامه صلى الله عليه وسلم كانوا إثنى عشر بل قيل ثلاثة عشر وأن عبدالله ثالث عشرهم وعليه فلا إشكال ولا يشكل كون حمزة أصغر من عبدالله والعباس أصغر من حمزة وكلاهما أصغر من عبدالله على ما تقدم من أن عبدالله كان أصغر بني أبيه وقت الذبح لأنه يجوز أن يكون المراد أنه كان أصغرهم حين أراد ذبحه أي لا بقيد كونهم عشرة أو بذلك القيد ولا ينافيه كونه ثالث عشرهم لأن المراد به واحد من الثلاثة عشر وكان عبدالله كما تقدم أحسن فتى يرى في قريش وأجملهم وكان نور النبي صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه كالكوكب الدرى أي المضئ المنسوب إلى الدر حتى شغفت به نساء قريش ولقى منهن غناء ولينظر ما هذا العناء الذي لقيه منهن
قيل إنه لما تزوج آمنة لم تبق امرأة من قريش من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف إلا مرضت أي أسفا على عدم تزوجها به فخرج مع أبيه ليزوجه آمنة بنت وهب ابن عبدمناف بن زهرة بضم الزاي وإسكان الهاء وأما الزهرة التي هي النجم فبضم الزاي وفتح الهاء والزهرة في الأصل هي البياض أي وأم وهب إسمها قيلة بنت أبي كبشة أي وكان عمر عبدالله حينئذ نحو ثمان عشرة سنة فمر على امرأة من بني أسد ابن عبدالعزى أي يقال لها قتيلة وقيل رقية وهي أخت ورقة بن نوفل وهي عند
____________________

الكعبة وكانت تسمع من أخيها ورقة أنه كائن في هذه الأمة نبي أي وأن من دلائله أن يكون نورا في وجه أبيه أو أنها ألهت ذلك فقالت لعبدالله أي وقد رأت نور النبوة في غرته أين تذهب يا عبدالله قال مع أبي قالت لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع على الآن قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه و لا فراقه وأنشد ** أما الحرام فالممات دونه ** والحل لاحل فأستبينه ** ** يحمى الكريم عرضه ودينه ** فكيف بالأمن الذي تبغينه **
قال وسن شعر عبدالله والده صلى الله عليه وسلم كما في تذكرة الصلاح الصفدي ** لقد حكم البادون في كل بلدة ** بأن لنا فضلا على سادة الأرض ** ** وأن أبى ذو المجد والسودد الذي ** يشار به ما بين نشز إلى خفض ** أي إرتفاع وإنخفاض
وعن أبي يزيد المديني أن عبدالمطلب لما خرج بإبنه عبدالله ليزوجه فمر به على إمرأة كاهنة من أهل تبالة بضم التاء المثناة فوق بلدة باليمن وقد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بن مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبدالله فقالت له يا فتى هل لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل فقال عبدالله ما تقدم
أقول قال الكلبي كانت أي تلك الكاهنة من أجمل النساء وأعفهن فدعته إلى نكاحها فأبى ولا منافاة لأنه جاز أن تكون أرادت بقولها وقع على الآن أي بعد النكاح وفهم عبدالله أنها تريد الأمر من غير سبق النكاح فأنشد الشعر المتقدم الدال على طهارته وعفته وهذا بناء على إتحاد الواقعة وأن المرأة في هاتين الواقعتين واحدة وأنه اختلف في إسمها وأنه مر على تلك المرأة في ذهابه مع أبيه ليزوجه آمنة ويدل لذلك فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت
وظاهر سياق المواهب يقتضى أنهما قضيتان وأن الأولى عند إنصرافه مع أبيه ليزوجه آمنة
وقوله قد قرأت الكتب أي فجاز أنها رأت في تلك الكتب أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر يكون نورا في وجه أبيه وأنه يكون من أولاد عبدالمطلب أو أنها ألهمت ذلك فطمعت أن يكون ذلك النبي منها ويؤيد الثاني ما سيأتي عنها والله أعلم
فأتى عبدالمطلب عم آمنة وهو وهيب بن عبدمناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا وكانت في حجره لموت أبيها وهب بن عبد مناف
____________________

وقيل أتى عبدالمطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته آمنة وقدم هذا في الإستيعاب فزوجها لعبدالله وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا فدخل بها عبدالله حين أملك عليها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل ذلك النور إليها
قيل وقع عليها يوم الإثنين في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى
أقول فيه أنه سيأتي في فتح مكة أنه نزل بالحجون بفتح الحاء المهملة عند شعب أبي طالب بالمكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب
ويمكن أن يقال ذلك الشعب الذي كان في الحجون كان محلا لسكن أبي طالب في غير أيام مني وهذا الشعب الذي عند الجمرة الوسطى كان ينزل فيه أبو طالب أيام منى فلا مخالفة والله أعلم
ثم أقام عندها ثلاثة أيام وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على إمرأته أي عند أهلها أي فهي وأهلها كانوا بشعب أبي طالب ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس فقالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي اليوم بك حاجة
قال وفي رواية أنه لما مر عليها بعد أن وقع على آمنة قال لها مالك لا تعرضين على ما عرضت بالأمس قالت من أنت قال أنا فلان قالت له ما أنت هو لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن ما صنعت بعدي فأخبرها فقالت والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكن رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في وأبي الله إلا أن يجعله حيث أراد إذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض
أقول وفي رواية أن المرأة التي عرضت نفسها عليه هي ليلة العدوية وأن عبدالله كان في بناء له وعليه الطين والغبار وأنه قال حتى أغسل ما على وأرجع إليك وأنه رجع إليها بعد أن وقع على آمنة وانتقل منه النور إليها وقال لها هل لك فيما قلت قالت لا قال ولم قالت لقد دخلت بنور وما خرجت به
أي وفي سيرة ابن هشام مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها ولئن كنت أي وحيث كنت ألممت بآمنة لتلدن ملكا
____________________


ولا يخفى أن تعدد الواقعة ممكن وأن هذا السياق يدل على أن هذه المرأة كان عندها علم بأن عبدالله تزوج آمنة وأنه يريد الدخول بها وأنها علمت أنه كائن نبي يكون له الملك والسلطان وغير خاف أن عرض عبدالله نفسه على المرأة لم يكن لريبة بل ليستبين الأمر الذي دعاها إلى بذلك القدر الكثير من الإبل في مقابلة هذا الشيء على خلاف عادة النساء مع الرجال ولا يخالف ذلك بل يؤكده ما في الوفاء من قوله ثم تذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه فأقبل إليها الحديث والله أعلم
وعن الكلبي أنه قال كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم أي من قبل أمه وأبيه فما وجدت فيهن سفاحا والمراد بالسفاح الزنا أي فإن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية أي من نكاح الأم أي زوجة الأب لأنه كان في الجاهلية يباح إذا مات الرجل أن يخلفه على زوجته أكبر أولاده من غيرها وفي كلام بعضهم كان أقبح ما يصنعه أهل الجاهلية الجمع بين الأختين وكانوا يعيبون المتزوج بإمراة الأب ويسمونه الضيزن والضيزن الذي يزاحم أباه في إمرأته ويقال له نكاح المقت وهو العقد على الرابة وهي امرأة الأب والراب زوج الأم
وما قيل إن هذا أي نكاح امرأة الأب وقع في نسبه صلى الله عليه وسلم لأن خزيمة أحد آبائه صلى الله عليه وسلم لما مات خلف على زوجته أكبر أولاده وهو كنانة فجاء منها بالنضر فهو قول ساقط غلط لأن الذي خلف عليها كنانة بعد موت أبيه ماتت ولم تلد منه ومنشأ الغلط أنه تزوج بعدها بنت أخيها وكان اسمها موافقا لإسمها فجاء منها بالنضر
وبهذا يعلم أن قول الإمام السهيلي نكاح زوجة الأب كان مباحا في الجاهلية بشرع متقدم ولم يكن من المحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها لأنه أمر كان في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة وهي برة بنت مرة فولدت له النضر بن كنانة
وهاشم أيضا قد تزوج أمرأة أبيه واقدة فولدت له ضعيفة ولكن هذا خارج من عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها أي واقدة لم تلد جدا له صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم أنا من نكاح لامن سفاح ولذلك قال الله تعالى
____________________

{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } أي إلا ما قد سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام
وفائدة هذا الإستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعلم أنه لم يكن في أجداده صلى الله عليه وسلم من كان من بغية ولا من سفاح ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن أي مما لم يبح لهم إلا ما قد سلف نحو قوله تعالى { ولا تقربوا الزنى } ولم يقل إلا ما قد سلف { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } ولم يقل إلا ما قد سلف ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها إلا في هذه وفي الجمع بين الأختين لأن الجمع بين الأختين قد كان مباحا أيضا في شرع من كان قبلنا
وقد جمع يعقوب عليه السلام بين راحيل وأختها ليا فقوله إلا ما قد سلف التفات هذا المعنى هذا كلامه فلا التفات إليه ولا معول عليه على أن قوله إن يعقوب جمع بين الأختين ينازعه قول القاضي البيضاوي إن يعقوب عليه السلام إنما تزوج ليا بعد موت أختها راحيل
وفي أسباب النزول للواحدي أن في البخاري عن أسباط قال المفسرون كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء إبنه من غيرها فألقى ثوبه على تلك المرأة وصار أحق بها من نفسها ومن غيرها فإن شاء أن يتزوجها تزوجها من غير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا وإن شاء عضلها وضارها لتفتدى منه فمات بعض الأنصار فجاء ولد من غيرها وطرح ثوبه عليها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها ليضارها لتفتدى منه فأتت تلك المرأة وشكت حالها للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية
وقيل توفى أبو قيس فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني أعدك ولدا ولكني آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله تعالى الآية
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه لقيت خالي يعنى أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه ومعه الراية فقلت أي تريد قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج إمرأة أبيه أن أضرب عنقه زاد في رواية أحمد وآخذ ماله
____________________


وذكر بعضهم أن في الجاهلية كان إذا أراد الشخص أن يتزوج أن يقول خطب ويقول أهل الزوجة نكح ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول
ومن نكاح الجاهلية الجمع بين الأختين فإنه كان مباحا عندهم أي مع استقباحهم له كما تقدم
وذكر بعضهم أن قبل نزول التوراة كان يجوز الجمع بين الأختين أي ثم حرم ذلك بنزولها قال وقد افتخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجداته أي تحدث بنعمة ربه قاصدا به التنبيه على شرف هؤلاء النسوة وفضلهن على غيرهن فقال أنا ابن العواتك والفواطم
فعن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى فرسه مع أبي أيوب الأنصاري فسبقته فرس المصطفى فقال صلى الله عليه وسلم أنا ابن العواتك إنه لهو الجواد البحر يعنى فرسه
وقال صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته أي في غزوة حنين وفي غزوة أحد أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب أنا ابن العواتك وجاء أنا ابن العواتك من سليم والعاتكة في الأصل المتلطخة بالطيب أو الطاهرة
وعن بعض الطالبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في يوم أحد أنا ابن الفواطم أي ولا ينافيه ما سبق أنه قال في ذلك اليوم أنا ابن العواتك لأنه يجوز أن يكون قال كلا من الكلمتين في ذلك اليوم
واختلف الناس في عدد العواتك من جداته صلى الله عليه وسلم فمن مكثر ومن مقل
وقد نقل الحافظ ابن عساكر أن العواتك من جداته صلى الله عليه وسلم أربع عشرة وقيل إحدى عشرة أي وأولهن أم لؤى بن غالب واللواتي من بني سليم منهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم هاشم وعاتكة بنت مرة بن هلال أم أبي أمه وهب أي وقيل أراد بالعواتك من سليم ثلاثة من بني سليم أبكارا أرضعنه كما سيأتي في قصة الرضاع وكل واحدة منهن تسمى عاتكة قال وعن سعد أن الفواطم من جداته عشرة
أقول وقيل خمس وقيل ست وقيل ثمان ولم أقف على من إسمه فاطمة من
____________________

جداته من جهة أبيه إلا على إثنين فاطمة أم عبدالله وفاطمة أم قصي إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يرد الأمهات التي في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم بل أراد الأعم حتى يشمل فاطمة أم أسد بن هاشم وفاطمة بنت أسد التي هي أم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة أمها وهؤلاء الفواطم غير الثلاث الفواطم اللاتي قال صلى الله عليه وسلم فيهن لعلى وقد دفع إليه ثوبا حريرا وقال له أقسم هذا بين الفواطم الثلاث فإن هؤلاء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت أسد
ثم رأيت بعضهم عد فيهن أم عمرو بن عائذ وفاطمة بنت عبدالله بن رزام وأمها فاطمة بنت الحارث وفاطمة بنت نصر بن عوف أم أم عبد مناف والله أعلم
وعن عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خرجت من نكاح غير سفاح أي زنا فقد تقدم أن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد فكانت العرب تستحل الزنا إلا أن الشريف منهم كان يتورع عنه علانية وإلا بعض أفراد منهم حرمه على نفسه في الجاهلية أي وفي حديث غريب خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلا أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح الإسلام
قال وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولدني بغي قط منذ خرجب من صلب آدم ولم تزل تتنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب هاشم وزهرة
أقول والبغايا كن في الجاهلية ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون به شبهه فالتاط أي تعلق والتحق به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك والله أعلم
قال وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد جاءكم رسول من أنفسكم بفتح الفاء وقال أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما كنكاح الإسلام أي يخطب الرجل إلى الرجل موليته فيصدقها ثم يعقد عليها
____________________


وعن الإمام السبكي الأنكحة التي في نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى آدم كلها مستجمعة شروط الصحة كأنكحة الإسلام ولم يقع في نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى آدم إلا نكاح صحيح مستجمع لشرائط الصحة كنكاح الإسلام الموجود اليوم قال فاعتقد هذا بقلبك وتمسك به ولا تزل عنه فتخسر الدنيا والآخرة
قال بعضهم وهذا من أعظم العناية به صلى الله عليه وسلم أن أجرى الله سبحانه وتعالى نكاح آبائه من آدم إلى أن أخرجه من بين أبويه على نمط واحد وفق شريعته صلى الله عليه وسلم ولم يكن كما كان يقع في الجاهلية إذا أراد الرجل أن يتزوج قال خطب وتقول أهل الزوجة نكح كما تقدم ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول
والمراد بنكاح الإسلام ما يفيد الحل حتى يشمل التسرى بناء على أن أم إسماعيل كانت مملوكة لإبراهيم حين حملت بإسمعيل ولم يعتقها ولم يعقد عليها قبل ذلك
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كما في البخاري إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء نكاح كنكاح الناس اليوم أي بإيجاب وقبول شرعيين دون أن يقول الزوج خطب ويقول أهل الزوجة نكح وحينئذ يزيد على ذلك النكاح الذي كان يقال فيه ذلك ونكاح البغايا ونكاح الإستتبضاع ونكاح الجمع أي ومن أنكحة الجاهلية نكاح زوجة الأب لأكبر أولاده والجمع بين الأختين على ما تقدم وحينئذ يكون المراد ليس في نسبه صلى الله عليه وسلم نكاح زوجة الأب خلافا لما تقدم عن السهيلي ولا الجمع بين الأختين ولا نكاح البغايا وهو أن يطأ البغي جماعة متفرقين واحدا بعد واحد فإذا حملت وولدت ألحق الولد بمن غلب عليه شبهه منهم ولا الإستبضاع وذلك أن المراة كانت في الجاهلية إذا طهرت من حيضها يقول لها زوجها أرسلي إلى فلان استبعضي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبعض منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وليس فيه نكاح الجمع وهو أن تجتمع جماعة دون العشرة ويدخلون على إمرأة من البغايا ذوات الرايات كلهم يطؤها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو إبنك يا فلان تسمى من أحبت منهم فيلحق به ولدها لايستطيع أن يمتنع منه الرجل إن لم يغلب شبهه عليه
____________________


فنكاح البغايا قسمان وحينئذ يحتمل أن تكون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من القسم الثاني من نكاح البغايا فإنه يقال إنه وطئها أربعة وهم العاص وأبو لهب وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب وادعى كلهم عمرا فألحقته بالعاص وقيل لها لم اخترت العاص قالت لأنه كان ينفق على بناتي ويحتمل أن يكون من القسم الأول ويدل على ما قيل إنه ألحق بالعاص لغلبة شبهه عليه وكان عمرو يعير بذلك عيره بذلك علي وعثمان والحسن وعمار بن يسار وغيرهم من الصحابة رضي تعالى عنهم وسيأتي ذلك في قصة قتل عثمان عند الكلام على بناء مسجد المدينة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات أي وفي رواية لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة
وروى البخاري بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت في القرن الذي كنت فيه وقد تقدم في قوله تعالى { وتقلبك في الساجدين } قيل من ساجد إلى ساجد وتقدم ما فيه ومن جملته قول أبي حيان إن ذلك استدل به بعض الرافضة على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين أي متمسكين بشرائع أنبيائهم
ثم رأيت الحافظ السيوطي قال الذي تلخص أن أجداده صلى الله عليه وسلم من آدم إلى مرة بن كعب مصرح بإيمانهم أي في الأحاديث وأقوال السلف وبقى بين مرة وعبدالمطلب أربعة أجداد لم أظفر فيه بنقل وعبدالمطلب سيأتي الكلام فيه
وقد ذكر في عبدالمطلب ثلاثة أقوال
أحدها وهو الأشبه أنه لم تبلغه الدعوة أي لأنه سيأتي أنه مات وسنه صلى الله علهي وسلم ثمان سنين
والثاني أنه كان على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي لم يعبد الأصنام
والثالث أن الله تعالى أحياه له بعد البعثة حتى آمن به ثم مات وهذا أضعف الأقوال وأوهاها لم يرد قط في حديث ضعيف ولا غيره ولم يقل به أحد من أئمة السنة وإنما حكى عن بعض الشيعة
قال بعضهم وقوله صلى الله عليه وسلم من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات دليل على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر لأن
____________________

الكافر لا يوصف بأنه طاهر وفيه أن الطاهرية فيه يجوز أن يكون المراد بها ما قابل أنكحة الجاهلية المتقدمة وقد أشار إلى إسلام آبائه وأمهاته صاحب الهمزية بقوله ** لم تزل في ضمائر الكون تختا ** ر لك الأمهات والآباء ** أي لأن الكافر لا يقال إنه مختار الله
والسبب الذي دعا عبدالمطلب لإختيار بني زهرة ما حدث به ولده العباس رضي الله تعالى عنه قال قال عبدالمطلب قدمنا اليمن في رحلة الشتاء فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور أي الكتاب ولعل المراد به التوراة فقال من الرجل قلت من قريش قال من أيهم قلت من بني هاشم قال أتأذن لي أن أنظر بعضك قلت نعم ما لم يكن عورة قال ففتح إحدى منخري فنظر فيه ثم نظر في الأخرى فقال أنا أشهد أن في إحدى يديك وهو مراد الأصل بقوله في منخريك ملكا وفي الأخرى نبوة وإنما نجد ذلك أي كلا من الملك والنبوة في بني زهرة فكيف ذاك قلت لا أدري قال هل لك من شاعة قلت وما الشاعة قال الزوجة أي إنها تشايع أي تتابع وتناصر زوجها قلت أما اليوم فلا أي ليست لي زوجة من بني زهرة إن كان معه غيرها أو مطلقا إن لم يكن معه غيرها فقال إذا تزوجت فتزوج منهم أي وهذا الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة يقال له حزاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة
وقد ذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني عن شيخه سيدي على الخواص نفعنا الله تعالى ببركاتهما أنه كان إذا نظر لأنف إنسان يعرف جميع زلاته السابقة واللاحقة إلى أن يموت على التعيين من صحة فراسته هذا كلامه
أي ومن ذلك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تزوج امرأة ولم يدخل بها فقال لزوجته ميسون أم إبنه يزيد اذهبي فانظري إليها فأتتها فنظرت إليها ثم رجعت إليه وقالت هي بديعة الحسن والجمال ما رأيت مثلها لكن رأيت خالا أسود تحت سرتها وذلك يدل على أن رأس زوجها يقطع ويوضع في حجرها فطلقها معاوية رضي الله تعالى عنه ثم تزوجها النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه وكان واليا على حمص فدعا لإبن الزبير وترك مروان ثم خاف من أهل حمص لما تبعوا مروان ففر هاربا فتبعه جماعة منها فقطعوا رأسه ووضعوها في حجر تلك المرأة ثم بعثوا بتلك الراس
____________________

إلى مروان وقتل النعمان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لأن أمه لما ولدته وكان أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة على ما سيأتي حملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يكثر ماله وولده فقال اما ترضين أن يعيش حميدا ويقتل شهيدا ويدخل الجنة وهو الذي أشار على يزيد بن معاوية بإكرام آل البيت لما قتل الحسين ممن كان مع الحسين من أولاده وأولاد أخيه وأقاربه وقال له عاملهم بما كان يعاملهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحالة فرق لهم يزيد وأكرمهم ورده معهم وأمره بإكرامهم على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
ومما يروى عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن للشيطان مصالى وفخوخا وإن مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله والفخر بعطاء الله والتكبر على عباد الله وإتباع الهوى في غير ذات الله
وقد ذكر أن حمص نزل بها تسعمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سبعون بدريا
وفي حياة الحيوان أن حمص لا تعيش بها العقارب وإذا طرحت فيها عقرب غريبة ماتت لوقتها قيل لطلسم بها
وفي حديث ضعيف أن حمص من مدن الجنة وقيل الحزاء هو الكاهن وقيل هو الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه ويقال للذي ينظر في النجوم فإنه ينظر فيها بظنه فربما أخطأ أي لأن من علوم العرب الكهانة والعيافة والقيافة والزجر والخط أي الرمل والطب ومعرفة الأنواء ومهاب الرياح
فلما رجع عبدالمطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف فولدت له حمزة وصفية وزوج ابنه عبدالله آمنة بنت وهب أخي وهيب فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم فكانت قريش تقول فلج عبدالله على أبيه أي فاز وظفر لأن الفلج الفاء واللام المفتوحتين والجيم الفوز والظفر أي فاز وظفر بما لم ينله أبوه من وجود هذا المولود العظيم الذي وجد عند ولادته ما لم يوجد عند ولادة غيره
أي وفي كلام ابن المحدث أن عبدالمطلب خطب هالة بنت وهيب عم آمنة في مجلس خطبة عبدالله لآمنة وتزوجا وأولما ثم ابتنيا بهما ثم رأيت في أسد الغابة ما يوافقه
____________________

وهو أن عبدالمطلب تزوج هو وعبدالله في مجلس واحد قيل وفيه تصريح بأن عبدالله كان موجودا حين قال الحبر لعبدالمطلب إن النبوة موجودة فيه وكيف تكون موجودة فيه مع إنتقالها لعبدالله وقد يقال من أين أن عبدالمطلب تزوج هالة عقب مجيئه من عند الحبر حتى يكون قول الحبر لعبدالمطلب صادرا بعد وجود عبدالله جاز أن يكون ذلك صدر من الحبر لعبدالمطلب قبل ولادة عبدالله وفيه أن هذا لا يحسن إلا لو كانت أم عبدالله من بني زهرة إلا أن يقال يجوز أن يكون عبدالله وجد من بني زهرة لجواز أن يكون عبدالمطلب تزوج من بني زهرة غير هالة فأولدها عبدالله
ثم إن قول الحبر لعبد المطلب إنه يجد في إحدى يديه الملك وإنه يكون في بني زهرة مشكل أيضا لأن الملك لم يكون إلا في أولاد ولده العباس ولا يستقيم إلا لو كان أم العباس من بني زهرة أما هالة التي هي أم حمزة أو غيرها وأم العباس ليست من بني زهرة خلافا لما وقع في كلام بعضهم أن العباس ولدته هالة فهو شقيق حمزة لأنه خلاف ما اشتهر عن الحفاظ إلا أن يقال جاز أن يكون الملك والنبوة اللذان عناهما الحبر هما نبوته وملكه صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم أعطيهما أي كلا من الملك والنبوة المنتقلين إليه من أبيه عبدالله بناء على أن أم عبدالله من بني زهرة ولعله لا ينافيه قول بعضهم تزوج عبدالمطلب فاطمة بنت عمرو وجعل مهرها مائة ناقة ومائة رطل من الذهب فولدت له أبا طالب وعبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يجوز أن تكون فاطمة هذه من بني زهرة وحينئذ لا يشكل قول الحبر إذا تزوجت فتزوج منهم أي من بني زهرة بعد قوله ألك شاعة
وقيل الذي دعا عبدالمطلب لإختيار آمنة من بني زهرة لولده عبدالله أن سودة بنت زهرة الكاهنة وهي عمة وهب والد آمنة أمه صلى الله عليه وسلم كان من أمرها أنها لما ولدت رآها أبوها زرقاء شيماء أي سوداء وكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة أي يدفنونها حية ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة مع ذل وكآبة أي لأنه سيأتي أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء خصوصا كندة قبيلة من العرب خوف العار أو خوف الفقر والإملاق
وكان عمرو بن نفيل يحيى الموؤودة لأجل الإملاق يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك لا تفعل أنا أكفيك مئونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها
____________________


وكان صعصعة جد الفرزدق يفعل مثل ذلك فأمر أبوها بوأدها وأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك فلما حفر لها الحافر وأراد دفنها سمع هاتفا يقول لا تئد الصبية وخلها في البرية فالتفت فلم ير شيئا فعاد لدفنها فسمع الهاتف يسجع بسجع آخر في المعنى فرجع إلى أبيها وأخبره بما سمع فقال إن لها لشأنا وتركها فكانت كاهنة قريش فقالت يوما لبني زهرة فيكم نذيرة أو تلد نذيرا فاعرضوا على بناتكن فعرضن عليها فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر بعد حين حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب فقالت هذه النذيرة أو تلد نذيرا له شأن وبرهان منير أي فاختيار عبدالمطلب لآمنة من بني زهرة عبدالله واضح من سياق قصة هذه الكاهنة
وأما إختياره لتزوجه بعض نساء بني زهرة فسببه ما تقدم عن الحبر بناء على أن أم عبدالله كانت من بني زهرة وأما جعل الشمس الشامي ما تقدم عن الحبر سببا لتزويج عبدالمطلب إبنه عبدالله إمرأة من بني زهرة ففيه نظر ظاهر إذا كيف يتأتى ذلك مع قوله إذا تزوجت فتزوج منهم بعد قوله ألك شاعة أي زوجة
ثم رأيت أبن دحية رحمه الله تعالى ذكر في التنوير عن البرقى أن سبب تزويج عبدالله آمنة أن عبدالمطلب كان يأتى اليمن وكان ينزل فيها على عظيم من عظمائهم فنزل عنده مرة فإذا عنده رجل ممن قرأ الكتب فقال له ائذن لي أن أفتش منخرك فقال دونك فانظر فقال أرى نبوة وملكا وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي وعبد مناف بن زهرة فلما انصرف عبدالمطلب انطلق بإبنه عبدالله فتزوج عبدالمطلب هالة بنت وهيب فولدت له حمزة وزوج إبنه عبدالله آمنة فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لأنه أسقط قول الحبر لعبدالمطلب هل لك من شاعة إلى آخره فاحتاط عبدالمطلب فتزوج من بني زهرة وزوج ولده عبدالله منهم وحينئذ كان المناسب للبرقى رحمه الله أن يزيد بعد قوله إن سبب تزويج عبدالله آمنة قوله وتزوج عبدالمطلب هالة
____________________

& باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
عن الزهري رحمه الله تعالى قال قالت آمنة لقد علقت به صلى الله عليه وسلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته وعنها أنها كانت تقول ما شعرت بفتح أوله وثانيه أي ما علمت بأني حملت به ولا وجدت له ثقلا بفتح القاف كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي بكسر الحاء الهيئة التي تلزمها الحائض من التجنب وأما بالفتح فالمرة الواحدة من دفعات الحيض أي والذي ينبغي أن يكون الثاني هو المراد وأستعملت المرة في مطلق الدم الذي تراه الحائض وربما يؤيده أن هذا هو المراد أن بعضهم نقل أن الحيضة بالكسر إسم للحيض قالت وربما ترفعني وتعود أي فلم يكن رفعها دليلا على الحمل أي وهذا ربما يفيد أن حيضها تكرر قبل حملها به صلى الله عليه وسلم ولم أقف على مقدار تكرره
وقد ذكر أن مريم علهيا السلام حاضت قبل حملها بعيسى عليه الصلاة والسلام حيضتين قالت آمنة وأتاني آت أي من الملائكة وأنا بين النائمة واليقظانة وفي رواية بين النائم أي الشخص النائم واليقظان فقال هل شعرت بأنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها أي وفي رواية بسيد الأنام أي اعلمي ذلك وأمهلني حتى دنت ولادتي أتاني فقال قولي أي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد
أي ثم سميه محمدا فإن إسمه في التوراة والإنجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض وفي القرآن محمد أي والقرآن كتابه وسيأتي عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أن تسميه أحمد قال بعضهم ويذكر بعد هذا البيت أبيات لا أصل لها وإذا ثبت أنها قالت له ذلك بعد ولادته كان دليلا لما يقوله بعض الناس أن آمنة رقت النبي صلى الله عليه وسلم من العين
أقول ظاهر هذا السياق أنها لم تعلم بحملها إلا من قول الملك لأنها لم تجد ما تستدل به على ذلك لأنها لم تجد ثقلا وعادتها أن حيضها ربما عاد بعد عدم وجوده في زمنه المعتاد لها أي ولم تعول على مفارقة النور لعبدالله وإنتقال النور إلى وجهها على ما ذكر
____________________

بعضهم ففي كلام هذا البعض لما فارق النور وجه عبدالله انتقل إلى وجه آمنة ولا على خروج النور منها مناما أو يقظة بناء على أنه غير الحمل على ما يأتي لخفاء دلالة ما ذكر على ذلك ولعل أباه صلى الله عليه وسلم عبدالله لم يبلغها قول المرأة التي عرضت نفسها عليه اذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض والثقل في إبتداء الحمل الذي حمل عليه بعض الروايات كما سيأتي يجوز أن يكون بعد إخبار الملك لها لكن في المواهب في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه أن مجيء الملك لها كان بعد أن مضى من حملها ستة أشهر فليتأمل فإن الستة أشهر لا يقال إنها إبتداء الحمل
ونص الرواية كانت آمنة تحدث وتقول أتاني آت حين مر بي من حملى ستة أشهر في المنام وقال لي يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسيمه محمدا وأكتمى شأنك إلا أن يقال يجوز تعدد الملك أو تكرر مجيء الملك لها فليتأمل والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة أي التي حمل فيها أي في اليوم قبلها برسول الله صلى الله عليه وسلم أي بناء على ما هو ظاهر مما تقدم أنه حين وقع عليها انتقل إليها ذلك النور وقالت حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا أي ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي
أقول دلالة الأول على مطلق الحمل به صلى الله عليه وسلم لا على خصوص حمل آمنة به صلى الله عليه وسلم حينئذ واضحة
وأما دلالة الثاني عليه فقد يتوقف فيها إلا أن يقال إن ذلك كان من علامة الحمل به في الكتب القديمة مع أن المدعى في كلام ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو خصوص حمل آمنة به على أن السياق يدل على أن المراد علم أمه بحملها به والله أعلم
وعن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أن في صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة أي ولعل ذلك كان من علامة حمل أمه به في الكتب القديمة وقول الصادق لا يتخلف وسيأتي أن عند ولادته أيضا تنكست الأصنام ولا مانع من التعدد
قال وروى الحاكم وصححه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا
____________________

يا رسول الله أخبرنا عن نفسك فقال أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور وفي لفظ سراج وفي لفظ شهاب أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام قال الحافظ العراقي وسيأتي أنها رأت النور خرج منها عند الولادة وهو أولى لكون طرقه متصلة ويجوز أن يكون خرج منها النور مرتين مرة حين حملت به ومرة حين وضعته أي وكلاهما يقظة ولا مانع من ذلك أو هذه أي رؤية النور حين حملت به كانت مناما كما تصرح به الرواية الآتية وتلك يقظة فلا تعارض بين الحديثين
أقول الرواية الآتية هي رواية شداد بن أوس ولفظها أنها رأت في المنام أن الذي في بطنها خرج نورا أي وهي تفيد أن ذلك النور هو نفس حملها فهو بعد تحقق الحمل ووجوده والرواية التي هنا تفيد أن النور غيره وأنه كان وقت إبتداء وجود الحمل فلا يضح حمل إحداهما على الأخرى إلا أن يقال المراد بحين حملت زمن حملها وأن النور كان هو ذلك الحمل لكن الذي ينبغي أن تكون رواية شداد التي حملت عليها الرواية الأولى حاصلة قبيل الولادة فتكون رأت النور عند الولادة مناما ويقظة تأنيسا لها
على أنه يجوز إبقاء الروايات الثلاث على ظاهرها وأنها رأت مناما أنها خرج منها نور عند إبتداء الحمل ثم رأت كذلك عند قرب ولادتها أن الذي في بطنها خرج نورا ثم رأت يقظة عند وضعه خروج النور وسيأتي في رواية عن أمه أنها قالت لما وضعته خرج معه نور وهي لا تخالف هذا الرواية الثالثة حتى تكون الرابعة فبصرى أول بقعة من الشام خلص إليها نور النبوة
وعلى أنه مرتين ناسب قدومه صلى الله عليه وسلم لها مرتين مرة مع عمه أبي طالب ومرة مع ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها كما سيأتي وبها مبرك الناقة التي يقال إن ناقته صلى الله عليه وسلم بركت فيه فأثر ذلك فيه وبنى على ذلك المحل المسجد ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام في الإسلام وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على يد خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وبها قبر سعد بن عبادة وهي من أرض حوران والله أعلم
ووقع الإختلاف في مدة حمله صلى الله عليه وسلم فعن ابن عايذ أي بالياء المثناة
____________________

تحت والذال المعجمة أنه صلى الله عليه وسلم بقى في بطن أمه تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء أي وقد ولد عند وجود المشترى وهو كوكب نير سعيد فقد كانت ولادته صلى الله عليه وسلم عند وجود السعد الأكبر والنجم الأنور وكانت أمه صلى الله عليه وسلم تقول ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة منه
وروى ابن حبان رحمه الله عن حليمة رضي الله تعالى عنها عن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن لإبني هذا شأنا إني حملت به فلم أجد حملا قط كان أخف على ولا أعظم منه بركة وقيل بقى عشرة أشهر وقيل ستة أشهر وقيل بسبعة أشهر وقيل ثمانية أشهر أي ويكون ذلك آية كما أن عيسى عليه السلام ولد في الشهر الثامن كما قيل به مع نص الحكماء والمنجمين على أن من يولد في الشهر الثامن لا يعيش بخلاف التاسع والسابع والسادس الذي هو أقل مدة الحمل أي فقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك إن الولد عند إستكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس فإن خرج عاش وإن لم يخرج استراح في البطن عقب تلك الحركة المضعفة له فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لإستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضفعه
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رحمه الله تعالى لم أر للثمانية صورة نجوم المنازل ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش وعلى فرض أن يعيش يكون معلولا لا ينتفع بنفسه وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت أي وقيل بل كان حمله ووضعه في ساعة واحدة وقيل في ثلاث ساعات أي وقيل بذلك في عيسى عليه السلام أي وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها سنة الفتح والإبتهاج فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق عظيم فاخضرت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرغد من كل جانب في تلك السنة وفي حديث مطعون فيه قد أذن الله تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولم أقف على ما يجرى على ألسنة المداح من أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في بطن أمه كما نقل عن عيسى عليه السلام
____________________

أنه كان يكلم أمه إذا خلت عن الناس ويسبح الله ويذكره إذا كانت مع الناس وهي تسمع وعن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل شيخ كبير من بني عامر هو مدرة قومه أي المقدم فيهم يتوكأ على عصا فمثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى جده فقال يا ابن عبدالمطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء إلا أنك فهت بعظيم وإنما كان الأنبياء والخلفاء أي معظمهم في بيتين من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان فمالك وللنبوة ولكن لكل حق حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك قال فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمسألته ثم قال يا أخا بني عامر إن لهذا الحديث الذي سألتني عنه نبأ ومجلسا فاجلس فثنى رجليله ثم برك كما يبرك البعير فأستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال يا أخا بني عامر إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم عليه السلام أي حيث قال { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } أي وعند ذلك قيل له قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان كذا في تفسير أبن جرير
قال في ينبوع الحياة أجمعوا على أن الرسول المذكور ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلم
أقول وفيه أن جبريل عليه السلام أعلم إبراهيم عليه السلام قبل ذلك بأنه يوجد نبي من العرب من ذرية ولده إسمعيل فقد جاء أن إبراهيم لما أمر بإخراج هاجر أم ولده إسمعيل عليه السلام حمل هو وهي وولدها على البراق فلما أتى مكة قال له جبريل أنزل فقال حيث لا زرع ولا ضرع قال نعم ههنا يخرج النبي الأمي من ذرية ولدك يعنى إسمعيل عليه السلام الذي تتم به الكلمة العليا إلا أن يقال الغرض من دعائه صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيق حصوله وتقدم أن أم إسمعيل قالت لإبراهيم ما قاله لجبريل والله أعلم ثم قال وبشرى أخي عيسى وفي رواية إن آخر من بشر بي عيسى عليه السلام أي آخر نبي بشر بي من الأنبياء عيسى بدليل الرواية الأخرى وكان آخر من بشر بي عيسى لأن الأنبياء بشرت به قومها وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله
____________________

** ما مضت فترة من الرسل إلا ** بشرت قومها بك الأنبياء **
وبشرى عيسى في قوله تعالى { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } أي والمبشر بهم من الأنبياء قبل وجودهم أيضا أربعة إسحق يعقوب ويحيى وعيسى قال الله تعالى في حق سارة { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } قيل بشرت بأن تبقى إلى أن يولد يعقوب لولدها إسحق وقال في حق زكريا إن الله يبشرك بيحيى وقال في حق مريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح ثم قال وإني كنت بكر أبي وأمي وإنها حملتني كأثقل ما تحمل النساء وجعلت تشكو إلى صواحبها ثقل ما تجد ثم إنها رأت في المنام أن الذي في بطنها خرج نورا قالت فجعلت أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها الحديث وستأتي تتمته في الرضاع أي وقال ابن الجوزي ممن روى عن أمه صلى الله عليه وسلم هو صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا رسول الله ما كان بدء أمرك قال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي قالت خرج مني نور أضاءت له قصور الشام
قال الحافظ أبو نعيم الثقل الذي وقع في هذه الرواية كان ابتداء الحمل والخفة التي جاءت فيما سبق من الروايات كانت عند إستمرار الحمل ليكون ذلك خارجا عن المعتاد كذل قال
أقول قد قدمنا أنه يجوز أن يكون هذا الثقل الواقع في إبتداء الحمل كان بعد إخبار الملك لها بالحمل فلا يخالف ما سبق وفيه ما سبق والجواب عنه لكن تقدم عن الزهري قال قالت آمنة لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته
ويمكن أن يكون المراد بالمشقة ما تقدم من بعض الروايات لم تشك وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء أي فمع وجود الثقل لم يحصل لها المشقة المذكورة وحينئذ لا ينافى ذلك شكواها ما تجده من ثقله والله تعالى أعلم
____________________

& باب وفاة والده صلى الله عليه وسم
عن ابن إسحق لم يلبث عبدالله بن عبدالمطلب أن توفى وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به أي كما عليه أكثر العلماء وصححه الحافظ الدمياطي وسيأتى في بعض الروايات ما يدل على أن ذلك من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة قيل وإن موت والده صلى الله عليه وسلم كان بعد أن تم لها من حملها شهران وقيل قبل ولادته بشهرين وقيل كان في المهد حين توفى أبوه ابن شهرين وذكر السهيلى أن عليه أكثر العلماء فليتأمل مع ما قبله وقيل كان ابن سبعة أشهر أي وقيل ابن تسعة أشهر قيل وعليه الأكثرون والحق أنه قول كثيرين لا الأكثرين وقيل ابن ثمانية عشرة شهرا وقيل ابن ثمانية وعشرين شهرا أي وما يأتى في الرضاع من أن المراضع أبته ليتمه يخالفه لتمام زمن الرضاع وكذا يخالف القول الذي قبله لأنه لم يبق من زمن الرضاع إلا شهران وكانت وفاته بالمدينة خرج إليها ليمتار تمرا أو لزيارة أخواله بها أي أخوال أبيه عبدالمطلب بني عدي بن النجار أي ولا مانع من قصد الأمرين معا وقيل خرج إلى غزة في عير من عيرات قريش والعيرات بكسر العين وفتح المثناة تحت جمع عير وهي التي تحمل الميرة خرجوا للتجارة ففرغوا من تجارتهم وانصرفوا فمروا بالمدينة وعبدالله مريض فقال أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار والنجار هذا إسمه تميم وقيل له النجار لأنه اختتن بقدوم أي وهو آلة النجار وقيل لأنه نجر وجه رجل بقدوم فأقام عندهم مريضا شهرا أي وهذا أثبت من الأول ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم أبوه عبدالمطلب عنه فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه أخاه الحارث وهو من أكبر أولاد عبدالمطلب كما تقدم أي ومن ثم كان يكنى به ولم يدرك الإسلام فوجده قد توفى
أي وفي أسد الغابة أن عبدالمطلب أرسل إليه إبنه الزبير شقيق عبدالله فشهد وفاته ودفن في دار التابعة بالتاء المثناة فوق والباء الموحدة والعين المهملة أي وهو رجل من بني عدي بن النجار أي فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ونظر إلى
____________________

تلك الدار عرفها وقال ها هنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار
ومن هذا ومما جاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه يسبحون في غدير أي في الحجفة فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ليسبح كل منكم إلى صاحبه فسبح كل رجل إلى صاحبه وبفى النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر فسبح النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبي بكر رضي الله عنه حتى اعتنقه وقال أنا وصاحبي أنا وصاحبي وفي رواية أنا إلى صاحبي أنا إلى صاحبي يعلم رد قول بعضهم وقد سئل هل عام صلى الله عليه وسلم الظاهر لا لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر في بحر ولا بالحرمين بحر قال وقيل قد توفى ودفن أبوه بالأبواء محل بين مكة والمدينة
أقول سيأتي أن الذي بالأبواء قبر أمه صلى الله عليه وسلم على الأصح فلعل قائل ذلك أشتبه عليه الأمر لأنه يجوز أن يكون سمعه صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالأبواء هذا قبر أحد أبوي
وقد ذكر بعضهم في حكمة تربيته صلى الله عليه وسلم يتيما ما لا نطيل به وقد جاء ارحموا اليتامى وأكرموا الغرباء فإني كنت في الصغر يتيما وفي الكبر غريبا وقد جاء إن الله لينظر كل يوم إلى الغريب ألف نظرة والله أعلم
وأورد الخطيب عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الله أحيا له آباه وآمن به وفي المواهب أحيا الله له أبويه حتى آمنا به قال السهيلي وفي إسناده مجاهيل وقال الحافظ ابن كثير إنه حديث منكر جدا وسنده مجهول وقال ابن دحية هو حديث موضوع قال ويرده القرآن والإجماع وعلى ثبوته يكون ناسخا أي معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل أين أبي فقال في النار فلما قفا أي ولى دعاه وقال له إن أبي وأباك في النار وفيه أن هذا رواه مسلم فلا يكون ذلك الحديث ناسخا أي معارضا له
أقول هو على تقدير ثبوته يكون معارضا على أن حديث مسلم هذا لم تتفق الرواة على قوله فيه إن أبي وأباك في النار وهذه اللفظة إنما رواها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وخالفه معمر عن ثابت عن أنس فروى بدل ذلك إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار
____________________

وقد نصوا على أن معمر أثبت من حماد فإن حماد اتكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن ربيعة دسها في كتبه وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه وأيضا ما رواه معمر ورد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عائذ بن سعد عن أبيه أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين أبي فقال في النار قال فأين أبوك قال حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار وهذا الإسناد على شرط الشيخين فاللفظ الأول من تصرف الراوي رواه بالمعنى بحسب ما فهم فأخطأ
وذكر الحافظ السيوطي أن مثل هذا وقع في الصحيحين في روايات كثيرة من ذلك حديث مسلم عن أنس في نفي قراءة البسملة والثابت من طريق آخر نفى سماعها ففهم منه الراوي نفى قراءتها فرواه بالمعنى على ما فهمه فأخطأ كذا أجاب إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه عن حديث نفى قراءة البسملة والذي ينبغي أن يقال يجوز أن يكون هذا أي ما في الصحيح كان قبل أن يسأل الله تعالى أن يحييه له فأحياه وآمن به كما أشار إليه الأصل أو أنه قال ذلك لمصلحة إيمان ذلك السائل بدليل أنه لم يتدارك صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما قفا فظهر له صلى الله عليه وسلم من حاله أنه تعرض له فتنة أي يرتد عن الإسلام فأتى له بما هو شبيه بالمشاكلة مريدا بأبيه عمه أبا طالب لا عبدالله لأنه كان يقال لأبي طالب قل لإبنك يرجع عن شتم آلهتنا وقالوا له أعطنا إبنك وخذا هذا مكانه فقال أعطيكم إبنى تقتلونه إلى غير ذلك مما يأتي على أنه تقدم أن العرب تسمى العم أبا
لا يقال على ثبوت هذا الحديث وصحته التي صرح بها غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه كيف ينفع الإيمان بعد الموت
لأنا نقول هذا من جملة خصوصياته صلى الله عليه وسلم لكن قال بعضهم من ادعى الخصوصية فعليه الدليل أي لأن الخصوصية لا تثبت بمجرد الإحتمال ولا تثبت بحديث صحيح وفي كلام القرطبي قد أحيا الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم جماعة من الموتى
وإذا ثبت ذلك فما يمنع إيمان أبويه بعد إحيائهما ويكون ذلك زيادة في كرامته
____________________

وفضيلته صلى الله وسلم ولو لم يكن إحياء أبويه نافعا لإيمانهما وتصديقهما لما أحييا كما أن رد الشمس لو لم يكن نافعا في بقاء الوقت لم ترد والله أعلم
قال الواقدي المعروف عندنا وعند أهل العلم أن آمنة وعبدالله لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل سبط ابن الجوزي أن عبدالله لم يتزوج قط غير آمنة ولم تتزوج آمنة قط غيره ونقل إجماع علماء النقل على أن آمنة لم تحمل بغير النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى قولها لم أحمل حملا أخف منه المفيد أنها حملت بغيره صلى الله عليه وسلم أنه خرج على وجه المبالغة
أقول هذه الرواية لم أقف عليها والذي تقدم ما رأيت من حمل هو أخف منه وفي رواية أخرى حملت به فلم أجد حملا قط أخف منه على وحمل الرؤية والوجدان على العلم الحاصل بإخبار غيرها من ذوات الحمل لها عن حالهن ممكن فلا يقتضى ذلك أنها حملت بغيره ولا ينافيه قولها أخف على لأن المراد علي فيما علمت والله أعلم
قال والحافظ ابن حجر نسب سبط ابن الجوزي في نقل الإجماع إلى المجازفة فقال وجازف سبط ابن الجوزي كعادته في نقل الإجماع ولا يمتنع أن تكون آمنة أسقطت من عبدالله سقطا فأشارت بقولها المذكور إليه
أقول وحينئذ تكون حملت بذلك السقط بعد ولادته صلى الله عليه وسلم بناء على أن والده صلى الله عليه وسلم لم يمت وهو حمل بل بعد وضعه وأنها وجدت المشقة في حمل ذلك السقط وأن إخبارها بذلك تأخر عن حملها بذلك السقط وأنها رأت في حملها بذلك السقط من الشدة ما لم تجده في حمله صلى الله عليه وسلم
وأما حملها بذلك السقط قبل حملها به صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى لمخالفته لما تقدم من أن عبدالله دخل بها حين أملك عليها وانتقل إليها النور عند ذلك ولأنه يخرج بذلك عن كونه بكر أبيه وأمه
وأما رواية حملت الأولاد فما وجدت حملا فقال فيها الواقدي لا نعرف عند أهل العلم كما بينا ذلك في الكوكب المنير على أن إمكان حملها بسقط لا يقدح في نقل الإجماع على أنها لم تحمل بغيره صلى الله عليه وسلم لإمكان أن مراده حملا تاما
وفي الخصائص الصغرى للجلال السيوطى ولم يلد أبواه غيره صلى الله عليه وسلم والله أعلم قال وترك عبدالله جاريته أم أيمن بركة الحبشية أسلمت قديما هي وولدها أيمن وكان من عبد حبشي يقال له عبيد
____________________


أقول في كلام ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها حين تزوج خديجة وزوجها عبيدا الحبيشي بن زيد من بني الحرث فولدت أيمن ولا ينافيه ما في الإصابة كانت أم أيمن تزوجت في الجاهلية بمكة عبيدا الحبشي بن زيد وكان قدم مكة وأقام بها ثم نقل أم أيمن إلى يثرب فولدت له أيمن ثم مات عنها فرجعت إلى مكة فتزوجها زيد بن حارثة قال البلاذري والله أعلم
قال وقد زوجها صلى الله عليه وسلم أي بعد النبوة مولاه زيد بن حارثة أي وإنما رغب زيد فيها لما سمعه صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن يتزوج إمرأة من أهل الجنة فليتزوج بأم أيمن فجاءت منه بأسامة فكان يقال له الحب ابن الحب
وقيل أعتقها عبدالله قبل موته وقيل كانت لأمه صلى الله عليه وسلم وترك أي عبدالله خمسة أجمال وقطعة من غنم فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه أي فهو صلى الله عليه وسلم يرث ولا يورث قال صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة
ودعوى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرث بناته اللاتي متن في حياته فعلى تقدير صحته جاز أن يكون صلى الله عليه وسلم ترك أخذ ميراثه تعففا وسيأتى وقال ابن الجوزي وأصاب أم أيمن هذه عطش في طريقها لما هاجرت أي إلى المدينة على قدميها وليس معها أحد وذلك في حر شديد فسمعت شيئا فوق رأسها فتدلى عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فشربت منه حتى رويت وكانت تقول ما أصابني عطش بعد ذلك ولو تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر ما عطشت أي وفي مزيل الخفاء قال الواقدي كانت أم أيمن عسرة اللسان فكانت إذا دخلت على قوم قالت سلام لا عليكم أي بدل سلام الله عليكم فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول سلام عليكم أو السلام عليكم هذا كلامه فليتأمل فإن هذا يقتضي أن الصيغة الأصلية في السلام سلام الله عليكم مع أن الصيغة في السلام إما السلام عليكم أو سلام عليكم وكذا عليكم السلام ولم تذكر أئمتنا تلك الصيغة
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأم أيمن عنده فقالت يارسول الله اسقنى فقلت لها ألرسول الله صلى الله عليه وسلم تقولين هذا فقالت ما خدمته أكثر فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقت فسقاها
____________________


وذكر بعض المؤرخين أن بركة هذه من سبى الحبشة أصحاب الفيل وكانت سوداء أي لونها أسود ولهذا خرج إبنها أسامة في السواد أي وكان أبوه زيد أبيض ومن ثم كان المنافقون يطعنون في نسب أسامة ويقولون هذا ليس هو ابن زيد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشوش من ذلك
وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا فقال ألم ترى أن مجززا المدجلى قد دخل على فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وقد بدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض وقد جعل أئمتنا ذلك أصلا لوجوب الأخذ بقول القائف في إلحاق النسب
قال الأبي رحمه الله والمعروف أن الحبشية إنما هي بركة أخرى جارية أم حبيبة قدمت معها من الحبشة وكانت تكنى أم يوسف كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم أي وهي التي شربت بوله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي
قيل وورث صلى الله عليه وسلم من أبيه مولاه شقران وكان عبدا حبشيا فأعتقه بعد بدر وقيل أشتراه من عبدالرحمن بن عوف وأعتقه وقيل بل وهبه عبد الرحمن ابن عوف له صلى الله عليه وسلم & باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا أي مقطوع السرة وجاء أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ولد نزل جبريل عليه السلام وقطع سرته وأذن في أذنه وكساه ثوبا أبيض وولد نبينا صلى الله عليه وسلم مختونا أي على صورة المختون أي ومكحولا ونظيفا ما به قذر
أقول أي لم يصاحبه قذر وبلل فلا ينافى جواز وجود البلل والقذر بعده أي في زمن إمكان النفاس فلا يستدل بذلك على أن أمه صلى الله عليه وسلم لم تر نفاسا فإن النفاس عندنا معاشر الشافعية هو البلل الحاصل بعد الولادة في زمن إمكانه وهو قبل مضى خمسة عشر يوما لا الحاصل مع الولد والله أعلم
____________________


قال وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي أي لئلا يرى أحد سوأتي عند الختان قال الحاكم تواترت الأخبار بأنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا وتعقبه الذهبي فقال ما أعلم صحة ذلك فكيف يكون متواترا أي وأجيب بأنه أراد بالتواتر الإشتهار فقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك قال الحافظ ابن كثير فمن الحفاظ من صححها ومنهم من ضعفها ومنهم من رآها من الحسان أي وقد يدعى أنه لا مخالفة بين هذه الأقوال الثلاثة لأنه يجوز أن يكون من قال صحيحه أراد صحيحة لغيرها والصحيحة لغيرها قد تكون حسنة لغيرها ومن قال ضعيفة اراد في حد ذاتها
وفي الهدى أن الشيخ جمال الدين بن طلحة صنف في أنه ولد مختونا مصنفا أجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام ورد عليه في ذلك الشيخ جمال الدين بن العديم وذكر أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب
وولد من الأنبياء على صورة المختون أيضا غير نبينا صلى الله عليه وسلم ستة عشر نبيا وقد نظم الجميع بعضهم فقال ** وفي الرسل مختون لعمرك خلقة ** ثمان وتسع طيبون أكارم ** ** وهم زكريا شيث إدريس يوسف ** وحنظلة عيسى وموسى وآدم ** ** ونوح شعيب سام لوط وصالح ** سليمان يحيى هود يس خاتم **
وليس هذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل غيرهم من الناس يولد كذلك
من خرافات العامة أن يقولوا لمن يولد كذلك ختنه القمر أي لأن العرب تزعم أن المولود في القمر تنفسخ قلفته فيصير كالمختون وربما قالت العامة ختنته الملائكة وبهذا يرد على ما ذكره الجلال السيوطى في الخصائص الصغرى أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولادته مختونا
وقيل ختن صلى الله عليه وسلم أي ختنه الملك الذي هو جبريل كما صرح به بعضهم يوم شق قلبه صلى الله عليه وسلم عند ظئره أي مرضعته حليمة قال الذهبي إنه خبر منكر وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته صلى الله عليه وسلم قال العراقي وسنده غير صحيح أي لما عق عنه صلى الله عليه وسلم بكبش كما سيأتي
____________________


أقول وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ولد مختونا غير تام الختان كما هو الغالب في ذلك فتمم جده ختانه لكن ينازع فيه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي أي لأجل الختان كما هو الظاهر إن صح كما قدمنا
وفي كلام بعضهم أن عيسى عليه الصلاة والسلام ختن بآلة وعلى صحته يجمع بنحو ماتقدم والظاهر أن المراد بالآلة التي ختن بها عيسى والتي ختن بها صلى الله عليه وسلم بناء على أن جده ختنه كانت بالآلة المعروفة التي هي الموسى وإلا لنقلت لأن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله
لايقال عدم وجود القلفة نقص من أصل الخلقة الإنسانية فقد قالوا في حكمة وجود العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان فيه ولم يخلق بدونها بل خلق بها تكملة للخلق الإنساني لأنا نقول إنما لم يخلق بتلك القلفة ليحصل كمال الخلقة الإنسانية لأن هذه القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال بخلاف العلقة السوداء
وكره الحسن أن يختن الولد يوم السابع لأن فيه تشبيها باليهود أي لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ختن ولده إسحق عليه الصلاة والسلام يوم سابع ولادته اتخذه بنو إسرائيل في ذلك اليوم سنة وختن ولده إسمعيل عليه الصلاة والسلام لثلاث عشرة سنة قال أبو العباس ابن تيمية فصار ختان إسمعيل عليه الصلاة والسلام أي في ذلك الوقت سنة في ولده يعنى العرب ويؤيده قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانو لا يختنون الغلام حتى يدرك أي لأن الثلاثة عشر هي مظنة الإدراك ومن ثم لما سئل ابن عباس عن سنه حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنا يومئذ مختون أي في أوائل زمن الختان والله أعلم
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده يشير بالسبابة كالمسبح بها
أقول وفي رواية عن أمه أنها قالت لما خرج من بطني نظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل ولا مخالفة لجواز أن يراد بأصبعيه السبابتان من اليدين والله أعلم وفي سجوده إشارة إلى أن مبدأ أمره على القرب من الحضرة الإلهية
____________________


قال وروى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء
وفي رواية وقع على كفيه وركتبيه شاخصا ببصره إلى السماء
أقول وفي رواية وقع جاثيا على ركبتيه ولا يخالف هذا ما سبق من أنها نظرت إليه فإذا هو ساجد لجواز أن يكون سجوده بعد رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء ولا مخالفة بين كونه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده ووقوعه على كفيه لجواز أن يكون قبض أصابعه ما عدا السبابة بعد ذلك ولا ينافيه قوله مقبوضة المنصوب على الحال لقرب زمنها من الوقوع على الأرض والإقتصار على الركبتين لا ينافى الجمع بينهما وبين الكفين
ورأيت في كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم ولد واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سوءتيه فليتأمل والله أعلم
وإلى رفع رأسه صلى الله عليه وسلم وشخوص بصره إلى السماء يشير صاحب الهمزية بقوله ** رافعا رأسه وفي ذلك الرف ** ع إلى كل سودد إيماء ** ** رامقا طرفه السماء ومرمى ** عين من شأنه العلو العلاء **
أي وضعته حال كونه رافعا رأسه إلى السماء وفي ذلك الرفع الذي هو أول فعل وقع منه بعد بروزه صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم إشارة إلى حصول كل رفعة وسيادة ووضعته حالة كونه رامقا ببصره إلى السماء وسر ذلك الإشارة إلى علو مرماه إذ مرمى عين الذي قصده ارتفاع مكانه الرفعة والشرف قال وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قبض قبضة من تراب وأهوى ساجدا فبلغ ذلك رجلا من بني لهب فقال لصاحبه لئن صدق هذا الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض أي لأنه قبض علهيا وصارت في يده والفأل بالهمز وبدونه يقال فيما يسر والنطير فيما يسوء فالفأل ضد الطيرة بكسر الطاء وقد جاء إني أتفاءل ولا أتطير وقيل له صلى الله عليه وسلم ما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم وقال صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة وفي رواية وأحب الفأل الصالح
وفرق بعضهم بين الفأل والتفاؤل بأن الأول يكون في سماع الآدميين والثاني يكون في الطير بأسمائها وأصواتها وممرها وقوله لا عدوى معارض لما جاء أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع فرجع
____________________

ولم يصافحه وجاء لا تديمو النظر للمجذومين وسيأتي الجواب عنه بما يحصل به الجمع بينه وبين ما جاء أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال كل بسم الله عز وجل وتوكلا عليه وبنوا لهب بكسر اللام وسكون الهاء حي من الأزد أعلم الناس بالزجر أي زجر الطير والتفاؤل بها وبغيرها
فقد كان في الجاهلية إذا أراد الشخص أن يخرج لحاجة جاء إلى الطير وأزعجها عن أوكارها فإن مر الطائر على اليمين سمى سانحا واستبشر مريد الحاجة بقضائها وإن مر على اليسار سمى بارحا بالموحدة والراء والحاء المهملة وقعد مريد الحاجة عنها تفاؤلا بعدم قضائها أي وهذا ما فسر به إمامنا الشافعي الحديث الآتي أقروا الطير في مكامنها فعن سفيان بن عينية قال قلت للشافعي رضي الله تعالى عنه يا أبا عبدالله ما معنى هذا الحديث فقال علم العرب كان في زجر الطير كان الرجل منهم إذ أراد سفرا جاء إلى الطير في مكامنها فطيرها الحديث
ويحكى عن وائل بن حجر وكان زاجرا حسن الزجر أنه خرج يوما من عند زياد بالكوفة وهو الذي ألحقه معاوية بأبيه ابي سفيان وهو والد عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين وكان أميرها المغيرة بن شعبة فرأى غرابا ينغق بالغين المعجمة أي يصيح فرجع إلى زياد وقال له هذا غراب برحلك من ههنا إلى خير فقدم رسول معاوية إلى زياد من يومه بولاية البصرة
وقد ذكر أن أبا ذؤيب الهذلي الشاعر كان مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع به قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل ولما كان وقت السحر هتف بي هاتف وأنا نائم وهو يقول ** قبض النبي محمد فعيوننا ** تذري الدموع عليه بالتسجام **
قال فقمت من نومي فزعا فنظرت في السماء فلم أر إلا سعد الذابح فتفاءلت به وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض فركبت ناقتي وحثتها حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطير فأخبرني بوفاته صلى الله عليه وسلم فلما قدمت المدينة فإذا فيها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج فسألت فقيل لي قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى وقد خلا به أهله وأبو هذيل هذا هو القائل ** أمن المنون وريبة تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع ** **
____________________

وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع ** ** وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع ** ** والنفس راغبة إذا رغبتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع **
ومن زجر الطير ما حكاه بعضهم قال جاء أعرابي إلى دار القاضي أبي الحسين الأزدي المالكي فجاء غراب فقعد على نخلة في تلك الدار وصاح ثم طار فقال الأعرابي هذا الغراب يقول إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام فصاح الناس عليه وزجروه فقام وانصرف ففي سابع يوم مات هذا القاضي
وقد جاء النهى عن ذلك أي عن الزجر والطيرة في قوله صلى الله عليه وسلم أقروا الطير على مكامنها أي لا تزجروها وجاء الطير شرك وجاء من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك أي حيث اعتقد أنها تؤثر وجاء إذا رأى أحدكم من الطيرة ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك وفي رواية اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضى لحاجته وقد جاء لا عدوى ولا طيرة ولا هام وفي لفظ ولا هامة بالتخفيف زاد في رواية ولا صفر والهامة هو أنه كان أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قتل القتيل ولم يؤخذ بثأره يخرج له طائر يقول عند قبره اسقوني من دم قاتلي اسقوني من دم قاتلي ولا يزال يقول ذلك حتى يؤخذ بثأر القتيل كان العرب تسميه الهامة بالتخفيف وأما الهامة بالتشديد فواحدة الهوام وهي الحيات والعقارب وما شاكلها ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في تعويذه للحسن والحسين أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ثم يقول هكذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعوذ إسمعيل وإسحاق وقوله ولا صفر ذكر الإمام النووي أن المراد به حية صفراء تكون في جوف الإنسان إذا جاع تؤذيه كذا كانت العرب تزعم ذلك قال وهذا التفسير هوالصحيح الذي عليه عامة العلماء وقد ذكره مسلم عن جابر راوي الحديث فتعين إعتماده
وروى ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى وفي رواية أنها قالت لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب فأضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى
____________________


وفي الخصائص الصغرى ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام وكذلك أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرين ولعل المراد يرين مطلق النور لا الذي تضيء من قصور الشام وقوله قصور الشام الخ ظاهر في أن المراد جميع الإقليم لا خصوص بصرى ولعل الإقتصار على بصرى في الروايات لكون النور كان بها أتم ومن ثم قالت حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى أو رأت مرة وصول النور إلى بصرى خاصة ومرة جاوزها تأمل وإلى هذا النور يشير عمه العباس رضي الله تعالى عنه بقوله في قصيدته التي امتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وقد قال له في مرجعه من تلك الغزوة يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال له رسول الله قل لا يفضض الله فاك فقال قصيدة منها ** وأنت لما ولدت أشرقت الأر ** ض وضاءت بنورك الأفق ** ** فنحن في ذلك الضياء وفي الن ** ور سبل الرشاد نخترق **
وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله بقوله ** وتراءت قصور قيصر بالرو ** م يراها من داره البطحاء **
أي رؤيت قصوره ملك الروم في بلاد الروم يبصرها الذي داره بمكة قال وهذا ظاهر في أنها رأت ذلك النور يقظة وتقدم في حديث شداد أنها رأته مناما وقد تقدم الجمع أي وتقدم ما في ذلك الجمع
وذكر أن أم إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه رأت وهي حامل به أن النجم المسمى بالمشترى خرج من فرجها فوقع في مصر ثم وقع في كل بلدة منه شظية فتأول ذلك أصحاب تأويل الرؤيا بأنها تلد عالما يكون علمه بمصر أولا ثم ينتشر إلى سائر البلدان
وروى السهيلي على الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد تكلم فقال جلال ربي الرفيع وروى أن أول ما تكلم به لما ولدته أمه حين خروجه من بطنها الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ولا مانع من أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بكل ذلك والأولوية في الرواية الثانية إضافية لما لا يخفى
وقد وقع الإختلاف في وقت ولادته صلى الله عليه وسلم أي هل كان ليلا أو نهارا وعلى الثاني في أي وقت من ذلك النهار وفي شهره وفي عامه وفي محله فقيل ولد يوم الإثنين قال بعضهم لا خلاف فيه والله بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة أي
____________________

فعن قتادة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن يوم الإثنين فقال ذلك يوم ولدت فيه وذكر الزبير بن بكار والحافظ ابن عساكر أن ذلك كان حين طلوع الفجر ويدل له قول جده عبدالمطلب ولد لي الليلة مع الصبح مولود وعن سعيد بن المسيب ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار أي وسطه وكان ذلك اليوم لمضى اثني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول أي وكان ذلك في فصل الربيع وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله ** يقول لنا لسان الحال منه ** وقول الحق يعذب للسميع ** ** فوجهي والزمان وشهر وضعي ** ربيع في ربيع في ربيع **
قال وحكى الإجماع عليه وعليه العمل الآن أي في الأمصار خصوصا أهل مكة في زيارتهم موضع مولده صلى الله عليه وسلم وقيل لعشر ليال مضت من ربيع وصحح أي صححه الحافظ الدمياطي أي لأن الأول قال فيه ابن دحية ذكره ابن إسحاق مقطوعا دون إسناد وذلك لا يصح أصلا ولو أسنده ابن إسحاق لم يقبل منه لتجريح أهل العلم له فقد قال كل من ابن المديني وابن معين أن ابن إسحاق ليس بحجة ووصفه مالك رضي الله تعالى عنه بالكذب قيل وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله فعند ذلك قال مالك وما ابن إسحاق إنما هو رجل من الدجاجلة أخرجناه من المدينة قال بعضهم وإبن إسحاق من جملة من يروى عنه شيخ مالك يحيى بن سعيد وقال بعضهم ابن إسحاق فقيه ثقة لكنه مدلس وقيل ولد لسبع عشرة ليلة خلت منه وقيل لثمان مضت منه قال ابن دحية وهو الذي لا يصح غيره وعليه أجمع أهل التاريخ
وقال القطب القسطلاني وهو إختيار أكثر أهل الحديث أي كالحميدي وشيخه ابن حزم وقيل لليلتين خلتا منه وبه جزم ابن عبدالبر وقيل لثمان عشرة ليلة خلت منه رواه ابن أبي شيبة وهو حديث معلول وقيل لإثنتي عشرة بقين منه وقيل لإثني عشرة وقيل لثمان ليال خلت من رمضان وصححه كثير من العلماء وهذا هو الموافق لما تقدم من أن أمه صلى الله عليه وسلم حملت به في أيام التشريق أو في يوم عاشوراء وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل لكن قال بعضهم إن هذا القول غريب جدا ومستند قائله أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم في رمضان فيكون مولده في
____________________

رمضان وعلى أنها حملت به في أيام التشريق الذي لم يذكروا غيره يعلم ما في بقية الأقوال قال وقيل ولد في صفر وقيل في ربيع الآخر وقيل في محرم وقيل في عاشوراء أي كما ولد عيسى عليه السلام وقيل لخمس بقين منه أي وذكر الذهبي أن القول بأنه ولد صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من الإفك أي الكذب وفيه إن كان ذلك لأنه لا يجامع أنها حملت به صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل لا يختص الإفك بهذا القول بل يأتي فيما عدا القول بأنه ولد في رمضان ثم رأيت بعضهم حكى أنه حمل في شهر رجب وحينئذ يصح القول المشهور ولادته في ربيع الأول
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولد يوم الإثنين في ربيع الأول وأنزلت عليه النبوة يوم الإثنين في ربيع الأول وهاجر إلى المدينة يوم الإثنين في ربيع الأول وأنزلت عليه البقرة يوم الإثنين في ربيع الأول وتوفى يوم الإثنين في ربيع الأول قال بعضهم وهذا غريب جدا
وقيل لم يولد نهارا بل ولد ليلا فعن عثمان بن أبي العاص عن أمه رضي الله تعالى عنهما أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ليلا قالت فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن على قال ابن دحية وهو حديث مقطوع قال بعضهم ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل العدل عن العدل أنه سئل عن صوم يوم الإثنين فقال فيه ولدت واليوم إنما هو النهار بنص القرآن وأيضا الصوم لا يكون إلا نهارا
وأفاد البدر الزركشي أن هذا الحديث أي المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقدير صحته لا دلالة فيه على أنه ولد ليلا قال فإن زمان النبوة صالح للخوارق ويجوز أن تسقط النجوم نهارا أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل وإلى التردد في وقت ولادته صلى الله عليه وسلم هل هو في الليل أو النهار أشار صاحب الهمزية بقوله ** ليلة المولد الذي كان للد ** ين سرور بيومه وإزدهاء ** ** فهنيئا به لآمنة الفض ** ل الذي شرفت به حواء ** **
____________________

من لحواء أنها حملت أح ** مد أو أنها به نفساء ** ** يوم نالت بوضعه ابنة وهب ** من فخار مالم تنله النساء **
أي ليلة المولد الذي وجد فيه الفرح والإفتخار للدين بيومه وقد أضاف كلا من الليل واليوم للولادة مراعاة للخلاف في ذلك فهنيئا لآمنة الفضل الذي حصل لها بسبب ولادتها له صلى الله عليه وسلم أي لا يشوب ذلك الفضل كدر ولا مشقة الذي شرفت بذلك الفضل حواء التي هي أم البشر ومن يشفع لحواء في أنها حملت به وأنه أصابها نفاس به يوم أعطيت آمنة بنت وهب بسبب وضعه من الفخار وهو ما يتمدح به من الخصال العلية والشيم المرضية مالم يعطها غيرها من النساء
أي وقد أقسم الله بليلة مولده صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { والضحى والليل } وقيل أراد بالليل ليلة الإسرى ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما أي استعمل الليل فيهما ويدل لكون ولادته صلى الله عليه وسلم كانت ليلا قول بعض اليهود ممن عنده علم الكتاب لقريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة إلى آخر ما يأتي وسيأتي ما يدل على ذلك وهو وضعه تحت الجفنة
وولادته صلى الله عليه وسلم قيل كانت في عام الفيل قيل في يومه فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل وعن قيس ابن مخرمة ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ضحا فنحن لدتان قال الحافظ ابن حجر المحفوظ لفظ العام أي بدل لفظ اليوم وقد يراد باليوم مطلق الوقت فيصدق بالعام كما يقال يوم الفتح ويوم بدر وعليه فلدان معناه متقاربان في السن بالموحدة وعلى أن المراد باليوم حقيقته يكون بالنون
وفي تاريخ ابن حبان ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله تعالى الطير الأبابيل فيه على أصحاب الفيل
وعند ابن سعد ولد يوم الفيل يعنى عام الفيل أي لما تقدم عن ابن حجر وعليه فيكون قول ابن حبان في اليوم تفسيرا للعام على أن المراد باليوم مطلق الوقت الصادق بالعام
وقيل ولد بعد الفيل بخمسين يوما كما ذهب إليه جمع منهم السهيلي قال بعضهم
____________________

وهو المشهور قال وقيل بخمسة وخمسين يوما وقيل بأربعين يوما وقيل بشهر وقيل بعشر سنين وقيل بثلاث وعشرين سنة وقيل بثلاثين سنة وقيل بأربعين سنة وقيل بسبعين سنة أي وعلى أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوما اقتصر الحافظ الدمياطي رحمه الله وعبارة المواهب حكاه الدمياطي في آخرين وكونه في عام الفيل قال الحافظ ابن كثير هو المشهور عند الجمهور وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري رحمه الله لا يشك فيه أحد من العلماء ونقل غير واحد فيه الإجماع وقال كل قول يخالفه وهم أي وقيل قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة قال بعضهم وهذا غريب منكر وضعيف أيضا
أقول والقول بأنه ولد قبل عام الفيل أو فيه أو بعده بعشر سنين يقتضى تضعيف ما ذكره الحافظ أبو سيعد النيسابورى أن نور النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيء في غرة جده عبدالمطلب وكانت قريش إذا أصابها قحط أخذت بيد عبدالمطلب إلى جبل ثبير يستسقون به فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور وأنه لما قدم صاحب الفيل لهدم الكعبة لتكون كنيسته التي بناها ويقال إنها القليس كجميز لإرتفاع بنائها وعلوها ومنه القلانس لأنها في أعلى الرءوس مكان الكعبة في الحج إليها
وقد اجتهد أبرهة في زخرفتها فجعل فيها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب كان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام وجعل فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والآبنوس وشدد على عماله بحيث إذا طلعت الشمس قبل أن يأخذ العامل من عمله قطع يده فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز فتضرعت إليه في أن لا يقطع يد ولدها فأبى إلا قطع يده فقالت له اضرب بمعولك اليوم فاليوم لك وغدا لغيرك فقال لها ويحك ما قلت فقال نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك فكذلك يصير منك إلى غيرك فأخذته موعظتها فعفا عنه ورجع عن هذا الأمر فعند ذلك ركب عبدالمطلب في قريش إلى جبل ثبير فاستدار ذلك النور في وجه عبدالمطلب كالهلال وألقى شعاعه على البيت الحرام مثل السراج فلما نظر عبدالمطلب لذلك قال يا معشر قريش ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا فرجعوا فلما دخل رسول صاحب الفيل إلى مكة ونظر إلى وجه عبدالمطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيا عليه
____________________

فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب أي فإن صاحب الفيل أمره أن يقول لقريش إن الملك إنما جاء لهدم البيت فإن لم تحولوا بينه وبينه لم يزد على هدمه وإن أحلتم بينه وبينه أتى عليكم فقال له عبد المطلب ما عندنا منعة ولا ندفع عن هذا البيت وله رب إن شاء منعه أي وفي لفظ قال عبدالمطلب والله ما نريد حربه وما لنا منه بذلك طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت إبراهيم خليل الله فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وإن لم يحل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه وأمر أبرهة رسوله أيضا أن يأتي له بسيد القوم فقال لعبدالمطلب قد أمرني أن آتيه بك فقال عبدالمطلب أفعل فجاءه راعي إبله وخيله وأخبره أن الحبشة أخذت الإبل والخيل التي كانت ترعى بذي المجاز
وفي سيرة ابن هشام بل وفي غالب السير الإقتصار على الإبل وأنها كانت مائتي بعير وقيل أربعمائة ناقة فركب عبد المطلب صحبة رسول صاحب الفيل وركب معه ولده الحارث فاستؤذن له على أبرهة أي قيل له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة يعني زمزم وهو يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال فاذن له فلما دخل ورآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه على سرير ملكه فنزل عن سريره وأجلسه معه على البساط وقال لترجمانه اسأله عن حاجته فذكر إبله وخيله فذكر الترجمان له ذلك فقال للترجمان بلسان الحبشة قل له كنت أعجبتني إذ رأيتك ثم قد زهدت فيك إذ سألتني إبلا وخيلا وتركت أن تسأل عن البيت الذي هو عزك فقال له الترجمان ذلك فقال عبدالمطلب أنا رب الإبل والخيل التي سألتها الملك وأما البيت فله رب إن شاء أن يمنعه من الملك فقال أبرهة ما كان ليمنعه مني فرد عليه ما كان أخذ له وانصرف وأبرهة بلسان الحبشة الأبيض الوجه
ثم إن الفيل لما نظر إلى وجه عبدالمطلب برك كما ييرك البعير وخر ساجدا وأنطق الله سبحانه وتعالى الفيل فقال السلام على النور الذي في ظهرك يا عبدالمطلب
وفي كلام بعضهم أن أبرهة لما بلغه مجيء عبدالمطلب إليه أمر أن عبدالمطلب قبل دخوله عليه أن يذهب به إلى الفيلة ليراها ويرى الفيل العظيم وكان أبيض اللون
أقول رأيت أن ملك الصين كان في مربطه ألف فيل أبيض وكان مع الفرس في قتال أبي عبيد بن مسعود الثقفي أمير الجيش في خلافة الصديق أفيلة كثيرة عليها الجلاجل
____________________

وقدموا بين أيديهم فيلا عظيما أبيض وصارت خيول المسلمين كلما حملت وسمعت حس الجلاجل نفرت فأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة فقتلوها عن آخرها وتقدم أبو عبيد لهذا الفيل العظيم الأبيض فضربه بالسيف فقطع زلومه فصاح الفيل صيحة هائلة وحمل على أبي عبيد فتخبطه برجله ووقف فوقه فقتله فحمل على الفيل شخص كان أبو عبيد أوصى أن يكون أميرا بعده فقتله ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحد بعد واحد وهذا من أغرب الإتفاقيات والله أعلم وإنما أرى عبدالمطلب الفيلة إرهابا له وتخويفا فإن العرب لم تكن تعرف الأفيال وكانت الأفيال كلها ما عدا الفيل الأعظم تسجد لأبرهة
وأما الفيل الأعظم فلم يسجد إلا للنجاشي فلما رأت الفيلة عبدالمطلب سجدت حتى الفيل الأعظم وقيل إن أبرهة لم يخرج إلا بالفيل الأعظم ولما بلغ أبرهة سجود الفيلة لعبد المطلب تطير ثم أمر بإدخال عبدالمطلب عليه فلما رآه ألقيت له الهيبة في قلبه فنزل عن سريره تعظيما لعبدالمطلب ثم رأيت العلامة ابن حجر في شرح الهمزية حاول الجواب عن هذا الذي تقدم عن الحافظ النيسابوري من أن النور إستدار في وجه عبدالمطلب إلى آخره أي قول الفيل السلام على النور الذي في ظهرك يا عبدالمطلب مع أن ولادته صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يلزمها أن يكون النور انتقل من عبدالمطلب إلى عبدالله ثم انتقل من عبدالله إلى آمنة بأن النور وإن انتقل من عبدالمطلب لكن الله سبحانه وتعالى أكرم عبدالمطلب فأحدث ذلك النور في ظهره وفي وجهه وأطلع الفيل عليه هذا كلامه فليتأمل
وذكر بعضهم أن الفيل مع عظم خلقته صوته ضئيل أي ضعيف ويفرق أي يخاف من السنور الذي هو القط ويفزع منه
وفي المواهب والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته ومقدمة لظهوره وبعثته هذا كلامه وفيه أنه قد يقال الإرهاصات إنما تكون بعد وجوده وقبل مبعثه الذي هو دعواه الرسالة لا قبل وجوده بالكلية الذي هو المراد بظهوره وحينئذ فقول القاضي البيضاوي إنها من الإرهاصات إذ روى أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد وجوده ومن ثم قال ابن القيم في الهدى إن مما جرت به عادة الله تعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة
____________________

مقدمات تكون كالمدخل لها فمن ذلك قصة مبعثه صلى الله عليه وسلم تقدمها قصة الفيل هذا كلامه
قال فلما شرع أبرهة في الذهاب إلى مكة وصل الفيل إلى أول الحرم والمواهب أسقط هذا وهو يوهم أنهم دخلوا مكة وأن الفيل برك دون البيت فليتأمل وعند وصوله إلى أول الحرم برك فصاروا يضربون رأسه ويدخلون الكلاليب في مراق بطنه فلا يقوم فوجهوا وجهه إلى جهة اليمن فقام يهرول وكذا إلى جهة الشام فعل ذلك مرارا فأمر أبرهة أن يسقى الفيل الخمر ليذهب تمييزه فسقوه فثبت على أمره
ويقال إنما برك لأن نفيل بن حبيب الخثعمي قام إلى جنب الفيل فعرك أذنه وقال ابرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك
قال السهيلي رحمه الله الفيل لا يبرك فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله سبحانه ويحتمل أن يكون فعل البرك وهو الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك
قال وقد سمعت من يقول إن في الفيلة صنفا منها يبرك كما يبرك الجمل وعند ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الطير الأبابيل خرجت من البحر أمثال الخطاطيف ويقال إن حمام الحرم من نسل تلك الطير فأهلكتهم
وقد يقال إن هذا إشتباه لأن الذي قيل إنه من نسل الأبابيل إنما هو شيء يشبه الزرازير يكون بباب إبراهيم من الحرم وإلا فسيأتي أن حمام الحرم من نسل الحمام الذي عشش على فم الغار على ما سيأتي فيه وفي حياة الحيوان أن الطير الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض
ولما هلك صاحب الفيل وقومه عزت قريش وهابتهم الناس كلهم وقالوا أهل الله لأن الله معهم وفي لفظ لأن الله سبحانه وتعالى قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة وغنموا أموال أصحاب الفيل أي ومن حينئذ مزقت الحبشة كل ممزق وخرب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة فلم يعمرها أحد وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن واستمرت كذلك إلى زمن السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس
____________________


فذكر له أمرها فبعث إليها عامله على اليمن فخر بها وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب فحصل له منها مال عظيم وحينئذ عفا رسمها وانقطع خبرها واندرست آثارها
وقد كان عبدالمطلب أمر قريشا أن تخرج من مكة وتكون في رءوس الجبال خوفا عليهم من المعرة وخرج هو وإياهم إلى ذلك بعد أن أخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله سبحانه وتعالى ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال ** لاهم إن العبد يح ** ** مى رحله فامنع حلالك ** ** لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك **
أي فإنهم كانوا نصارى ولا هم أصله اللهم فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما يبقى وكذلك تقول لاه أبوك تريد لله أبوك والحلال بكسر الحاء المهملة جمع حلة وهي البيوت المجتمعة والمحال بكسر الميم القوة والشدة والغدو بالغين المعجمة أصله الغد وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه ويقال إن عبدالمطلب جمع قومه وعقد راية وعسكر بمنى
وجمع ابن ظفر بينه وبين ما تقدم من أنه خرج مع قومه إلى رءوس الجبال بأنه يحتمل أنه أمر أن تكون الذرية في رءوس الجبال أي وخرج معهم تأنيسا لهم ثم رجع وجمع إليه المقاتلة أي ويؤيد ذلك قول المواهب ثم إن أبرهة أمر رجلا من قومه يهزم الجيش فلما وصل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع إلى آخر ما تقدم فإسقاط المواهب كون قريش جيشت جيشا مع قومه ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش لا يحسن ثم ركب عبدالمطلب لما استبطأ مجىء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر فوجدهم قد هلكوا أي غالبهم وذهب غالب من بقى فاحتمل ما شاء من صفراء وبيضاء ثم آذن أي أعلم أهل مكة بهلاك القوم فخرجوا فانتبهوا
وفي كلام سبط ابن الجوزي وسبب غنى عثمان بن عفان أن أباه عفان وعبدالمطلب وأبا مسعود الثقفي لما هلك أبرهة وقومه كانوا أول من نزل مخيم الحبشة فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابه شيئا كثيرا ودفنوه عن قريش فكانوا أغنى قريش وأكثرهم مالا ولما مات عفان ورثه عثمان رضي الله تعالى عنه
أي ومن جملة من سلم من قوم أبرهة ولم يذهب بل بقى بمكة سائس الفيل وقائده
____________________


فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس
وأورد على هذا أن الحجاج خرب الكعبة بضرب المنجنيق ولم يصبه شيء
ويجاب بأن الحجاج لم يجيء لهدم الكعبة ولا لتخربها ولم يقصد ذلك وإنما قصد التضييق على عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ليسلم نفسه وهذا أولى من جواب المواهب كما لا يخفى والله أعلم
وكان مولده صلى الله عليه وسلم بمكة في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج أي وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار قاله الفاكهي أي فأدخلها في داره وسماها البيضاء أي لأنها بنيت بالجص ثم طليت به فكانت كلها بيضاء وصارت تعرف بدار ابن يوسف لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله تنزل في الدور قال هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور فإن هذا السياق يدل على أن عقيلا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده إلا أن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولده صلى الله عليه وسلم أي لأنه كما سيأتي في الفتح باع دار أبيه أبي طالب لأنه وطالبا أخاه ورثا أبا طالب لأنهما كانا كافرين عند موت أبي طالب دون جعفر وعلي رضي الله تعالى عنهما فإنهما كانا مسلمين وعقيل أسلم بعد دون طالب فإن طالبا اختطفته الجن ولم يعلم به وإن عقيلا باع دار رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي دار خديجة أي التي يقال لها مولد فاطمة رضي الله تعالى عنها وهي الآن مسجد يصلى فيه بناه معاوية رضي الله تعالى عنه أيام خلافته قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام أي واشتهر بمولد فاطمة رضي الله تعالى عنها لشرفها وإلا فهو مولد بقية إخوتها من خديجة ولعل معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل
ويدل لما قلناه قول بعضهم لم يتعرض صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل أي التي هي دار خديجة فإنه لم يزل بها صلى الله عليه وسلم حتى هاجر فأخذها عقيل
وفي كلام بعضهم لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ضرب مخيمه بالحجون
____________________


فقيل له ألا تنزل منزلك من الشعب فقال وهل ترك لنا عقيل منزلا وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة ومنزل كل من هاجر من بني هاشم
وفي كلام بعضهم كان عقيل تخلف عنهم في الإسلام والهجرة فإنه أسلم عام الحديبية التي هي السنة السادسة وباع دورهم فلم يرجع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها وهي أي تلك الدار التي ولد بها صلى الله عليه وسلم عند الصفا قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين لما حجت
وفي كلام ابن دحية أين الخيزران أم هرون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجدا ويجوز أن تكون زبيدة جددت ذلك المسجد الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما وسيأتي أن الخيزران بنت دار الأرقم مسجدا وهي عند الصفا أيضا ولعل الأمر التبس على بعض الرواة لأن كل منهما عند الصفا وقيل ولد صلى الله عليه وسلم في شعب بني هاشم
أقول قد يقال لا مخافة لأنه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم ثم رأيت التصريح بذلك ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب والله أعلم
قال وقيل ولد صلى الله عليه وسلم في الردم أي ردم بني جمح وهم بطن من قريش ونسب لبني جمح لأنه ردم على من قتلوا في الجاهلية من بني الحارث فقد وقع بين بني جمح وبين بني الحارث في الجاهلية مقتلة وكان الظفر فيهما لبني جمح على بني الحارث فقتلوا منهم جمعا كثيرا وردم على تلك القتلى بذلك المحل وقيل ولد بعسفان انتهى
أقول مما يرد القول بكونه ولد بعسفان ما ذكره بعض فقهائنا أن من جملة ما يجب على الولى أن يعلم موليه إذا ميز أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة ودفن بالمدينة إلا أن يقال ذاك بناء على ما هوالأصح عندهم والردم هو المحل الذي كانت ترى منه الكعبة قبل الآن ويقال له الآن المدعى لأنه يؤتى فيه بالدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم وقف به ولعله لم يكن مرتفعا في زمنه صلى الله
____________________

عليه وسلم لأنه إنما رفعه وبناه سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته لما جاء السيل العظيم الذي يقال له سيل أم نهشل وهي بنت عبيدة بن سعيد بن العاص فإنه أخذها وألقاها أسفل مكة فوجدت هناك ميتة ونقل المقام إلى أن ألقاه بأسفل مكة أيضا فجيء به وجعل عند الكعبة وكوتب عمر رضي الله عنه بذلك فحضر وهو فزع مرعوب ودخل مكة معتمرا فوجد محل المقام دثر وصار لا يعرف فهاله ذلك ثم قال أنشد الله عبدا عنده علم من محل هذا المقام فقال المطلب بن رفاعة رضي الله تعالى عنه أنا يا أمير المؤمنين عندي علم بذلك فقد كنت أخشى عليه مثل ذلك فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بحفاظ فقال له اجلس عندي وأرسل فارسل فجىء بذلك الحفاظ فقيس به ووضع المقام بمحله الآن وأحكم ذلك واستمر إلى الآن فعند ذلك بني هذا المحل الذي يقال له الردم بالصخرات العظيمة ورفعه فصار لا يعلوه السيل وصارت الكعبة تشاهد منه والآن قد حالت الأبنية فصارت لا ترى ومع ذلك لا بأس بالوقوف عنده والدعاء فيه تبركا بمن سلف ولعل هذا محمل قول من قال أول من نقل المقام إلى محله وكان ملصقا بالكعبة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلا ينافى أن الناقل له هو صلى الله عليه وسلم كما سيأتي لكن رأيت ابن كثير قال وقد كان هذا الحجر أي الذي هو المقام ملصقا بباب الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخره عنه لئلا يشغل المصلين عنده الطائفون بالبيت هذا كلامه
وقوله من قديم الزمان ظاهره من عهد إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فليتأمل
وعن كعب الأحبار إني أجد في التوراة عبدي أحمد المختار مولده بمكة أي وهو ظاهر في أن كعب الأحبار كان قبل الإسلام على دين اليهودية
وقال وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه عن أمه الشفاء أي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء وقيل بفتحها وتشديد الفاء مقصورا قالت لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي أي فهي دايته صلى الله عليه وسلم ووقع في كلام ابن دحية أن أم أيمن دايته صلى الله عليه وسلم
وقد يقال إطلاق الداية على أم أيمن لأنها قامت بخدمته صلى الله عليه وسلم ومن ثم قيل لها حاضنته وللشفاء قابلته
____________________


وقد قيل في اسم الوالدة والقابلة الأمن والشفاء وفي اسم الحاضنة البركة والنماء وفي اسم مرضعته أولا التي هي ثويبة الثواب وفي اسم مرضعته المستقلة برضاعه التي هي حليمة السعدية الحلم والسعد قالت أم عبدالرحمن فاستهل فسمعت قائلا يقول يرحمك الله تعالى أو رحمك ربك أي أو يرحمك ربك ولهذا القول الذي لا يقال إلا عند العطاس أي الذي هو التشميت بالشين المعجمة والمهملة حمل بعضهم الإستهلال الذي هو في المشهور صياح المولود أول ما يولد يقال استهل المولود إذا رفع صوته على العطاس مع الإعتراف بأنه لم يجيء في شيء من الأحاديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس انتهى أي فقد قال الحافظ السيوطي لم أقف في شيء من الأحاديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها أي وعطس بفتح الطاء يعطس بالكسر والضم وحكى الفتح ولعله من تداخل اللغتين لكن في الجامع الصغير إستهلال الصبي العطاس وحينئذ يكون إستهلال المولود له معنيان هما مجرد رفع الصوت والعطاس وحمل هنا على العطاس بقرينة الجواب الذي لا يقال إلا عند العطاس وقد أشار إلى التشميت صاحب الهمزية رحمه الله بقوله ** شمتته الأملاك إذ وضعته ** وشفتنا بقولها الشفاء **
أي قالت له الأملاك رحمك الله أو رحمك ربك وقت وضع أمه له وفرحتنا بقولها المذكور الشفا التي هي أم عبدالرحمن بن عوف
أقول قال بعضهم ولعله صلى الله عليه وسلم حمد الله بعد عطاسه لما استقر من شرعة الشريف أنه لا يسن التشميت إلا لمن حمد الله تعالى هذا كلامه ويدل لما ترجاه ما تقدم انه صلى الله عليه وسلم حين خروجه من بطن أمه قال الحمد لله كثيرا
وفي كلام بعض شراح الهمزية ويجوز أن يكون شمت من غير حمد تعظيما لقدره صلى الله عليه وسلم وقد جاء العاطس إن حمد الله تعالى فشمتوه وإن لم يحمد فلا تشمتوه وجاء إذا عطس فحمد الله تعالى فحق على كل من سمعه أن يشمته وفي الصحيح أن رجلا عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم وحمد الله فشمته وعطس آخر فلم يحمد الله فلم يشمته وفي حديث حسن إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإذا زاد على ثلاث فهو مزكوم فلا يشمت بعد ثلاث وتمسك بذلك أي بالأمر بالتشميت بصيغة افعل التي الأصل فيها الوجوب وبقوله حتى أهل الظاهر على وجوب التشميت على كل من سمع
____________________


وذهب بعض الأئمة إلى وجوبه على الكفاية وهو منقول عن مشهور مذهب مالك رضي الله تعالى عنه أي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ليس على إبليس أشد من تشميت العاطس
وعن سالم بن عبيدالله الأشجعي وكان من أهل الصفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس أحدكم فليحمد الله عز وجل وليقل من عنده يرحمك الله وليرد عليه بقوله يغفر الله لي ولكم
ومن لطيف ما اتفق أن الخليفة المنصور وشيء عنده ببعض عماله فلما حضر عنده عطس المنصور فلم يشمته ذلك العامل فقال له المنصور ما منعك من التشميت فقال إنك لم تحمد الله فقال حمدت في نفسي فقال قد شمتك في نفسي فقال له ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لا تحابى غيري
قال بعضهم والحكمة في قول العاطس ما ذكر أنه ربما كان العطاس سببا لإلتواء عنقه فيحمد الله على معافاته من ذلك وقال غيره لأن الأذى وهي الأبخرة المحتقنة تندفع به عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر أي فهو بحران الرأس كما أن العرق بحران بدن المريض وذلك نعمة جليلة وفائدة عظيمة ينبغي أن يحمد الله تعالى عليها أي ولأن الأطباء كما زعمه بعضه نصوا على أن العطاس من أنواع الصرع أعاذنا الله تعالى من الصرع وقد ينازع فيه ما تقدم وما ذكره بعض الأطباء أن العطاس للدماغ كالسعال للرئة
قال والعطاس أنفع الأشياء لتخفيف الرأس وهو مما يعين على نقص المواد المحتبسة ويسكن ثقل الرأس فيحصل منه النشاط والخفة
وفي نوادر الأصول للترمذي قال صلى الله عليه وسلم هذا جبريل يخبركم عن الله تعالى ما من مؤمن يعطس ثلاث عطسات متواليات إلا كان الإيمان في قلبه ثابتا
وفي الجامع الصغير إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب والعطسة الشديدة من الشيطان وفي الحديث العطاس شاهد عدل وفي حديث حسن أصدق الحديث ما عطس عنده
وقد جاء أن روح آدم عليه السلام لما نزلت إلى خياشيمه عطس فلما نزلت إلى فمه ولسانه قال الله تعالى له قل الحمد لله رب العالمين فقالها آدم عليه السلام فقال الحق
____________________

يرحمك الله يا آدم ولذلك خلقتك وفي رواية وللرحمة خلقتك أي للموت
وقد روى الترمذي مرفوعا بسند ضعيف العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان وروى ابن أبي شيبة موقوفا بسند ضعيف أيضا إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة أي فمع كون كل واحد من العطاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان العطاس فيها أحب إلى الله تعالى من التثاؤب فيها والتثاؤب فيها أكره إلى الله تعالى من العطاس فيها لأن الكراهة مقولة بالتشكيك
ويمكن حمل كون العطاس من الشيطان على شدته ورفع الصوت به كما تقدم التقييد بذلك من الرواية السابقة ومن ثم جاء إذا عطس أحدكم أي هم بالعطاس فليضع كفيه على وجهه وليخفض صوته أي ولا ينافى وجود الشفاء ووجود أم عثمان بن العاص عند أمه صلى الله عليه وسلم عند ولادته ما روى عنها أنها قالت لما أخذني ما يأخذ النساء أي عند الولادة وإني لوحيدة في المنزل رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي وفي كلام ابن المحدث ودخل على نساء طوال كأنهن من بنات عبدالمطلب ما رأيت أضوأ منهن وجوها وكأن واحدة من النساء تقدمت إلي فاستندت إليها وأخذني المخاض واشتد علي الطلق وكأن واحدة منهن تقدمت إلي وناولتني شربة من الماء أشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من الشهد فقالت لي اشربي فشربت ثم قالت الثالثة ازدادي فازددت ثم مسحت بيدها على بطني وقالت بسم الله اخرج بإذن الله تعالى فقلن لي أي تلك النسوة ونحن آسية أمرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين لجواز وجود الشفاء أم عثمان عندها بعد ذلك وتأخر خروجه صلى الله عليه وسلم عن القول المذكور حتى نزل على يد الشفاء لما تقدم من قولها وقع على يدي ولعل حكمة شهود آسية ومريم لولادته كونهما تصيران زوجتين له صلى الله عليه وسلم في الجنة مع كلثم أخت موسى
ففي الجامع الصغير إن الله تعالى زوجني في الجنة مريم بنت عمران وإمرأة فرعون وأخت موسى وسيأتى عند موت خديجة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها أشعرت أن الله تعالى قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله تعالى قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون فقالت ألله أعلمك بهذا قال نعم قالت بالرفاء والبنين وقد حمى الله هؤلاء النسوة عن أن يطأهن أحد
____________________


فقد ذكر أن آسية لما ذكرت لفرعون أحب أن يتزوجها فتزوجها على كره منها ومن أبيها مع بذله لها الأموال الجليلة فلما زفت له وهم بها أخذه الله عنها وكان ذلك حاله معها وكان قد رضى منها بالنظر إليها
وأما مريم فقيل إنها تزوجت بإبن عمها يوسف النجار ولم يقربها وإنما تزوجها ليرفقها إلى مصر لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عليه السلام وأقاموا بها إثنتي عشرة سنة ثم عادت مريم وولدها إلى الشام ونزلا الناصرة
وأخت موسى عليه الصلاة والسلام لم يذكر أنها تزوجت وهذا يفيد أن بنات عبد مناف أو بنات عبدالمطلب على ما تقدم كن متميزات عن غيرهن من النساء في إفراط الطول
وقد رأيت أن علي بن عبدالله بن عباس وهو جد الخليفتين السفاح والمنصور أول خلفاء بني العباس أبو أبيهما محمد كان مفرطا في الطور كان إذا طاف كان الناس حوله وهو راكب وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبدالله بن عباس وكان عبدالله أبن عباس إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب
لكن ابن الجوزي اقتصر في ذكر الطوال على عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وقيس بن سعد وحبيب بن سلمة وعلى بن عبدالله بن العباس وسكت عن عبدالله ابن عباس وعن أبيه العباس وعن أبيه عبد المطلب
وفي المواهب أن العباس كان معتدلا وقيل كان طوالا ورأيت أن عليا هذا جد الخلفاء العباسيين كان على غاية من العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل حتى قيل إنه كان أجمل شريف على وجه الأرض وكان يصلى في كل ليلة ألف ركعة ولذلك كان يدعى السجاد وأن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو الذي سماه عليا وكناه أبا الحسن
فقد روى أن عليا رضي الله تعالى عنه افتقد عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في وقت صلاة الظهر فقال لأصحابه ما بال أبي العباس يعني عبدالله لم يحضر فقالوا ولد له مولود فلما صلى علي كرم الله وجهه قال امضوا بنا إليه فأتاه فهنأه فقال شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب زاد بعضه ورزقت بره وبلغ أشده ما سميته قال أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فأمر به فأخرج إليه
____________________

فأخذه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال خذه إليك أبا الأملاك قد سميته عليا وكنيته أبا الحسن فلما ولى معاوية الخلافة قال لإبن عباس ليس لكم إسمه ولا كنيته يعنى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كراهة في ذلك وقد كنيته أبا محمد فجرت عليه
وقد يخالف ذلك ما ذكر بعضهم أن عليا المذكور لما قدم على عبدالملك بن مروان قال له غير إسمك او كنيتك فلا صبر لي على إسمك وهو على وكنيتك وهي أبو الحسن قال أما الإسم فلا أغيره وأما الكنية فأكتنى بأبي محمد وإنما قال عبدالملك ذلك كراهة في إسم علي بن أبي طالب وكنيته
وعلى هذا دخل هو وولدا ولده محمد وهما السفاح والمنصور وهما صغيران يوما على هشام بن عبدالملك بن مروان وهو خليفة فأكرمه هشام فصار يوصيه عليهما ويقول له سيليان هذا الأمر يعنى الخلافة فصار هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق ويقال إن الوليد بن عبدالملك أي لما ولى الخلافة وبلغه عنه أنه يقول ذلك ضربه بالسياط على قوله المذكور وأركبه بعيرا وجعل وجهه مما يلى ذنب البعير وصائح يصيح عليه هذا علي بن عبدالله بن عباس الكذاب قال بعضهم فأتيته وقلت له ما هذا الذي يسنده إليك من الكذب قال بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر يعنى الخلافة ستكون في ولدي والله لتكونن فيهم فكان الأمر على ما ذكر فقد ولى السفاح الخلافة ثم المنصور
وفي دلائل النبوة للبيهقي أن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قدم على معاوية رضي الله تعالى عنه فأجازه وأحسن جائزته ثم قال ياأبا العباس هل تكون لكم دولة قال أعفني يا أمير المؤمنين قال لتخبرني قال نعم قال فمن أنصاركم قال أهل خراسان أي وهو أبو مسلم الخراساني يجيء بجيشه معه رايات سود يسلب دولة بني أمية ويجعل الدولة لبني العباس يقال إن أبا مسلم هذا قتل ستمائة ألف رجل صبرا غير الذي قتله في الحروب وهذا الرايات السود غير التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي فإن تلك الرايات تأتى قبيل قيام الساعة ثم صارت الخلافة في أولاد المنصور وقول على في ولدي واضح لأن ولد الولد ولد
وقد حكى في مرآة الزمان عن المأمون أنه قال حدثني أبي يعنى هرون الرشيد
____________________

عن أبيه المهدي عن أبيه المنصور عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي عن أبيه عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيد القوم خادمهم وذكر أنه مما يؤثر عن المأمون أنه كان يقول استخدام الرجل ضيفه لؤم
وكان يقول لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلي بالجرائم وإني أخاف أني لا أوجر على العفو أي لأنه صار لي طبيعة وسجية
قالت أمه صلى الله عليه وسلم ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات علما بالمشرق وعلما بالمغرب وعلما على ظهر الكعبة والله أعلم
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت عليه جفنة بفتحح الجيم فانفلقت عنه فلقتين قال وهذا مما يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلا فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كان في عهد الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل وضعوه تحت الإناء لا ينظرون إليه حتى يصبحوا فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوه تحت برمة زاد في لفظ ضخمة والبرمة القدر فلما أصبحوا أتو البرمة فإذا هي قد انفلقت ثنتين وعيناه إلى السماء فتعجبوا من ذلك
وعن أمه أنها قالت فوضعت عليه الإناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب أي يسيل لبنا
أي وفي العرائس أن فرعون لما أمر بذبح أبناء بني إسرائيل جعلت المرأة أي بعض النساء كما لا يخفى إذا ولدت الغلام انطلقت به سرا إلى واد أو غار فأخفته فيه فيقبض الله سبحانه وتعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى يختلط بالناس وكان الذي أتى السامري لما جعلته أمه في غار من الملائكة جبريل عليه الصلاة والسلام فكان أي السامري يمص من إحدى إبهاميه سمنا ومن الأخرى عسلا ومن ثم إذا جاع المرضع يمص إبهامه فيروى من المص قد جعل الله له فيه رزقا والسامري هذا كان منافقا يظهر الإسلام لموسى عليه الصلاة والسلام ويخفى الكفر
وفي رواية أن عبدالمطلب هو الذي دفعه لنسوة ليضعوه تحت الإناء
أقول هذا هو الموافق لما سيأتي عن إبن إسحاق من أن أمه صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرسلت إلى جده أي وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها أي فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود له أمر عجيب فذعر عبدالمطلب وقال أليس بشرا
____________________

سويا فقالت نعم ولكن سقط ساجدا ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته له ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة ثم خرج فدفعه إليها وبه يظهر التوقف في قول ابن دريد أكفئت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده فجاء جده والجفنة قد أنفلقت عنه إلا أن يقال يجوز أن يكون جده أخذه بعد إنفلاق الجفنة ثم دخل به الكعبة ثم بعد خروجه به من الكعبة دفعه له وللنسوة ليضعوه تحت جفنة أخرى إلى أن يصبح فأنفلقت تلك الجفنة الأخرى حتى لا ينافى ذلك ما تقدم عن أمه فوجدت الإناء قد تفلق وهو يمص إبهامه
وعن إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء قال أذكر الليلة التي وضعت فيها وضعت أمي على رأسي جفنة وقال لأمه ما شيء سمعته لما ولدت قالت يا بني طست سقط من فوق الدار إلى أسفل ففزعت فولدتك تلك الساعة
وقال بعضهم يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل وإن إياسا منهم ولعل هذا هو المراد بما جاء في الحديث يبعث الله على رأس كل ما ئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها والمراد برأسها آخرها بأن يدرك أوائل المائة التي تليها بأن تنقضى تلك المائة وهو حي إلا أني لم أقف على أن إياسا هذا كان من المجددين والله أعلم
وفي تفسير ابن مخلد الذي قال في حقه ابن حزم ما صنف مثله أصلا أن إبليس رن أي صوت بحزن وكآبة أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وهو المراد بقول بعضهم يوم بعثه ورنة حين أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وإلى رنته حين ولادته صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الأصل بقوله ** لمولده قد رن إبليس رنة ** فسحقا له ماذا يفيد رنينه **
وعن عطاء الخراساني لما نزل قوله تعالى { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } صرخ إبليس صرخة عظيمة اجتمع إليه فيها جنوده من أقطار الأرض قائلين ما هذه الصرخة التي أفزعتنا قال أمر نزل بي لم ينزل قط أعظم منه قالوا وما هو فتلا عليهم الآية وقال لهم فهل عندكم من حيلة قالوا ما عندنا من حيلة فقال اطلبوا فإني سأطلب قال فلبثوا ما شاء الله ثم صرخ أخرى فاجتمعوا إليه وقالوا ما هذه الصرخة التي لم نسمع منك مثلها إلا التي قبلها قال هل وجدتم
____________________

شيئا قالوا لا قال لكني قد وجدت قالوا وما الذي وجدت قال أزين لهم البدع التي يتخذونها دينا ثم لا يستغفرون أي لأن صاحب البدعة يراها بجهله حقا وصوابا ولا يراها ذنبا حتى يستغفر الله منها
وقد جاء في الحديث أبي الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى بدع بدعته أي لا يثيبه على عمله ما دام متلبسا بتلك البدعة
وعن الحسن قال بلغني أن إبليس قال سولت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقطعوا ظهرى بالإستغفار فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء أي البدع
وقد جاء في الحديث أخاف على أمتي بعدي ثلاثا ضلالة الأهواء الحديث أهل الأهواء هم أهل البدع
وعن عكرمة أن إبليس لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى تساقط النجوم قال أي لجنوده لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا وهذا يدل على أن تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له جنوده لو ذهبت إليه فخبلته فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الله جبريل عليه الصلاة والسلام فركضه برجله ركضة وقع بعدن وكون تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم مشكل مع قول بعضهم لما رجمت الشياطين ومنعت من مقاعدها في السماء لإستراق السمع شكوا ذلك لإبليس فقال لهم هذا أمر حدث في الأرض وأمرهم أن يأتوه بتربة من كل أرض فصر يشمها إلى أن أتى بتربة من أرض تهامة فلما شمها قال من ههنا الحدث هكذا ساقه بعضهم عند ولادته صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال لا إشكال لأن تساقط النجوم وإن كان علامة وجود نبينا صلى الله عليه وسلم لكن في أي أرض على أن بعضهم أنكر كون ما ذكر كان عند الولادة وقد تقدم أن المذكور في كلام غيره إنما هو عند مبعثه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ولعله من خلط بعض الرواة
وعبارة بعضهم روى أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ثم تجاوز سماء الدنيا إلى غيرها فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من مجاوزة سماء الدنيا وصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا حتى ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمنعوا من التردد
____________________

إلى السماء إلا قليلا أي فصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا في بعض الأحايين وفي أكثر الأحايين يسترقون دونها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فمنعوا أصلا فصاروا لا يسترقون السمع إلا دون سماء الدنيا ثم رأيتني نقلت في الكوكب المنير في مولد البشير النذير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها مما سيقع في الأرض فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام حجبوا عن ثلاث سموات وعن وهب عن أربع سموات ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبوا عن الكل وحرست بالشهب فما يريد أحد منهم إستراق السمع إلا رمى بشهاب وسيأتي عند المبعث إيضاح هذا المحل
وقد أخبرت الأحبار والرهبان بليلة ولادته صلى الله عليه وسلم فعن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال إني لغلام يفعة أي غلام مرتفع ابن سبع سنين أو ثمان أعقل ما رأيت وسمعت إذ بيهودي بيثرب يصيح ذات يوم غداة على أطمة أي محل مرتفع يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع وقالوا ويلك مالك قال طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة أي الذي طلوعه علامة على ولادته صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة في بعض الكتب القديمة وحسان هذا سيأتي أنه ممن عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثلها وكذا عاش هذا القدر وهو مائة وعشرون سنة أبوه وجده ووالد جده قال بعضهم ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم سواهم وكان حسان رضي الله عنه يضرب بلسانه أرنبة أنفه وكذا إبنه وأبوه وجده
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه رأيت في التوراة أن الله تعالى أخبر موسى عن وقت خروج محمد صلى الله عليه وسلم أي من بطن أمه وموسى عليه الصلاة والسلام أخبر قومه أن الكوكب المعروف عندكم إسمه كذا إذا تحرك وسار عن موضعه فهو وقت خروج محمد صلى الله عليه وسلم أي وصار ذلك مما يتوارثه العلماء من بني إسرائيل
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان يهودي يسكن مكة فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش هل ولد فيكم الليلة مولود فقال القوم والله ما نعلمه قال احفظوا ما أقول لكم ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة أي وهو منكم يا معاشر قريش على كتفه أي عند كتفه
____________________

علامة أي شامة فيها شعرات متواترات أي متتابعات كأنهن عرف فرس أي وتلك العلامة هي خاتم النبوة أي علامتها والدليل عليها لا يرضع لليلتين وذلك في الكتب القديمة من دلائل نبوته أي وعدم رضاعه لعله لتوعك يصيبه وفي كلام الحافظ ابن حجر وأقره تعليلا لعدم رضاعه لأن عفريتا من الجن وضع يده على فيه
وعند قول اليهودي ما ذكر تفرق القوم من مجالسهم وهو متعجبون من قوله فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم آله وفي لفظ أهله فقالوا لقد ولد الليلة لعبدالله بن عبدالمطلب غلام سموه محمد فالتقى القوم حتى جاءوا لليهودي وأخبروه الخبر أي قالوا له أعلمت ولد فينا مولود قال اذهبوا معي حتى أنظر إليه فخرجوا حتى أدخلوه على أمه فقال أخرجي إلينا إبنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فخر مغشيا عليه فلما أفاق قالوا ويلك مالك قال والله ذهبت النبوة من بني إسرائيل أفرحتم به يا معشر قريش أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب
أي وعن الواقدي رحمه الله أنه كان بمكة يهودي يقال له يوسف لما كان اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم به أحد من قريش قال يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة الليلة في بحرتكم أي ناحيتكم هذه وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له قد ولد لإبن عبدالمطلب أي لعبدالله غلام فقال هو نبي والتوراة
وكان بمر الظهران راهب من أهل الشام يدعى عيصا وقد كان آتاه الله علما كثيرا وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة فيلقى الناس ويقول يوشك أي يقرب أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب أي تذل وتخضع ويملك العجم أي أرضها وبلادها هذا زمانه فمن أدركه أي أدرك بعثه واتبعه أصحاب حاجته أي ما يؤمله من الخير ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته فكان لا يولد بمكة مولود إلا ويسأل عنه ويقول ما جاء بعد أي الآن فلما كان صبيحة اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبدالمطلب حتى أتى عيصا فوقف على أصل صومعته فناداه فقال من هذا فقال عبدالمطلب أي وقيل الجائي له عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على أنه لم يمت وأمه حامل به أي ولعل قائله أخذ ذلك من قول الراهب
____________________

لما قيل له ما ترى عليه أي على ذلك المولود فقال كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه وأن نجمه أي الذي طلوعه علامة على وجوده طلع البارحة وعلامة ذلك أي أيضا أنه الآن وجع فيشتكي ثلاثا ثم يعافى
أقول أي ولا يرضع في تلك الثلاث ليلتين فلا يخالف ما سبق من قول الآخر لا يرضع ليلتين ولا دلالة في قوله كن أباه على أن الجائي للراهب عبدالله لأن عبدالمطلب كان يقال له أبو النبي صلى الله عليه وسلم ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عبدالمطلب وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا ابن عبدالمطلب كما تقدم والله أعلم ثم قال له فاحفظ لسانك أي لا تذكر ما قلته لك لأحد من قومك فإنه لم يحسد حسده أحد ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه قال فما عمره قال إن طال عمره لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها في إحدى وستين أو ثلاث وستين زاد في رواية وذلك جل أعمار أمته
وعند ولادته صلى الله عليه وسلم تنكست الأصنام أي أصنام الدنيا وتقدم أيضا أنها تنكست عند الحمل به وتقدم أنه لا مانع من تعدد ذلك
وجاء أن عيسى عليه السلام لما وضعته أمه خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجدا لوجهه وفزع إبليس
فعن وهب بن منبه لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رءوسهم وكلما ردوها على قوائمها انقلبت فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب فشكت إلى إبليس فطاف إبليس في الأرض ثم عاد إليهم فقال رأيت مولودا والملائكة قد حفت به فلم أستطع أن أدنوا إليه وما كان نبي قبله أشد على وعليكم منه وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي به
أقول قد علمت أن تنكيس الأصنام تكرر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند الحمل وعند الولادة فالحاص به ما كان عند الحمل لا ما كان عند الولادة لمشاركة عيسى عليه السلام في ذلك وبهذا يعلم ما في قول الجلال السيوطي في خصائصه الصغرى إن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تنكيس الأصنام لمولده
وعن عبدالمطلب قال كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت من أماكنها وخرت
____________________

سجدا وسمعت صوتا من جدار الكعبة يقول ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار ويطهر من عبادة الأصنام ويأمر بعبادة الملك العلام
ولا يقال قال إبليس في حق عيسى عليه السلام لا استطيع أن أدنو إليه وتقدم في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبليس دنا منه فركضه جبريل عليه السلام لأنا نقول يجوز أن يكون الدنو في حق نبينا صلى الله عليه وسلم دنوا إلى محله الذي هو فيه لا إلى جسده والدنو المنفى في حق عيسى عليه السلام دنو إلى جسده
فإن قيل جاء في الحديث ما من مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وإبنها رواه الشيخان أي لقول أم مريم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } وفي رواية كل ابن آدم يطعن الشيطان في حنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن الحجاب وهي المشيمة التي يكون فيها الولد ولعل المراد بجنبه جنبه الأيسر
وعن قتادة كل مولود يمسه الشيطان بأصبعه في جنبه فيستهل صارخا إلا عيسى ابن مريم وأمه مريم ضرب الله عليهما حجابا فأصابت الطعنة الحجاب فلم ينفذ إليهما منه شيء ولعل هذا الحجاب هو المشيمة ويحتمل أن يكون غيرها
قلت وجاء عن مجاهد أن مثل عيسى في عدم طعن الشيطان في جسده حين يولد سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لا يقال من قبل الرأي وعلى تقدير صحة ذلك يكون تخصيص عيسى وأمه بالذكر كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم بأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كعيسى وأمه
وهذا الكلام يرد بيان القاضي عياض للضرر المنفى في قوله صلى الله عليه وسلم من قال إذا أراد أن يأتي أهله بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قدر بينهما في ذلك الوقت ولد من ذلك الجماع لم يضره الشيطان أبدا بأن المراد أنه لا يطعن فيه عند ولادته بخلاف غيره وهذا أي عدم قربه من نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون في حق خصوص إبليس فلا ينافى ما تقدم عن الحافظ ابن حجر أن عدم إرتضاعه صلى الله عليه وسلم في ليلتين بوضع عفريت من الجن يده في فيه على تسليم صحته
وصاحب الكشاف أخرج المس ومثله الطعن عن حقيقته وقال المراد به طمع الشيطان
____________________

إغوائه وتبعه القاضي على ذلك وسيأتي في شق صدره صلى الله عليه وسلم كلام يتعلق بذلك
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي أعلم أنه لابد لجميع بني آدم من العقوبة والألم شيئا بعد شيء إلى دخولهم الجنة لأنه إذا نقل إلى البرزخ فلا بد له من الألم أدناه سؤال منكر ونكير فإذا بعث فلابد له من ألم الخوف على نفسه أو غيره وأول الألم في الدنيا إستهلال المولود حين ولادته صارخا لما يجده من مفارقة الرحم وسخونته فيضربه الهواء عند خروجه من الرحم فيحسن بألم البرد فيبكى فإن مات فقد أخذ حظه من البلاء وقال بعد ذلك في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام والسلام علي يوم ولدت معناه السلامة من إبليس الموكل بطعن الأطفال عند الولادة حين يصرخ الولد إذا خرج من طعنته فلم يصرخ عيسى عليه السلام بل وقع ساجدا لله حين خرج فليتأمل هذا مع قوله إن إستهلال المولود وصراخه حين يولد لحسه ألم البرد الذي يجده بعد مفارقة سخونة الرحم وقوله بل وقع ساجدا يدل على أن سجود نبينا صلى الله عليه وسلم حين ولد ليس من خصائصه والله أعلم
وذكر أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وعبدالله ابن جحش كانوا يجتمعون إلى صنم فدخلوا عليه ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوه منكسا على وجهه فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب انقلابا عنيفا فردوه فانقلب كذلك الثالثة فقالو إن هذا الأمر حدث ثم أنشد بعضهم أبياتا يخاطب بها الصنم ويتعجب من أمره ويسأله فيها عن سبب تنكسه فسمع هاتفا من جوف الصنم بصوت جهير أي مرتفع يقول ** تردى لمولود أضاءت بنوره ** جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب ** الأبيات
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتوالت بشرى الهواتف أن قد ** ولد المصطفى وحق الهناء **
أي تتابعت بشارة الهواتف جمع هاتف وهو ما يسمع صوته ولا يرى شخصه بأن قد ولد المصطفى المختار على الخلق كلهم وثبت لهم الفرح والسرور
وليلة ولادته صلى الله عليه وسلم تزلزلت الكعبة ولم تسكن ثلاثة أيام ولياليهن
____________________

وكان ذلك أول علامة رأت قريش من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وارتجس أي اضطرب وانشق إيوان كسرى أنو شروان ومعنى أنوشروان مجدد الملك أي وكان بناء محكما مبنيا بالحجارة الكبار والجص بحيث لا تعمل فيه الفؤوس مكث في بنائه نيفا وعشرين سنة أي وسمع لشقه صوت هائل وسقط من ذلك الإيوان أربع عشرة شرفة بضم الشين المعجمة وسكون الراء أي وليس ذلك الخلل في بنائه وإنما أراد الله تعالى أن يكون ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم باقية على وجه الأرض
أي وقد ذكر أن الرشيد أمر وزيره يحيى بن خالد البرمكي أي والد جعفر والفضل بهدم إيوان كسرى فقال له يحيى لا تهدم بناء دل على فخامة شأن بانيه قال بلى يا مجوسي ثم أمر بنقضه فقدر له نفقة على هدمه فاستكثرها الرشيد فقال له يحيى ليس يحسن بك أن تعجز عن هدم شيء بناه غيرك
هذا والذي رأيته في بعض المجاميع أن المنصور لما بنى بغداد أحب أن ينقض إيوان كسرى فإن بينه وبينها مرحلة ويبنى به فاستشار خالد بن برمك فنهاه وقال هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزول أمره وهو مصلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والمئونة في نقضه أكثر من الإنفاق عليه ولا مانع من تكرر طلب نقضه من المنصور ومن ولد ولده الرشيد
وإنما قال الرشيد ليحيى بن خالد يا مجوسي لأن جده والد خالد البرمكي وهو برمك كان من خراسان وكان أولا مجوسيا ثم أسلم وكان كاتبا عارفا محصلا لعلوم كثيرة جاء إلى الشام في دولة بني أمية فاتصل بعبدالملك بن مروان فحسن موقعه عنده وعلا قدره ثم لما أن زالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس صار وزيرا للسفاح ثم لأخيه المنصور من بني العباس ورأيت عن برمك هذا حكاية عجيبة وهي أنه سار إلى زيارة ملك الهند فأكرمه وأنس به وأحضر له طعاما وقال كل فأكلت حتى انتهيت فقال لي كل فقلت لا أقدر والله أيها الملك فأمر بإحضار قضيب فأخذه الملك وأمر به على صدري فكأني لم آكل شيئا قط ثم أكلت أكلا كثيرا حتى أنتهيت فقال لي كل فقلت لا والله لا أقدر أيها الملك فأمر بالقضيب على صدري فكأني لم آكل شيئا قط فأكلت حتى أنتهيت فقال لي كل فقلت والله ما أقدر على ذلك فأراد أن يمر بالقضيب على صدري فقلت أيها الملك إن الذي دخل يحتاج إلى أن يخرج فقال
____________________

صدقت وأمسك عني فسألته عن القضيب فقال تحفة من تحف الملوك
ومما يحفظ عن يحيى بن خالد هذا زيادة على ما تقدم عنه إذا أحببت إنسانا من غير سبب فارج خيره وإذا أبغضت إنسانا من غير سبب فتوق شره
ومما يحفظ عنه أيضا وقد قال له ولده وأظنه الفضل وقد كان معه مقيدا في حبس الرشيد بعد قتله لولده جعفر وصلبه ونهبه أموال البرامكة ومن يلوذ بهم يا أبت بعد العز ونفوذ الكلمة صرنا إلى هذه الحالة فقال يا ولدي دعوة مظلوم سرت ليلا غفلنا عنها وما غفل الله عنها أي فقد قال أبو الدرداء إياكم ودمعة اليتيم ودعوة المظلوم فإنها تسرى بالليل والناس نيام
أي ولأن الله تعالى يقول أنا أظلم الظالمين إن غفلت عن ظلم الظالم وقد قال صلى الله عليه وسلم إتق دعوة المظللوم فإنما يسأل الله حقه وإن الله تعالى لن يمنع ذا حق حقه وجاء إتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب وجاء اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين والمراد بالغمام الغمام الأبيض الذي فوق السماء السابعة المعنى بقوله تعالى { ويوم تشقق السماء بالغمام } أي لا تقوى على حمله إذا سقط ونصر دعوة المظلوم إستجابتها ولو بعد زمن طويل فهو سبحانه وتعالى وإن أمهل الظالم لا يهمله وجاء أتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة أي تصعد إلى السماء السابعة فما فوقها وجاء اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب
وقد قال القائل ** تنام عيناك والمظلوم منتبه ** يدعو عليك وعين الله لم تنم **
ومماقيل في يحيى بن خالد هذا من المدح البليغ ** سألت الندى هل أنت حر فقال لا ** ولكنني عبد ليحيى بن خالد ** ** فقلت شراء قال لا بل وراثة ** توارثني من والد بعد والد **
ومما يحفظ عن والده خالد التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمولود ومما يحفظ عن جعفر ولد يحيى قوله شر المال ما لزمك الإثم في كسبه وحرمت الأجر في إنفاقه وقوله المسيء لا يظن في الناس إلا سوءا لأنه يراهم بعين طبعه ومما قيل في جعفر من المدح قول الشاعر
____________________

** تروم الملوك ندى جعفر ** ولا يصنعون كما يصنع ** ** وليس بأوسعهم في الغنى ** ولكن معروفه أوسع **
وخمدت نار فارس أي مع إيقاد خدامها لها أي كتب له صاحب فارس إن بيوت النار خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت أي غارت بحيرة ساوة أي بحيث صارت يابسة كأن لم يكن بها شيء من الماء مع شدة إتساعها أي كتب له بذلك عامله باليمن وإلى هذا يشير صاحب الأصل بقوله ** لمولده إيوان كسرى تشققت ** مبانيه وانحطت عليه شؤونه ** ** لمولده خرت على شرفاته ** فلا شرف للفرس يبقى حصينه ** ** لمولده نيران فارس أخمدت ** فنورهم إخماده كان حينه ** ** لمولده غاضت بحيرة ساوة ** وأعقب ذاك المد جور يشينه ** ** كأن لم يكن بالأمس ريا لناهل ** وورد العين المستهام معينه **
وإلى ذلك أيضا يشير صاحب الهمزية رحمه الله بقوله ** وتداعى إيوان كسرى ولولا ** آية منك ما تداعى البناء ** ** وغدا كل بيت نار وفيه ** كربة من خمودها وبلاء ** ** وعيون للفرس غارت فهل كا ** ن لنيرانهم بها إطفاء **
أي ومن العجائب التي ظهرت ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم إنهدام إيوان كسرى أنوشروان الذي كان يجلس به مع أرباب مملكته وكان من أعاجيب الدنيا سعة وبناء وإحكاما ولولا وجود علامة صادرة عنك إلى الوجود ما تهدم هذا البناء العجيب الإحكام
ومن ذلك أيضا أنه صار تلك الليلة كل واحد من بيوت نار فارس التي كانوا يعبدونها خامدة نيرانه والحال أن في ذلك البيت غما وبلاء عظيما من أجل سكون لهب تلك النيران التي كانوا يعبدونها في وقت واحد
ومن ذلك أيضا غور ماء عيون الفرس في الأرض حتى لم يبق منها قطرة وحينئذ يستفهم توبيخا وتقريعا لهم فيقال هل تلك المياه التي غارت كان بها إطفاء لتلك النيران ويقال في جوابه لا بل إطفاؤها إنما هو لوجود هذا النبي العظيم وظهوره
ورأى الموبذان أي القاضي الكبير وفي كلام ابن المحدث هو خادم النار الكبير
____________________

ورئيس حكامهم وعنه يأخذون مسائل شرائعهم ورأى في نومه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا أي وهي خلاف البراذين قد قطعت دجلة أي وهي نهر بغداد وانتشرت في بلادها أي والإبل كناية عن الناس ورأى كسرى ما هاله وأفزعه أي الذي هو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته فلما أصبح تصبر أي لم يظهر الإنزعاج لهذا الأمر الذي رآه تشجعا ثم رأى أنه لا يدخر ذلك أي هذا الأمر الذي هاله وأفزعه عن مرازبته بضم الزاي أي فرسانه وشجعانه فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيما بعثت إليكم قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران أي وورد عليه كتاب من صاحب إيليا يخيره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة وورد عليه كتاب صاحب الشام يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة وورد عليه كتاب صاحب طبربة يخبره أن الماء لم يجر في بحيرة طبرية فازداد غما إلى غمه ثم أخبرهم بما رأى وما هاله أي وهو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته فقال الموبذان فأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان قال حدث يكون في ناحية العرب فابعث إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان
فكتب كسرى عند ذلك من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه إلى برجل علم بما أريد أن أسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح الغساني أي وهو معدود من المعمرين عاش مائة وخمسين سنة فلما ورد عليه قال ألك علم بما أريد أن أسألك عنه قال ليسألني الملك عما أحب فإن كان عندي علم منه وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بالذي وجه إليه فيه قال علم ذلك عند خالي يسكن مشارف الشام بالفاء أي أعاليها أي وهي الجابية المدينة المعروفة يقال له سطيح قال فأته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى أي أشرف على الضريح أي الموت أي احتضر وعمره إذ ذاك ثلثمائة سنة وقيل سبعمائة سنة أي ولم يذكره ابن الجوزي في المعمرين وكان جسدا ملقا لا جوارح له وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب فإنه ينتفخ فيجلس وكان وجهه في صدره لم يكن له رأس ولا عنق وفي كلام غير واحد لم يكن له عظم سوى عظم رأسه
____________________

وفي لفظ لم يكن له عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين ولم يتحرك منه إلا اللسان قيل لكونه مخلوقا من ماء امرأة لأن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب أي كما سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله نطفة الرجل يخلق منها العظم والعصب ونطفة المرأة يخلق منها اللحم والدم قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما سأله اليهود فقالوا له ممن يخلق الولد فلما قال لهم ما ذكر قالوا له هكذا كان يقول من قبلك أي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام على تسليم أنه خلق من نطفة وهي نطفة أمه كان فيه العظم والعصب
وقد قيل تمثل لها الملك في صفة شاب أمرد حتى انحدرت شهوتها إلى أقصى رحمها وقيل لم يخلق من نطفة أصلا وقد صرح بالأول الشيخ محيى الدين بن العربي رحمه الله حيث قال أنكر الطبيعيون وجود ولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر وذلك مردود عليهم بعيسى عليه السلام فإنه خلق من ماء أمه فقط وذلك أن الملك لما تمثل لها بشرا سويا لشدة اللذة بالنظر إليه فنزل الماء منها إلى الرحم فتكون عيسى عليه السلام من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها فهو من ماء أمه فقط هذا كلامه
أي وكون سطيح كان وجهه في صدره لم يختص سطيح بهذا الوصف فقد رأيت أن عمرا ذا الأذعار إنما قيل له ذلك لأنه سبى أمة وجوهها في صدورها فذعرت الناس منهم وعمرو هذا كان في زمن سليمان بن داود عليها السلام وقيل قبله بقليل وملكت بعده بلقيس بعد قتلها له
وكان لسطيح سرير من الجريد والخوص إذا أريد نقله إلى مكان يطوى من رجليه إلى ترقوته وفي لفظ إلى جمجته كما يطوى الثوب فيوضع على ذلك السرير فيذهب إلى حيث يشاء وإذا أريد إستخباره ليخبر عن المغيبات يحرك كما يحرك وطب المخيض أي سقاء اللبن الذي يخض ليخرج زبده فينتفخ ويمتلئ ويعلوه النفس فيسأل فيخبر عما يسأل عنه وكانت جمجمته إذا لمست أثر اللمس فيها للينها
قيل وهو أول كاهن كان في العرب وهذا يدل على أنه سابق على شق وقد تقدم في حفر زمزم أن الكاهنة التي ذهب إليها عبدالمطلب وقريش ليتحاكموا عندها تفلت في فم سطيح وفم شق وذكرت أن سطيحا يخلفها ومن ثم قال بعضهم لم يكن أحد أشرف في الكهانة ولاأعلم بها ولا أبعد فيها صيتا من سطيح وكان في غسان
____________________


وذكر بعضهم أن سطيحا كان في زمن نزار بن معد بن عدنان وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وإخوته وهو يؤيد ما تقدم من أنه عمر سبعمائة سنة ثم شق وعبدالمسيح وهؤلاء كانوا رءوس الكهنة وأهل العلم الغامض منهم بالكهانة أي وإلا فمنهم أي من أهل العلم الغامض مسيلمة الكذاب في بني حنيفة وسجاح كانت في بني تميم وسجاح أخرى كانت في بني سعد والكهانة هي الإخبار عن الغيب والكهانة من خواص النفس الإنسانية لأن لها إستعداد للإنسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها
فسلم عبدالمسيح على سطيح وكلمه فلم يرد عليه سطيح جوابا فأنشأ عبدالمسيح يقول أصم أم يسمع غطريف اليمن أي سيدهم إلى آخر أبيات ذكرها فلما سمع سطيح شعر عبد المسيح رفع رأسه
أقول قد يقال لامنافاة بين إثبات الرأس هنا ونفيه في قوله ولم يكن له رأس لأنه يجوز أن يكون المراد بالرأس المثبت الوجه لكن قد تقدم أنه لم يكن له عظم سوى ما في رأسه أو الجمجمة ففي ذلك إثبات الرأس
وقد يقال لما كان رأسه وتلك الجمجمة يؤثر فيها اللمس للينهما لمخالفتهما لرأس غيره ساغ إثبات الرأس له ونفيه عنه والله أعلم وعند رفع رأسه قال عبدالمسيح على جمل مشيح أي سريع إلى سطيح وقد وافى على الضريح أي القبر والمراد به الموت كما تقدم بعثك ملك ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبدالمسيح إذا كثرت التلاوة أي تلاوة القرآن وظهر صاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليست بابل للفرس مقاما ولا الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه أي مات من ساعته
والهراوة بكسر الهاء وهي العصا الضخمة أي وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يمسك العصا كثيرا عند مشيه وكان يمشي بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها التي هي العنزة وفي الحديث حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء وفي الحديث من بلغ أربعين سنة ولم يأخذه العصا عدله أي عدم أخذ العصا من الكبر والعجب
____________________


وقد يقال مراد سطيح بالعصا العنزة التي تغرز ويصلى إليها في غير المسجد لأنه لم يحفظ أن ذلك كان لمن قبله من الأنبياء
وذكر الطبري أن أبرويز بن هرمز جاء له جاء في المنام فقيل له سلم ما في يدك إلى صاحب الهراوة فلم يزل مذعورا من ذلك حتى كتب إليه النعمان بظهور النبي صلى الله عليه وسلم بتهامة فعلم أن الأمر سيصير إليه
وعند موت سطيح نهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول شعرا منه ** شمر فإنك ماض العزم شمير ** ولايغرنك تفريق وتغيير ** ** والناس أولاد علات فمن علموا ** أن قد أقل فمحقور ومهجور ** ** وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور ** ** والخير والشر مقرونان في قرن ** فالخير متبع والشر محذور **
فلما قدم عبدالمسيح على كسرى وأخبره بما قاله سطيح قال له كسرى إلى أن يملك منا أربعة عشرة ملكا كانت أمور وأمور فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه أي فقد ذكر أن آخر من هلك منهم كان في أول خلافة عثمان رضي الله عنه
أي وكانت مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وأربعا وستين سنة
ومن ملوك بني ساسان سابورد والأكتاف قيل له ذلك لأنه كان يخلع أكتاف من ظفر به من العرب ولما جاء لمنازل بني تميم وجدهم فروا منه ومن جيشه ووجد بها عمير بن تميم وهو ابن ثلثمائة سنة وكان معلقا في قفة لعدم قدرته على الجلوس فأخذ وجئ به إليه فاستنطقه فوجد عنده أدبا ومعرفة فقال للملك أيها الملك لم تفعل فعلك هذا بالعرب فقال يزعمون أن ملكنا يصير إليهم على يد نبي يبعث في آخر الزمان فقال له عمير فأين حلم الملوك وعقلهم إن يكن هذا الأمر باطلا فلن يضرك وإن يكن حقا ألفوك ولم تتخذ عندهم يدا يكافئونك عليها ويعظمونك بها في دولتك فانصرف سابور وترك تعرضه للعرب وأحسن إليهم بعد ذلك
وقول سطيح يملك منهم ملوك وملكات لم أقف على أنه ملك منهم من النساء إلا واحدة وهي بوران ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال لا يفلح قوم ملكتهم إمرأة فملكت سنة ثم هلكت
____________________


وذكر ابن إسحاق رحمه الله أن أمه صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرسلت خلف جده عبدالمطلب إنه قد ولد لك غلام فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأته فأخذه عبدالمطلب ودخل به الكعبة أي وقام يدعو الله أي وأهله يؤمنون ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها وقد تقدم الوعد بذلك وتقدم ما فيه
قال وتكلم صلى الله عليه وسلم في المهد في أوائل ولادته وأول كلام تكلم به أن قال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا
أقول وتقدم أنه قال حين ولد جلال ربي الرفيع كما أورده السهيلي عن الواقدي وأنه روى أنه تكلم حين خروجه من بطن أمه فقال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
ولا مانع من تكرر ذلك حين خروجه وحين وضعه في المهد وأنه زاد في المرة الثالثة وسبحان الله بكرة وأصيلا وحينئذ يكون تكلمه حين خروجه من بطن أمه لم يشاركه فيه غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا الخليل وإلا نوح كما سيأتي بخلاف تكلمه في المهد
على أنه سيأتي أنه يجوز أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام ويقال إنه قال ذلك عند فطامه وتقدم أنه قال الحمد لله لما عطس على الإحتمال الذي أبداه بعضهم كما تقدم بما فيه
ولا مانع من وجود هذه الأمور الثلاثة التي هي جلال ربي الرفيع والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا حين ولادته وعلم ترتيبها يتوقف على نقل وحينئذ تكون الأولية في الواقعة في بعض ذلك إما حقيقية أو إضافية
وقدمنا أن الأولية في قوله جلال ربي الرفيع بالنسبة لقوله الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا إضافية
قال وقد تكلم جماعة في المهد نظمهم الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في قوله ** تكلم في المهد النبي محمد ** ويحيى وعيسى والخليل ومريم ** ** ومبرى جريج ثم شاهد يوسف ** وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم ** ** وطفل عليه مر بالأمة التي ** يقال لها تزنى ولا تتكلم ** ** وماشطة في عهد فرعون طفلها ** وفي زمن الهادي المبارك يختم **
____________________


قال بعضهم لكن هو صلى الله عليه وسلم حصر من تكلم في المهد في ثلاثة ولم يذكر نفسه أي فقد روى عن أبي هريرة مرفوعا لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى وصاحب جريج وابن المرأة التي مر عليها بإمرأة يقال لها إنها زنت وقد يقال هذا الحصر إضافي أي ثلاثة من بني إسرائيل أو أن ذلك كان قبل أن يعلم مما زاد
وذكر أن عيسى عليه الصلاة والسلام تكلم في المهد وهو ابن ليلة وقيل وهو ابن أربعين يوما أشار بسبابته وقال بصوت رفيع إني عبدالله لما مر بنو إسرائيل على مريم عليها السلام وهي حاملة له صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليها ذلك وأشارت إليهم أن كلموه وضربوا بأيديهم على وجوههم تعجبا وقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال لهم ما قصه الله سبحانه وتعالى ثم رأيتني في الكلام على قصة الإسراء والمعراج ذكر ذلك وأن عيسى تكلم يوم ولادته قال لإبن خال أمه يوسف النجار وقد خرج في طلب أمه وقد خرجت لما أخذها ما يأخذ النساء من الطلق عند الولادة خارج بيت المقدس وجلست تحت نخلة يابسة فاخضرت النخلة من ساعتها وتدلت عراجينها وجرت من تحتها عين ماء ووضعته تحتها أبشر يا يوسف وطب نفسا وقر عينا فقد أخرجني ربي من ظلمة الأرحام إلى ضوء الدنيا وسآتي بني إسرائيل وأدعوهم إلى طاعة الله فانصرف يوسف إلى زكريا عليه الصلاة والسلام وأخبره بولادة مريم وقول ولدها ما ذكر صلى الله عليه وسلم
وفي النطق المفهوم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كلم يوسف المذكور وهو في بطن أمه
فقد قيل إنه أول من علم بحمل مريم عليها السلام فقال لها مقرعا لها يا مريم هل تنبت الأرض زرعها من غير بذر وهل يكون ولد من غير فحل فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام وهو في بطن أمه قم فانطلق إلى صلاتك واستغفر الله مما وقع في قلبك
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام تكلم في المهد ثلاث مرات ثم لم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان عادة أي ولعل المرة الثالثة هي التي حمد الله فيها بحمد لم تسمع الأذان مثله فقال اللهم أنت القريب في علوك المتعالي في دنوك الرفيع على كل شيء من خلقك حارت الأبصار دون النظر إليك
____________________


ومبرى جريج تكلم كذلك أي في بطن أمه قيل له من أبوك فقال الراعي عبد بني فلان وتكلم بعد خروجه من بطن أمه فقد تكلم مرتين مرة في بطن أمه ومرة وهو طفل كذا في النطق المفهوم ولم أقف على وقت كلامه ولا على ما تكلم به حينئذ
وأما يحيى عليه الصلاة والسلام فتكلم وهو ابن ثلاث سنين قال لعيسى أشهد أنك عبدالله ورسوله
والخليل تكلم وقت ولادته وسيأتي ما تكلم به وفي كون ابن ثلاث سنين وفي كون من تكلم وقت ولادته يكون في المهد نظر إلا أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام
ولم أقف على سن من تكلم في المهد حين تكلم غير من ذكر وغير الطفل الذي لذى الأخدود فإنه لما جيء بأمه لتلقى في نار الأخدود لتكفر وهو معها مرضع فتقاعست قال لها يا أماه اصبري فإنك على الحق قال ابن قتيبة كان سنه سبعة أشهر وفي النطق المفهوم أن شاهد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام كان عمره شهرين وكان ابن داية زليخا
وفي الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بكلام الصبيان في المراضع وشهادتهم له بالنبوة ذكر ذلك البدر الدماميني رحمه الله هذا كلامه وفيه نظر لأنه لم يشهد له بالنبوة من هؤلاء إلا مبارك اليمامة حسبما وقفت عليه
ورأيت في الأجوبة المسكتة لإبن عون رحمه الله أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست لم تزل نبيا قال نعم قالوا فلم لم تنطق في المهد كما نطق عيسى قال إن الله خلق عيسى من غير فحل فلولا أنه نطق في المهد لما كان لمريم عذر وأخذت بما يؤخذ به مثلها وأنا ولدت بين أبوين هذا كلامه وهو يخالف ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في المهد إلا أن يقال مرادهم لم لم تنطق في المهد بمثل الذي نطق به عيسى أو أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إرخاء للعنان فليتأمل
ثم رأيت أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما سقط على الأرض استوى قائما على قدميه وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد الحمد لله الذي هدانا لهذا
____________________


قال في النطق المفهوم ولد بالغار الذي ولد به نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام ويقال لهذا الغار في التوراة غار النور ويضم لهؤلاء ما ذكره الشيخ محيى الدين بن العربي رحمه الله قال قلت لبنتي زينب مرة وهي في سن الرضاعة قريبا عمرها من سنة ما تقولين في الرجل يجامع حليلته ولم ينزل فقالت يجب عليه الغسل فتعجب الحاضرون من ذلك ثم إني فارقت تلك البنت وغبت عنها سنة في مكة وكنت أذنت لوالدتها في الحج فجاءت مع الحج الشامي فلما خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني أمها هذا أبي وضحكت وأرمت نفسها إلي
قال وقد رأيت أي علمت من أجاب أمه بالتشميت وهو في بطنها حين عطست وسمع الحاضرون كلهم صوته من جوفها شهد عندي الثقات بذلك قال وهذا واحد يخصه الله بعلمه وهو في بطن أمه ولا يحجبك قوله تعالى { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } لأنه لا يلزم من العالم حضوره مع علمه دائما
وفي النطق المفهوم أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه تكلم في بطن أمه فقال أنا المفقود والمغيب عن وجه أبي زمنا طويلا فأخبرت أمه والده بذلك فقال لها اكتمي أمرك
وفيه أن نوحا عليه الصلاة والسلام تكلم عقب ولادته فإن أمه ولدته في غار خوفا على نفسها وعليه فلما وضعته وأرادت الإنصراف قالت وانوحاه فقال لها لا تخافي أحدا على يا أماه فإن الذي خلقني يحفظني
وفيه أن أم موسى عليه الصلاة والسلام لما وضعت موسى استوى قاعدا وقال يا أماه لا تخافي أي من فرعون إن الله معنا
ومبارك اليمامة قال بعض الصحابة دخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت فيها عجبا جاءه رجل بصبي يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام من أنا قال الغلام بلسان طلق أنت رسول الله قال صدقت بارك الله فيك ثم إن الغلام لم يتكلم بشيء فكنا نسميه مبارك اليمامة وكانت هذه القصة في حجة الوداع وكان صلى الله عليه وسلم يناغي القمر وهو في مهده أي يحدثه يقال ناغت المرأة الصبي إذا كلمته بما يسره ويعجبه وعد ذلك من خصائصه ففي حديث فيه مجهول وقيل فيه إنه غريب المتن والإسناد عن عمه العباس رضي الله عنه
____________________

أنه قال يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك إشارة أي علامة نبوتك رأيتك في المهد تناغي القمر أي تحدثه فتشير إليه بإصبعك فحيثما أشرت إليه مال قال كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته أي سقطته حين يسجد تحت العرش أي ولم أقف على سنه صلى الله عليه وسلم حين ذلك وكان مهده صلى الله عليه وسلم يتحرك بتحريك الملائكة وعده ابن سميع رحمه الله تعالى من خصائصه & باب تسميته صلى الله عليه وسلم محمد وأحمد
لا يخفى أن جميع أسمائه صلى الله عليه وسلم مشتقة من صفات قامت به توجب له المدح والكمال فله من كل وصف إسم قال وكما أن لله عز وجل ألف إسم للنبي صلى الله عليه وسلم ألف إسم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الباقر من بقر العلم أتقنه قال أمرت آمنة أي في المنام وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد وعن إبن إسحاق رحمه الله أن تسميه محمدا وقد تقدم قال والثاني هو المشهور في الروايات أي وعلى الأول اقتصر الحافظ الدمياطي رحمه الله
والمسمى له بمحمد جده عبدالمطلب فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عنه أي يوم سابع ولادته جدة بكبش وسماه محمدا فقيل له يا أبا الحرث ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه بإسم آبائه وفي لفظ وليس من أسماء آبائك ولا قومك قال أردت أن يحمده الله في السماء وتحمد الناس في الأرض
أقول وهذا هو الموافق لما اشتهر أن جده سماه محمدا بإلهام من الله تعالى تفاؤلا بأن يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها لذلك كان أبلغ من محمود وإلى ذلك يشير حسان رضي الله عنه بقوله ** فشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد **
وهذا الإلهام لا ينافي أن تكون أمه قالت له إنها أمرت أن تسميه بذلك وقد حقق
____________________

الله رجاءه بأنه صلى الله عليه وسلم تكاملت فيه الخصال المحمودة والخلال المحبوبة فتكاملت له صلى الله عليه وسلم المحبة من الخالق والخليقة فظهر معنى إسمه على الحقيقة
وفي الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بإشتقاق إسمه من إسم الله تعالى وبأنه صلى الله عليه وسلم سمى أحمد ولم يسم به أحد قبله ولإفادته الكثرة في معناه لأنه لا يقال إلا لمن حمد المرة بعد المرة لما يوجد فيه من المحاسن والمناقب
ادعى بعضهن أنه من صيغ المبالغة أي الصيغ المفيدة للمبالغة بالمعنى المذكور إستعمالا لا وضعا لأن الصيغ الموضوعة لإفادة المبالغة منحصرة في الصيغ الخمسة وليس هذا منها
وهذا السياق يدل على تسميته صلى الله عليه وسلم بذلك كانت في يوم العقيقة وأن العقيقة كانت في اليوم السابع من ولادته وتقدم ولد الليلة لعبدالله بن عبدالمطلب غلام سموه محمدا وهو يدل على أن تسميته صلى الله عليه وسلم بذلك كانت في ليلة ولادته أو يومها
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون قوله هنا وسماه محمدا معناه أظهر تسميته بذلك لعموم الناس وهذا التعليل للتسمية بهذا الإسم يرشد إلى ما قيل اقتضت الحكمة أن يكون بين الإسم والمسمى تناسب في الحسن والقبح واللطافة والكثافة ومن ثم غير صلى الله عليه وسلم الإسم القبيح بالحسن وهو كثير وربما غير الإسم الحسن بالقبيح للمعنى المذكور كتسميته لأبي الحكم بأبي جهل وتسميته لأبي عامر الراهب بالفاسق
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه ادع لي إنسانا يحلب ناقتي فجاءه بإنسان فقال له ما إسمك فقال له حرب فقال أذهب فجاءه بآخر فقال ما اسمك فقال يعيش فقال احلبها
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم طلب شخصا يحفر له بئرا فجاءه رجل فقال له ما إسمك قال مرة فقال اذهب وليس هذا من الطيرة التي كرهها ونهى عنها وإنما هو من كراهة الإسم القبيح ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يكتب لإمرائه إذا أبردتم لي بريدا فأبردوه أي إذا أرسلتم لي رسولا فأرسلوه حسن الإسم حسن الوجه ومن ثم لما قال له سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال لمن أراد أن يحلب له ناقته أو يحفر له البئر ما تقدم لا أدري أقول أم أسكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل قال
____________________

قد كنت نهيتنا عن التطير فقال له صلى الله عليه وسلم ماتطيرت ولكن آثرت الإسم الحسن وللجلال السيوطي كتاب فيمن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إسمه ولم أقف عليه
ورأيت في كلام بعضهم أن حزن بن أبي وهب أسلم يوم الفتح وهو جد سعيد بن المسيب أراد النبي صلى الله عليه وسلم تغيير إسمه وتسميته سهلا فامتنع وقال لاأغير إسما سمانيه أبواي قال سعيد فلم تزل الحزونة فينا والله أعلم
أي وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة قال الإمام أحمد هذا منكر أي حديث منكر والحديث المنكر من أقسام الضعيف لا أنه باطل كما قد يتوهم والحافظ السيوطى لم يتعرض لذلك وجعله أصلا لعمل المولد قال لأن العقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته كما كان يصلى على نفسه لذلك قال فيستحب لنا إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
ويروى أن عبدالمطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها أي في منامه رأى كأن سلسلة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق وأهل المغرب يتعلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا أي مع ما حدثته به أمه بما رأته على ما تقدم
وعن أبي نعيم عن عبدالمطلب قال بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا فأتيت كاهنة قريش فلما نظرت إلى عرفت في وجهي التغير فقالت ما بال سيدهم قد أتى متغير اللون هل رابه من حدثان الدهر شيء فقلت لها بلى فقلت لها إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وإرتفاعا ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخرهم شاب
____________________

لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فلم أنله فانتبهت مذعورا فزعا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس وعند ذلك قال عبدالمطلب لإبنه أبي طالب لعلك أن تكون هذا المولود فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد صلى الله عليه وسلم ويقول كانت الشجرة هي محمد صلى الله عليه وسلم
وفي الإمتاع لما مات قثم بن عبدالمطلب قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين وهو ابن تسع سنين وجد عليه وجدا شديدا فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه قثم حتى أخبرته أمه آمنة أنها أمرت في منامها أن تسميه محمدا فسماه محمدا أي ولا مخالفة بين هذه الروايات على تقدير صحتها كما لا يخفى لأنه يجوز أن يكون نسى تلك الرؤية ثم تذكرها ويكون معنى سؤاله ما حملك على أن تسميه محمدا وليس من أسماء قومك أي لم استقر أمرك على أن تسميه محمدا
وذكر بعضهم أنه لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الإسم يعنى محمدا قبله إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم من الكتاب الأول وأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم أي بالحجاز وبقرب زمنه وبإسمه المذكور الذي هو محمد وهو يدل على أن إسمه في بعض الكتب القديمة محمد وكان كل واحد منهم قد خلف زوجته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد ذكر أن يسميه محمد ففعلوا
وفي الشفاء أن في هذين الإسمين محمدا وأحمد من بدائع آياته أي المصطفى وعجائب خصائصه أن الله تعالى حماهما عن أي يسمى بهما أحد قبل زمانه أي قبل شيوع وجوده أما أحمد الذي أتى في الكتب القديمة وبشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمنع الله تعالى بحكمته أن يتسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي حياته زاد الزين العراقي ولا في زمن أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى لا يدخل لبس أوشك على ضعيف القلب أي فالتسمية به من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس ممن تقدمه خلافا لما يوهمه كلام الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أنه من خصائصه على الأنبياء فقط
ومن ثم ذهب بعضهم إلى أفضليته على محمد وقال الصلاح الصفدي أحمد أبلغ
____________________

من محمد كما أن أحمر وأصفر أبلغ من محمر ومصفر ولعله لكونه منقولا عن أفعل التفضيل لأنه صلى الله عليه وسلم أحمد الحامدين لرب العالمين لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله
وفي الهدى لو كان إسمه أحمد بإعتبار حمده لربه لكان الأولى أن يسمى الحماد كما سميت بذلك أمته وأما هذا فهو الذي يحمده أهل السماء والأرض وأهل الدنيا والآخرة لكثرة خصاله المحمودة التي تزيد على عدد العادين وإحصاء المحصين أي أحق الناس وأولاهم بأن يحمد فهو كمحمد في المعنى فهو مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول لا الواقع من الفاعل وحينئذ فالفرق بين محمد وأحمد أن محمدا من كثر حمد الناس له وأحمد من يكون حمد الناس له أفضل من حمد غيره وسيأتي عن الشفاء أنه أحمد المحمودين وأحمد الحامدين فيجوز أن يكون أحمد مأخوذا من الفعل الواقع على المفعول كما يجوز أن يكون مأخوذا من الفعل الواقع من الفاعل
وفي كلام السهيلي ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان قبل أحمد فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له وأطال في بيان ذلك
وفي كلام بعض فقهائنا معاشر الشافعية أنه ليس في أحمد من التعظيم ما في محمد لأنه أشهر أسمائه الشريفة وأفضلها فلذلك لا يكفى الإتيان به في التشهد بدل محمد وقد جاء أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن قال بعضهم وعبدالله أحب من عبدالرحمن لإضافة العبد إلى الله المختص به تعالى إتفاقا والرحمن مختص به على الأصح ومن ثم سمى نبينا صلى الله عليه وسلم في القرآن بعبدالله في قوله تعالى { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وعلى ما ذكر هنا يكون بعد عبدالرحمن المذكور في القرآن في قوله تعالى { وعباد الرحمن } أحمد ثم محمد أي وبعدهما إبراهيم خلافا لمن جعله بعد عبدالرحمن
وذكر بعضهم أن أول من تسمى بأحمد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ولد لجعفر بن أبي طالب وعليه يشكل ما تقدم عن الزين العراقي وقيل والد الخليل أي ولعل المراد به الخليل بن أحمد صاحب العروض ثم رأيت الزين العراقي صرح بذلك حيث قال وأول من تسمى في الإسلام أحمد والد الخليل بن أحمد العروضي
ويشكل على ذلك وعلى قوله لم يسم به أحد في زمن الصحابة تسمية ولد جعفر بن أبي طالب بذلك إلا أن يقال لم يصح ذلك عند العراقي أو يقال مراد العراقي أصحابه
____________________

الذين تخلفوا عنه بعد وفاته فلا يرد جعفر لأنه مات في حياته صلى الله عليه وسلم وهو خامس خمسة كل يسمى الخليل بن أحمد وزاد بعضهم سادسا وكذلك محمد أيضا لم يتسم به أحد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده إلا بعد أن شاع أن نبيا يبعث إسمه محمد بالحجاز وقرب زمنه فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك وحمى الله تعالى هؤلاء أن يدعى أحد منهم النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه شيء من سماتها أي علاماتها حتى تحققت له صلى الله عليه وسلم
وفي دعوى أن الذي في الكتب القديمة إنما هو أحمد مخالفة لما سبق وما يأتي عن التوراة والإنجيل أي فالمراد بالكتب القديمة غالبها فلا ينافى أن في بعضها إسمه محمد وفي بعضها إسمه أحمد وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد
قال بعضهم سمعت محمد بن عدي وقد قيل له كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا قال سألت أبي أي عما سألتني عنه قال خرجت رابع أربعة من تميم نريد الشام فنزلنا عند غدير عند دير فأشرف علينا الديراني وقال إن هذه للغة قوم ما هي لغة أهل هذه البلد فقلنا له نحن قوم من مضر فقال من أي المضاير فقلنا من خندف فقال لنا إن الله سيبعث فيكم نبيا وشيكا أي سريعا فسارعوا إليه وخذوا حظكم ترشدوا فإنه خاتم النبيين فقلنا له ماإسمه قال محمد ثم دخل ديره فوالله ما بقى أحد منا إلا زرع قوله في قلبه فاضمر كل واحد منا إن رزقه الله غلاما سماه محمدا رغبة فيما قاله أي فنذر كل واحد منا ذلك فلا يخالف ما سبق قال فلما انصرفنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالاته
أقول يجوز أن يكون هؤلاء الأربعة منهم الثلاثة الذين وفدوا على بعض الملوك وحينئذ تكرر لهم هذا القول من الملك ومن صاحب الدير وإضمار ذلك لا ينافى نذره المتقدم فالمراد بإضماره نذره كما قدمناه ويجوز أن يكونوا غيرهم فيكونوا سبعة
وذكر ابن ظفر أن سفيان بن مجاشع نزل على حي من تميم فوجدهم مجتمعين على كاهنتهم وهي تقول العزيز من والاه والذليل من خالاه فقال لها سفيان من تذكرين لله أبوك فقالت صاحب هدى وعلم وحرب وسلم فقال سفيان من هو لله أبوك فقالت نبي مؤيد قد آن حين يوجد ودنا أوان يولد يبعث للأحمر
____________________

والأسود إسمه محمد فقال سفيان أعربي أم عجمي فقالت أما والسماء ذات العنان والشجر ذوات الأفانا إنه لمن معد بن عدنان حسبك فقد أكثرت يا سفيان فأمسك عن سؤالها ومضى إلى أهله وكانت إمرأته حاملا فولدت له ولدا فسماه محمدا رجاء منه أن يكون هو النبي الموصوف والله أعلم
وقد عد بعضهم ممن سمى بمحمد ستة عشرة ونظمهم في قوله ** إن الذين سموا بإسم محمد ** من قبل خير الخلق ضعف ثمان ** ** ابن البراء مجاشع بن ربيعة ** ثم ابن مسلم يحمدى حرماني ** ** ليثى السليمي وابن أسامة ** سعدى وابن سواءة همداني ** ** وابن الجلاح مع الأسيدي يافتى ** ثم الفقيمي هكذا الحمراني **
قال بعضهم وفاته آخران لم يذكرهما وهما محمد بن الحارث ومحمد بن عمر بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام ووقع النزاع الكثير والخلاف الشهير في أول من سمى بذلك الإسم منهم
أقول وفي شرح الكفاية لإبن الهائم ويمكن أن يكون من زاد على أولئك الأربعة أو السبعة سمع ذلك من بعضهم فاقتدى به في ذلك طمعا فيما طمع فيه
ومثل ذلك وقع لبني إسرائيل فإن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما حضرته الوفاة أعلم بني إسرائيل بحضور أجله وكان أول أنبيائهم فقالوا له يا نبي الله إنا نحب أن تعلمنا بما يئول إليه أمرنا بعد خروجك من بين أظهرنا في أمر ديننا فقال لهم إن أموركم لم تزل مستقيمة حتى يظهر فيكم رجل جبار من القبط يدعى الربوبية يذبح أبناءكم ويستحيى نساءكم ثم يخرج من بني إسرائيل رجل إسمه موسى بن عمران فينجيكم الله به من أيدى القبط فجعل كل واحد من بني إسرائيل إذا جاء له ولد يسميه عمران رجاء أن يكون ذلك النبي منه ولا يخفى أن بين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم أم عيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ألف وثمانمائة سنة والله أعلم
والذي أدرك الإسلام ممن تسمى بإسمه عليه الصلاة والسلام محمد بن ربيعة ومحمد بن الحارث ومحمد بن مسلمة وادعى بعضهم أن محمد بن مسلمة ولد بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسة عشر سنة
أي وقد ذكر ابن الجوزي أن أول من تسمى في الإسلام بمحمد محمد بن حاطب وعن ابن عباس اسمى في القرآن أي كالتوراة محمد وفي الإنجيل أحمد
____________________


وأما فضل التسمية بهذا الإسم أعنى محمدا فقد جاء في أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة أي منها أنه صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمى بإسمك في النار أي بإسمك المشهور وهي محمد أو أحمد ومنها ما من مائدة وضعت فحضر عليها من إسمه أحمد ومحمد أي وفي رواية فيها اسمى إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين ومنها قال يوقف عبدان أي إسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما الى الجنة فيقولان ربنا بما أستأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة فيقول الله تعالى ادخلا الجنة فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من إسمه أحمد أو محمد لكن قال بعضهم ولم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث وكل ما ورد فيه فهو موضوع قال بعض الحفاظ وأصحها أي أقر بهما للصحة من ولد له مولود فسماه محمدا حبا لي وتبركا بإسمي كان هو ومولوده في الجنة
وعن أبي رافع عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سميتموه محمدا فلا تضربوه ولا تحرموه وفي رواية طعن فيها بأن بعض رواتها متهم بالوضع فلا تسبوه ولا تجبهوه و لا تعنفوه وشرفوه وعظموه وأكرموه وبروا قسمه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها بورك في محمد وفي بيت فيه محمد وفي مجلس فيه محمد وفي رواية تسمونه محمدا ثم تسبونه وفي رواية طعن فيها أما يستحى أحدكم أن يقول يا محمد ثم يضربه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل أي وفي رواية فهو من الجفاء وفي أخرى فقد جفاني
وذكر بعضهم وإن لم يرد في المرفوع من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرا فليضع يده على بطنها وليقل إن كان هذا الحمل ذكرا فقد سميته محمدا فإنه يكون ذكرا
وجاء عن عطاء قال ما سمى مولود في بطن أمه محمدا إلا كان ذكرا قال ابن الجوزي في الموضوعات وقد رفع هذا بعضهم أي وروى ما اجتمع قوم قط في مشورة فيهم رجل إسمه محمد لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك فيه أي في الأمر الذي اجتمعوا له وفي رواية فيهم رجل إسمه محمد أو أحمد فشاوروه إلا خير لهم أي إلا حصل لهم الخير فيما تشاوروا فيه وما كان إسم محمد في بيت إلا جعل الله في ذلك البيت بركة واتهم راوي ذلك بأنه مجروح
____________________


وروى ما قعد قوم قط على طعام حلال فيه رجل إسمه إسمي إلا تضاعفت فيهم البركة أي إسمه المشهور وهو أحمد أو محمد كما تقدم
وفي الشفاء إن لله ملائكة سياحين في الأرض عبادتهم أي بالباء الموحدة كل دار فيها إسم محمد أي حراسة أهل كل دار فيها إسم محمد وقد ذكر الحافظ السيوطي أن هذا الحديث غير ثابت
وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما قال من كان له حمل فنوى أن يسميه محمدا حوله الله تعالى ذكرا وإن كان أنثى قال بعض رواة الحديث فنويت سبعة كلهم سميتهم محمدا وعنه صلى الله عليه وسلم من كان له ذو بطن فأجمع أي يسميه محمدا رزقه الله تعالى غلاما
وشكت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة بأنهما لا يعيش لها ولد فقال لها اجعلي لله عليك أن تسميه أي الولد الذي ترزقينه محمدا ففعلت فعاش ولدها
وعن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى بإسمه أي ولا يكنى إلا آدم صلى الله عليه وسلم فإنه يدعى أبا محمد تعظيما له وتوقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم أي لأن العرب إذا عظمت إنسانا كنته ويكنى الإنسان بأجل ولده قاله الحافظ الدمياطي وفي رواية ليس أحد أي من أهل الجنة يكنى إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد أي وفي حديث معضل إذا كان يوم القيامة نادى مناد يا محمد قم فادخل الجنة بغير حساب فيقوم كل من إسمه محمد يتوهم أن النداء له فلكرامة محمد صلى الله عليه وسلم لا يمنعون
وفي الحلية لأبي نعيم عن وهب بن منبه قال كان رجل عصى الله مائة سنة أي في بني إسرائيل ثم مات فأخذوه وألقوه في مزبلة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن أخرجه فصل عليه قال يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه عصاك مائة سنة فأوحى الله إليه هكذا إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد قبله ووضعه على عينيه فشكرت له ذلك وغفرت له وزوجته سبعين حوراء
ومن الفوائد أنه جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وضعه صلى الله عليه وسلم أن يقوما تعظيما له صلى الله عليه وسلم وهذا القيام بدعة لا أصل لها أي لكن هي بدعة حسنة لأنه ليس كل بدعة مذمومة وقد قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في إجتماع الناس لصلاة التراويح نعمت البدعة وقد قال العز ابن عبد السلام إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره
____________________


ولا ينافى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا أي شرعنا ما ليس منه فهو رد عليه لأن هذا عام أريد به خاص فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره ما أحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضلالة وما أحدث من الخبر ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة وقد وجد القيام عند ذكر إسمه صلى الله عليه وسلم من عالم الأمة ومقتدى الأئمة دينا وورعا الإمام تقي الدين السبكى وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره فقد حكى بعضهم أن الإمام السبكي اجتمع عنده جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري في مدحه صلى الله عليه وسلم ** قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب ** على ورق من خط أحسن من كتب ** ** وأن تنهض الأشراف عند سماعه ** قياما صفوفا أو جثيا على الركب **
فعند ذلك قام الإمام السبكي رحمه الله وجميع من في المجلس فحصل أنس كبير بذلك المجلس ويكفى مثل ذلك في الإقتداء
وقد قال ابن حجر الهيتمي والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد وإجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة ومن ثم قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله على ما من به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين هذا كلامه
قال السخاوي لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدث بعد ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم قال ابن الجوزي من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام
وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية كتابا في المولد سماه التنوير بمولد البشير النذير فأجازه بألف دينار وقد استخرج له الحافظ ابن حجر
____________________

أصلا من السنة وكذا الحافظ السيوطى وردا على الفاكهاني المالكي في قوله إن عمل المولد بدعة مذمومة & باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به
يقال أنه صلى الله عليه وسلم ارتضع من ثمانية من النساء وقيل من عشرة بزيادة خولة بنت المنذر وأم أيمن عزيزة قالت أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة أي بعد إرضاع أمه له كما سيأتي قال وثويبة هي جارية عمه أبي لهب وقد أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم أي فإنها قالت له أما شعرت أن آمنة ولدت ولدا وفي لفظ غلاما لأخيك عبدالله فقال لها أنت حرة فجوزى بتخفيف العذاب عنه يوم الإثنين بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة أي ليلة الإثنين في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام أي أن سبب تخفيف العذاب يوم الإثنين ما يسقاه تلك الليلة في تلك النقرة
ويذكر أن بعض أهل أبي لهب أي وهو أخوه العباس رضي الله تعالى عنه رآه في النوم في حالة سيئة فعن العباس رضي الله تعالى عنه قال مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم ثم رأيته في شر حال فقلت له ماذا لقيت فقال له أبو لهب لم أذق بعدكم رخاء وفي لفظ فقال له بشر خيبة بفتح الخاء المعجمة وقيل بكسر الخاء وهي سوء الحال غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة المذكورة بعتاقتي ثويبة ذكره الحافظ الدمياطي
والذي في المواهب وقد رؤى أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك فقال في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة إثنين وأمص من بين أصبعي هاتين ماء وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له فليتأمل
وقيل إنه إنما أعتقها لما هاجر صلى الله عليه وسلم أي فإن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت تكرمها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب
____________________


أقول قد يقال لا منافاة لجواز أن يكون لما أعتقها لم يظهر عتقها وإباؤه بيعها لكونها كانت معتوقة ثم أظهر عتقها بعد الهجرة والله أعلم وإرضاعها له صلى الله عليه وسلم كان أياما قلائل قبل أن تقدم حليمة وكان بلبن إبن لها يقال له مسروح وهو بضم الميم وسين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة كذا في النور وفي السيرة الشامية بفتح الميم وكانت قد أرضعت قبله أبا سفيان أبن عمه صلى الله عليه وسلم الحارث
وفي كلام بعضهم كان تربا له صلى الله عليه وسلم وكان يشبهه وكان يألفه إلفا شديدا قبل النبوة فلما بعث صلى الله عليه وسلم عاداه وهجره وهجا أصحابه رضي الله تعالى عنهم فإنه كان شاعرا مجيدا وسيأتي إسلامه رضي الله تعالى عنه عند توجهه صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها قبلهما عمه صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وكان أسن منه صلى الله عليه وسلم بسنتين وقيل بأربع سنين
أقول هذا يخالف ماتقدم من أن عبدالمطلب تزوج من بني زهرة هالة وأتى منها بحمزة وأن عبدالله تزوج من بني زهرة آمنة وذلك في مجلس واحد وأن آمنة حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول عبدالله بها وأنه دخل بها حين أملك عليها فكيف يكون حمزة أسن منه صلى الله عليه وسلم بسنتين إلا أن يقال ليس فيما تقدم تصريح بأن عبدالمطلب وعبدالله دخلا على زوجتيهما في وقت واحد
وعبارة السهيلي هالة بنت وهيب عبد بن مناف بن زهرة عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عبدالمطلب وتزوج ابنه عبدالله آمنة في ساعة واحدة فولدت هالة لعبدالمطلب حمزة وولدت آمنة لعبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرضعتهما ثويبة هذا كلامه وليس فيه كقول أسد الغابة المتقدم أن عبد المطلب تزوج هو وعبدالله في مجلس واحد تصريح بأنهما دخلا بزوجتيهما في وقت واحد لإمكان حمل التزوج على الخطبة المصرح بها فيما تقدم عن ابن المحدث أن عبدالمطلب خطب هالة في مجلس خطبة عبدالله لآمنة والله أعلم
ثم رأيت في الإستيعاب قال كان أي حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين وهذا لا يصح عندي لأن الحديث الثابت أن حمزة أرضعته ثويبة مع رسول
____________________

الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين هذا لفظه وفيه ما علمت وفيه أيضا على تسليم أنها أرضعتهما في زمانين لكن بلبن إبنها مسروح كما سيأتي
ويبعد بقاء لبن إبنها مسروح أربع سنين ثم أرضعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي الجواب عنه
وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها بعده صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبدالأسد أي ابن عمته الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فقد أرضعت ثويبة حمزة ثم أبا سفيان ابن عمه الحرث ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا سلمة وهو مخالف بظاهره لقول المحب الطبري وارضعته ثويبة جارية أبي لهب وأرضعت معه حمزة بن عبدالمطلب وأبا سلمة عبدالله بن عبدالأسد بلبن إبنها مسروح هذا كلامه وفيه ما علمت
وقد يجاب بأنه ممكن بأن تكون لم تحمل على ولدها مسروح في المدة المذكورة فاستمر لبنها
وأيضا هي أرضعت بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه أبا سفيان الحارث كما علمت
وذكر بعضهم أن أبا سلمة أول من يدعى للحساب اليسير وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول اللهم أجرني في مصيبتي واخلف على خيرا منها إلا فعل به قال الترمذي حسن غريب ويدل لكون أبي سلمة أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ما جاء عن أم حبيبة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له هل لك في أختى بنت أبي سفيان أي وهي عزة بعين مهملة ثم زاي أي وفي رواية هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان والذي في مسلم انكح أختى عزة أي وفي البخاري أنكح أختي بنت أبي سفيان قال أو تحبين ذلك قالت نعم لست لك بمخلية بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام وبالتحتية أي لست لك بتاركة عدم أخذها وأحب من شاركني
____________________


في خير أختى فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لايحل لي قالت فوالله إني أنبئت أي وفي لفظ إنا لنتحدث أنك تخطب درة أي وفي لفظ تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة أي بضم الدال المهملة وأما ضبطه بفتح الذال المعجمة قال بضعهم هو تصحيف لا شك فيه تعنى بدرة بنتها من أبي سلمة قال ابنة أبي سلمة قلت نعم فقال والله لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لإبنة أخي من الرضاعة أرضعتني وإياه ثويبة أي وفي رواية لولا أني لم أنكح أم سلمة يعني أم حبيبة التي هي أمها لم تحل لي إن أباها أخي من الرضاعة أي وأختك على فرض أن تكون بنت أخي من الرضاعة لا يحل لي أن أجمعها معك فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن قيل وفي هذا أي وفي قوله لو لم تكن ربيبتي في حجري وفي قوله تعالى { وربائبكم اللاتي في حجوركم } حجة لداود الظاهري أن الربيبة لاتحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها فإن لم تكن في حجره فهي حلال له أي وقيل لها ربيبة لأنها مأخوذة من الرب وهو الإصلاح لأن زوج أمها يقوم بإصلاح أحوالها قال ولك أن تقول كان الظاهر الإقتصار على الأخوات لأن أم حبيبة هي التي عرضت أختها ولم تعرض بنتها التي هي درة
وقد يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم جعل خطاب أم حبيبة خطابا لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم لأن هذا الحكم لا يختص بواحدة دون أخرى
أقول فيه أن هذا واضح لو كان في زوجاته صلى الله عليه وسلم من عرض عليه بنته إلا أن يقال المراد فلا تعرضن لا ينبغي لكن أن تعرضن وذلك لا يستلزم وقوع العرض بالفعل
ثم رأيت الإمام النووي رحمه الله ذكر أن هذا من أم حبيبة أي من عرض أختها محمول على أنه لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين عليه صلى الله عليه وسلم قال وكذا لم تعلم من عرض بنت أ سلمة تحريم الربيبة هذا كلامه وهو يقتضى أن بعض الناس عرض عليه بنت أم سلمة وإذا كان من عرضها عليه إحدى نسائه اتجه قوله فلا تعرضن على بناتكن تأمل
وبهذا الحديث استدل من قال إنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وأختها وهو الراجح من وجهين
ومقابله يقول خص بجواز ذلك له ولا يجمع بين المرأة وبنتها خلافا لوجه حكاه
____________________

الرافعي وهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم لو لم أنكح أم سلمة لم تحل لي يرد هذا الوجه
وعبارة الخصائص الصغرى وله صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وأختها وعمتها وخالتها في أحد الوجهين وبين المرأة وابنتها في وجه حكاه الرافعي وتبعه في الروضة وجزموا بأنه غلط والله أعلم
ومما يدل أيضا على أن عمه صلى الله عليه وسلم حمزة أخوه من الرضاعة ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله ما لك لا تتوق في قريش أي بمثناتين فوق مفتوحتين ثم واو مشددة ثم قاف أي لا تتشوق إليهم مأخوذ من التوق الذي هو الشوق وفي رواية بالتاء والنون أي لا تختار و لاتتزوج منهم قال أو عندك قلت نعم ابنة حمزة أي عمه وهي أمامة وهي أحسن فتاة في قريش قال تلك ابنة أخي من الرضاعة أي وهذا من علي رضي الله تعالى عنه محمول على أنه لم يكن يعلم بتحريم بنت الأخ من الرضاعة عليه صلى الله عليه وسلم أو أنه لم يكن يعلم أن عمه حمزة أخ له صلى الله عليه وسلم من الرضاعة
وفيه أنه جاء رواية أليس قد علمت أنه أخي من الرضاعة وأن الله قد حرم من الرضاعة ما حرم من النسب إلا أن يراد بقوله قد علمت أي أعلم قال ولعله لم يقل أرضعتني وإياه ثويبة كما قال ذلك في أبي سلمة لأن ثويبة أرضعت حمزة ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا سلمة لأن حمزة رضيعه أيضا من امرأة من بني سعد غير حليمة كان حمزة رضي الله تعالى عنه مسترضعا عندها في بني سعد أرضعته صلى الله عليه وسلم يوما وهي عند حليمة أي فهو رضيعه صلى الله عليه وسلم من جهة ثويبة ومن جهة تلك المرأة السعدية ولم أقف على اسم تلك المرأة أي ولو اقتصر على ثويبة لأوهم أنه لم يرتضع معه على غيرها وذكر في الأصل أن بعضهم ذكر من مراضعه صلى الله عليه وسلم خولة بنت المنذر
أقول وتقدم ذلك ونسب هذا البعض في ذلك للوهم وأن خولة بنت المنذر التي هي أم بردة إنما كانت مرضعة لولده إبراهيم
وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن تكون خولة بنت المنذر إثنتان واحدة أرضعته صلى الله عليه وسلم وواحدة أرضعت ولده إبراهيم وأن خولة التي أرضعته صلى الله عليه وسلم
____________________

وسلم هي السعدية التي كانت ترضع حمزة التي قال فيها الشمس الشامي لم أقف على إسم تلك المرأة والله أعلم ولم يذكر إسلام ثويبة إلا ابن منده
قال الحافظ ابن حجر وفي طبقات ابن سعد ما تدل على أنها لم تسلم ولكن لا يدفع نقل ابن منده به وفي الخصائص الصغرى لم ترضعه صلى الله عليه وسلم مرضعة إلا أسلمت ولم أقف على إسلام إبنها مسروح
أقول ومما يدل على عدم إسلامه ما جاء بسند ضعيف إذا كان يوم القيامة أشفع لأخ لي في الجاهلية قال الحافظ السيوطي يعنى أخاه من الرضاعة لأنه لم يدرك الإسلام
لايقال من أين أنه مسروح جاز أن يكون ابن حليمة وهو عبدالله الذي كان يرضع معه صلى الله عليه وسلم بناء على أنه لم تدرك الإسلام لأنه لم يعرف له إسلام لأنا نقول سيأتي عن شرح الهمزية لإبن حجر أن عبدالله ولد حليمة أسلم والله أعلم
أي وقد يدل على عدم إسلام ثويبة وإبنها المذكور الذي هو مسروح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث لها بصلة وكسوة وهي بمكة حتى جاءه خبر وفاتها مرجعه صلى الله عليه وسلم من خيبر سنة سبع فقال ما فعل إبنها مسروح فقيل مات قبلها أي ولو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة
أقول وهذا بظاهره يدل على أن مسروحا أدرك الإسلام وقد ينافى علم وفاتهما مرجعه صلى الله علهي وسلم من خيبر ما ذكر السهيلي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلها من المدينة فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فأخبر أنهما ماتا
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون سؤاله الثاني للتثبت لوصوله محل إقامتهما والقول بأنهما لو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة يقال عليه يجوز أن تكون الهجرة تعذرت عليهما لعارض عرض لهما والله أعلم قال وجاء أن أمه أرضعته صلى الله عليه وسلم تسعة أيام
أقول وعن عيون المعارف للقضاعي سبعة أيام وفي الإمتاع أنها أرضعته صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر ثم أرضعته ثويبة أياما قلائل هذا كلامه وقوله ثم أرضتعه ثويبة يخالف ما تقدم من أن أول من أرضعه ثويبة إلا أن يقال المراد أول من أرضعه غير أمه ثويبة فلا مخالفة
____________________


وبهذا يرد نقل ابن المحدث عن الأصل أن أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم لبن ثويبة فإنه فهم ذلك من قول الأصل أول من أرضعه ثويبة لما علمت أن الأولية إضافية لا حقيقة إلا أن يدعى ذلك في نقل ابن المحدث أيضا اي أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم بعد لبن أمه والله أعلم
قال وأرضعه صلى الله عليه وسلم ثلاث نسوة أي أبكار من بني سليم أخرجن ثديهن فوضعنها في فمه فدرت في فيه فرضع منهن وأرضعته صلى الله عليه وسلم أم فروة أي وهؤلاء النسوة الأبكار كل واحدة منهن تسمى عاتكة وهن اللاتي عناهن صلى الله عليه وسلم بقوله أنا ابن العواتك من سليم على ما تقدم
وما تقدم من أن أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم ذكره في الخصائص الصغرى رد بأنها حاضنته لا مرضعته
وعلى تقدير صحته ينظر بلبن أي ولد لها كان فإنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة إلا أن يقال جاز أن لبنها در له صلى الله عليه وسلم من غير وجود ولد كما تقدم في النسوة الأبكار
وأرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة بنت أبي ذؤيب وتكنى أم كبشة أي بإسم بنت لها إسمها كبشة ويكنى بها أيضا والدها الذي هو زوج حليمة أي وكانت من هوازن أي من بني سعد بن بكر بن هوازن وسيأتي الكلام على إسلامها
وعنها أنها كانت تحدث أنها خرجت من بلدها معها ابن لها ترضعه إسمه عبدالله ومعها زوجها قال وهو الحارث بن عبدالعزى ويكنى أبا ذؤيب أي كما يكنى أبا كبشة أدرك الإسلام وأسلم
فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن السائب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه
وعن ابن إسحاق بلغني أن الحارث إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤيد قول بعضهم لم يذكر الحارث كثير ممن ألف في الصحابة
أقول يدل للأول ظاهر ما روى أن الحارث هذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم فقالت له قريش أو تسمع
____________________

يا حارث ما يقول إبنك فقال وما يقول قالوا يزعم أن الله يبعث من في القبور وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم فيهما من أطاعه أي يعذب في إحداهما من عصاه وهي النار ويكرم في الأخرى من أطاعه وهي الجنة فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا فأتاه فقال أي بني مالك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول كذا أي أن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا أقول ذلك وفي لفظ أنا أزعم ذلك ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت فلآخذن بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم فأسلم الحرث بعد ذلك وحسن إسلامه أي وقد كان يقول حين أسلم لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة وإنما قلنا ظاهر لأنه قد يقال قوله بعد ذلك يصدق بما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا دلالة في ذلك على أنه أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم
وفي شرح الهمزية لإبن حجر ومن سعادتها يعنى حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها وهم عبدالله والشيما وأنيسة هذا كلامه
وفي الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا أي على ثوب فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه صلى الله عليه وسلم فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ورجاله ثقات ولعل المراد بجلوسه بين يديه جلوسه مقابله وحينئذ ففاعل جلس النبي صلى الله عليه وسلم وضمير يديه راجع لأخيه أي قام صلى الله عليه وسلم عن محل جلوسه على الثوب وأجلس أخاه على الثوب مكانه وجلس صلى الله عليه وسلم قبالة أخيه فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ليكون أخوه هو وأبواه جيمعا على الثوب والله أعلم
قالت وخرجت في نسوة من بني سعد أي ابن بكر بن هوازن عشرة يطلبن الرضعاء في سنة شهباء أي ذات جدب وقحط لم تبق شيئا على أتان قمراء بفتح القاف والمد أي شديد البياض ومعنى شارف أي ناقة مسنة ما تبض بالضاد المعجمة وربما روى بالمهملة أي ما ترشح بقطرة لبن قالت وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثدي وفي رواية ثديى ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه بمعجمتين وقيل بمعجمة ثم مهملة وقيل بإسكان العين المهملة وكسر الذال المعجمة
____________________

وضم الباء الموحدة أي ما يكفيه بحيث يرفع رأسه وينقطع عن الرضاعة قالت حليمة ولكنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها حتى شق ذلك عليهم حتى قدمنا مكة نلتمس أي نطلب الرضعاء جمع رضيع وأدم مأخوذ من الماء الدائم يقال أدم بالركب إذا أبطأ حتى حبسهم ويروى بالمعجمة أي جاء بما يذم عليه وهو هنا لإبطاء
أقول لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم ليكون أنجب لولد وأفصح له وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى أي تستقل برضاعه
ويدل للأول ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه أنا أعربكم أي أفصحكم عربية أنا قرشي وأسترضعت في بني سعد وجاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال له مايمنعني وأنا من قريش وأرضعت من بني سعد فهذا كان يحمله على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات
ومن ثم نقل عن عبدالملك بن مروان أنه كان يقول أضر بناحب الوليد يعنى ولده لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب فصار لحانا لا عربية له وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان
قالت حليمة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها يتيم وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبى الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري فلما أجمعنا الإنطلاق أي عزمنا عليه قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه قال لا عليك أي لا بأس عليكم أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته
أقول وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم إن عبدالمطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب إلا أن يقال جاز أن يكون التماسه للمراضع
____________________

غير حليمة كان عند قدومهن وأبين أن يقبلن ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا ويدل لذلك قول صاحب شفاء الصدور إن حليمة قالت استقبلني عبدالمطلب فقال من أنت فقلت أنا أمرأة من بني سعد قال ما أسمك قلت حليمة فتبسم عبدالمطلب وقال بخ بخ سعد وحلم خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد يا حليمة إن عندي غلاما يتيما وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن ما عند اليتيم من الخير إنما نلتمس الكرامة من الآباء فهل لك أن ترضعيه فعسى أن تسعدي به فقلت ألا تذرني حتى أشاور صاحبي فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته فكأن الله قذف في قلبه فرحا وسرورا فقال لي يا حليمة خذيه فرجعت إلى عبدالمطلب فوجدته قاعدا ينتظرني فقلت هلم الصبي فاستهل وجهه فرحا فأخذني وأدخلني بيت آمنة فقالت لي أهلا وسهلا وأدخلتني في البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء راقد على قفاه يغط يفوح منه رائحة المسك فأشفقت أي خفت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إلى فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأخذته وما حملني على أخذه أي أكد أخذه إلا أني لم أجد غيره وإلا فما ذكرته من أوصافه مقتض لأخذه أي وهذه الرواية ربما تدل على أنها لم تره قبل ذلك وأن إباءها كان قبل رؤيتها له قالت فلما أخذته رجعت به إلى رحلى فلما وضعته في حجرى أقبل ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روى أي من الثدي الأيمن وعرضت عليه الأيسر فأباه قالت حليمة وكانت تلك حالته بعد أي بعد ذلك لا يقبل إلا ثديا واحدا وهو الأيمن
وفي السبعيات للهمذاني أن أحد ثديي حليمة كان لا يدر اللبن منه فلما وضعته في فم رسول الله صلى الله عليه وسلم در اللبن منه قالت وشرب معه أخوه حتى روى ثم نام وما كنا ننام معه قبل ذلك أي فعدم نومه من الجوع فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل أي ممتلئة الضرع من اللبن فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته صلى الله عليه وسلم معي عليها فوالله لقطعت بالركب أي صيرته خلفها ما يقدر عليها أي على
____________________

مرافقتها ومصاحبتها شيء من حمرهن حتى أن صواحبي يقلن لي يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي أي اعطفى علينا بالرفق وعدم الشدة في السر أليس هذا أتانك التي كنت خرجت عليها تخفضك طورا وترفعك أخرى فأقول لهن بلى والله إنها لهى فيقلن والله إن لها لشأنا أي وقالت حليمة فكنت أسمع أتاني تنطق ونقول والله إن لي لشأنا ثم شأنا شأني بعثني الله بعد موتي ورد لي سمني بعد هزالي ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة وهل تدرين من على ظهري على ظهري خير النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين ذكره في النطق المفهوم
وذكرت أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت أي خفضت رأسها نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت قالت ثم قدمنا منازل بني سعد ولا أعلم أرضا من أراضي الله أجدب منها فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا أي غزيرات اللبن فنحلب ونشرب ولفظ فنحلب ما شئنا والله ما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر أي المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب يعنونني فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبا لا يشبه الغلمان فلم يقطع سنتيه حتى كان غلاما جفرا أي غليظا شديدا
وعن حليمة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ شهرين كان يجيء إلى كل جانب أي وهذا يضعف ما تقدم عن الإمتناع من أن أمه صلى الله عليه وسلم أرضعته سبعة أشهر قالت حليمة فلما بلغ صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم الكلام الفصيح ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمى السهام مع الصبيان
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت إنه لفى حجرى ذات يوم إذ مرت به غنيماتي فأقبلت واحدة منهن حتى سجدت له وقبلت رأسه ثم ذهبت إلى صواحبها
أقول وقد سجدت له صلى الله عليه وسلم الغنم وكذا الجمل بعد بعثته والهجرة فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا أي بستانا للإنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجال من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت
____________________

له فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله كنا أحق بالسجود لك من هذه الغنم فقال إنه لا ينبغي في أمتي أن يسجد أحد لأحد ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها زاد في رواية ولو أن رجلا أمر زوجته أن تنقل من جبل إلا جبل لكان نولها أي حقها أن تفعل وحرب جمل بكسر الراء أي اشتد غضبه فصار لا يقدر أحد يدخل عليه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه افتحوا عنه فقالوا إنا نخشى عليك يا رسول الله فقالوا افتحوا عنه ففتحوا عنه فلما رآه الجمل خر ساجدا أي فأخذ بناصيته ثم دفعه لصاحبه وقال استعمله وأحسن علفه فقال القوم يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة فقال كلا الحديث وفي هذا دلالة على عظيم حق الزوج على زوجته
وجاء مما يدل على ذلك أيضا ما روى أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم وأن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أولادهم أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه وقال هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه قالوا بلى يا رسول الله فقال انصرفي يا أسماء واعملي بأنك من النساء إن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وإتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال أي من حضور الجماعات وشهود الجنائز والجهاد فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبعل ملاعبة المرأة لزوجها والله أعلم
قالت حليمة وكان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلى عنه وإلى قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم يشير صاحب الهمزية بقوله ** وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء ** ** إذ أتته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء ** ** فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء ** ** أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء ** **
____________________

أصبحت شولا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء ** ** أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبي منها غذاء ** ** يا لها منة لقد ضوعف الأجر ** عليها من جنسها والجزاء ** ** وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء **
أي وظهرت في رضاعه وفي زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم أمور خارقة للعادة لوضوحها لا تخفى على العيون
فمن ذلك أن المراضع أبين أن يأخذنه صلى الله عليه وسلم لأجل يتمه فبعد أن تركته أتته فتاة من آل سعد قد أبتها أهل الرضعاء لفقرها فسقته لبنها فسقتها وبنيها الشاء ألبانها وكانت تلك الشياه لا لبن بها بل هزيلات فصارت ذات ألبان وسمن
ومن ذلك أن العيش كثر عندها بعد شدة المحل لأجل حصول غذاء النبي صلى الله عليه وسلم يا لها أي لتلك الخصلة الصادرة من حليمة وهي سقيها له لبنها نعمة منها عليه لقد كرر الثواب والجزاء على تلك النعمة من جنس تلك النعمة لأن الجزاء من جنس العمل فلما سقت اللبن سقيته ولا بدع فإن الله تعالى إذا سخر أناسا لمحبة سعيد والقيام بخدمته فإنهم بسبب ذلك سعداء
أقول لم أقف على رواية فيها أن حليمة أبتها أهل الرضعاء لفقرها وكأن الناظم أخذ ذلك من قولها فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ولا دلالة في ذلك
واستفتى الحافظ ابن حجر عن بعض الوعاظ يذكر عند إجتماع الناس للمولد حادثات أي وقائع تتعلق به صلى الله عليه وسلم جاءت بها الأخبار هي نخلة بالتعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن فيبقى صلى الله عليه وسلم في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم
من ذلك أنهم يقولون إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله ونحو ذلك فما قولكم في ذلك
فأجاب بما نصه ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر أي الحديث ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك بل يجب كما وقع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث قال في بعض نصوصه وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف فكلم فيه فقال لو سرفت فلانة لإمرأة شريفة لقطعتها يعنى فاطمة بنت النبي صلى
____________________

الله عليه وسلم فلم يصرح بإسمها تأدبا معها أن تذكر في هذا المعرض وإن كان صلى الله عليه وسلم ذكرها لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دل على أن الخلق عنده صلى الله عليه وسلم في الشرع سواء فهذا من كمال أدب الإمام رضي الله تعالى عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته أي فإذا جاز حذف بعض الحديث الموهم نقصا في بعض أهل بيته فما بالك بما بوهم النقص فيه صلى الله عليه وسلم وهذا من الحافظ يدل على أن إباء المراضع له صلى الله عليه وسلم وارد حيث أقره ولم ينكره والله أعلم
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أول كلام تكلم به صلى الله عليه وسلم حين فطمته حليمة رضي الله تعالى عنها الله أكبر تكبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا أي وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا عند خروجه من بطن أمه وفي رواية أول كلام تكلم صلى الله عليه وسلم به في بعض الليالي أي وهو عند حليمة لا إله إلا الله قدوسا قدوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم وكان صلى الله عليه وسلم لا يمس شيئا إلا قال بسم الله
وعن حليمة رضي الله عنها لما دخلت به صلى الله عليه وسلم إلى منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك وألقيت محبته صلى الله عليه سلم أي وإعتقاد بركته في قلوب الناس حتى إن أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه صلى الله عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله تعالى سريعا وكذلك إذا اعتل لهم بعير أو شاة انتهى
قالت حليمة فقدمنا مكة على أمه صلى الله عليه وسلم أي بعد أن بلغ سنتين ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته صلى الله عليه وسلم فكلمنا أمه وقلت لها لو تركتي بني عندي حتى يغلظ
وفي كلام ابن الأثير قلنا لها دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فإني أخشى عليه وباء مكة أي مرضها ووخمها فلم نزل بها حتى ردته صلى الله عليه وسلم معنا
وقيل إن أمه صلى الله عليه وسلم آمنة قالت لحليمة ارجعي بابني فإني أخاف عليه وباء مكة فوالله ليكونن له شأن أي ولا مخالفة بينهما لجواز أن حليمة لما قالت لها ما تقدم قالت لحليمة ارجعي بإبني على الفور فإني أخاف عليه وباء مكة أي كما تخافين عليه ذلك قالت حليمة فرجعنا به صلى الله عليه وسلم فوالله إنه بعد مقدمنا به صلى الله عليه وسلم
____________________

بأشهر عبارة ابن الأثير بعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه يعنى من الرضاعة لفى بهم لنا ولعل هذا لا ينافيه قول المحب الطبري فلما شب وبلغ سنتين لأنه ألغى أي ذلك الكسر فبينما هو صلى الله عليه وسلم وأخوه في بهم لنا خلف بيوتنا والبهم أولاد الضأن إذ أتى أخوه يشتد أي يعدو فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه أي يدخلان يديهما في بطنه قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه وفي لفظ لونه أي متغير أي صار لونه كلون النقع الذي هو الغبار وهو صفة ألوان الموتى وذلك لما ناله من الفزع أي من رؤية الملائكة لا من مشقة نشأت عن ذلك الشق لما يأتى في بعض الروايات فلم أجد لذلك حسا ولا ألما ومن ثم قال ابن الجوزي فشقة وما شق عليه وإطلاقه شامل لهذه المرة التي هي الأولى وقد قال بعضهم إنه لم ينتفع لونه إلا وهو صلى الله عليه وسلم صغير في بني سعد
قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني فقال صلى الله عليه وسلم جاءني رجلان عليها ثياب بيض أي وهما جبريل وميكائيل أي وهما المراد بقوله في رواية فأقبل إلي طيران أبيضان كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا أي طلباه فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو أي وسيأتي أن هذا الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه وما أدري ما هو أنه علقة سوداء استخرجاها من قلبه بعد شق بطنه ففي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات
وفي رواية غريبة نزل عليه كركيان فشق أحدهما بمنقاره جوفه ومج الآخر فيه بمنقاره ثلجا أو بردا وقد يقال إن الطيرين تارة شبها بالنسرين وتارة شبها بالكركيين وفي كون مجئ جبريل وميكائيل على صورة النسر لطيفة لأن النسر سيد الطيور فقد جاء في الحديث هبط على جبريل فقال يا محمد إن لكل شيء سيد فسيد البشر آدم وأنت سيد ولد آدم وسيد الروم صهيب وسيد فارس سلمان وسيد الحبش بلال وسيد الشجر السدر وسيد الطير النسر وفي بحر العلوم وسيد الملائكة إسرافيل وسيد الشهداء هابيل وسيد الجبال جبل موسى وسيد الأنعام الثور وسيد الوحوش الفيل وسيد السباع الأسد زاد بعضهم وسيد الشهور رمضان وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام العربية وسيد العربية القرآن وسيد القرآن سورة البقرة
قالت حليمة فرجعنا به صلى الله عليه وسلم إلى خبائنا أي محل الإقامة وقال لي أبوه
____________________

يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك وفي رواية قال الناس يا حليمة رديه على جده واخرجي من أمانتك وفي رواية وقال زوجي أرى أن ترديه على أمه لتعالجه والله إن أصابه ما أصابه إلا حسد من آل فلان لما يرون من عظيم بركته قالت فحملناه فقدمنا به مكة على أمه قال الواقدي وكان إبن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين أي وزاد في الإستيعاب ويومين من مولده صلى الله وكان غيره أي غير ابن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين وذكر الأموي أنه رجع إلى أمه وهو ابن ست سنين انتهى
أقول سياق ما قبله يدل على أن قدوم حليمة به على أمه كان عقب الواقعة المذكورة وتقدم أن سنه حينئذ كان سنتين وأشهر وسيأتي ما فيه والله أعلم
وعن ابن عباس أن حليمة كانت تحدث أنه صلى الله عليه وسلم لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم فقال لي يوما يا أماه مالي لا أرى إخوتي بالنهار يعنى إخوته من الرضاعة وهم أخوه عبدالله وأختاه أنيسة والشيماء بفتح المعجمة وسكون التحية أولاد الحارث قلت فدتك نفسي إنهم يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل قال ابعثيني معهم فكان عليه الصلاة والسلام يخرج مسرورا ويعود مسرورا أي وهذا لا يخالف قولها السابق كان مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا ولا قوله صلى الله عليه وسلم الآتي فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا ولا قوله فبينما أنا ذات يوم منتبذا من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الفتيان كما لا يخفى
قالت حليمة فلما كان يوما من ذلك خرجوا فلما انتصف إليها أتاني أخوه أي وفي رواية إذا أتى ابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادى يا أبت ويا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقانه إلا ميتا قلت وما قضيته قال بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من وسطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ولا أدرى ما فعل به
أقول ولعل ضمرة هذا هو أخوه عبدالله المتقدم ذكره لقب بذلك لخفة جسمه ولا يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الآتي إن أترابه الذين كانوا معه انطلقوا هربا مسرعين إلى الحي يؤذونهم ويستصرخونهم ولأنه يجوز أن يكون ضمرة سبقهم والله أعلم
قالت حليمة فانطلقت أنا وأبوه نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذورة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك فأكببت عليه وقبلته بين عينيه وقلت له فدتك نفسي
____________________

ما الذي دهاك قال خيرا كذا بالنصب يا أماه بينا أنا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة في يد الآخر طست من زمردة خضراء والزمردة بالضم والزاي المعجمة الزبر جد وهو معرب فأخذوني وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا وفيه أن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم الآتي فأخذوني حتى أتوا شفير الوادي فعمد أحدهم فأضجعني إلى الأرض ثم شق من صدري إلى عانتي وسيأتي الجمع بينهما وقوله ثم شق من صدري إلى عانتي هو المراد ببطنه فيما تقدم وما يأتي قال وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما الحديث وفي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه أيضا
أقول ولا منافاة في تلك الرواية بين قولها فوجدناه قائما وبين قولها في هذه الرواية فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل لجواز أن تكون أرادت بقولها قائما كونه حيا وبكونه قاعدا كونه ماكثا كما لا منافاة بين قولها في تلك الرواية منتقعا وجهه وبين قولها في هذه الرواية يتبسم ويضحك لأن ذلك لا ينافي الفزع أو لجواز أن يكون تبسمه وضحكه تعجبا لما رأى من الحالة التي عليها أمه من التعب والشدة والله أعلم
قال وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم مكة لترده على أمه أي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم وقد بلغ أربع سنين أو خمسا أو ستا على ما تقدم أضلته في أعالي مكة فأتت جده عبدالمطلب فقالت إني قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعالي مكة أضلني فوالله ما أدري أين هو فقام عبدالمطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده عليه وفي مرآة الزمان أنه أنشد ** يا رب رد لي ولدي محمدا ** أردده ربي واصطنع عندي يدا **
وسيأتي أن هذا البيت أنشده عبدالمطلب حين بعث صلى الله عليه وسلم ليرد إبلا له ضلت
وقد يقال لا مانع من تكرر ذلك منه فسمع هاتفا من السماء يقول أيها الناس لا تضجوا إن لمحمد ربا لن يخذله ولا يضيعه فقال عبدالمطلب من لنا به فقال إنه بوادي تهامة عند الشجرة اليمنى فركب عبد المطلب نحوه وتبعه ورقة بن نوفل وسيأتي بعض ترجمة ورقة فوجداه صلى الله عليه وسلم قائما تحت شجرة يجذب عصنا من أغصانها فقال له جده من أنت يا غلام فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال وأنا عبدالمطلب جدك فدتك نفسي وأحتمله وعانقه وهو يبكى ثم رجع إلى مكة وهو قدامه على قربوس فرسه ونحر الشياه والبقر وأطعم أهل مكة
____________________


أقول وقول جده من أنت يا غلام لعله لكونه وجده على حالة لا توجد لمن يكون في سنه عادة كما تقدم عن حليمة من قولها كان يشب شبابا لا يشبه الغلمان
وفي السيرة الهشامية أن الذي وجده هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبدالمطلب أي ويقال إن عمرو بن نفيل رآه وهو لا يعرفه فقال له من أنت يا غلام فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبدالمطلب
وفي كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ضللت عن جدي عبدالمطلب وأنا صبي وصار ينشد وهو متعلق باستار الكعبة يا رب رد ولدي محمدا البيت فجاء أبو جهل بين يديه على ناقة وقال لجدي ألا تدري ما وقع من إبنك فسأله فقال أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت أن تقوم فأركبته من امامي فقامت ويحتاج إلى جمع على تقدير صحة كل مما ذكر
وقد يقال لا مانع من تعدد ذلك ويدل لذلك أن بعض المفسرين قال في تفسير قوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } قيل ضل عن حليمة مرضعته وقيل ضل عن جده عبد المطلب وهوصغير
قالت حليمة فقالت أمه ما أقدمك به يا ظئر أي يا مرضعة ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك قلت قد بلغ والله وقضيت الذي على وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين فقالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها قالت أفتخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لإبني شأنا أفلا أخبرك خبره قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت أي ما علمت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانطلقي راشدة
قال وعن حليمة أنه مر عليها جماعة من اليهود فقالت ألا تحدثوني عن ابن هذا حملته كذا ووضعته كذا ورأيت كذا كما وصفت لها أمه أي فإنها ذكرت لها ذلك مرتين عند دفعه لها وعند أخذه منها انتهى
____________________


أقول ولا ينافي ذلك قول آمنة لحليمة أولا أخبرك خبره وقول حليمة لها بلى لجواز أن تكون أمه لم تكن متذكرة أنها أخبرتها بذلك قبل ذلك وأن حليمة كذلك أو جوزت حليمة أنها تخبرها بزيادة عما أخبرتها به أولا بناء على إتحاد ما أخبرتها به أولا وثانيا والله أعلم
قالت ولما أخبرت أولئك اليهود بذلك قال بعضهم لبعض اقتلوه فقالو أيتيم هو فقالت لا هذا أبوه وأنا أمه فقالوا لو كان يتيما قتلناه
أقول وهذا يدل على أن ما ذكرته أمه لحليمة من أنها حين حملت به خرج منها نور إلى آخر ما تقدم وأن يكون لا أب له مذكورا في بعض الكتب القديمة أنه من علامة نبوة النبي المنتظر والله أعلم
قال وعنها أنها نزلت به سوق عكاظ أي وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف كانت العرب إذا حجت أقامت بهذا السوق شهر شوال فكانوا يتفاخرون فيه وللمفاخرة فيه سمى عطاظ يقال عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه في المفاخرة
وفي كلام بعضهم كان سوق عكاظ لثقيف وقيس غيلان فرآه كاهن من الكهان فقال يا أهل سوق عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا فزاغت أي مالت به وحادت عن الطريق فأنجاه الله تعالى أي وفى الوفاء لما قامت سوق عكاظ أنطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم فلما نظر إليه صاح يا معشر هذيل يا معشر العرب فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبي فأنسلت حليمة به فجعل الناس يقولون أي صبي فيقول هذاالصبي فلا يرون شيئا فيقال له ما هو فيقول رأيت غلاما والآلهة ليقتلن أهل دينكم وليكسرن آلهتكم وليظهرن أمره عليكم فطلب فلم يوجد
وعنها رضي الله عنها أنها لما رجعت به مرت بذي المجاز وهو سوق للجاهلية على فرسخ من عرفة أي وهذا السوق قبله سوق يقال له سوق مجنة كانت العرب تنتقل إليه بعد انفضاضهم من سوق عكاظ فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة ثم تنتقل إلى هذا السوق الذي هو سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج وكان بهذا السوق عراف أي منجم يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________

أي نظر إلى خاتم النبوة وإلى الحمرة في عينيه صاح يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبي فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم إن هذا لينظر أمرا من السماء وجعل يغرى بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يلبث أن وله فذهب عقله حتى مات
أي وفي السيرة الهشامية أن نفرا نصارى من الحبشة رأوه صلى الله عليه وسلم مع أمه السعدية حين رجعت به إلى أمه بعد فطامه فنظروا إليه وقلبوه أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه وقالوا لها هل يشتكي عينيه قالت لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه ثم قالوا لها لتأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا فإن هذا الغلام كائن لنا وله شأن نحن نعرف أمره فلم تكد تنفلت به صلى الله عليه وسلم منهم وأتت به إلى أمه
وعنه صلى الله عليه وسلم واسترضعت في بني سعد فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بيد أحدهما طست من ذهب مملوء ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها أي وقيل هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله وفي رواية فاستخرجا منه علقتين سوداوين أي ولا مخالفة لجواز أن تكون تلك العلقة انفلقت نصفين وفي رواية فاستخرجا منه مغمز الشيطان أي وهو المعبر عنه في الرواية قبلها بحظ الشيطان
ولا ينافي ذلك قوله في الرواية السابقة ولا أدري ماهو لجواز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذا بعد أن علمه والمراد بمغمز الشيطان محل غمزه اي محل ما يلقيه من الامور التي لا تنبغي لأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه فلم يبق فيه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئا فلم يكن للشيطان فيه حظ وليست هي محل غمزه عتد ولادته صلى الله عليه وسلم كما يوهمه كلام غير واحد
وفيه أن هذا يقتضي أن يكون قبل إزالة ذلك كان للشيطان عليه سبيل أجاب السبكي بأنه لا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء أي بالفعل فليتأمل
وسئل السبكي رحمه الله تعالى فلم خلق الله ذلك القابل في الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلقه الله فيها وأجاب بأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة
____________________

للخلق الإنساني ثم نزعت تكرمه له صلى الله عليه وسلم أي وليظهر للخلق بتلك التكرمة ليتحققوا كمال باطنه كما تحققوا كمال ظاهره أي لأنه لو خلق صلى الله عليه وسلم خاليا عنها لم تظهر تلك الكرامة
وفيه أنه يرد على ذلك ولادته صلى الله عليه وسلم من غير قلفة وأجيب بالفرق بينهما بأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال وقد تقدم كل ذلك
وذكر السهيلي رحمه الله ما يفيد أن هذه العلقة هي محل مغمز الشيطان عند الولادة حيث قال أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما لم يخلق من منى الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس أعيذ من مغمز الشيطان
قال ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه الصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم لأن محمد صلى الله عليه وسلم قد نزع منه ذلك الغمز هذا كلامه وقد علمت أنه إنما هو محل ما يلقيه الشيطان من الأمور التي لا تنبغي وأن ذلك مخلوق في كل واحد من الأنبياء عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ولم تنزع إلا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم ثم غسلا قلبي بذلك الثلج أي الذي في ذلك الطست حتى أنقياه أي وملآه حكمة وإيمانا كما في بعض الروايات أي و رواية ثم قال أحدهما لصاحبه ائتني بالسكينة فأتى بها فذراها في قلبي وهذه السكينة يحتمل أنها الحكمة والإيمان ويحتمل أن تكون غيرهما وهذه الرواية فيها أن الطست كان من ذهب وكذا في الرواية الآتية وفي الرواية قبل هذه كانت من زمردة خضراء ويحتاج الى الجمع وسنذكره في هذه الرواية وكذا الرواية الآتية أن الثلج كان في الطست وفي الرواية قبل هذه كان في يد أحدهما إبريق فضة ويحتاج الى الجمع لأن الواقعة لم تتعدد وهو عند حليمة وفي غسله بالثلج إشعار بثلج اليقين وبرده على الفؤاد ذكره السهيلي رحمه الله
وذكر في حكمة كون الطست من ذهب كلاما طويلا قال صلى الله عليه وسلم وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن وفي الروايات السابقة طي ذكر الخاتم
وتتمة الجواب الذي أجاب به صلى الله عليه وسلم أخا بني عامر التي وعدنا بذكرها هنا هو قوله صلى الله عليه وسلم وكنت مسترضعا في بني سعد فبينا أنا ذات يوم منتبذا
____________________

أي منفردا من أهلي في بطن واد مع أتراب لي أي المقاربين بالموحدة أو النون لي في السن من الصبيان إذ أتى رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى أتوا على شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا ما أر بكم أي ما حاجتكم إلى هذا الغلام فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريس وهو مرتضع فينا يتيم ليس له أب فما يرد عليكم أن يفيدكم قتله وماذا تصيبون من ذلك فإن كنتم لابد قاتلوه أي إن كان لا بد لكم من قتل واحد فاختاروا منا من شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم فلما رأى الصبيان أن القوم لا يجيبون جوابا انطلقوا هرابا مسرعين الى الحي يؤذنونهم أي يعلمونهم ويستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم إلى فأضجعني على الأرض اضجاعا لطيفا ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك مسا أي أدنى مشقة واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها أي بالغ في غسلها ثم أعادها مكانها أي وقد طوى ذكر استخراج الأحشاء وغسلها في الروايات السابقة ولا يخفى أن من جملة الأحشاء ظاهر القلب ثم قال الثاني منهم لصاحبه تنح عنه فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء تقدم التعبير عنها بالعلقة السوداء ثم رمى بها ثم قال بيدة يمنة منه كأنه يتناول شيئا وإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي أي بعد التئام شقه فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة وقد تقدم وملآه حكمة وإيمانا وإن السكينة ذرت فيه ثم أعاده مكانه فوجدت برد الخاتم في قلبي دهرا وفي رواية فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي
أقول نقل شيخ بعض مشايخنا الشيخ نجم الدين الغيطي عن مغازي ابن عائذ في حديثه صلى الله عليه وسلم لأخي بني عامر وأقبل أي الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه فليتأمل ذلك وقوله فصدعه يدل بظاهره على أن صدعه كان بيد الملك فلم يشقه بآلة وحينئذ يكون المراد بالشق الصدع بلا آلة وقد طوى في هذه الرواية ذكر ملء قلبه حكمة وإيمانا وأنه ذر فيه السكينة وذكر في هذه الرواية أن الختم كان لقلبه صلى الله عليه وسلم وفي الرواية قبلها أنه كان بين كتفيه وفي رواية ابن عائذ وبين ثدييه ويحتاج الى الجمع والظاهر أن متعاطي الختم جبريل ويدل عليه قول
____________________

صاحب الهمزية رحمه الله في هذه القصة ختمته يمنى الأمين وسيأتي التصريح بذلك لكن في غير هذه القصة والله أعلم قال صلى الله عليه وسلم ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه فنحاه عني فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى وختم عليه وفي رواية قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه
أقول وقد يقال معنى خطه ألحمه فخاطه أي لحمه أي مر بيده عليه فالتحم أي فلا يخالف ما سبق ولا ينافيه ما في الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم لجواز أي يكون المراد يرون أثرا كأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم وهو أثر مرور يد جبريل عليه الصلاة والسلام وهذا طوى ذكره في الروايات السابقة وقوله ختم عليه يقتضى أن الختم كان في صدره صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن عائذ أنه بين ثدييه لكنه زاد بين كتفيه وتقدم ان الختم كان بقلبه
وقد يقال في الجمع لا مانع من تعدد الختم في المحال المذكورة أي في قلبه وصدره وبين كتفيه فختم القلب لحفظ ما فيه وختم الصدر وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب وجسده وعاؤه البعيد وخص بين الكتفين لأنه أقرب إلى القلب من بقية الجسد ولعله أولى من جواب القاضي عياض رحمه الله بأن الذي بين كتفيه هو أثر ذلك الختم الذي كان في صدره إذ هو خلاف الظاهر من قوله وجعل الخاتم بين كتفي وفيه السكوت عن ختم قلبه ولا يحسن أن يراد بالصدر القلب من باب تسمية الحال بإسم محله لأنه يصير ساكتا عن ختم الصدر
وأولى من جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضا بأنه يجوز أن يكون الختم لقلبه ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في ذلك الجانب لما علمت وفيهما أن الذي عند الأيسر خاتم النبوة أي الذي هو علامة على النبوة الذي ولد صلى الله عليه وسلم به على ما هو الصحيح
وفي الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره وسائر الأنبياء كلهم كان الخاتم في يمينهم
أي فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإن شامة البنوة كانت بين كتفيه هذا كلامه ولم أقف على بيان تلك الشامات التي كانت للأنبياء ما هي
____________________


وكتب الشهاب القسطلاني على هامش الخصائص قوله وجعل خاتم النبوة بظهره الخ مشكل إذ مفهومه أن موضع الدخول لقلوب الأنبياء غير نبينا لم يختم ولا يخفى ما فيه من المحظور فما أشنعها من عبارة وأخطأها من إشارة هذا كلامه
ولك أن تقول المراد بغيره في قوله حيث يدخل الشيطان لغيره من غير الأنبياء لما علم وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان واختص نبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالختم في المحل المذكور مبالغة في حفظه من الشيطان وقطع أطماعه فليتأمل
لا يقال كل من جواب القاضي والحافظ ابن حجر يجوز أن يكون مبنيا على أن خاتم النبوة هو أثر هذا الختم وهو موافق لما تمسك به القائل بأن خاتم النبوة لم يولد به وإنما حدث بعد الولادة
لأنا نقول على تسليم أنه حدث بعد الولادة فقد وجد عقبها فعن ابن نعيم في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة وبذلك يعلم أن خاتم النبوة ليس أثرا لهذا الخاتم
وكلام السهيلى يقتضى أنه هو حيث قال إن هذا الحديث الذي في شق صدره في الرضاعة فيه فائدة من تبيين العلم وذلك أن خاتم النبوة لم يدر أنه خلق به أو وضع فيه بعد ما ولد أو حين نبئ فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله تعالى علما وأوزعنا شكر ما علم هذا كلامه
ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث قال ومقتضى الأحاديث التي فيها شق الصدر ووضع الخاتم أنه لم يكن موجودا حين ولادته وإنما كان أول وضعه لما شق صدره عند حليمة خلافا لمن قال ولد به أو حين وضع هذا كلامه
ولا يخفى أن ما قلناه من أن هذا الخاتم غير خاتم النبوة أولى لأن به يجتمع القولان وتندفع المخالفة والجمع أولى من التضعيف لما صح من أنه صلى الله عليه وسلم ولد به وعلى أنه هو يلزم أن يكون خاتم النبوة تعدد محله فوجد بين كتفيه وفي صدره وفي قلبه
____________________


لايقال قد أشير إلى الجواب عن ذلك بأن الموجود بين كتفيه إنما هو أثر ما في صدره وقلبه
لأنا نقول يبطله ما تقدم عن الدلائل لأبي نعيم وما تقدم عن بعض الروايات فأقبل الملك وفي يده خاتم فوضعه بين كتفيه وثدييه وأيضا يلزم عليه أن يكون خاتم النبوة تكرر الإتيان به ثانيا في قصة المبعث وثالثا في قصة الإسراء ففي قصة المبعث فأكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري وفي قصة الإسراء ثم ختم يبن كتفيه بخاتم النبوة وكل منهما يبطل كون ما في ظهره أو بين كتفيه أثرا لذلك الختم الذي وجد في صدره أو قلبه
إلا أن يقال ما في قصة المبعث وقصة الإسراء غير خاتم النبوة وإن خاتم النبوة إنما هو الأثر الحاصل من ختم صدره وقلبه في قصة الرضاعة وإنه تكرر الختم على ذلك الأثر في المبعث وفي قصة الإسرء وفيه أنه لا معنى لتكرر الختم في محل واحد
ولا يقال الغرض منه المبالغة في الحفظ لأن ذلك إنما يكون عند تعدد محل الختم لا عند إعادته ثانيا وثالثا في محل واحد وأيضا هو خلاف ظاهر كلامهم من أنه في المحال الثلاثة خاتم النبوة ويؤيده أن المتبادر من القول في قصة الإسراء ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة أنه جعل خاتم النبوة بين كتفيه وإلا فما معنى كون الخاتم بمعنى الطابع أي خاتم النبوة
فإن قلت على دعوى الغيرية يحتاج إلى الجواب عن قوله بخاتم النبوة قلت قد يقال هذا ليس برواية عن الشارع وإنما وقعت تلك العبارة عن بضعهم ويجوز أن يكون الباء في كلامهم بمعنى مع أي مع خاتم النبوة فتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنها ضا لطيفا ثم قال الأول للذي شق صدري زنه بعشرين من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم كلهم ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا يا حبيب الله لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك
أقول في بعض الروايات زنه بعشرة ثم قال زنه بمائة ففي هذه الرواية طى الذكر وزنه بعشرين وفي تلك الرواية طي ذكر وزنه بعشرة والله أعلم
____________________


قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينا نحن كذلك إذا الحي قد أقبلوا بحذافيرهم أي بأجمعهم وإذا بظئرى أي مرضعتي أما الحي تهتف أي تصيح بأعلى صوتها وتقول واضعيفاه فأكبوا على يعني الملائكة الذين هم أولئك الرهط الثلاثة وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئرى يا وحيداه فأكبواعلى فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض ثم قالت ظئرى يايتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فأكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما أريد بك من الخير لقرت عينك فوصلوا يعنى الحي إلى شفير الوادي فلما أبصرتني أمي وهي ظئرى قالت لا أراك إلا حيا بعد فجاءت حتى أكبت على ثم ضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ويدي في أيديهم يعني الملائكة وجعل القوم لا يعرفونهم أي لا يبصرونهم فأقبل بعض القوم يقول إن هذا الغلام قد أصابه لمم أي طرف من الجنون أو طائف من الجن أي وهي اللمة فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه فقلت يا هذا ما بي مما تذكر إن آرابى أي أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة أي علة يقلب بها إلى من ينظر فيها فقال أبي وهو زوج ظئرى ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بإبني بأس واتفقوا على أن يذهبوا بي إليه أي إلى الكاهن فلما انصرفوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم فسألني فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره فوثب قائما إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته يا للعرب يا للعرب من شر قد اقترب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك مدرك الرجال ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله وفي رواية ليسفهن أحلامكم أي عقولكم وليكذبن أوثانكم وليدعونكم إلى رب لم تعرفونه ودين تنكرونه فعمدت ظئرى وانتزعتني من حجره وقالت لأنت أعته وأجن ولو علمت أن هذا قولك ما أتيتك به فاطلب لنفسك من يقتلك فأنا غير قاتلي هذا الغلام ثم احتملوني إلى أهلهم وأصبحت مفزعا مما فعلوا يعني الملائكة بي أي من حملي من بين أترابي وإلقائي إلى الأرض لا من خصوص الشق لما تقدم وأصبح
____________________

أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي أي أثر التئام الشق الناشئ عن إمرار يد الملك كأنه الشراك
أقول الشراك أحد سيور النعل الذي هو المداس الذي يكون على وجهها ولعل حكمة بقائه ليدل على وجود الشق
واعلم أنه حيث كانت قصة شق صدره الشريف في زمن الرضاع عند حليمة واحدة يكون هذه الروايات المراد منها واحد وأن بعضها وقع فيها الإختصار عما وقعت به الإطالة في بعضها وأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة كانوا ثلاثة لا ينافى إخباره بأنهم كانوا إثنين ونسبة الأخذ والإضجاع والشق للبطن أو الصدر إلى الثلاثة أو إلى الإثنين لا ينافى أن متعاطى ذلك واحد منهم كما أخبر به أخوه وجاء التصريح به في بعض الروايات وأن التعبير في بعضها بشق البطن هو المراد بشق الصدر إلى منتهى العانة في بعضها وأنه ليس المراد بشق البطن أو شق الصدر شق القلب لما تقدم في الرواية واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قال لصاحبه تنح عنه فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي فصدعه الحديث وأنه يجوز أن يكون الطست كان متعددا واحدا من زمردة خضراء وواحدا من ذهب وأن الأول كان فارغا معدا لأن يلقى فيه ماء يغسل به باطنه أي مع أحشائه ومنها أي من جملة الأحشاء ظاهر قلبه من الإبريق الفضة وأن الثاني كان مملوءا ثلجا معدا لأن يغسل به قلبه أي داخل قلبه
وحينئذ يكون في بعض الروايات اقتصر على القلب وفي بعضها جمع بينه وبين الأحشاء في ذلك ويحتاج إلى الجمع بين كون الشق في ذروة الجبل وكونه في شفير الوادي وكون المخرج علقة وكونه مضغة
وقد يقال جاز أن تكون ذروة الجبل قريبة من شفير الوادي وأنه عبر عن الذي أخرجه وألقاه تارة بالعلقة وتارة بالمضغة ولعل تلك المضغة كانت قريبة من العلقة ولا يخفى أن هذه العلقة يحتمل أنها غير حبة القلب التي أخذت منها المحبة وهي علقة سوداء في صميمه المسماة بسويداء القلب
ويحتمل أنها هي والله أعلم وقد أشار إلى هذه القصة صاحب الهمزية بقوله ** وأتت جده وقد فصلته ** وبها من فصاله البرحاء ** ** إذ أحاطت به ملائكة الله ** فظنت بأنهم قرناء ** **
____________________

ورأى وجدها به ومن الوج ** د لهيب تصلى به الأحشاء ** ** فارقته كرها وكان لديها ** ثاويا لا يمل منه الثواء ** ** شق عن قلبه وأخرج منه ** مضغة عند غسله سوداء ** ** ختمته يمنى الأمير وقد أو ** دع مالم يذع له أنباء ** ** صان أسراره الختام فلا الف ** ض ملم به ولا الإفضاء **
أي وأتت حليمة به جده والحال أنها فطمته والحال أنه لحق بها من أجل فطامه ورده التألم الزائد وردها له لأجل أنه أحدقت به ملائكة الله فظنتهم شياطين ورأى شدة محبتها له وتعلقها به وقد حصل لها من الوجد الذي بها لهب تحترق الأحشاء به وهي ما تحويه الضلوع وفارقته بعد ردها له كارهة لفراقه والحال أنه كان مقيما عندها لا تمل ذلك منه وقد شق عن قلبه وأخرج من ذلك القلب عند غسله مضغة سوداء ختمت على ذلك القلب يمين الأمين جبريل بخاتم والحال أن ذلك القلب الشريف قد أودع من الأسرار الإلهية مالم تنشره أخبار لأن تلك الأسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى حفظ ذلك الختام أسراره التي أودعت فيه فلا الكسر واقع بذلك الختم ولا الإشاعة واقعة لتلك الأسرار
أقول قد علمت أن صدره الشريف شق مرتين غير هذه المرة مرة عند مجيء الوحي ومرة عند المعراج وزاد بعضهم أنه شق عند بلوغه عشر سنين كما مسلم
ولما بلغ عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة أي ولعلها هي المعنية بقول صاحب المواهب وروى خامسة ولم تثبت وستأتي تلك الخامسة عن الدر المنثور وسيأتي ما فيها والله أعلم
قال وفي المرة التي كان ابن عشر سنين أي وأشهر قال صلى الله عليه وسلم جاءني رجلان فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعني لحلاوة القفا ثم شقا بطني فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي ثم شق قلبي فقال أخرج الغل والحسد منه فأخرج منه العلقة
والمتبادر أن أل في العلقة للعهد وهي العلقة السوداء التي تقدم أنها حظ الشيطان وأنها مغمزه فهي محل الغل والحسد
وفيه أنه تقدم أيضا أن تلك العلقة أخرجت وألقيت قبل هذا المرة وتكرر نبذها
____________________

مستحيل إلا أن تحمل العلقة على جزء بقى من أجزائها بناء على جواز أنها تجزأت أكثر من جزءين المعبر عنهما فيما تقدم عن بعض الروايات علقتين سوداوين إلا أن يقال المراد بقوله فأخرج منه العلقة أي أخرج ما هو كالعلقة أي شيئا يشبه العلقة كما سيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات فأدخل شيئا كهيئة الفضة ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه أي على شق القلب ليلتحم به ثم نقر إبهامي ثم قال اغد واسلم
أقول لم يذكر في هذه المرة الختم وظاهر هذه الرواية أن الصدر التحم بمجرد ذر الذرور وتقدم في قصة الرضاع أن ذلك كان من إمرار يد الملك وإستمر أثر التئام الشق يشاهد كالشراك
وفي الدر المنثور عن زوائد مسند الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن أبي هريرة قال يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا برجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وثياب لم أرها على أحد قط فأقبلا إلى يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر أي من غير إتعاب فقال أحدهما لصاحبه أفلق صدره ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له أخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج أي ليدخله شبه الفضة ثم نقر إبهام رجلي اليمنى وقال أغد واسلم فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير ولم يذكر في هذه المرة الغسل فضلا عما يغسل به ولم يذكر الختم ولكن قول الرجل للآخر أهو هو يدل على أن الرجلين ليسا جبريل وميكائيل لأنهما يعرفانه وقد فعلا به ذلك في قصة الرضاع وقد يدعى أن هذه الرواية هي عين الرواية قبلها وذكر عشرين سنة غلط من الراوي وإنما هي عشر سنين
ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو كان سنه عشر حجج وقد تحمل هذه المرة أي كونه ابن عشرين سنة على أن ذلك كان في المنام وإن كان خلاف ظاهر السياق
وقال صلى الله عليه وسلم في المرة التي هي عند إبتداء الوحي جاءني جبريل وميكائيل فاخذني جبريل وألقاني لحلاوة القفا ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم أستخرج منه ما شاء الله أن يستخرج ولم يبين ذلك ما هو ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده
____________________

مكانه ثم لأمه أي بذلك الذرور أي بإمرار يده أو بهما جميعا ثم أكفأني كما يكفي الإناء ثم ختم في ظهري
يحتمل أن يكون المراد في غير المحل الذي ختمه في قصة الرضاع وهو بين كتفيه ويحتمل أن المراد بظهره المحل الذي ختمه في قصة الرضاع
وفيه أنه لا معنى لوضع الختم على الختم كما تقدم ويمكن أن تكون الحكمة في الجمع بين جبريل وميكائيل أن ميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد والأشباح وجبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح والمرة التي هي عند المعراج سيأتي الكلام عليها وفيها أن الختم وقع بين كتفيه وفيه ما علمت
وقد علمت أن شق الصدر والبطن غير شق القلب وأن شق القلب وإخراج العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان ومغمزه مما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
وما في بعض الآثار أن التابوت أي تابوت بني إسرائيل كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء المراد ظاهر قلوبهم لأن القلب من جملة الأحشاء التي غسلت بغسل الصدر أو البطن كما تقدم على أن ابن دحية ذكر أنه أثر باطل
وقد يطلق الصدر على القلب من باب تسمية الحال بإسم محله ومنه ما وقع في قصة المعراج ثم أتى بطست ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغ في صدره ومنه قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى إن شق صدره الشريف من خصائصه صلى الله عليه وسلم على الأصح من القولين أي شق قلبه وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على المعراج بما هو أبسط مما هنا
وعن حليمة رضي الله تعالى عنها أنها كانت بعد رجوعها به صلى الله عليه وسلم من مكة لا تدعه أي يذهب مكانا بعيدا أي عنها فغفلت عنه صلى الله عليه وسلم يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته أي من الرضاعة وهي الشيماء وكانت تحضنه مع أمها أي ولذلك تدعى أم النبي أيضا أي وكانت ترقصه بقولها ** هذا أخ لي لم تلده أمي ** وليس من نسل أبي وعمي ** ** فأنمه اللهم فيما تنمى **
فقالت في هذا الحر أي لا ينبغي أي يكون في هذا الحر فقالت أخته يا أمه
____________________

ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع فجعلت تقول أحقا يا بنية قالت إي والله فجعلت تقول أعوذ بالله من شر ما يحذر على إبني أي وفي كلام بعضهم ورأت يعنى حليمة الغمامة تظله إذا وقف وقفت وإذا سار سارت
وقد يقال الرؤية في حق حليمة علمية وفي حق أخته بصرية فلا مخالفة أو أنها أبصرتها بعد الإخبار بها كما يدل على ذلك القول بأنه أفزعها ذلك من أمره أي في كونها فزعت من ذلك بعد إخبار أخته لها بذلك شيء فقدمت به على أمه
أقول عن الواقدي أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم إلى مكة لترده لأمه رأت غمامة تظله في الطريق إن سار سارت وإن وقف وقفت وسياق هذه الرواية يقتضى أنها ردته إلى أمه عقب مجيئها به من مكة وأن ذلك كان قبل شق صدره عندها
وحينئذ تكون هذه قدمة ثانية لحليمة إلى مكة كانت قبل شق صدره ففي القدمة الأولى كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين وفي هذه القدمة كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهرا وتكون هذه المراة الثانية محمل قول حليمة فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر وقول ابن الأثير بشهرين أو ثلاثة
وأما في القدمة الثالثة وهي التي بعد شق صدره وتركها له صلى الله عليه وسلم عند أمه كان سنه أربع سنين وفيها كانت وفاتها على ما يأتي وقيل خمس سنين قاله ابن عباس وقيل ست سنين ويكون بعض الرواة اشتبه عليه الأمر وظن أن هذه القدمة الثانية التي قبل شق صدره هي الثالثة التي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم فلزم الإشكال فتأمل ذلك تأملا حميدا ولا تكن ممن يفهم تقليدا والله أعلم
ووفدت عليه صلى الله عليه وسلم حليمة بعد تزوجه خديجة تشكو إليه ضيق العيش فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات جمع بكرة وهي الثنية من الإبل أي وفي رواية أربعين شاة وبعيرا
ووفدت عليه يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه أي فقد قال بعضهم لم تره بعد أن ردته إلا مرتين إحداهما بعد تزوجه خديجة أي وعليه تكون هذه المرة هي التي قدمت فيها مع زوجها وولدها وأجلسهم على ردائه أي ثوبه الذي كان جالسا عليه كما تقدم والمرة الثانية يوم حنين
____________________


وفي كلام القاضي عياض ثم جاءت أبا بكر ففعل ذلك أي بسط لها رداءه ثم جاءت عمر ففعل كذلك
وفي كلام ابن كثير أن حديث مجيئ أمه صلى الله عليه وسلم إليه في حنين غريب وإن كان محفوظا فقد عمرت دهرا طويلا لأن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أي بعد رجوعه من حنين أزيد من ستين سنة وأقل ما كان عمرها حين أرضعته عليه الصلاة والسلام ثلاثين سنة وكونها وفدت على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما تزيد المدة على المائة
وعن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة أي بعد رجوعه من حنين كما تقدم والطائف وأنا غلام شاب فأقبلت امرأة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فقيل من هذه قيل أمه التي أرضعته صلى الله عليه وسلم وفي رواية استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت ترضعه فلما دخلت عليه قال أمي أمي وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه وتقدم عن شرح الهمزية لإبن حجر أن من سعادة حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها
وفي الأصل ومن الناس من ينكر إسلامها وأشار بذلك إلى شيخه الحافظ الدمياطي فإنه من جملة المنكرين حيث قال أي وفي سيرته حليمة لا يعرف لها صحبة ولا إسلام وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة وليس بشيء وكان الأنسب أن يقول ذكروا إسلامها وليس بشيء ويوافقه قول الحافظ ابن كثير الظاهر أن حليمة لم تدرك البعثة ورده بعضهم فقال إسلامها لا شك فيه عند جماهير العلماء ولا يعول على قول بعض المتأخرين إنه لم يثبت فقد روى ابن حبان حديثا صحيحا دل على إسلامها وأنكر الحافظ الدمياطي وفودها عليه في حنين وقال الوافدة عليه في ذلك إنما هي أخته من الرضاعة وهي الشيماء
أقول وعلى صحة ما قاله الحافظ الدمياطي لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم أمي أمي لأنه كان يقال لأخته الشيماء أم النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تحضنه مع أمها كما تقدم ولا قول بعض الصحابة أمه التي أرضعته لأنه يجوز أنه لما قيل أمه حملها على المرضعة له صلى الله عليه وسلم لتيقن موت أمه من النسب وعلى كون الوافدة عليه في حنين أخته اقتصر في الهدى والله أعلم
____________________


أقول قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد عدة آثار في مجيء أمه من الرضاعة إليه صلى الله عليه وسلم في حنين وفي تعدد هذه الطرق ما يقتضى أن لها أصلا أصيلا وفي إتفاق الطرق على أنها أمه رد على من زعم أن التي قدمت عليه أخته
أقول لا رد في ذلك لأنه علم أن أخته المذكورة كان يقال لها أم النبي صلى الله عليه وسلم ووصف بعض الصحابة لها بأنها أمه من الرضاعة تقدم أنه يجوز أن يكون بحسب ما فهم
ومما يعين أنها أخته ما سيأتي أنها لما أخذت في حنين من جملة سبى هوازن قالت للمسلمين أنا أخت صاحبكم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له يا رسول الله أنا أختك قال وما علامة ذلك قالت عضة عضيتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فقام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ودمعت عيناه إلى آخر ما يأتي
وكلام المواهب يقتضى أنهما قضيتان واحدة كانت فيها أخته والآخرى كانت فيها أمه من الرضاعة حيث قال وقد روى أن خيلا له صلى الله عليه وسلم أغارت على هوازن فأخذوها يعنى أخته من الرضاعة التي هي الشيماء فقالت أنا أخت صاحبكم إلى أن قال فبسط لها رداءه وأجلسها عليه فأسلمت ثم قال وجاءته يعنى أمه من الرضاعة التي هي حليمة يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست عليه
وهذا كما ترى يوهم أن الخيل التي أغارت على هوازن التي كانت فيها أخته لم تكن في حنين وأن أمه لم تكن يوم حنين في سبى هوازن مع أن القصة واحدة وأن سبى هوازن كان يوم حنين فيلزم أن يكون جاء إليه يوم حنين كل من أمه وأخته من الرضاعة الأولى في غير السبي والثانية في السبى وأنه فرش لكل رداءه وهو تابع في ذلك لإبن عبدالبر حيث قال في الإستيعاب حليمة السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة جاءت إليه يوم حنين فقام لها وبسط لها رداءه فجلست عليه وروت عنه وروى عنها عبدالله بن جعفر ثم قال حذافة أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة يقال لها الشيماء أغارت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوازن فأخذوها فيما أخذوا من السبى الحديث وكون عبدالله بن جعفر روى عن حليمة
قال الحافظ ابن حجر لا يتهيأ له السماع منها إلا بعد الهجرة بسبع سنين فأكثر لأنه قدم
____________________

من الحبشة مع أبيه الذي هو جعفر بن أبي طالب في خيبر سنة سبع وتبعد حياتها وبقاؤها إلى ذلك الزمن
وفيه أن حنينا بعد خيبر وأبعد من ذلك وقوفها على أبي بكر وعمر وقد تقدم ما يشعر بإستبعاد ذلك عن ابن كثير
والذي يتجه أن الوافدة عليه في حنين أخته لا أمه كما يقول الحافظ الدمياطي والله أعلم قال قال أبو الفرج بن الجوزي ثم قدمت أي حليمة عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت أي فلا يقال سلمنا أن حليمة هي القادمة عليه أي بعد النبوة فما الدليل على إسلامها
أقول كان من حقه أن يقول بدل هذه العبارة التي ذكرها وإنما قال يعنى ابن الجوزي فأسلمت بعد قوله قدمت عليه بعد النبوة لأنه لا يلزم من قدومها عليه بعد النبوة إسلامها
وفي كون قول بن الجوزي فأسلمت دليلا على إسلامها نظر بل هي دعوى تحتاج إلى دليل إلا أن يقال قول ابن الجوزي فأسلمت دليل لنا على إسلامها والله أعلم
وذكر الذهبي أن التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم في الجعرانة يجوز أن تكون ثويبة ونظر فيه بأن ثويبة توفت سنة سبع أي من الهجرة أي مرجعه من خيبر على ما تقدم
أقول ذكر في النور أن الحافظ مغلطاي له مؤلف في إسلام حليمة سماه التحفة الجسيمة في إسلام حليمة
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم ترضعه مرضعة إلا وأسلمت لكن هذا البعض قال ومرضعاته صلى الله عليه وسلم أربع أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم أيمن أيضا
وهو يؤيد ما تقدم عن ابن منده من إسلام ثويبة وأما إسلام آمنة فسنذكره وكون أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم تقدم ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________

& باب وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبدالمطلب إياه
أي إختصاصه بذلك
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت أمه لما بلغ ست سنين وقيل كان سنه أربع سنين وبه صدر في المواهب أي وهو يرد القول بأن حليمة لما ردته إلى أمه كان عمره خمس أو ست سنين قال وقيل كان سنه صلى الله عليه وسلم سبع سنين وقيل ثمان وقيل تسع وقيل اثنتي عشرة وشهرا عشرة أيام
ووفاتها كانت بالأبواء وهو محل بين مكة والمدينة أي وهو إلى المدينة أقرب وسمى بذلك لأن السيول تتبوأه أي تحل فيه ودفنت به فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما مر بالأبواء في عمرة الحديبية قال إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فأتاه وأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه صلى الله عليه وسلم وقيل له في ذلك فقال أدركتني رحمتها فبكيت وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله أي أخوال جده عبد المطلب لأن أم عبدالمطلب من بني عدي بن النجار كما تقدم بعد أن مكثت عندهم شهرا ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه عبدالله على ما تقدم فحضنته وجاءت به إلى جده عبدالمطلب أي بعد خمسة أيام من موت أمه فضمه إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده
هذا وفي كلام بعضهم وبقى النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أمه بالأبواء حتى أتاه الخبر إلى مكة وجاءت أم أيمن مولاة أبيه عبدالله فاحتملته وذلك لخامسة من موت أمه فليتأمل
وكون موت أمه صلى الله عليه وسلم كان في حياة عبدالمطلب هو المشهور الذي لا يكاد يعرف غيره وبه يرد قول من قال إن موت عبدالمطلب كان قبل موت أمه صلى الله عليه وسلم بسنتين
أي وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن أنت أمي بعد أمي ويقول أم أيمن أمي بعد أمي وفي القاموس دار رابغة بالغين المعجمة بمكة فيها مدفن أمه صلى الله عليه وسلم
____________________

ولم أقف على محل تلك الدار من مكة قال وقيل توفيت أي دفنت بالحجون بشعب أبي ذؤيب وغلط قائله
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكائه ثم إنه طفق أي شرع يقول يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا ثم عاد إلى وهو فرح متبسم فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم فمم ذاك قال ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها فأحياها فآمنت وردها الله تعالى
وهذا الحديث قد حكم بضعفه جماعة منهم الحافظ أبو الفضل بن ناصر الدين والجوزقاني وابن الجوزي والذهبي في الميزان وأقره على ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان جعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهى عن الإستغفار أي لها
منها ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أي ولعله في عمرة القضاء لأنه لم يقدم مكة نهارا مع أصحابه قبل حجة الوداع إلا في ذلك أتى رسم قبر أمه فجلس إليه فناجاه طويلا ثم بكى قال ابن مسعود فبكينا لبكائه صلى الله عليه وسلم ثم قام ثم دعانا فقال ما أبكاكم قلنا بكينا لبكائك فقال إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة الحديث
وفي رواية أتى قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطبه ثم قام مستعبرا فقال بعض الصحابة يا رسول الله قد رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الإستغفار لها فلم يأذن لي وفي رواية إن جبريل عليه الصلاة والسلام ضرب في صدره صلى الله عليه وسلم وقال لا تستغفر لمن مات مشركا فما رؤى باكيا أكثر منه يومئذ وفي رواية استأذنته في الدعاء لها أي بالإستغفار فلم يأذن لي وأنزل على ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى فأخذني ما يأخذ الولد للوالد قال القاضي عياض بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به أي النافع إجماعا وكونه ناسخا لذلك غير جيد لأن أحاديث النهى عن الإستغفار بعض طرقها صحيح رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما ونص مسلم استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي وأستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي
____________________

فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة وفي لفظ تذكركم الموت وهذا الحديث أي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها على تسليم ضعفه أي دون وضعه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة
أقول ذكر الواحدي في أسباب النزول أن آيتي ما كان للنبي والذين آمنوا وما كان استغفار إبراهيم لأبيه نزلتا لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته فقال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه أي فنزولهما كان عقب موت أبي طالب
لا يقال جاز أن تكون آية ما كان للنبي تكرر نزولها لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه ولما استغفر لأمه لأنا نقول كونه يعود للإستغفار بعد أن نهى عنه فيه ما فيه أو المراد بالنسخ المعارضة يعنى قول ابن شاهين إنه ناسخ أحاديث النهى عن الإستغفار أي معارض لها إذ لامعنى للنسخ هنا على أنه لا معارضة لأن النهي عن الإستغفار لها كان قبل أن تؤمن
وإذا ثبت ماتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وما بعده كان دليلا لمن يقول قبر أمه صلى الله عليه وسلم بمكة وعلى كونها دفنت بالأبواء اقتصر الحافظ الدمياطي في سيرته وكذا ابن هشام في سيرته وفي الوفاء عن ابن سعد أن كون قبرها بمكة غلط وإنما قبرها بالأبواء
وقد يقال على تقدير صحة الحديثين أي أنها دفنت بالأبواء وأنها دفنت بمكة يجوز أنها تكون دفنت أولا بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة فعلم أن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يحييها الله له وتؤمن به ومن ثم قال الحافظ السيوطي إن هذا الحديث أي حديث عائشة قيل إنه موضوع لكن الصواب ضعفه لا وضعه هذا كلامه
ويجوز أن يكون قوله لشخصين أمي وأمكما في النار على تقدير صحته التي ادعاها الحاكم في المستدرك كان قبل إحيائها وإيمانها به كما تقدم نظير ذلك في أبيه صلى الله عليه وسلم
وقولنا على تقدير صحة الحديث إشارة لما تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرد
____________________

الحاكم بالتصحيح في المستدرك لما عرف من تساهله فيه في التصحيح وقد بين الذهبي ضعف هذا الحديث وحلف على عدم صحته يمينا وتقدم الجواب عما يقال كيف ينفع الإيمان بعد الموت وتقدم ما فيه على أن هذا أي منع الأستغفار لها إنما يأتي على القول أن من بدل أو غير أو عبد الأصنام من أهل الفترة معذب وهو قول ضعيف مبنى على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل
والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل فإن إسماعيل انتهت رسالته بموته كبقية الرسل لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعليه أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليهم وإن غيروا أو بدلوا أو عبدوا الأصنام والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر أي من غير أو بدل أو عبدالأصنام مؤولة أو خرجت مخرج الزجر للحمل على الإسلام
ثم رأيت بعضهم رجح أن التكليف بوجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده أي بعدم عبادة الأصنام يكفى فيه وجود رسول دعا إلى ذلك وإن لم يكن ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص بأن لم يدرك زمنه حيث بلغه أنه دعا إلى ذلك أو أمكنه علم ذلك وأن التكليف بغير ذلك من الفروع لا بد فيه من أن يكون ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص وقد بلغته دعوته
وعلى هذا فمن لم يدرك زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ولا زمن من قبله من الرسل معذب على الإشراك بالله بعبادة الأصنام لأنه على فرض أن لا تبلغه دعوة أحد من الرسل السابقين إلى الإيمان بالله وتوحيده لكنه كان متمكنا من علم ذلك فهو تعذيب بعد بعث الرسل لا قبله
وحينئذ لا يشكل ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بعث الله نبيا إلى قوم ثم قبضه إلا جعل بعده فترة يملأ من تلك الفترة جهنم ولعل المراد المبالغة في الكثرة وإلا فقد أخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيرتد بعضها إلى بعض وتقول قط قط أي حسبي بعزتك وكرمك وأما بالنسبة لغير الإيمان والتوحيد من الفروع فلا تعذيب على
____________________

تلك الفروع لعدم بعثة رسول إليهم فأهل الفترة وإن كانوا مقرين بالله إلا أنهم أشركوا بعبادة الأصنام
فقد حكى الله تعالى عنهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقد جاء النهى عن ذلك على ألسنة الرسل السابقين
ووجه التفرقة بين الإيمان والتوحيد وغير ذلك أن الشرائع بالنسبة للإيمان بالله وتوحيده كالشريعة الواحدة إتفاق جميع الشرائع عليه
قيل وهو المراد من قوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } فقد قال بعضهم المراد من الآية إستواء الشرائع كلها في أصل التوحيد أي ومن ثم قال في تمام الآية { ولا تتفرقوا فيه } وقال { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ومن ثم قاتل بعض الأنبياء غير قومه على الشرك بعبادة الأصنام ولو لم يكن الإيمان والتوحيد لازما لهم لم يقاتلهم بخلاف غيره من الفروع فإن الشرائع فيها مختلفة
قال بعضهم سبب إختلاف الشرائع اختلاف الأمم في الإستعداد والقابلية والدليل على أن الأنبياء متفقون على الإيمان والتوحيد ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال الأنبياء أولاد علات أي أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع شرائعهم لأن العلات الضرائر فأولادهم أخوة من الأب وأمهاتهم مختلفة وقد جاء هذا التفسير في نفس الحديث ففي بعض الروايات الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وبه يعلم ما في كلام العلامة ابن حجر الهيتمي حيث ذكر أن الحق الواضح الذي لا غبار عليه أن أهل الفترة جميعهم ناجون وهم من لم يرسل لهم رسول يكلفهم بالإيمان بالله عز وجل فالعرب حتى في زمن أنبياء بني إسرائيل أهل فترة لأن تلك الرسل لم يؤمروا بدعايتهم إلى الله تعالى وتعليمهم الإيمان قال نعم من ورد فيه حديث صحيح من أهل الفترة بأنه من أهل النار فإن أمكن تأويله فذاك وإلا لزمنا أن نؤمن بهذا الفرد بخصوصه
قال وأما قول الفخر الرازي لم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد معلومة فجوابه أن كل رسول إنما أرسل إلى قوم مخصوصين فمن لم يرسل إليه لا يعذب وجواب ما صح من تعذيب أهل الفترة أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع أو يقصر التعذيب على ذلك الفرد بخصوصه أي حيث لا يقبل التأويل كما تقدم هذا كلامه
____________________


هذا وقد جاء أنهم أي أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة فقد أخرج البزار عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أرأيتم إن أمرتكم بأن تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول أدخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما
قال الحافظ ابن حجر فالظن بآله صلى الله عليه وسلم يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الإمتحان إكراما له صلى الله عليه وسلم لتقر عينه ويرجو أن يدخل عبدالمطلب الجنة في جماعة من يدخلها طائعا إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن به أي بعد أن طلب منه الإيمان
ومما استدل به الحافظ السيوطي على أن أبويه صلى الله عليه وسلم ليسا في النار قال لأنهما لو كانا في النار لكانا أهون عذابا من أبي طالب لأنهما أقرب منه وأبسط عذرا لأنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلاف أبي طالب وقد أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه أهون أهل الناس عذابا فليسا أبواه صلى الله عليه وسلم من أهلها قال وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته أي ولا أحد من أشراف قريش إجلالا له فكان بنوه وسادات قريش يحدقون به فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر أي شديد قوى حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخره عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى أي علم ذلك منهم دعوا ابني فوالله إن له لشأنا ثم يجلسه عليه معه ويمسح ظهره ويسره ما يراه يصنع
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعوا بني يجلس فإنه يحس من نفسه بشيء أي بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف مالم يبلغه به عربي قبله ولا بعده وفي رواية دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا أي يعلم من نفسه أن له ملكا وفي لفظ ردوا ابني إلى مجلسي فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن
____________________


وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سمعت أبي يقول كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون المفرش فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش فجذبه رجل فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبدالمطلب وذلك بعد ما كف بصره مالا بني يبكي قالوا له أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه فقال عبدالمطلب دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف أي يتيقن في نفسه شرفا وأرجو أن يبلغ من الشرف مالم يبلغه عربي قبله ولا بعده أي فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبدالمطلب أو غاب أي ولعل هذا كان في آخر الأمر فلا ينافى ما تقدم الدال ظاهرا على تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم من إختلاف قول عبدالمطلب وإلا فيحتمل أن إختلاف قول عبدالمطلب جاء من إختلاف الرواة
وقال لعبدالمطلب قوم من بني مدلج أي وهم القافة العارفون بالآثار والعلامات احتفظ به فإنا لم نرقد ما أشبه بالقدم التي في المقام منه أي وهي قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام
أقول أي فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أثرت قدماه في المقام وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت كما سيأتي وهو الذي يزار الآن بالمكان الذي يقال له مقام إبراهيم أي وقد أشار إلى ذلك عمه أبو طالب في قصيدته بقوله مقسما ** وبالحجر المسود إذ يلثمونه ** إذا اكتنفوه في الضحى والأصائل ** ** وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ** على قدميه حافيا غير ناعل **
قال الحافظ ابن كثير يعنى أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة
وعن أنس رضي الله تعالى عنه رأيت في المقام أثر أصابع إبراهيم وعقبيه وأخمص قدميه غير أن مسح الناس بأيديهم أذهب ذلك أي ومشابهة قدمه صلى الله عليه وسلم لقدم سيدنا إبراهيم تدل على أن تلك الأقدام بعضها من بعض كما تقدم في قول مجزز المدلجى في زيد بن أسامة رضي الله عنهما وقد ناما وغطيا رءوسهما وبدت أقدامهما إن هذه الأقدام بعضها من بعض فسر بذلك صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك رد على من كان يطعن في نسب أسامة بن زيد كما تقدم
____________________


وذكر بعضهم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أثر قدمه في الحجر أيضا فقد أثر في صخرة بيت المقدس ليلة الإسراء وإن ذلك الأثر موجود إلى الآن
وذكر الجلال السيوطى انه لم يقف لذلك أي لتأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر على أصل ولا سند قال ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث وقال مثل ذلك فيما أشتهر على الألسنة من أن مرفقه الشريف لما ألصقة بالحائط غاص في الحجر وأثر فيه وبه يسمى ذلك المحل بمكة بزقاق المرفق
ومن العجب أن الجلال السيوطي مع قوله المذكور قال في الخصائص الصغرى ولا وطيء على صخر إلا وأثر فيه هذا كلامه ولعله ظهر له صحة ذلك بعد إنكاره ودعوى أنه صلى الله عليه وسلم ما وطئ على صخر إلا وأثر فيه قد يتوقف فيه ثم رأيت الإمام السبكي ذكر تأثير قدمه الشريف في الأحجار حيث قال في تائيته ** وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ** يؤثر برمل أو ببطحاء رطبة **
قال شارحها ولعل عدم تأثير قدمه الشريف في الرمل كان ليلة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الغار أي فليس كان هذا شأنه في كل رمل مشى عليه وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع قدمه عن الرمل يقول لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم أراد به إخفاء أثر سيره ليتحير المشركون في طلبه
وفيه أن هذا التعليل مقتض لتأثير قدمه الشريف في الرمل لا لعدم تأثيره في ذلك ويؤيد ذلك أنه سيأتي أنهم قصوا أثره إلى أن انقطع الأثر عند الغار أي وقال لهم القاص هذا أثر قدم ابن أبي قحافة وأما القدم الآخر فلا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام يعنى مقام إبراهيم فقالت قريش ما وراء هذا شيء أي محل كما سيأتي
وفيه أن هذا تميز قدمه الشريف من قدم سيدنا أبي بكر ربما ينافيه قوله لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون قدم أبي بكر لم يكن مساويا لقدمه صلى الله عليه وسلم ولا يضر في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فإن الرمل لا ينم لجواز أن يكون المراد لا يظهر فيه قدمي ظهور أبينا فصح قول القائل هذا أثر قدم ابن أبي قحافة وأما القدم الآخر إلى آخره ولم يعترض هذا الشارح على تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجارة بل أبدي لذلك حكما لا بأس بها فلتراجع
____________________


وقوله في الأحجار يدل على أنه تكرر تأثير قدمه الشريف في الأحجار ولكن لم يكن ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في كل حجر مشى عليه كما دلت عليه عبارة الجلال السيوطي والله أعلم
قال وبينا عبدالمطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران والأسقف رئيس النصارى في دينهم اشتق من السقف بالتحريك وهو طول الإنحناء لأنه يتخاشع أي يظهر الخشوع وذلك الأسقف يحادثه ويقول له إنا نجد صفة نبي بقى من ولد إسمعيل وهذا البلد مولده ومن صفته كذا وكذا وأتى برسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الأسقف إلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدمه وقال هو هذا ما هذا منك قال هذا ابني قال ما نجد أباه حيا قال هو ابن أبني وقد مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت فقال عبدالمطلب لبنيه تحفظوا بإبن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه انتهى
وعن أم أيمن كنت أحضن النبي صلى الله عليه وسلم أي أقوم بتربته وحفظه فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة قلت لبيك قال أتدرين أين وجدت ابني قلت لا أدري قال وجدته مع غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب أي ومنهم سيف بن ذي يزن كما سيأتي يزعمون أنه نبي هذه الأمة وأنا لا آمن عليه منهم وكان لا يأكل يعنى عبدالمطلب طعاما إلا يقول على بإبني أي أحضروه قال وكان عبدالمطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثر بأطيب طعامه انتهى
وعن بعضهم أي وهو حيدة بن معاوية العامري كان من المعمرين وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم قال بعضهم مات وهو عم ألف رجل وامرأة قال حججت في الجاهلية فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل وفي رواية إذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول رد إلى راكبي محمدا وفي رواية ** يا رب رد راكبي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يدا **
فقلت من هذا قالوا عبدالمطلب بن هاشم بعث ابنه في طلب إبل له ضلت وما بعثه في شيء إلا جاء به قال وفي رواية هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه حاجة
____________________

إلا أنجح فيها وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه انتهى فما برحت أي مازلت عن مكاني حتى جاء بالإبل معه فقال له يا بني حزنت عليك حزنا لا يفارقني بعده أبدا وتقدم عن بعض المفسرين ما لا يحتاج إلى إعادته هنا
وعن رقيقة بنت أبي صيفي أي ابن هاشم بن عبد مناف زوجة عبدالمطلب ذكرها ابن سعد في المسلمات المهاجرات أقوال وقال أبو نعيم لا أراها أدركت الإسلام وقال ابن حبان يقال إن لها صحبة والله أعلم قالت تتابعت على قريش سنون أي أزمنة قحط وجدب ذهبت بالأموال وأشفين أي أشرفن على الأنفس قالت فسمعت قائلا يقول في المنام يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم هذا إبان أي وقت خروجه وبه يأتيكم الحيا أي بالقصر المطر العام والخصب فانظروا رجلا من أوساطكم أي أشرافكم نسبا طوالا عظاما أي طويلا عظيما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار أي طويل شعر الأجفان أسيل الخدين أي لا نتو بها رقيق العرنين أي الأنف وقيل أوله فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فيتطهروا ويتطيبوا ثم استلموا الركن ثم أرقوا إلى رأس أبي قبيس ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقى وتؤمنون فإنكم تسقون فأصبحت وقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبدالمطلب فاجتمعوا عليه وأخرجوا من كل بطن رجلا ففعلوا ما أمرتهم به ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فتقدم عبدالمطلب فقال لا هم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير فأشفت على الأنفس أي أشرفت على ذهابها فأذهب عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب فما برحوا حتى سالت الأودية
قال وفي رواية أخرى عن رقيقة قال تتابعت على قريش سنون جدبة أقحلت أي أيبست الجلد وأدقت العظم فبينا أنا نائمة أو مهومة أي بين اليقظانة والنائمة إذا هاتف هو الذي يسمع صوته ولا يرى شخصه كما تقدم يصرخ بصوت صحل أي فيه بحوحة وهي خشونة الصوت وغلظه يقول يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظللتكم أيامه أي قربت منكم وهذا إبان مخرجه فحيعلا بالحيا والخصب ألا فانظروا رجلا منكم وسطا عظاما أبيض بضا أي شديد البياض أوطف الأهداب أي كثير شعر العينين
____________________

أسهل الخدين أشم العرنين أي مرتفع الأنف له فخر يكظم عليه أي يسكت عليه ولا يظهره وسنن يهتدى إليها أي يرشد إليها فليخلص هو وولده وولد ولده وليد لف أي يتقدم إليه من كل بطن رجل فليسنوا من الماء أي يفرغوه على أجسادهم أي يغتسلوا به وليمسوا من الطيب ثم يلتمسوا الركن وليطوفوا بالبيت العتيق سبعا ثم ليرقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمن القوم ألا وفيهم الطيب الطاهر فغثتم إذا ما شئتم أي جاءكم الغيث على ما تريدون قالت فأصبحت مذعورة قد اقشعر جلدي ووله أي ذهب عقلي واقتصيت رؤياي أي ذكرتها على وجهها فنمت أي فشت وكثرت من شعاب مكة فما بقى أبطحي إلا قال هذا شيبة الحمد يعني عبدالمطلب وقامت عنده قريش وانفض إليه من كل بطن رجل فسنوا من الماء ومسوا من الطيب واستلموا وطافوا
ثم ارتقوا أبا قبيس فطفق القوم يدنون حوله ما إن يدركه بعضهم مهلة وهي التؤدة والتأني ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أيفع أي ارتفع أو كرب أي قرب من ذلك فقام عبدالمطلب فقال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم ومسئول غير مبخل وهذه عبيدك وإماؤك بغدرات حرمك أي أفنيته يشكون إليك سنتهم التي أقحلت أي أيبست الظلف والخف أي الإبل والبقر فأمطرن اللهم غيثا سريعا مغدقا فما برحوا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي أي ضاق بثجيجه أي بسيله فلسمعت شيخان قريش وهي تقول لبعدالمطلب هنيئا لك يا أبا البطحاء بك عاش أهل البطحاء انتهى أي والظاهر أن القصة واحدة فليتأمل الجمع وقد يدعى أن الإختلاف من الرواة منهم من عبر بالمعنى
وفي سقيا الناس بعبدالمطلب وأن ذلك ببركته صلى الله عليه وسلم تقول رقيقة ** بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ** وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر **
أي امتد زمن تأخره فجاد بالماء جوني له سبل دان أي مطرها طل كثير الهطل قريب فعاشت به الأنعام والشجر منا من الله بالميمون طائره أي المبارك حظه وخير من بشرت يوما به مضر ** مبارك الإسم يستسقى الغمام به ** ما في الأنام له عدل ولا خطر ** أي لا معادل ولا مماثل له
ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر فاجتمع عظماؤهم وقالوا قد أصبحنا
____________________

في جهد وجدب وقد سقى الله الناس بعبدالمطلب فاقصدوه لعله يسأل الله تعالى فيكم فقدموا مكة ودخلوا على عبدالمطلب فحيوه بالسلام فقال لهم أفلحت الوجوه وقام خطيبهم فقال قد أصابتنا سنون مجدبات وقد بان لنا أثرك وصح عندنا خبرك فاشفع لنا عند من شفعك وأجرى الغمام لك فقال عبدالمطلب سمعا وطاعة موعدكم غدا عرفات ثم أصبح غاديا إليها وخرج معه الناس وولده ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب لعبدالمطلب كرسي فجلس عليه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم قام عبدالمطلب ورفع يديه ثم قال اللهم رب البرق الخاطف والرعد القاصف رب الأرباب وملين الصعاب هذه قيس ومضر من خير البشر قد شعثت رؤوسها وحدبت ظهورها تشكوا إليك شدة الهزال وذهاب النفوس والأموال اللهم فأتح لهم سحابا خوارة وسماء خرارة لتضحك أرضهم ويزول ضرهم فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء لها دوى وقصدت نحو عبدالمطلب ثم قصدت نحو بلادهم فقال عبدالمطلب يا معشر قيس ومضر انصرفوا فقد سقيتم فرجعوا وقد سقوا
وذكر بعضهم أنهم كانوا في الجاهلية يستسقون إذا أجدبوا فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي سلع وعشر وشبرق من كل شجرة شيئا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة وربطوا بها على ظهر ثور صعب وأضرموا فيها النار ويرسلون ذلك الثور فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط وقد يهلك ذلك الثور فيسقون
وفي حياة الحيوان كانت العرب إذا أرادت الإستسقاء جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء فإن الله يرحمها بسبب ذلك قال وذكر ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن فقيل لعبدالمطلب إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه وديره مغلق فلم يجبه فتزلزل ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادرا فقال يا عبدالمطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخر على ديري فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب ثم عالجه وأعطاه ما يعالجه به
هذا ورأيت في كتاب سماه مؤلفه كريم الندماء ونديم الكرماء أن رسول الله صلى الله
____________________

عليه وسلم رمد وهو صغير فمكث أياما يشكو فقال قائل لجده عبدالمطلب إن بين مكة والمدينة راهبا يرقى من الرمد وقد شفى على يديه خلق كثير فأخذه جده وذهب به إلى ذلك الراهب فلما رآه الراهب دخل إلى صومعته فاغتسل ولبس ثيابه ثم أخرج صحيفة فجعل ينظر إلى الصحيفة وإليه صلى الله عليه وسلم ثم قال هو والله خاتم النبيين ثم قال يا عبدالمطلب هو أرمد قال نعم قال إن دواءه معه يا عبد المطلب خذ من ريقه وضعه على عينيه فأخذ عبدالمطلب من ريقه صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه صلى الله عليه وسلم فبرأ لوقته ثم قال الراهب يا عبدالمطلب وتالله هذا هو الذي أقسم على الله به فأبرئ المرضى وأشفى الأعين من الرمد فليتأمل فإن تعدد الواقعة لا يخلو عن بعد والله أعلم & باب وفاة عبدالمطلب وكفالة عمه أبي طالب له صلى الله عليه وسلم
ثم لما كان سنه صلى الله عليه وسلم ثمان سنين أي بناء على الراجح من الأقوال المتكثرة ويرحجه ما يأتي توفى عبدالمطلب وله من العمر خمس وتسعون سنة وقيل مائة وعشرون وقيل وأربعون أي ولعل ضعف هذا القول اقتضى عدم ذكر ابن الجوزي لعبدالمطلب في المعمرين قال وقيل إثنان وثمانون أي وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي قال وقيل مائة وأربعة وأربعون وقد قيل له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أتذكر موت عبدالمطلب قال نعم وأنا يومئذا بن ثمان سنين
وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكى خلف سرير عبدالمطلب وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون عنده جده قصي
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث جدي عبدالمطلب في زي الملوك وأبهة الأشراف
ولما حضرته الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب أي وكان أبو طالب ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية كأبيه عبدالمطلب كما تقدم وإسمه على الصحيح عبد مناف وزعمت الروافض أن إسمه عمران وأنه المراد من قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين قال الحافظ ابن كثير
____________________

وقد أخطأوا في ذلك خطأ كبيرا ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان فقد ذكر بعد هذه قوله تعالى { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } وحين أوصى به جده لأبي طالب أحبه حبا شديدا لا يحبه لأحد من ولده فكان لا ينام إلا إلى جنبه وكان يخصه بأحسن الطعام أي وقيل اقترع أبو طالب هو والزبير شقيقه فيمن يكفله صلى الله عليه وسلم منهما فخرجت القرعة لأبي طالب وقيل بل هو صلى الله عليه وسلم اختار أبا طالب لما كان يراه من شفقته عليه وموالاته له قبل موت عبدالمطلب فسيأتي أنه كان مشاركا له في كفالته
وقيل كفله الزبير حين مات عبد المطلب ثم كفله أبو طالب أي بعد موت الزبير وغلط قائله بأن الزبير شهد حلف الفضول ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر نيف وعشرون سنة كذا في أسد الغابة مقدما للإقتراع على ما قبله
وفي كون عمره صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول كان نيفا وعشرين سنة نظر لما سيأتي أن عمره إذا ذاك كان أربع عشرة سنة
وفي كلام بعضهم فلما مات عبدالمطلب كفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب ثم مات عمه الزبير وله من العمر أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب وكفالة جده وعمه له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه وأمه مذكورة في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم
ففي خبر سيف بن ذي يزن يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه أي وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن عبدالمطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة صفية وهي أم الزبير بن العوام وبرة وعاتكة وأم حكيم البيضاء أي وهي جدة عثمان بن عفان لأمه وأميمة وأروى فقال لهن ابكين على حتى أسمع ما تقلن في قبل أن أموت فقالت كل واحده منهن شعرا في وصفه مذكور في تلك السيرة ولما سمع جميع ذلك أشار برأسه أن هكذا فابكينني ويقال إنه إنما أشار بذلك لما سمع قول أميمة وقد أمسك لسانه وكان من قولها ** أعيني جودا بدمع درر ** على ماجد الخيم والمعتصر ** ** على ماجد الجد وارى الزناد ** جميل المحيا عظيم الخطر ** ** على شيبة الحمد ذي المكرمات ** وذي المجد والعز والمفتخر ** **
____________________

وذي الحلم والفضل في النائبات ** كثير المفاخر جم الفخر ** ** له فضل مجد على قومه ** متين يلوح كضوء القمر **
قال ابن هشام رحمه الله لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذاالشعر إلا أنه أي ابن إسحاق لما رآه عن ابن المسيب كتبه قال بعضهم ولم يبك أحد بعد موته ما بكى عبد المطلب بعد موته ولم يقم لموته بمكة سوق أياما كثيرة
وروى أبو نعيم والبيهقي أن سيف بن ذي يزن الحميري لما ولى على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أناه وفود العرب وأشرافها وشعرؤها لتهنئه أي بهلاك ملوك الحبشة وبولايته عليهم أي لأن ملك اليمن كان لحمير فانتزعته الحبشة منهم واستمر في يد الحبشة سبعين سنة ثم إن سيف بن ذي يزن الحميري استنقذ ملك اليمن من الحبشة واستقر فيه على عادة آبائه وجاءت العرب تهنئه من كل جانب وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبدالمطلب وأمية بن عبد شمس وغالب وجهائهم أي كعبدالله بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة التيمي وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها وكأسد بن عبدالعزى ووهب بن عبدمناف وقصي ابن عبدالدار فأخبر بمكانهم أي وكان في قصره بصنعاء وهو مضمخ بالمسك وعليه بردان والتاج على رأسه وسيفه بين يديه وملوك حمير عن يمينه وشماله فأذن لهم فدخلوا عليه ودنا منه عبدالمطلب
وفي الوفاء وجدوه جالسا على سرير من الذهب وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب فوضعت لهم كراسي من الذهب فجلسوا عليها إلا عبدالمطلب فإنه قام بين يديه واستأذنه في الكلام فقال إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك فقال إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا شامخا أي مرتفعا باذخا أي عاليا منيعا وأنبتك نباتا طالت أرومته وعظمت جرثومته أي والأرومة والجرثومة هما الأصل وثبت أصله وبسق أي طال فرعه من أطيب موضع وأكرم معدن وأنت أبيت اللعن أي أبيت أن تأتي من الأمور ما يلعن عليه ملك العرب الذي له تنقاذ وعمودها الذي عليه العماد وكهفها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف وأنت لنا فيهم خير خلف فلن يهلك ذكر من أنت خلفه ولن يخمل ذكر من أنت سلفه نحن أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا أي أحضرنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب
____________________

الذي فدحنا أي أثقلنا فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة أي التعزية فعند ذلك قال له الملك من أنت أيها المتكلم قال عبدالمطلب بن هاشم قال ابن اختنا بالتاء المثناة فوق لأن أم عبدالمطلب من الخزرج وهم من اليمن قال نعم قال ادنه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا أي كثير العطاء يعطى عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابكم وقبل وسيلكم فإنكم أهل الليل والنهار ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء أي العطاء إذا ظعنتم ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجرى عليهم الأنزال فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم بالإنصراف ثم انتبه لهم إنتباهة فأرسل إلى عبدالمطلب فأدناه ثم قال له يا عبدالمطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا لو غيرك يكون لم أبح له به ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعه أي عليه فليكن عندك مخبأ حتى يأذن الله عز وجل فيه إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي أدخرناه لأنفسنا واحتجبناه أي كتمناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة فقال له عبدالمطلب مثلك أيها الملك سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة أي السيادة إلى يوم القيامة فقال له عبدالمطلب أيها الملك أبت أي رجعت بخير ما آب بمثله وافد قوم ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من مساره أي من مساررته إياي بما أزداد به سرورا فقال له الملك هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد إسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن عرض أي جميعا ويستفتح بهم كرائم الأرض يعبد الرحمن ويدحض أي يزجر الشيطان ويخمد النيران ويكسر الأوثان قوله فصل وحكمه عدل ويأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله قال له عبدالمطلب جد جدك ودام ملكك وعلا كعبك فهل الملك ساري بإفصاح فقد وضح لي الإيضاح قال والبيت ذي الحجب والعلامات على النقب أي الطرق إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب قال فخر عبدالمطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا كعبك فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك قال نعم أيها الملك إنه كان لي إبن
____________________

وكنت به معجبا وعليه رقيقا وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام فسميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه يعنى أبا طالب وهذا يدل على أن وفود عبدالمطلب على سيف بن ذي يزن كان بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم
وحينئذ لا ينافى ذلك ما تقدم أن عمره صلى الله عليه وسلم كان سنتين لأن ذلك كان سنه صلى الله عليه وسلم حين ولى سيف بن ذي يزن على الحبشة وتأخر وفود عبدالمطلب عليه بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم ويدل على أن أبا طالب كان مشاركا لعبدالمطلب في كفالته صلى الله عليه وسلم في حياة عبدالمطلب ثم اختص هو بذلك بعد موته أي وعبارة سيف بن ذي يزن صادقة بالحالين فقال له إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ على إبنك واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا أي فحفظه والخوف عليه منهم من باب الإحتياط و الإعلام بقدره
قال واطوما ذكرته لك عن هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة فينصبون له الحبائل ويبغون له الغوائل وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم من غير شك ولولا أعلم أن الموت مجتاحي أي مهلكي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملكه وإستحكام أمره وأجل نصرته وموضع قبره ولولا أني أقيد الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره وأعليت على أسنان العرب كعبه ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك
ثم دعا بالقوم وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد أسود وعشرة إماء سود وحلتين من حلل البرود وعشرة أرطال ذهبا وعشرة أرطال فضة ومائة من الإبل وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبدالمطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال إذا جاء الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره فمات الملك قبل أن يحول عليه الحول وكان عبدالمطلب كثيرا ما يقول لمن معه لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره فإذا قيل له ما هو قال سيعلم ما أقول ولو بعد حين
____________________


وهذا القصر الذي كان فيه الملك سيف بن ذي يزن يقال له بيت عمدان يقال إنه كان هيكلا للزهرة تعبد فيه الزهرة وكان سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يقول لا أفلحت العرب مادام فيها عمدانها فلما ولى عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة هدمه
وكان أبو طالب مقلا من المال فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول لهم كما أنتم حتى يأتي ابني فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم ثم تتناول العيال القعب أي القدح الذي من الخشب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم أي جميعهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا واحدا فيقول أبو طالب إنك لمبارك
أقول وفي الإمتاع وكان أي أبو طالب يقرب إلى الصبيان يصبحهم أو البكرة فيجلسون وينتهبون فيكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينتهب معهم فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة هذا كلامه ولا ينافى ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك خاصا بما يحضر في البكرة الذي يقال له الفطور دون الغداء والعشاء فإنه كان يأكل معهم وهو المقدم والله أعلم
وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا بضم الراء وإسكان الميم ثم صاد مهملة ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا
قالت أم أيمن ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جوعا قط ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره
وكان صلى الله عليه وسلم يغد وإذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغداء فيقول أنا شبعان أي في بعض الأوقات فلا ينافي ماسبق
وكان يوضع لأبي طالب وسادة يجلس عليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عليها فقال إن ابن أخي ليخبر بنعيم أي بشرف عظيم
قال واستسقى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جلهمة ابن عرفطة قدمت مكة وقريش في قحط فقائل منهم يقول اعتمدوا اللات والعزى وقائل منهم يقول اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي أنى تؤفكون أي
____________________

كيف تصرفون عن الحق وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسمعيل عليهما السلام أي فكيف تعدلون عنه إلا ما لا يجدي قالوا كأنك عنيت أبا طالب قال أيها فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه عليه إزار قد اتشح به فثاروا أي قاموا إليه فقالوا يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلم فاستسق لنا فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة بدال مهلمة فجيم مضمومتين أي ظلمة وفي رواية كأنه شمس دجن أي ظلام تجلت عنه سحابة قتماء أي من القتام بالفتح وهو الغبار وحوله أغيلمة جمع غلام فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ أي طاف بأصبعه الغلام زاد في بعض الروايات وبصبصت الأغيلمة حوله أي فتحت أعينها وما في السماء قزعة أي قطعة من سحاب فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا واغدودق أي كثر مطره وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي
وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
أي ملجأ وغياثا لليتامى ومانع الأرامل من الضياع والأرامل المساكين من النساء والرجال وهو بالنساء أخص وأكثر إستعمالا
أقول وأخذت الشعية من هذه القصيدة القول بإسلام أبي طالب أي لأنه صنفها بعد البعثة وسيأتي الكلام في إسلامه
وأما ما نقله الدميري في شرح المنهاج عن الطبراني وإبن سعد أن هذه القصيدة التي منها هذا البيت من إنشاء عبدالمطلب فهو وهم لما درج عليه أئمة السير أن المنشيء لها هو أبو طالب وإحتمال توارد كل من أبي طالب وعبدالمطلب على هذه القصيدة بعيد جدا
ومما يصرح بالوهم ما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة هذا البيت لأبي طالب والله أعلم
قال وعن أبي طالب قال كنت بذي المجاز أي وهو موضع على فرسخ من عرفة كان سوقا للجاهلية كما تقدم مع ابن أخي يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأدركني العطس فشكوت إليه فقلت يا ابن أخي قد عطشت وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع
____________________

أي لم يحملني على ذلك إلا الجزع وعدم الصبر قال فثنى وركه أي نزل عن دابته ثم قال يا عم عطشت قلت نعم فأهوى بعقبه إلى الأرض وفي رواية إلى صخرة فركضها برجله وقال شيئا فإذا أنا بالماء لم أر مثله فقال اشرب فشربت حتى رويت فقال أرويت قلت نعم فركضها ثانية فعادت كما كانت وسافر أي وقد أتت عليه صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة مع عمه الزبير بن عبدالمطلب شقيق أبيه كما تقدم إلى اليمن فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله أي صدره فنزل صلى الله عليه وسلم عن بعيره وركب ذلك الفحل وسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعوني ثم أقتحمه فاتبعوه فأيبس الله عز وجل الماء فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك فقال الناس إن لهذا الغلام شأنا
أي وفي السيرة الهشامية أن رجلا من لهب كان قائفا وكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويقتاف لهم فيهم فأتى أبو طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه فنظر إليه صلى الله عليه وسلم ثم شغل عنه بشيء فلما فرغ قال علي بالغلام وجعل يقول ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه وانطلق به والله أعلم & باب ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام
عن إبن إسحق لما تهيأ أبو طالب للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة والصبابة رقة الشوق قاله في الأصل
قال وعند بعض الرواة فضبث به أي بفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة كضرب لزمه وقبض عليه يقال ضبثت على الشيء إذا قبضت عليه
فقد جاء أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا بين أضباثهم أي قبضاتهم أي وهم يحملون الأوزار غير مقلعين عنها أي وعلى ما عند بعض الرواة اقتصر الحافظ الدمياطي فلفظه لما تهيأ يعني أبا طالب للرحيل
____________________

ضبث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا
أقول رأيت بعضهم نقل عن سيرة الدمياطي وضبث به أبو طالب ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط وإنه ضبث بالضاد المعجمة والباء الموحد ة والثاء المثلثة قال وهو القبض على الشيء وهذا لايناسب قوله ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط لأن ذلك إما يناسب صب بالصاد المهملة أي الذي هو الرقة كما لا يخفى على أن مصدر ضبث إنما هو الضبث ومن ثم لم أجد ذلك في السيرة المذكورة والذي رأيته فيها ما قدمته عنها وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مسك بزمام ناقة أبي طالب وقال يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم وكان سنه صلى الله عليه وسلم تسع سنين على الراجح وقيل إثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام أي وهذا القيل صدر به في الإمتاع وقال إنه أثبت أي ومن ثم اقتصر عليه المحب الطبري
وذكر أنه لما سار به أردفه خلفه فنزلوا على صاحب دير فقال صاحب الدير ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي أن يكون له أب حي هذا نبي أي لأن من كانت هذه الصفة صفته فهو نبي أي النبي المنتظر
ومن علامة ذلك النبي في الكتب القديمة أن يموت أبوه وأمه حامل به كما تقدم وسيأتي أو بعد وضعه بقليل من الزمن أي ومن علامته أيضا في تلك الكتب موت أمه وهو صغير كما تقدم في خبر سيف بن ذي يزن ولا ينافى ذلك الإقتصار من بعض أهل الكتب القديمة على الأول الذي هو موت أبيه وهو حمل
قال أبو طالب لصاحب الدير وما النبي قال الذي يأتي إليه الخبر من السماء فينبئ أهل الأرض قال أبو طالب الله أجل مما تقول قال فاتق عليه اليهود ثم خرج حتى نزل براهب أيضا صاحب دير فقال له ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي أي يكون له أب حي قال ولم قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي أي النبي الذي يبعث لهذه الأمة الأخيرة لأن ما ذكر علامته في الكتب القديمة قال أبو طالب سبحان الله الله أجل مما تقول ثم قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ألا تسمع ما يقول قال أي عم لا تنكر لله قدرة والله أعلم
فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون
____________________

المثناة التحتية آخره راء مقصورة وإسمه جرجيس وقيل سرجيس وحينئذ يكون بحيرا لقبه في صومعة له وكان انتهى إليه علم النصرانية أي لأن تلك الصومعة كانت تكون لمن ينتهى إليه علم النصرانية يتوارثونها كابرا عن كابر عن أوصياء عيسى عليه الصلاة والسلام وفي تلك المدة انتهى علم النصرانية إلى بحيرا وقيل كان بحيرا من أحبار اليهود يهود تيما
أقول لا منافاه لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهوديا كما وقع لورقة بن نوفل كما سيأتي
هذا وقال ابن عساكر إن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفو بينها وبين بصرى ستة أميال وقيل كان يسكن البلقاء من أرض الشام بقرية يقال لها ميفعة ويحتاج إلى الجمع
وقد يقال يجوز أنه كان يسكن في كل من القريتين كل واحدة يسكن فيها زمنا وكان في بعض الأحايين يأتي لتلك الصومعة فليتأمل وقد سمع مناد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم ينادي ويقول ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة رباب بن البراء وبحيرا الراهب وآخر لم يأت بعد وفي لفظ والثالث المنتظر يعني النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن قتيبة
قال ابن قتيبة وكان قبر رباب وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش وهو المطر الخفيف والله أعلم
وكانت قريش كثيرا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى كان ذلك العام صنع لهم طعاما كثيرا وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت أي مالت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية وأخضلت أي كثرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وجدهم سبقوه إلى فىء الشجرة فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فىء الشجرة عليه ثم أرسل إليهم إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم فقال له رجل منهم لم أقف على إسم هذا الرجل يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا فما شأنك اليوم فقال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت
____________________

أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم أي تحت الشجرة فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة أي لم ير في أحد منهم الصفة التي هي علامة للنبي المبعوث آخر الزمان التي يجدها عنده أي ولم ير الغمامة على أحد من القوم ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي فقالوا يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا قال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الغلام معكم أي وقال فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم فقال القوم هو والله أوسطنا نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل يعنون أبا طالب وهو من ولد عبدالمطلب فقال رجل من قريش واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه أي وجاء به وأجلسه مع القوم أي وذلك الرجل هو عمه الحارث بن عبدالمطلب ولعله لم يقل هو ابن أخي مع كونه أسن من أبي طالب لأن أبا طالب كان شقيقا لأبيه عبدالله كما تقدم دون الحارث مع كون أبي طالب هو المقدم في الركب وقيل الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقدمه ابن المحدث على ما قبله فليتأمل
ولما سار به من احتضنه لم تزل الغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه صلى الله عليه وسلم بحيرا فقال له أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما أي وفي الشفاء أنه اختبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغض شيئا قط بعضهما فقال بحيرا فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان التي عنده أي ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم فقالت قريش إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك قال إبني قال ما هو إبنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي
____________________

قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت أي ثم قال ما فعلت أمه قال توفيت قريبا قال صدقت فارجع بإبن أخيك إلى بلاده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لتبغينه شرا فإنه كائن لإبن أخيك هذا شأن عظيم أي نجده في كتبنا ورويناه عن آبائنا
واعلم أني قد أديت إليك النصيحة فأسرع به إلى بلده وفي لفظ لما قال له ابن أخي قال له بحيرا أشفيق عليه أنت قال نعم قال فوالله لئن قدمت به إلى الشام أي جاوزت هذا المحل ووصلت إلى داخل الشام الذي هو محل اليهود لتقتلنه اليهود فرجع به إلى مكة ويقال إنه قال لذلك الراهب إن كان ألأمر كما وصفت فهو في حصن من الله عز وجل
وقد يقال لا مخالفة لأن ما صدر من بحيرا كان على ما جرت به العادة من طلب التوقى فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام وفي الهدى فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة فليتأمل
وذكر أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرا وأرادوا به سواء فردهم عنه بحيرا وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لا يخلصون إليه فعند ذلك تركوه وانصرفوا عنه
وفي رواية أخرى خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب بحيرا قبل ذلك يمرون عليه فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم فجعل وهم يحلون رحالهم يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين هذا يبعثه الله رحمة للعالمين فقال الأشياخ من قريش ما أعلمك فقال إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا ولا يسجد إلا لنبي أي وإن الغمامة صارت تظلله دونهم وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة أي والغضروف تقدم أنه رأس لوح الكتف ثم رجع وصنع لهم طعاما فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل فارسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة فلما جلس مال فئ الشجرة عليه فقال الراهب انظروا إلى فئ هذه الشجرة مال عليه
____________________

فبينما هو قائم عليهم وهو يعاهدهم أن لا يذهبوا به إلى أرض الروم أي داخل الشام فإنهم إن عرفوه قتلوه فالتفت فإذا سبعة من الروم قد أقبلوا فاستقبلهم فقال ما جاء بكم قالوا جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر أي مسافر فيه فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده قالوا لا فبايعوه ي بايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم أخذه وأذيته على حسب ما أرسلوا فيه وأقاموا عند ذلك الراهب خوفا على أنفسهم ممن أرسلهم إذا رجعوا بدونه قال بحيرا لقريش أنشدكم الله أي أسألكم بالله أيكم وليه قالوا أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه بلالا وفي لفظ وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالا وزوده بحيرا من الكعك والزيت أي وإذا كانت القصة واحدة فالإختلاف في إيرادها من الرواة كما تقدم نظيره فبعض الرواة قدم في هذه الرواية وأخر
على أنه في الهدى قال وقع في كتاب الترمذي وغيره أن عمه أي وأبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث معه بلالا وهو من الغلط الواضح فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر
وذكر في الأصل أن في هذه الرواية أمورا منكرة حيث قال قلت ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في الصحيح ومع ذلك أي مع صحة سنده ففي متنه نكارة أي أمور منكرة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فإن بلالا لم ينقل لأبي بكر إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاما ولأن أبا بكر لم يبلغ العشر سنين حينئذ لأنه صلى الله عليه وسلم أسن منه بأزيد من عامين بقليل أي بشهر ولا ينافى ما يأتي وتقدم أن سنه صلى الله عليه وسلم حينئذ تسع سنين على الراجح أي فيكون سن أبي بكر نحو سبع سنين وكان بلال أصغر من أبي بكر رضي الله عنهما فلا يتجه هذا بحال أي لأن أبا بكر حينئذ لم يكن أهلا للإرسال عادة وكذا بلال لم يكن أهلا لأن يرسل
وكون النبي صلى الله عليه وسلم اسن من أبي بكر هو ما عليه الجمهور من أهل العلم بالأخبار والسير والآثار
وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر فقال له من الأكبر أنا أو أنت
____________________

فقال له أبوبكر أنت أكرم وأكبر وأنا أسن قيل فيه إنه وهم وإن ذلك إنما يعرف عن عمه العباس رضي الله تعالى عنه وكون بلال أصغر من أبي بكر ينازعه قول ابن حبان بلال كان تربا لإبي بكر أي قرينه في السن وبه يرد قول الذهبي بلال لم يكن خلق
قال وذكر الحافظ ابن حجر أن إرسال أبي بكر معه بلال وهم من بعض الرواة وهو مقتطع من حديث آخر أدرجه ذلك الراوي في هذا الحديث انتهى
أقول ولأجل هذاالوهم قال الذهبي في الحديث أظنه موضوعا بعضه باطل أي لم يوافق الواقع أي فمع كون الحديث موضوعا بعضه موافق للواقع وبعضه لم يوافق الواقع وحينئذ فمراد الأصل بالنكارة في قوله في متنه نكارة البطلان كما أشرت إليه وليس هذا من قبيل قولهم هذا حديث منكر الذي هو من أقسام الضعيف وهو يرجع إلى الفردية ولا يلزم من الفردية ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه
وقال الحافظ الدمياطي في هذا الحديث وهمان أحدهما قوله فبايعوه وأقاموا معه والوهم الثاني قوله وبعث معه أبو بكر بلالا ولم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر
وفيه أن الحافظ الدمياطي فهم أن الضمير في بايعوه للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنه لبحيرا فلا وهم فيه
وتوجيه الوهم الثاني بعدم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم واضح إن ثبت ذلك وإلا فمجرد النفي لا يرد به الإثبات وحينئذ لا حاجة معه إلى ذكر ما بعده من أن بلالا لم يكن أسلم ولا ملكه أبو بكر إلا أن يقال هو على تسليم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يقال على تسليم ذلك إرسال إبي بكر لبلال لا يتوقف على إسلام بلال ولا على ملك أبي بكر له جاز أن يكون سيد بلال وهو أمية بن خلف أرسله في ذلك العير لأمر فأذن أبو بكر لبلال في العود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادما ويستأنس ويأمن به إعتمادا على رضا سيده بذلك إذ ليس من لازم إرساله أن يكون مملوكا له وكون أبي بكر لم يكن في سن من يرسل عادة تقدم ما فيه والله أعلم
قال وروى ابن منده بسند ضعيف عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم
____________________

ابن عشرين سنة أي فالنبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر بعامين أي وشهر كما تقدم ولقلة هذه الزيادة على العامين التي هي الشهر الواردة مبهمة في الرواية السابقة لم يذكرها ابن منده وهم يريدون الشام في تجارتهم حتى إذا نزل منزلا وهو سوق بصرى من أرض الشام وفي ذلك المحل سدرة فقعد صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء فقال من الرجل الذي في ظل السدرة قال له محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال له والله هذا نبي هذه الأمة ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام أي وقد قال عيسى لا يستظل تحتها بعدي إلا النبي الأمي الهاشمي كما سيأتي في بعض الروايات
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون أي سفر أبي بكر معه صلى الله عليه وسم في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب إنتهى
أقول وهي سفرته مع ميسرة غلام خديجة فإنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام أكثر من مرتين ويؤيده ما تقدم من قول الراوي وهم يريدون الشام في تجاراتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج تاجرا إلا في تلك السفرة وسيأتي أن هذا القول قاله الراهب نسطورا لا بحيرا قاله لميسرة لا لأبي بكر إلا أن يقال لا مانع أن يكون قال ذلك لميسرة ولأبي بكر لكن ربما يبعده ما سيأتي أن سنه صلى الله عليه وسلم حين سافر مع ميسرة كان خمسا وعشرين سنة على الراجح لا عشر سنين وعلى هذا فالشجرة لم تكن إلا عند صومعة الراهب نسطورا لا عند صومعة الراهب بحيرا وذكر بحيرا موضع نسطورا وهو ما وقع في شرف المصطفى للنيسابورى وهم من بعض الرواة سرى إليه من إتحاد محلهما وهو سوق بصرى إلا أن يقال يجوز أن يكون الراهب نسطورا خلف بحيرا في ذلك الصومعة لموته مثلا وهو أقرب من دعوى تعدد الشجرة فتكون واحدة عند صومعة بحيرا وواحدة عند صومعة نسطورا وكلاهما قال فيها عيسى ما ذكرا
ومن دعوى إتحادها وأنها بين صومعة بحيرا وصومعة نسطورا وأن العير الذي كان فيه أبو طالب نزل جهة صومعة بحيرا والعير الذي كان فيه أبو بكر وميسرة نزل جهة صومعة نسطورا وسيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام لأنهما لم يدركا البعثة أي الرسالة
____________________

بناء على إقترانهما بالنبوة أو أن المراد بها النبوة أي لم يدركا النبوة فضلا عن الرسالة بناء على تأخرها عن النبوة
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا هذا كلامه في الإصابة وليس هذا بحيرا الراهب الصحابي الذي هو أحد الثمانية الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة
فعنه رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا شرب الرجل كأسا من خمر الحديث ومن قال إن هذا الحديث منكر ظن أن بحيرا هذا هو بحيرا المذكور هنا الذي لقى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة والله أعلم & باب ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية
أي من أقذارهم ومعايبهم أي بحسب ما آل إليه شرعه لما يريد الله تعالى به من كرامته حتى صار أحسنهم خلقا وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزيها وتكريما أي حتى كان صلى الله عليه وسلم أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وخيرهم جوارا وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا فسموه الأمين لما جمع الله عز وجل فيه من الأمور الصالحة الحميدة والفعال السديدة من الحلم والصبر والشكر والعدل والزهد والتواضع والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة
فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد رأيتني أي رأيت نفسي في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم أي من الملائكة ما أراها لكمة وجيعة وفي لفظ لكمني لكمة شديدة
وقد يقال لا منافاة لأنها مع شدتها لم تكن وجيعة له صلى الله عليه وسلم ثم قال شد عليك إزارك فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أي نقل الحجارة عاريا عند إصلاح أبي طالب لزمزم
____________________


فعن ابن اسحاق وصححه أبو نعيم قال كان أبو طالب يعالج زمزم وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام فأخذ إزاره واتقى به الحجارة فغشى عليه فلما أفاق سأله أبو طالب فقال أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي استتر فما رؤيت عورته صلى الله عليه وسلم من يومئذ
وفي الخصائص الصغرى ونهى صلى الله عليه وسلم عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أي نهيه عن التعري عند بنيان الكعبة كما سيأتي وسيأتي ما فيه
ومن ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية أي ويفعلونه إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما أي من فعلهما قلت لفتي كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها أي وفي لفظ قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلها لم أقف على أسم هذا الفتى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم وأصل السمر الحديث ليلا فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا فقالوا فلان قد تزوج بفلانة لرجل من قريش تزوج إمرأة من قريش فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس أي وفي لفظ فجسلت أنظر أي أسمع وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك
أقول المناسبة لقوله عصمني الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو والله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية اي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما وفي لفظ فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك أي مما يعمله أهل الجاهلية ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوته
ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن رضي الله عنها أنها قالت كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك أي تذبح له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة فكان أبو طالب يحضر مع قومه
____________________

ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من إجتناب آلهتنا ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعبا فزعا فقلن ما دهاك قال إني أخشى أن يكون بي لمم أي لمة وهي اللمس من الشيطان فقلن ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت قال إني كلما دنوت من صنم منها أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل أي وذلك من الملائكة يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه قالت فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم
أقول ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان وحينئذ يكون بمعنى اللمة وهي المس من الشيطان كما قدمناه فقد أطلق اللمم على اللمة وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع قد أصابه لمم أو طائف من الجن إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض وعبارة الصحاح اللمم طرف من الجنون وأصاب فلانا من الجن لمة وهي المس أي فقد غاير بينهما والله أعلم
ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله تعالى أي فكان يقول لقريش الشاة خلقها الله عز وجل وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله فما ذقت شيئا ذبح على النصب أي الأصنام حتى أكرمني الله تعالى برسالته أي وزيد بن عمرو كان قبل النبوة زمن الفترة على دين إبراهيم عليه السلام فإنه لم يدخل في يهودية ولا نصرانية واعتزل الأوثان والذبائح التي تذبح للأوثان ونهى عن الوأد وتقدم أنه كان يحييها إذا أراد أحد ذلك أخذ الموءودة من أبيها وتكفلها وكان إذا دخل الكعبة يقول لبيك حقا تعبدا وصدقا وقيل ورقا عاذت بما عاذ به إبراهيم ويسجد للكعبة قال صلى الله عليه وسلم إنه يبعث أمة واحدة أي يقوم مقام جماعة انتهى أي فإن ولده سعيدا قال يا رسول الله إن زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له قال نعم استغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده
____________________


وفي البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وقد قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة أي فيها شاة ذبحت لغير الله عز وجل أو قدمها النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأبى أن يأكل منها وقال إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ولعل هذا كان قبل ما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك كان هو السبب في ذلك
قال الإمام السهيلي وفيه سؤال كيف وفق الله عز وجل زيد إلى ترك ما ذبح على النصب وما لم يذكر إسم الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت من عصمة الله تعالى له أي فكان صلى الله عليه وسلم يترك ذلك من عند نفسه لا تبعا لزيد بن عمرو وحينئذ لا يحسن الجواب الذي أشرنا إليه بقولنا
وأجاب أي السهيلي بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكل من تلك السفرة أي ولا من غيرها
سلمنا أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب فتحريم ذلك لم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة هذا كلامه
وفيه أن هذا التسليم يبطل عد الشمس الشامي ذلك من أمر الجاهلية التي حفظه الله تعالى منه في صغره ويخالف ما ذكره بعضهم من أن زيد بن عمرو هذا هو رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان كانوا يوما في عيد لصنم من أصنامهم ينحرون عنده ويعكفون عليه ويطوفون به في ذلك اليوم فقال بعضهم لبعض تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم فما حجر تطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ثم تفرقوا في البلاد يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم وظاهر هذا السياق أن تركهم للأوثان كان بعد عبادتهم لها وسيأتي عن ابن الجوزي انهم لم يعبدوها
وهؤلاء الثلاثة الذين زيد بن عمرو رابعهم ورقة بن نوفل وعبيدالله بن جحش ابن عمته صلى الله عليه وسلم أميمة وعثمان بن الحويرث وزاد ابن الجوزي على هؤلاء الأربعة جماعة آخرين سيأتي الكلام عليهم عند الكلام على أول من أسلم
وزيد بن عمرو بن نفيل هذا كان ابن أخي الخطاب والد سيدنا عمر أخاه لأمه فأما
____________________

ورقة فلم يدرك البعثة على ما سيأتي وكان ممن دخل في النصرانية أي بعد دخوله في اليهودية كما سيأتي
وأما عبيدالله بن جحش فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين ثم تنصر هناك كما سيأتي وكان يمر على المسلمين ويقول لهم فتحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتسمون البصر ولم تبصروا ومات على النصرانية
وأما عثمان بن الحويرث فلم يدرك البعثة وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده
وأما زيد بن عمرو بن نفيل هذا كان يوبخ قريشا ويقول لهم والذي نفس زيد ابن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري حتى إن عمه الخطاب أخرجه من مكة وأسكنه بحراء ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم ثم خرج يطلب الحنيفية دين إبراهيم ويسأل الأحبار والرهبان عن ذلك حتى بلغ الموصل ثم أقبل إلى الشام فجاء إلى راهب به كان انتهى إليه علم أهل النصرانية فسأله عن ذلك فقال له إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه فخرج سريعا يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه وقتلوه ودفن بمكان يقال له ميفعة وقيل دفن بأصل جبل حراء
هذا وفي كلام الواقدي عن زيد بن عمرو أنه قال لعامر بن ربيعة وأنا أنتظر نبيا من ولد إسمعيل ولا أرى أن أدركه وأنا أدين به وأصدقه وأشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فسلم مني عليه قال عامر فلما أسلمت بلغته صلى الله عليه وسلم عن زيد السلام قال فرد عليه السلام وترحم عليه وتقدم أن ولده سعيدا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه زيد فقال نعم أستغفر له الحديث
قال وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين أي شجرتين عظيمتين قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد قوي أي وقال إلا أنه ليس في شيء من الكتب وفي رواية رأيته في الجنة يسحب ذيولا وعن الزهري نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ما يذبح للجن وعلى إسمهم وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله وإسم محمد فحلال أكله وإن كان القول المذكور حراما لإيهامه التشريك وهذا من جملة المحال المستثناة من قوله تعالى
____________________

له لا أذكر إلا وتذكر معي فقد جاء أتاني جبريل فقال إن ربي وربك يقول لك أتدري كيف رفعت ذكرك أي على كل حال أي جعلت ذكرك مرفوعا مشرفا المذكور ذلك في قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك } إلى قوله { ورفعنا لك ذكرك } قلت الله أعلم قال لا أذكر إلا وتذكر معي أي في غالب المواطن وجوبا أو ندبا
ومن ذلك ما روى عن علي رضي الله تعالى عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنا قط قال لا قالوا هل شربت خمرا قط قال لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان انتهى
أقول تحريم شرب الخمر في الجاهلية ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بل حرمها على نفسه في الجاهلية جماعة كثيرون سيأتي ذكر بعضهم وتقدم ذكر بعض منهم وكون شرب الخمر من الكفر على ما هو ظاهر السياق بمعنى ينبغي أن يجتنب كما يجتنب الكفر ولعل صدور هذا منه صلى الله عليه وسلم كان بعدم تحريم الخمر ويكون الإتيان بذلك للمبالغة في الزجر عنها والتباعد منها لأنها أم الخبائث وقد كانت نفوس غالبهم ألفتها وهذا محمل ما جاء أتاني جبريل فقال بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا أي مصدقا بما جئت به دخل الجنة أي لا بد وأن يدخل الجنة وإن دخل النار قلت يا جبريل وإن زنى وإن سرق قال نعم قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم وإن شرب الخمر والمراد بتحريمها تحريمها على الناس وإلا ففي الخصائص الصغرى للسيوطي وحرمت عليه الخمر من قبل ما يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة والله أعلم
قال وأما ما رواه جابر بن عبدالله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه واحد يقول لصاحبه أذهب بنا نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف نقوم خلفه وإنما عهده بإستلام الأصنام قبل لم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم قال الحافظ ابن حجر أنكره الناس أي فقد قال الإمام أحمد كما في الشفاء إنه موضوع أو يشبه الموضوع وقال الدارقطني إن ابن أبي شيبة وهم في إسناده والحديث بالجملة منكر فلا يلتفت إليه والمنكر فيه قول الملك عهده بإستلام الأصنام قبل فإن ظاهره أنه باشر الإستلام وليس ذلك مرادا أبدا بل المراد أنه شاهد مباشرة المشركين إستلام أصنامهم أي لشهوده بعض مشاهدهم التي تكون عند الأصنام
____________________


وقال غيره والمراد بالمشاهد التي شهدها أي التي كان يشهدها مشاهد الحلف ونحوها كالضيافات الآتي بينها لا مشاهدة إستلام الأصنام فإنه يرده ما تقدم عن أم أيمن أنتهى أي من قولها إن بوانة كان صنما لقريش تعظمه وتعتكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة إلى آخره أي ويرده أيضا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لبحيرا لما حلفه باللات والعزى لا تسألني بهما فإني والله ما أبغضت شيئا قط بغضهما لأن مثل اللات والعزى غيرهما من الأصنام في ذلك وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله تعالى عنها والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط وما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغض إلى الشعر والله سبحانه وتعالى أعلم & باب رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم
قال رعيته بكسر الراء المراد الهيئة انتهى
أقول المبين في هذاالباب إنما هو فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو رعيه للغنم لا بيان هيئة رعيه للغنم فرعيته بفتح الراء لا بكسرها والله أعلم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم قال له أصحابه وأنت يا رسول الله قال وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط أي وهي أجزاء من الدراهم والدنانير يشتري بها الحوائج الحقيرة قال سويد ابن سعيد يعنى كل شاة بقيراط وقيل القراريط موضع بمكة
فقد قال إبراهيم الحربي قراريط موضع ولم يرد بذلك القراريط من الفضة أي والذهب قال وأيد هذا الثاني بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الذهب والفضة بدليل أنه جاء في الصحيح ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ولأنه جاء في بعض الروايات لأهلي ولا يرعى لأهله بأجرة أي كما قضت بذلك العادة وأيضا جاء في بعض الروايات بدل بالقراريط بأجياد فدل ذلك على أن القراريط إسم محل عبر عنه تارة بالقراريط وتارة بأجياد
ورد بأن أهل مكة لا يعرفون بها محلا يقال له القراريط وحينئذ يكون أراد بأهله أهل مكة لا أقاربه الذين تقضي العادة بأنه لا يرعى لهم بالأجرة والإضافة تأتي لأدنى ملابسة ويدل لذلك ما جاء في رواية البخاري كنت أرعاها أي الغنم على قراريط لأهل
____________________

مكة وذكره البخاري كذلك في باب الإجارة وذلك يبعد أن المراد بالقراريط المحل وجعل على بمعنى الباء
ويرد القول بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الدراهم والدنانير أي ويمنع دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط على ذلك لجواز أن يكون المراد يذكر فيها القيراط كثيرا لكثرة التعامل به فيها أو أن المراد بالقيراط ما يذكر في المساحة
وجمع الحافظ ابن حجر بأنه رعى لأهله أي أقاربه بغير أجرة ولغيرهم بأجرة والمراد بقوله أهلي أهل مكة أي الشامل لأقاربه ولغيرهم قال فيتجه الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة أي التي هي القراريط وفي الآخر بين المكان أي الذي هو أجياد فلا تنافى في ذلك هذا كلامه ملخصا وعبارته تقتضى وقوع الأمرين منه صلى الله عليه وسلم وهو مما يتوقف على النقل في ذلك
قال ابن الجوزي كان موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم رعاة غنم وهذا يرد قول بعضهم لم يرد ابن إسحاق برعايته صلى الله عليه وسلم الغنم إلا رعايته لها في بني سعد مع أخيه من الرضاع أي وقد يتوقف في كون قول ابن الجوزي هذا بمجرده يرد قول هذا البعض نعم يرده ما تقدم وما يأتي وفي الهدى أنه صلى الله عليه وسلم آجر نفسه قبل النبوة في رعيه الغنم
ومن حكمة الله عز وجل في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي فيكون في أعدل الأحوال ووقع الإفتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم أي عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستطال أصحاب الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث موسى وهو راعي غنم وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد أي وهو موضع بأسفل مكة من شعابها ويقال له جياد بغير همزة ولعل المراد بقوله راعي غنم أي وكذا قوله وأنا راعي غنم أي وقد رعى الغنم وقد رعيت الغنم إذا الأخذ بظاهر الحالية بعيد ولتنظر حكمة الإقتصار على من ذكر من الأنبياء مع قوله السابق ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم وما يأتي من قوله وما من نبي إلا وقد رعاها وقد قال صلى الله عليه وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها وقال في الغنم سمنها معاشنا وصوفها رياشنا ودفؤها كساؤنا وفي رواية
____________________

سمنها معاش وصوفها رياش أي وفي الحديث الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم ولعل هذا لا ينافي ما جاء في الأمثال قالوا أحمق وفي لفظ أجهل من راعي ضأن لما بين لأن الضأن تنفر من كل شيء فيحتاج راعيها إلى جمعها أي وذلك سبب لحمقه فليتأمل وفي رواية الفخر والخيلاء وفي لفظ والرياء من أهل الخيل والوبر قال وفيما تقدم في الباب من أمر السمر دليل على ذلك أي على رعايته للغنم أيضا وما رواه جابر رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجنى الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة أي وهو النضيج من ثمر الأراك وفي الحديث عليكم بالأسود من ثمر الأراك فإنه أطيبه فإني كنت أجتنيه إذ كنت أرعى الغنم قلنا وكيف ترعى الغنم يا رسول الله قال نعم وما من نبي إلا وقد رعاها
أقول وحينئذ لا ينبغي أحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم فإن قال ذلك أدب لأن ذلك كما علمت كمال في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دون غيرهم فلا ينبغي الإحتجاج به ويجرى ذلك في كل ما يكون كمالا في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره كالأمية فمن قيل له أنت أمي فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا يؤدب والله أعلم & باب حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار
أي بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة وهو فجار البراض بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وضاد معجمة عن ابن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضرته يعنى الحرب المذكورة مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت وكان له من العمر أربع عشرة سنة أي وهذا الفجار الرابع
وأما الفجار الأول فكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ عشر سنين وسببه أي هذا الفجار الأول أن بدر بن معشر الغفاري كان له مجلس يجلس فيه بسوق عكاظ ويفتخر على الناس فبسط يوما رجله وقال أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته فأندرها أي أسقطها وأزلها وقيل جرحه جرحا يسيرا قال بعضهم وهو الأصح فاقتلوا
____________________


وسبب الفجار الثاني أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فأطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد زيلها بشوكة فلما قامت انكشف دبرها فضحك الناس منها فنادت المرأة يا آل عامر فثاروا بالسلاح ونادى الشاب يا بني كنانة فاقتتلوا وقوله فسألها أن تكشف وجهها فأبت يدل على أن النساء في الجاهلية كن يأبين كشف وجوههن
وسبب الفجار الثالث أنه كان لرجل من بني عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به أي مطله فجرت بينهما مخاصمة فاقتتل الحيان
وقد ذكر أن عبدالله بن جدعان تحمل ذلك الدين في ماله وكان ذلك سببا لإنقضاء الحرب وقيل لم يقاتل صلى الله عليه وسلم في فجار البراض وعليه اقتصر في الوفاء أي لم يرم فيه بأسهم بل قال كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه
وقد يقال لا مخالفة لأنه ليس في هذه العبارة أنه لم يرم بل فيها أنه كان ينبل ويجوز أن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم ذلك أي أنه كان ينبل أي يرد النبل فلا ينافى أنه رمى في بعض الأوقات بأسهم أي وفي كلام بعضهم كان أبو طالب يحضر أيام الفجار أي فجار البراض وكانت أربعة أيام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام فإذا جاء هزمت قيس ولعل المراد قيس هوازن فلا ينافى ما يأتي من الإقتصار على هوازن وإذا لم يجيء هو أي في يوم من تلك الأيام هزمت كنانة فقالوا لا أبالك لا تغب عنا ففعل ذكره في الإمتاع وذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم طعن أبا براء ملاعب الأسنة في تلك الحروب أي في بعض تلك الأيام وأبو براء هذا كان رئيس بني قيس وحامل رايتهم في تلك الحرب والطعن ظاهر في الرمح محتمل للنبل وظاهر كلامهم أنه لم يقاتل فيه بغير الرمى للأسهم على تقدير صحة تلك الرواية بذلك ولا يبعد أن يكون رمى لم يصب أحدا إذ لو أصاب لنقل لأنه مما توفر الدواعي على نقله إلا أن يقال بجواز أن يكون أصاب أحدا ثمرة لم تذكر فليتأمل قال وسميت الفجار لأن العرب فجرت فيه لأنه وقع في الشهر الحرام
أقول ظاهره حروب الفجار الأربعة أي التي هي فجار البراض وغيرها وظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم أنه لم يحضر إلا في الفجار الرابع الذي هو فجار البراض
____________________

ثم رأيت التصريح بذلك في الوفاء وسأذكره وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أن حرب الفجار لم يكن في شهر حرام وسيأتي في هذا الباب ما يدل على ذلك
أي أن القتال في ذلك لم يكن في الشهر الحرام وإنما سببه كان في الشهر الحرام وهو قتل البراض لعروة الرحال
فقد قيل سبب القتال أن عروة الرحال بتشديد الحاء المهملة وكان من أهل هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة واللطيمة العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة أي فإن المنذر كان يرسل تلك اللطيمة لتباع في سوق عكاظ ويشتري له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف ويرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب كان فيهم البراض وهو من بني كنانة وعروة الرحال وهو من هوازن فقال البراض أنا أجيرها على بني كنانة يعنى قومه فقال له النعمان ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة فقال له عروة الرحال أنا أجيرها لك فقال له البراض أتجيرها على كنانة فقال نعم وعلى أهل الشيح والقيصوم ونال من البراض فخرج عروة الرحال مسافرا وخرج البراض خلفه يطلب غفلته فلما استغفله وثب عليه فقتله أي فإنه شرب الخمر وغنته القينات فسكر ونام فجاءه البراض وأيقظه فقال له الرحال ناشدتك الله لا تقتلني فإنها كانت مني زلة وهفوة فلم يلتفت إليه وقتله وذلك في الشهر الحرام فأتى آت كنانة وهم بعكاظ مع هوازن فقال لكنانة إن البراض قد قتل عروة الرحال وهو في الشهر الحرام فانطلقوا وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبيل دخولهم الحرم فأمسكت عنهم هوازن ثم التقوا بعد هذا اليوم وعاونت قريش كنانة ولا يخفى أن في هذا تصريحا بأن القتال لم يكن في الشهر الحرام لأنهم إذا كانوا في الشهر الحرام لا يقاتلون مطلقا أي وإن لم يدخلوا الحرام فكفهم عن قتالهم لمقاربتهم دخول الحرم وقتالهم لهم في اليوم الثاني دليل على أن قتالهم لم يكن في الشهر الحرام ومكث القتال بينهم أربعة أيام أي كما تقدم
أقول قال السهيلي الصواب ستة أيام والله أعلم قال وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الأيام أخرجه أعمامه معهم أي ويدل له ما تقدم من أنه كان إذا حضر غلبت كنانة وإذا لم يحضر هزمت وفي بعض تلك الأيام وهو أشدها أي وهو اليوم الثالث قيد أمية وحرب ابنا أمية بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا فسموا العنابس أي الأسود
____________________


أي وحرب والد أبي سفيان وأمية أخوه ماتا على الكفر وأبو سفيان أسلم كما سيأتي ثم تواعدوا للعام المقبل بعكاظ فلما كان العام المقبل جاءوا للوعد أي وكان أمر قريش وكنانة إلى عبدالله بن جدعان وقيل كان إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان لأنه كان رئيس قريش وكنانة يومئذ وكان عتبة بن أخيه ربيعة بن عبد شمس يتيما في حجره فضن أي بخل به حرب وأشفق أي خاف من خروجه معه فخرج عتبة بغير إذنه فلم يشعر أي يعلم به إلا وهو على بعير بين الصفين ينادي يا معشر مضر علام تفانون فقالت له هوازن ما تدعوا إليه قال الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتفوا عن دمائنا أي فإن قريشا وكنانة كان لهم الظفر على هوازن يقتلونهم قتلا ذريعا أي وذلك لا ينافي إنهزامهم بعض الأيام قالوا وكيف قال ندفع لكم رهنا منا إلى أن نوفى لكم ذلك قالوا ومن لنا بهذا قال أنا قالوا ومن أنت قال أنا عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس فرضيت به هوازن وكنانة وقريش ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلما رأت هوازن الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار وفي رواية وودت قريش قتلى هوازن ووضعت الحرب أوزارها
وقد يقال على تقدير صحة هذه الرواية دماء بدرت التزمت أن تديها فكان انقضاؤها على يد عتبة بن ربيعة وهو ممن قتل كافرا ببدر وهو أبو هند زوج أبي سفيان أم معاوية رضي الله عنها وعن زوجها وولدها المذكور
وكان يقال لم يسد مملق أي فقير إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال أي وفي كلام بعضهم ساد عتبة بن ربيعة وأبو طالب وكان أفلس من أبي المزلق وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته وكذا أبوه وجده وأبو جده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس
هذا والذي في الوفاء الإقتصار على أن حرب الفجار كان مرتين المرة الأولى كانت المحاربة فيه ثلاث مرات المرة الأولى سببها قضية بدر بن معشر الغفاري والمرة الثانية كان سببها قضية المرأة والثالثة سببها قضية الدين ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرات وأما المرة الثانية فكانت بين هوازن وكنانة وقد حضرها صلى الله عليه وسلم وقد يقال لا خلاف في المعنى
____________________

& باب شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول
وهو أشرف حلف في العرب والحلف في الأصل اليمين والعهد وسمى العهد حلفا لأنهم يحلفون عند عقده وكان عند منصرف قريش من حرب الفجار لأن حرب الفجار كان في شوال أي وقيل في شعبان لا في الشهر الحرام أي وإن كان سببه وهو قتل البراض لعروة الرحال كان في الشهر الحرام كما تقدم وكون هذا الحلف كان منصرف قريش من حرب الفجار ظاهر في أنه كان بعد إنقضاء الحرب وقبل مجيء الفريقين للموعد من قابل لأن عند مجيئهم من قابل للموعد لم يقع حرب إلا أن يقال أطلق عليه حرب بإعتبار أنهم كانوا عازمين على المحاربة وهذا الحلف كان في ذي القعدة وأول من دعا إليه الزبير بن عبدالمطلب أي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه كما تقدم فاجتمع إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وذلك في دار عبدالله ابن جدعان التيمي كان بنو تيم في حباته كأهل بيت واحد يقوتهم وكان يذبح في داره كل يوم جزورا وينادي مناديه من أراد الشحم واللحم فعليه بدا ابن جدعان وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعمه قريشا
أي وسبب ذلك أنه كان أولا يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن فاتفق أن أمية بن أبي الصلت مر على بني عبد المدان فرأى طعامهم لباب البر والشهد فقال أمية ** ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ** فرأيت أكرمهم بني المدان ** ** البر يلبك بالشهاب طعامهم ** لا ما يعللنا بنو جدعان **
فبلغ شعره عبدالله بن جدعان فأرسل إلى بصرى الشام يحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل ينادي مناد ألا هلموا إلى جفنة عبدالله بن جدعان ومن مدح أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان قوله ** أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن سيمتك الحياء ** ** إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضك الثناء ** ** كريم لا يغيره صباح ** عن الخلق الجميل ولا مساء ** ** يباري الريح مكرمة وجودا ** إذا ما الضب أجحره الشتاء **
وكان عبدالله بن جدعان ذا شرف وسن وإنه من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد أن كان بها مغرما
____________________


وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يده ويقبض على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا
وممن حرمها على نفسه في الجاهلية عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه وقال لا أشرب شيئا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد
فصنع لهم عبدالله بن جدعان طعاما وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة أي الأبد
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقرى الضيف ويفعل المعروف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة فقال لا لأنه لم يقل يوما وفي رواية إنه لم يقال ساعة من ليل أونهار رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين رواه مسلم أي لم يكن مسلما لأن القول المذكور لا يصدر إلا عن مسلم فلا يقال مقتضى الحديث أنه لو قال ذلك لنفعه ما ذكر يوم القيامة مع كونه كان كافرا لأن ممن أدرك البعثة ولم يؤمن وحينئذ يسأل عن الحكمة عن عدوله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك عن قوله أنه لم يؤمن بي أو لم يكن مسلما أي وكان يكنى أبا زهير وقد قال صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر لو كان أبو زهير أو مطعم بن عدي حيا فاستوهبهم لوهبتهم له
وقد ذكر أن جفنة ابن جدعان كان يأكل منها الراكب على البعير أي وسيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه ازدحم هو وأبو جهل وهما غلامان على مائدة لابن جدعان وأنه صلى الله عليه وسلم دفع أبا جهل لعنه الله فوقع على ركبته فجرحت جرحا أثر فيها وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال كنت أستظل بجفنة عبدالله بن جدعان في صكة عمي أي في الهاجرة وسميت الهاجرة بذلك لأن عمي تصغير أعمى على الترخيم رجل من العماليق أوقع بالعدو والقتل في مثل ذلك الوقت
وقيل هو رجل من عدوان كان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قومه معتمرا فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في وقت الظهيرة ولعل هذا لا يخالفه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجلنا الرواح للمسجد صكة الأعمى فقيل ما صكة الأعمى قال إنه لا يبالي أية ساعة خرج
____________________


وكان عبدالله بن جدعان في إبتداء أمره صعلوكا وكان مع ذلك شريرا فتاكا لا يزال يحنى الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته وطرده أبوه وحلف لا يأويه أبدا فخرج هائما في شعاب مكة يتمنى الموت فرأى شقا في جبل فدخل فإذا ثعبان عظيم له عينان تتقدان كالسراج فلما قرب منه حمل عليه الثعبان فلما تأخر إنساب أي رجع عنه فلا زال كذلك حتى غلب على ظنه أن هذا مصنوع فقرب منه ومسكه بيده فإذا هو من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره ثم دخل المحل الذي كان هذا الثعبان على بابه فوجد فيه رجالا من الملوك ووجد في ذلك المحل أموالا كثيرة من الذهب والفضة وجواهر كثيرة من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم ذلك اشق بعلامة وصار ينقل منه ذلك شيئا فشيئا ووجد في ذلك الكنز لوحا من رخام فيه أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان ابن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجى من الموت ثم بعث عبدالله بن جدعان إلى أبيه بالمال الذي دفعه في جناياته ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف
قال وفي رواية تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها ولا يقر ظالم على مظلوم أي وحينئذ فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلما
وقيل إن هذا أي رد الفضول مدرج من بعض الرواة زاد بعضهم على ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانيهما أي والمراد الأبد كما تقدم وكان معهم في ذلك الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار بني جدعان حمر النعم أي الإبل وأنى أغدر به بالغين المعجمة والدال المهملة أي لا أحب الغدر به وإن أعطيت حمر النعم في ذلك قال وفي رواية لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم أي بفواته ولو دعى به في الإسلام لأجبت أي لو قال قائل من المظلومين يا آل حلف الفضول لأجبت لأن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم
وفيه أن الإسلام قد رفع ما كان من دعوى الجاهلية من قولهم يا لفلان عند الحرب والتعصب
وأجيب بأن هذا مستثنى فالدعوى به جائزة وفي أخرى ما شهدت حلفا لقريش
____________________

إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي وما أحب أن لي به حمر النعم وأنى كنت نقضته أي لا أحب نقضه وإن دفع لي حمر الإبل في مقابلة نقضه
والمطيبون هم هاشم وزهرة أي بنو زهرة بن كلاب وأمية ومخزوم قال البيهقي كذا روى هذا التفسير أي أن المطيبين هاشم وزهرة وأمية ومخزوم مدرجا ولا أدري من قاله
وعبارته في السنن الكبرى لا أدري هذا التفسير من قول أبي هريرة أو من دونه هذا كلامه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين أي لأنه كما تقدم وقع بين بني عبد مناف بن قصي وهم هاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل وبنو زهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وبنو تميم وبنو الحرث بن فهر وهم المطيبون وبين بني عمهم عبدالدار بن قصي وأحلافهم بني مخزوم وغيرهم ويقال لهم الأحلاف كما تقدم وذلك قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيث لم يدرك صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين يصير المدرج لفظ المطيبين مع تفسيره بمن ذكر لا أن المدرج تفسيره فقط بمن ذكر كما يقتضيه كلام البيهقي وحينئذ تكون الرواية ما شهدت حلفا لقريش إلا حلفا مع عمومتي إلى آخره ظن الراوي أن حلف الفضول هو حلف المطيبين فذكر لفظ المطيبين وبنيهم
وقد يقال ذكر ابن إسحاق أنه لما قام عبدالله بن جدعان هو والزبير بن عبدالمطلب في الدعوى للتحالف أجابهما بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم هذا كلامه ولا يخفى أن هؤلاء أجل المطيبين أطلق على هذا الحلف والذي هو حلف الفضول حلف المطيبين لأنهم العاقدون له فليتأمل
وسمى بالفضول قيل لما تقدم من أنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها وقيل لأنه يشبه حلفا وقع لثلاثة من جرهم كل واحد يقال له الفضل
وعبارة بعضهم لأن الداعي إليه كان ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن الحارث والضمير في أشرافهم يتبادر رجوعه إلى قريش وهؤلاء الثلاثة تحالفوا على نصرة المظلوم على ظالمه فالفضول جمع الفضل
وقيل لأنهم أي هؤلاء الذين تحالفوا كانوا أخرجوا فضول أموالهم للأضياف وقيل لأن قريشا قالوا عن هؤلاء الذين تحالفوا لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر
____________________


والسبب في هذا الحلف والحامل عليه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل وكان من أهل الشرف والقدر بمكة فحبس عنه حقه فاستدعى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومحزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص وانتهروه أي الزبيدي فلما رأى الزبيدي الشر رقى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فقال بأعلى صوته ** يا آل فهر لمظلوم بضاعته ** ببطن مكة نائى الدار والقفر ** ** ومحرم أشعث لم يقض عمرته ** يا للرجال وبين الحجر والحجر ** ** إن الحرام لمن تمت مكارمه ** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر **
والحرام بمعنى الإحترام فقال في ذلك الزبير بن عبدالمطلب أي مع عبدالله بن جدعان كما تقدم واجتمع إليه من تقدم
وقيل قام فيه العباس وأبو سفيان وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه شريفا أو وضيعا ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه
أقول ذكر السهيلي أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا أو حاجا ومعه بنت له من أضوإ نساء العالمين فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم أي جردوها يقولون جاءك الغوث فما لك فقال إن نبيها ظلمني في بنتي فانتزعها مني قسرا فساروا إليه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا لا والله ولا شخب لقحة أي مقدار زمن ذلك فأخرجها إليهم
وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال متعلق بالحسين فقال الحسين للوليد احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون لحلف الفضول أي لحلف كحلف الفضول وهو نصرة المظلوم على ظالمه ووافقه على ذلك جماعة منهم عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه كان إذ ذاك في المدينة فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي والله أعلم
____________________

& باب سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا
وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة أي على الراجح من أقوال ستة وعليه جمهور العلماء وتلك أقوال ضعيفة لم تقم لها حجة على ساق وليس له صلى الله عليه وسلم إسم بمكة إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدم
وسبب ذلك أن عمه صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال له يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان أي القحط وألحت علينا أي أقبلت ودامت سنون منكرة أي شديدة الجدب وليس لنا مادة أي ما يمدنا وما يقومنا ولا تجارة وهذه عير قومك وتقدم أنها الإبل التي تحمل الميرة وفي رواية عيرات جمع عير قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود ولكن لا تجد لك من ذلك بدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها ترسل إلي في ذلك فقال أبو طالب إني أخاف أن تولى غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا فبلغ خديجة رضي الله تعالى عنها ما كان من محاورة عمه أبي طالب له فقالت ما عملت أنه يريد هذا ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فقالت إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقى عمه أبا طالب فذكر له ذلك فقال إن هذا لرزق ساقه الله إليك فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة أي يريد الشام وقالت خديجة لميسرة لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا وجعل عمومته يوصون به أهل العير أي ومن حين سيره صلى الله عليه وسلم أظللته الغمامة
فلما قدم صلى الله عليه وسلم الشام نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا أي بالقصر فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان
____________________

يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي أي صانها الله تعالى عن أن ينزل تحتها غير نبي ثم قال له أفي عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه فقال الراهب هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج أي يبعث فوعى ذلك ميسرة أي والحمرة كانت في بياض عينيه وهي الشكلة ومن ثم قيل في وصفه صلى الله عليه وسلم أشكل العينين فهذه الشكلة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة أي وقد تقدم ذلك
قال وفي الشرف للنيسابوري فلما رأى الراهب الغمامة تظلله صلى الله عليه وسلم فزع وقال ما أنتم عليه أي أي شيء أنتم عليه قال ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها فدنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدمه وقال آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة ثم قال يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها أي العلامات الدالة على نبوتك المذكورة في الكتب القديمة خلا خصلة واحدة فأوضح لي عن كتفك فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ فأقبل عليه يقبله ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى بن مريم فإنه قال لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة وصاحب لواء الحمد انتهى
أقول قال في النور ولم أجد أحدا عد هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما عد بعضهم فيها بحيرا الراهب وينبغي أن يكون هذا مثله هذا كلامه
وقد قدمنا أنه سيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام فضلا عن كونه صحابيا لأن المسلم من أقر برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها إلى آخر ما يأتي
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أن بحيرا ممن ذكر في كتب الصحابة غلطا قال لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه وهو مسلم لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك قال فقولي مسلم يخرج من لقيه مؤمنا به قبل أن يبعث كهذا الرجل يعني بحيرا هذا كلامه ومراده ما ذكرنا ولعل نسطورا هذا هو الذي تنسب إليه النسطورية من النصارى فإن النصارى افترقت ثلاث فرق نسطورية
____________________

قالوا عيسى ابن الله ويعقوبية قالوا عيسى هو الله عز وجل هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وملكانية قالوا عيسى عبدالله ونبيه زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية قالوا هو إله وأمه إله والله إله
هذا وفي القاموس النسطورية بالضم ويفتح أمة من النصارى تخالف بقيتهم وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في أيام المأمون وتصرف في الإنجيل برأيه وقال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة وهو بالرومية نسطورس كما افترقت اليهود ثلاث فرق فإنها افترقت إلى قرائية وربانية وسامرية
ولا يخفى أن بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسى وبعده إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة وكذا صرف الأنبياء الذين وجدوا بعد عيسى على ما تقدم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسى الذي دلت عليه الرواية الأولى والرواية الثانية ممكن وإن كانت الشجرة لا تبقى في العادة هذا الزمن الطويل ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء لأن هذا الأمر مع كونه خارقا للعادة والأنبياء لهم خرق العوائد سيما نبينا صلى الله عليه وسلم
وبهذا يرد قول السهيلي يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلا نبي ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء عليهم السلام قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر قط أي كما تقدم فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفى والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي هذا كلامه
وقد يقال يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون فقد ذكر أن شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة على أن في بعض الروايات ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة نحر عودها فلما اطمأن تحتها اخضرت ونورت واعشوشب ما حولها وأينع ثمرها وتدلت أغصانها ترفرف على رسول الله
قال بعضهم المختار عند جمهور المحققين من أهل السنة ان كل ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات بشرط عدم التحدي لأن المعجزة يعتبر فيها التحدي وأن تكون بعدالنبوة وما قبل النبوة كما هنا يقال له إرهاص
____________________


وحينئذ لا يستبعد ما ذكر عن الشيخ رسلان رحمه الله أنه كان إذا استند إلى شجرة يابسة قد ماتت تورق ويخرج ثمرها في الحال على أنه سيأتي في الكلام على غزاة الخندق أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم
ولما رأى الراهب ما ذكر لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته وقال له باللات والعزى ما إسمك فقال له إليك عني ثكلتك أمك ومع ذلك الراهب رق مكتوب فجعل ينظر في ذلك الرق ثم قال هو هو ومنزل التوراة فظن بعض القوم أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا فانتضى سيفه وصاح يا آل غالب يا آل غالب فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون ما الذي راعك فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها ثم أشرف عليهم فقال يا قوم ما الذي راعكم مني فوالذي رفع السموات بغير عمد إني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم يبعثه الله بالسيف المسلول وبالريح الأكبر وهو خاتم النبيين فمن أطاعه نجا ومن عصاه غوى ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى قال ولم أقف على تعيين ما باعه وما اشتراه انتهى
وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين رجل إختلاف في سلعة فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم احلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك ثم قال الرجل لميسرة وقد خلا به يا ميسرة هذا نبي والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا أي في الكتب فوعى ميسرة ذلك أي وقبل أن يصلوا إلى بصرى عيى بعيران لخديجة وتخلف معهما ميسرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين فوضع يده على أخفافهما وعوذهما فانطلقا في أول الركب ولهما رغاء
قال وفي الشرف أنهما باعوا متاعهم وربحوا ربحا ما ربحوا مثله قط قال ميسرة يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك أنتهى
____________________


وأقول لا يخفى ما في قول ميسرة اتجرنا لخديجة أربعين سنة ولعلها مصحفة عن سفرة أو هو على المبالغة والله أعلم
ثم انصرف أهل العير جميعا راجعين مكة وكان ميسرة يرى ملكين يظللانه صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو على بعيره إذا كانت الهاجرة واشتد الحر وهذا هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بإظلال الملائكة له في سفره
ويحتمل أن المراد في كل سفر سافره لكن لم أقف على إظلال الملائكة له صلى الله عليه وسلم في غير هذا السفرة وقد ألقى الله تعالى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب ميسرة فكان كأنه عبده فلما كانوا بمر الظهران أي وهو واد بين مكة وعسفان وهو الذي تسميه العامة بطن مرو وهو المعروف الآن بوادي فاطمة قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك أي وفي رواية تخبرها بما صنع الله تعالى لها على وجهك فركب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية أي في غرفة مع النساء فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظللان عليه فأرته نساءها معجبن فعجبن لذلك ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا وهو ضعف ما كانت تربح فسرت بذلك وقالت أين ميسرة قال خلفته في البادية قالت عجل إليه ليعجل بالإقبال وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى فاستيقنت أنه هو
فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وإلى ذلك أشار الإمام السكي رحمه الله في تائيته بقوله ** وميسرة قد عاين الملكين إذ ** ** أظلاك لما سرت ثاني سفرة **
وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذي حالفه أي استحلفه في البيع أي وقصة البعيرين وحينئذ أعطت خديجة له صلى الله عليه وسلم ضعف ما سمته له أي وما سمته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه كما تقدم وقول ميسرة له صلى الله عليه وسلم فيما تقدم لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك يدل على أنها سمت له بكرتين وكانت تسمى لغيره بكرة وفي كلام بعضهم وفي الروض الباسم استأجرته على أربع بكرات
____________________


وفي الجامع الصغير ما نصه آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين ثم رأيت في الإمتاع ما يوافق ذلك ونصه وأجر صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة سفرتين يقلوصين وفي السفرة الأولى أرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة أي وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال كانوا يبتاعون فيه ثلاثة أيام من أول رجب في كل عام فابتاعا منه بزا ورجعا إلى مكة فربحا ربحا حسنا وفي السفرة الثانية أرسلته مع عبدها ميسرة إلى الشام
وفيه أن سفره مع ميسرة إلى الشام سفرة ثالثة فعن مستدرك الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر أن خديجة استأجرته صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء موضع باليمن كل سفرة بقلوص وهي الشابة من الإبل وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم ولعل سوق حباشة هو جرش وإلا لزم أن يكون صلى الله عليه وسلم سافر لها خمس سفرات أربعة إلى اليمن وواحدة إلى الشام وما تقدم عن الروض الباسم من أنها استأجرته في سفرة إلى الشام بأربع بكرات لا يناسب ما تقدم عن ميسرة
وقد جاء في بعض الروايات أن أبا طالب جاء لخديجة وقال لها هل لك أن تستأجري محمدا فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرتين وليس نرضى لمحمد دون أربع بكرات فقالت خديجة لو سألت لبعيد بغيض فكيف وقد سألت لحبيب قريب
ثم لا يخفى أن كون سفره صلى الله عليه وسلم مع ميسرة بسوق حباشة قبل سفره معه إلى الشام مخالف لظاهر ما تقدم من قول عمه أبي طالب وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام فلو جئتها فوضعت نفسك عليها وقول خديجة ماعلمت أنه يريد هذا وإنما قلنا ظاهر لأنه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب وقولها المذكور أرسلته صلى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى سوق حباشة لقرب مسافته وقصر زمنه ثم أرسلته مع ميسرة إلى الشام أو كانت خديجة لا تجوز أن أبا طالب يرضى بسفره إلى الشام وأنه صلى الله عليه وسلم يوافق على ذلك فليتأمل
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من حين سيره أي من مكة صارت الغمامة تظله فإن كانت غير الملكين فالغمامة كانت تظله في الذهاب والملكين يظلانه في العود ولعل عدم ذكره ميسرة لخديجة
____________________

تظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم في ذهابه أنه لم يفظن لها مثلا ولكن سيأتي في كلام صاحب الهمزية ما يدل على أن الملكين هما الغمامة
وفيه وقوع رؤية البشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم للملائكة غير جبريل وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبريل
وفي المنقذ من الضلال للغزالي أن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم أي لحصول طهارة نفوسهم وتزكية قلوبهم وقطعهم العلائق وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا والله أعلم قال ولم أقف على إسم الرجل الذي حالفه أي استخلفه

وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على رواية صحيحة صريحة فيه بأنه أي ميسرة بقى إلى البعثة انتهى
ثم إن خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدثها به غلامها ميسرة لابن عمها ورقة ابن نوفل وكان نصرانيا أي بعد أن كان يهوديا على ما يأتي قد تبع الكتب فقال لها إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذا الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر هذا زمانه أي وكان صلى الله عليه وسلم يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة وكان شريكا للسائب بن أبي السائب صيفي
ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له مرحبا بأخي وشريكي كان لا يداري أي لا يرائي ولا يماري أي يخاصم صاحبه وهذا يدل على أن قوله كان لا يدارى الخ من مقوله صلى الله عليه وسلم
وقد قال فقهاؤنا والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وافتخر بشركته بعد المبعث أي قال كان صلى الله عليه وسلم نعم الشريك لا يدارى ولا يمارى ولا يشارى والمشاراة المشاحة في الأمر واللجاج فيه وهو يدل على أن ذلك كان من مقول السائب ولا مانع أن بكون كل من النبي صلى الله عليه وسلم والسائب قال في حق الآخر كان لا يدارى ولا يمارى وبهذا يندفع قول بعضهم اختلفت الروايات في هذا الكلام الذي هو كان خير شريك كان لا يشارى ولا يمارى فمنهم من يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب ومنهم من يجعله من قول السائب في حق النبي صلى الله عليه وسلم
____________________


ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفى وبين السائب بن يزيد لأنه يجوز أن يكون صيفي لقبا لوالده ولإسمه يزيد
وفي الإستيعاب وقع اضطراب هل الشريك كان أبا السائب أو ولده السائب بن أبي السائب أو ولد السائب وهو قيس بن السائب بن أبي السائب لا أخ السائب وهو عبدالله بن أبي السائب قال وهذا اضطراب لا يثبت به شيء ولا تقوم به حجة
والسائب بن أبي السائب من المؤلفة أعطاه صلى الله عليه وسلم يوم الجعرانة من غنائم حنين وبه يرد قول بعضهم إن السائب بن أبي السائب قتل يوم بدر كافرا
ومما يدل على أن الشركة كانت لقيس بن السائب قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية شريكي فكان خير شريك كان لا يشاريني و لايماريني ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قوله كان شريكي وأقره عليه
وذكر في الإمتاع أن حكيم بن حزام اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بزا من بوق تهامة بسقو حباشة وقدم به مكة فكان ذلك سببا لإرسال خديجة له صلى الله عليه وسلم مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة ليشتريا لها بزا
وفي سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه أنه باع واشترى إلا أنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أكثر من البيع وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات وأما شراؤه فكثير وآجر واستأجر والإستئجار أغلب ووكل وتوكل وكان توكله أكثر & باب تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي
فهي تجتمع معه صلى الله عليه وسلم في قصي قال الحافظ ابن حجر وهي من أقرب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة هذا كلامه
وعن نفيسة بنت منية رضي الله تعالى عنها أي وهي أخت يعلى بن منية ففي الإمتاع منية أخت يعلى بن منية وعليه يكون ضمير وهي راجع لمنية لا لنفيسة قالت كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة أي ضابطة جلدة أي قوية شريفة اي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهم
____________________

شرفا وأكثرهم مالا أي وأحسنهم جمالا وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وفي لفظ كان يقال لها سيدة قريش لأن الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل يقال فلان أوسط القبيلة أعرفها في نسبها وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل فأرسلتني دسيسا أي خفية إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت يا محمد ما يمنعك أن تتزوج فقال ما بيدي ما أتزوج به قلت فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب قال فمن هي قلت خديجة قال وكيف لي بذلك بكسر الكاف لأنه خطاب لنفيسة قلت بلى وأنا أفعل فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن أئت لساعة كذا وكذا فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوجه أحدهم أي وهو أبو طالب على ما يأتي وقال في خطبته وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك فقال عمرو بن أسد هذا الفحل لا يقدح أنفه أي بالقاف والدال المهملة أي لا يضرب أنفه لكونه كريما لأن غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع بخلاف الكريم وكون المزوج لها عمها عمرو بن أسد قال بعضهم هو المجمع عليه وقيل المزوج لها أخوها عمرو بن خويلد
وعن الزهري أن المزوج لها أبوها خويلد بن أسد وكان سكران من الخمر فألقت عليه خديجة حلة وهي ثوب فوق ثوب لأن الأعلى يحل فوق الأسفل وضمخته بخلوق أي لطخته بطيب مخلوط بزعفران فلما صحا من سكره قال ما هذه الحلة والطيب فقيل له لأنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه أي لأن خديجة استشعرت من أبيها أنه يرغب عن أن يزوجها له فصنعت له طعاما وشرابا ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا فلما سكر أبوها قالت له إن محمد بن عبدالله يخطبني فزوجني إياه فزوجها فخلقته وألبسته لأن ذلك أي إلباس الحلة وجعل الخلوق به كان عادتهم أن الأب يفعل به ذلك إذا زوج بنته فلما صحا من سكره قال ما هذا قالت له خديجة زوجتني من محمد بن عبدالله قال أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمرى فقالت له خديجة ألا تستحى تريد أن تسفه نفسك عند قريش تخبرهم أنك كنت سكران فلم تزل به حتى رضى أي وهذا مما
____________________

يدل على أن شرب الخمر كان عندهم مما يتنزه عنه ويدل له أن جماعة حرموها على أنفسهم في الجاهلية منهم من تقدم ومنهم من يأتي وفي رواية أنها عرضت نفسها عليه فقالت يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فزوجها
أقول قال في النور ولعل الثلاثة أي أباها وأخاها وعمها حضروا ذلك فنسب الفعل إلى كل واحد منهم هذا كلامه
وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر لأن المحفوظ عن أهل العلم أن خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار المتقدم ذكرها
قال بعضهم وهو الذي نازع تبعا أي حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ما ردعه عن ذلك فترك الحجر الأسود مكانه
وعلى كون المزوج له عمه حمزة اقتصر ابن هشام في سيرته وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقها عشرين بكرة
وعبارة المحب الطبري فلما ذكر ذلك لأعمامه خرج معه منهم حمزة بن عبدالمطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل وحضره أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال الحمد لله القصة والله أعلم
قال وعن ابن إسحاق أنها قالت له يا محمد ألا تتزوج قال ومن قالت أنا قال ومن لي بك أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش قالت اخطبني الحديث أي وفيه إطلاق اليتيم على البالغ وذلك بحسب ما كان والمراد به المحتاج وإلا فالعرف أي الشرعي واللغوي خصه بغير البالغ ممن مات أبوه الحقيقي
وعن بعضهم قال مررت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها ووقفت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة فأخبرته فقال بلى لعمري فذكرت ذلك لها فقالت أغدوا علينا إذا أصبحنا فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة الحديث
____________________


وفي الإمتاع بعد أن ذكر أن السفير بينهما نفيسة بنت منية ذكر أنه قيل كان السفير بينهما غلامها وقيل مولاة مولده وقد يقال لامنافاة لجواز أن يكون كل ممن ذكر كان سفيرا
وفي الشرف أن خديجة رضي الله تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة فلما جاءها معه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له يا أبا طالب تدخل على عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبدالله فقال أبو طالب يا خديجة لا تستهزئى فقالت هذا صنع الله فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها الحديث أي وفي رواية ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر ولا مخالفة لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أولئك العشرة وأنهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت
وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره أن أبا طالب خطب يومئذ فقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسمعيل وضئضىء معد أي معدنه وعنصر مضر أي أصله وجعلنا حضنة بيته أي المتكفلين بشأنه وسواس حرمه أي القائمين بخدمته وجعله لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا حكام الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله إثنتي عشرة أوقية ونشا أي وهو عشرون درهما والأوقية أربعون درهما أي وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي وقيل أصدقها عشرين بكرة أي كما تقدم
أقول لامنافاة لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور وقال بعضهم يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر وزاد صلى الله عليه وسلم من عنده تلك البكرات في صداقها فكان الكل صداقا والله أعلم
قال وما قيل إن عليا رضي الله تعالى عنه ضمن المهر فهو غلط لأن عليا لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره وبه يرد قول بعضهم وكون على ضمن المهر غلط لأن عليا كان صغيرا لم يبلغ سبع سنين أي لأنه ولد في الكعبة وعمره
____________________

صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة فأكثر وسنه حين تزوج خديجة كان خمسا وعشرين سنة على ما تقدم أو زيادة بشهرين وعشرة أيام وقيل خمسة عشرة يوما على ما يأتي وقيل الذي ولد في الكعبة حكيم بن حزام
قال بعضهم لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة لكن في النور حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة ولا يعرف ذلك لغيره وأما ما روى أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء
قال النووي وعند ذلك قال عمها عمرو بن اسد هو الفحل لا يقدع أنفه وأنكحها منه وقيل قائل ذلك ورقة بن نوفل اي فإنه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدم خطب ورقة فقال الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الإتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا على معاشر قريش إني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبدالله وذكر المهر فقال أبو طالب قد أحببت أن يشركك عمها فقال عمها اشهدوا على معاشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبدالله خديجة بنت خويلد وأولم عليها صلى الله عليه وسلم نحر جزورا وقيل جزورين وأطعم الناس وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال الحمد الله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من قوله فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد وهذا عند إرادة الدخول ولا ينافى ذلك ما تقدم من قوله وقد ابتنى بها لأن تلك الرواية غير صحيحة ولا ينافى كون المزوج له عمه أبو طالب ما تقدم أن المزوج له عمه حمزة لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنسب التزويج إليه أيضا والله أعلم
والسبب في ذلك أي في عرض خديجة رضي الله تعالى عنها نفسها عليه صلى الله عليه وسلم أيضا مع ما أراد الله تعالى بها من الخير ما ذكره ابن إسحاق قال كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد فاجتمعن يوما فيه فجاءهن يهودي وقال أيا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكن نبي قرب وجوده فأيتكن استطاعت أن تكون
____________________

فراشا له فلتفعل فحصبته النساء أي رمينه بالحصباء وقبحنه وأغلظن له وأغضث خديجة على قوله ووقع ذلك في نفسها فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة مما تقدم قالت إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذاك إلا هذا
وذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة أي ولعله بعد أن طلبت منه صلى الله عليه وسلم الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها فأذن له وبعث بعده جارية له يقال له نبعة فقال انظري ما تقول له خديجة فخرجت خلفه فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا الشيء ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإلة الذي سيبعثك لي فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي مالا أضيعه أبدا وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوما وعمره إذا ذاك خمس وعشرون سنة على ما هو الصحيح الذي عليه الجمهور كما تقدم زاد بعضهم على الخمسة والعشرين سنة شهرين وعشرة أيام وقد أشار إلى ما تقدم صاحب الهمزية بقوله ** ورأته خديجة والتقى والزهى ** د فيه سجية والحياء ** ** وأتاها أن الغمامة والسر ** ح أظلته منهما أفياء ** ** وأحاديث أن وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم* بالبعث حان منه الوفاء ** ** فدعته إلى الزواج وما أح ** سن ما يبلغ المنى الأذكياء **
أي وعلمته خديجة رضي الله تعالى عنها ذات الشرف الطاهر والمال الوافر الظاهر والحسب الفاخر والحال أن التقى والزهد والحياء فيه صلى الله عليه وسلم سجية وطبيعة وأتاها الخبر بإن الغمامة والشجر أظلته أفياء أي أظلال حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر
وفيه أن هذا يدل على أن الملكين هما الغمامة
قال بعضهم وتظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة تأسيسا لها
____________________

وانقطع ذلك بعد النبوة وأتى خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأن وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالبعث والإرسال إلى الخلق قرب الوفاء به منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فبسبب ذلك خطبته إلى أن يتزوج بها وعرضت نفسها عليه وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه
وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بنت أربعين سنة قال وقيل خمس وأربعين سنة وقيل ثلاثين وقيل ثمان وعشرين أي وقيل خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين
وتزوجت قبله صلى الله عليه وسلم برجلين أولهما عتيق بن عابد أي بالموحدة والمهملة وقيل بالمثناة تحت والمعجمة فولدت له بنتا اسمها هند وهي أم محمد بن صيفي المخزومي وثانيهما أبو هالة واسمه هند فولدت له ولدا إسمه هالة وولدا اسمه هند أيضا فهو هند بن هند أي وكان يقول أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه زوج أمه وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة قتل هند هذا مع علي يوم الجمل رضي الله تعالى عنه
وفي كلام السهيلي أنه مات بالطاعون بالبصرة وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته واهنداه بن هنداه واربيب رسول الله فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
هذا وفي المواهب أنها كانت تحت أبي هالة أولا ثم كانت تحت عتيق ثانيا وستأتي بقية ترجمتها رضي الله عنها في أزواجه صلى الله عليه وسلم & باب بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه أي ودخلها وصدع جدرانها بعد توهينهما من الحريق الذي أصابها
وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها فخافوا
____________________

أن تفسدها السيول أي تذهبها بالمرة وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولا مانع من التعدد وكان إرتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يكن لها سقف أي وكان الناس يلقون الحلى والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وإنهار البئر عليه فهلك
وفي كلام بعضهم فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه فليتأمل الجمع
وقد يقال على بعد جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة وكان هلاكه في المرة الثانية فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة فيبرق لونها وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها فلا يدنو منها أحد إلا كشت أي صوتت وفتجت فاها معطوف على كشت
ففي حياة الحيوان قال الجوهري كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام لا يقربه أحد أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته إذ لو أهلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق أرادوا هدمها وإعادة بنائها وأن يشيدوا بنيانها أي يرفعوه ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة ليس فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلة أحد من الناس أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال عند ذلك يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا الحديث أي وفي لفظ أنه قال لهم لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغي أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس وأبو وهب هذا خال عبدالله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا في قومه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة
____________________


روى الشيخان عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما قال لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس رضي الله تعالى عنه ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة أي كبقية القوم فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة ففعل صلى الله عليه وسلم فخر إلى الأرض فطمحت عيناه إلى السماء أي ونودى عورتك فقال إزاري إزاري أي شدوا علي إزاري فشد عليه وفي رواية سقط فغشى عليه فضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودى من السماء أن شد عليك إزارك وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك فقال ما أصابني ما أصابني إلا من التعري
وفي رواية بينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته فنودى يا محمد خمر عورتك أي غطها فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك
أي وقد يقال هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس رضي الله تعالى عنه لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ وغايته أنه سمى النمرة إزارا له
قال واستبعد بعض الحفاظ ذلك أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا قال لأنه صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه أي وقد عاد إلى ذلك
أقول يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة بل جواز الترك وفي الثانية علم أنه عزيمة
لا يقال تقدم من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي وتقدم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم
ففي الخصائص الصغرى أنه صلى الله عليه وسلم لم تر عورته قط ولو رآها أحد طمست عيناه لأنه لا يلزم من كشف عورته صلى الله عليه وسلم رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك فعن عائشة رضي الله تعالى عنها ما رأيت منه صلى الله عليه وسلم والظاهر أن بقية زوجاته كذلك والله أعلم
____________________


ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ
أي قال وعند ابن اسحاق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء فقال الوليد بن المغيرة لهم أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة قالوا بل نريد الإصلاح قال فإن الله لا يهلك المصلحين قالوا من الذي يعلوها فيهدمها قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين والضمير في ترع للكعبة أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي والمعجمة أي لم نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيبب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة أي أسنمة الإبل وفي لفظ كالأسنة
قال السهيلي وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق هذا كلامه أي وقد يقال هي كالأسنة في الخضرة وكالأسنمة في العظم
يقال الأسنة زرق لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة أي تحركت بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل فانتهوا عن ذلك الأساس ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا يزول أخشباها أي جبلاها وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا وقعيقعان وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن ووجدوا في المقام أي محله كتابا آخر مكتوب فيه مكة بلد الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاث سبل ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه ومن يزرع شرا يحصد ندامة أي ما يندم عليه تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل أي نعم كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر
____________________


أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة وفي كلام بعضهم وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر الأول أنا الله ذو بكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره وفي الثاني أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها إسما من إسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وفي الثالث أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه قال ابن المحدث ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه أنا الله ذو بكة مفقر الزناة ومعرى تارك الصلاة أرخصها والأقوات فارغة وأغليها والأقوات ملآنة أي فارغ محلها وملآن محلها هذا كلامه
وقد يقال لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر أو يكون هو ذلك الحجر وما ذكر مكتوب في محل آخر منه أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام فدعت قريش رجلا من حمير فقال إن فيه لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال وظننا أن فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فكتمناه وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة أي الذي به جدة الآن وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمى به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين فلا يخالف قول غير واحد فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت وفي لفظ حبسها الريح وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا
وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة فلما بلغت مرساها من جدة وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها أي كسرها
فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها فأعدوه لسقف الكعبة وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة فاها فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد
وفي حديث أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم
____________________

الناس فأخرجها له من الأرض فرأى منظرا هاله وأفزعه فقال أي رب ردها فردها
فقالت قريش عند ذلك إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضى ما أردنا أي بعد أن اجتمعوا عند المقام وعجوا إلى الله تعالى ربنا لن نراع أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية وإلا فما بدا لك فافعل فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد فقالوا ما ذكر وقالوا عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم فإنهم جاءوا به معهم إلى مكة أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت
أقول ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد ابن المغيرة فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحاق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم والله أعلم
أي ثم لما أراداو بنيانها تجزأتها قريش أي بعد أن أشار عليهم بذلك أبو وهب عمرو ابن عائذ فقال لهم إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع فكان شق الباب لبعد مناف وزهرة وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبدالدار ولبني أسد ولبني عدي
والذي في كلام المقريزي كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر اي وهو شق الباب وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل
وفي كلام بعضهم وسمى الركن اليماني باليماني لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار أي الذي هو مولى سعيد بن العاص
أقول وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت لأنه كما تقدم كان بانيا وسيأتي التصريح بذلك وأما باقوم مولى سعيد بن
____________________

العاص فتقدم أنه كان نجارا إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء واشتهر بالوصف الأول فكان الباني لها وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا أيضا واشتهر بالوصف الأول
ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك فقال وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء فقول القائل وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد
ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا ونصها فخرجت قريش لتأخذ خشبها أي السفينة التى كسرت فوجدوا الرومى الذي فيها نجارا فقدموا به وبالخشب فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها أو أنهما أشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا
ثم رأيت عن ابن إسحاق وكان بمكة قبطى يعرف تجر الخشب وتسويته فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم أي الرومي فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص وحينئذ في هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم وكان روميا وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي صلى اليه عليه وسلم ميراثه لسهيل بن عمرو
ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها وزادوا فيها تسعة أذرع فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا ورفعوا بابها من الأرض فكان لا يصعد إليها إلا في درج وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر وفي لفظ أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدوا للقتال فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي أي تحالفوا على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم وقد تقدم في حلف المطيبين ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم أجتمعوا في المسجد الحرام وكان أبو أمية بن المغيرة وإسمه حذيفة أسن قريش كلها
____________________

يومئذ أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم وكان يعرف بزاد الراكب لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد بل يكفي كل من سافر معه الزاد
أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة زمعة بن الأسود بن المطلب ابن عبد مناف قتل يوم بدر كافرا ومسافر بن أبي عمرو بن أمية وأبو أمية بن المغيرة وهو أشهرهم بذلك
وفي كلام بعضهم لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة وأبو أمية هذا مات على دينه ولعله لم يدرك الإسلام فقال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم أي وهو باب بني شيبة وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام وفي لفظ أول من يدخل من باب الصفا أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أول من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبا حذيفة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه وأن الراوي عنه اختلف كلامه فتارة قيل عنه يقضى بينكم وتارة قيل عنه يضع الركن والمشهور الأول ويدل له ما يأتي فكان أول داخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية لأنه كان لا يدارى ولا يمارى فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم هلم إلى ثوبا فأتى به أي وفي رواية فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة فأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة وكان في الربع الثاني زمعة وكان في الربع الثالث أبو حذيفة ابن المغيرة وكان في الربع الرابع قيس بن عدي حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة ورثاه أبو جحيفة بقوله
____________________

** ألا هلك الماجد الرفد ** وكل قريش له حامد ** ** ومن هو عصمة أيتامنا ** وغيث إذا فقد لراعد **
قال وعن ابن عباس رضي اله تعالى عنهما لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن فقال العباس لا وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شد به الركن فغضب النجدي وقال واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له أما والله ليفرقنهم شيعا وليقسمن بينهم حظوظا فكاد يثير شرا فيما بينهم ولعله هذا النجدي هو إبليس
فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه وصاح يا معشر قريش أرضيتم أن يلى هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم انتهى
وإنما تصور بصورة نجدي لأن في الحديث نجد طلع منها قرن الشيطان ولما قال صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قالوا وفي نجدنا فأعاد الأول والثاني قال هنالك الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان
أقول سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله صلى الله عليه وسلم ودخل معهم وسيأتي ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي
وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام أي وإسمعيل وفي يده الأزلام وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرات في حجة الوداع والله أعلم وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة
ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان عرشه على الماء أي العذب فلما اضطرب العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمدا رسول الله
____________________

صلى الله عليه وسلم فسكن فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان فخلق من ذلك الدخان السموات ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس وفي لفظ أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء أي ضرب بعضه بعضا فأبرز عنه خشفة الحديث وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض فهي أصل الأرض وسرتها وقد يخالفه ما في أنس الجليل كذا روى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء بإثنى عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل
ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس وحينئذ كان يبغي أن يسمى أبا الجبال وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطى إستنباطا أحد لقوله صلى الله عليه وسلم أحد يحبنا ونحبه ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة قال ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع أي عنده تبعا لجمع ولأنه مذكور في القرآن بإسمه في قراءة من قرأ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد أي بضم الهمزة والحاء ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين وقد جاء بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوة ثم خلق السموات فسواهن في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين
وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي إن لفظة بعد في قوله تعالى { والأرض بعد ذلك دحاها } بمعنى قبل لأن خلق الأرض قبل خلق السماء لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة ثم بعد خلق السماء دحى الأرض
ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك حيث قال له يا إمام اختلف على من القرآن آيات ثم ذكر منها أنه قال قال الله تعالى { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } حتى بلغ { طائعين } ثم قال في الآية الأخرى { أم السماء بناها } ثم قال { والأرض بعد ذلك دحاها } فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أما قوله { خلق الأرض في يومين } فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض وأما قوله تعالى { والأرض بعد ذلك دحاها } يقول جعل
____________________

فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا وبه يرد قول بعضهم خلق السماء قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار فليتأمل
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { ومن الأرض مثلهن } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيسكم رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد وقال البيهقي إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف
قال الحافظ السيوطي ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر
ولا يبعد أن يسمى كل منهم بإسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه أي وحينئذ كان لنبينا صلى الله عليه وسلم رسول من الجن إسمه كإسمه ولعل المراد إسمه المشهور وهو محمد فليتأمل
ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } كان المجيب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما حاذاها الذي هو محل البيت المعمور
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الارض بمكة قال بعض العلماء هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أتعرف يوم يوم فقال أبوبكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير يعني يوم ألست بربكم ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد سئل الشيخ على الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية
فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله تعالى عنه أتعرف يوم يوم فقال نعم
____________________

يا رسول الله الحديث وتلك الطينة لما تموج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربيته صلى الله عليه وسلم ومدفنه بالمدينة
وبهذا يندفع ما يقال مقتضى كون أصل طينته صلى الله عليه وسلم بمكة أن يكون مدفنه بها لأن تربة الشخص تكون من محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم وقد قال له جابر يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل ألأشياء قال يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم الحديث
وجاء أول ما خلق الله نوري وفي رواية أول ما خلق الله العقل قال الشيخ على الخواص ومعناهما واحد لأن حقيقته صلى الله عليه وسلم يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد صلى الله عليه وسلم هذا كلامه وهذا هو المعنى بقول بضعهم لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها وفي أن هذا لا يناسبه قوله ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره ومع قول ابن عباس أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس
هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث خلق الله آدم من تراب الجابية وعجنه بماء الجنة وجاء خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك ودحنا محل قريب من الطائف وتقدم انه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد ألست بربكم فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم
____________________


ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذر وأعاده في صلب آدم أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم وأخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كان سابقا على ذلك وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له صلى الله عليه وسلم أتعرف يوم يوم وقال نعم إلى قوله ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي حين أخذ العهد على بني آدم لا حين أخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كما قد يتبادر فليتأمل
ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور فقال آدم يا رب ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري قال ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة فجعله الله في جبهته ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه فكان في سبابته فلما أهبط آدم إلى الأرض انتقل ذلك النور إلى ظهره فكان يلمع في جبهته وفي رواية لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقى في ظهري من هذا النور شيء قال نعم نور أخصاء أصحابه فقال يا رب اجعله في بقية أصابعي فكان نور أبي بكر في الوسطى ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر ونور علي في الإبهام فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس
ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث ولما قال تعالى للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } و { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء غضب عليهم
وفي لفظ ظنت الملائكة أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم وأنه قد غضب عليهم من فوقهم فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضى عليهم
وفي لفظ فنظر الله إليهم ونزلت الرحمة علهيم فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم أي الذي هو الخليفة فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم فبنوا الكعبة
وفي هذه الرواية اختصار بدليل ما قيل وضع الله تحت العرش البيت المعمور
____________________

على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء وقال للملائكة طوفوا بهذا البيت أي لأرضى عنكم ثم قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره أي ففعلوا وقدره عطف تفسير على مثاله فالمراد بالمثال القدر
وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } و { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية خافوا أن يكون الله تعلى عابها عليهم لإعتراضهم في علمه فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم ويتضرعون إليه فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا وفي كل أرض بيتا قال مجاهد هي أربعة عشر بيتا متقابلة لو سقط بيت منها لسقط على مقابله والبيت المعمور في السماء السابعة وله حرمة كحرمة مكة في الأرض واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة
وفي كلام بعضهم في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام والإعتمار في كل وقت والطواف في كل أوان ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة بناء على أن أول من بناها آدم صلى الله عليه وسلم أي أو ولده شيث فقد قال بعضهم ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها وكانت قبل ذلك أي وكان محلها قبل بناء آدم لها خيمة من ياقوتة حمراء نزلت لآدم من الجنة أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي وباب غربي من ذهب منظومان من در الجنة فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء
قال وذكر أن آدم لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها ورأسه في السماء
وفي لفظ كان رأسه يمسح السحاب فصلع فأورث ولده الصلع أي بعض ولده فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم فاستأنس بذلك فهابته الملائكة أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف وقيل بذراع آدم فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى فقال يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند
____________________

عرشي أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا فلا ينافى ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم فاخرج إليه أي طف به وصل عنده وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور
قيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا أي على الصفة التي خلق عليها وهو المراد بقوله صلى الله عليه سولم خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح فالضمير في صورته يرجع لآدم وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما
وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته فخرج على سبب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال لا تضربه على وجهه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته أي صورة هذا الرجل فهو ينتقل أطوارا ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ومن ثم عبر بقوله أوجده وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إنما روى أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء فحطه في الله تعالى إلى ستين ذراعا أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح وكان آدم أمرد وفي الصحيحين فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم وقد جاء في صفة أهل الجنة أجرد مرد على صورة آدم
وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمى آدم وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قوله بعضهم إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا قال بعض الحفاظ وفيه نظر
____________________


قيل ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند
وعن عطاء بن أبي رباح إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة فهي هذه التي يتطيب الناس بها وجاء أنه نزل بنخلة العجوة
ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومد له في خطوة قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام فقد قيل لمجاهد هل كان آدم يركب قال وأي شيء كان يحمله فوالله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام
وفيه أن هذا يقتضى أن آدم لم يكن يركب البراق فقول بعضهم إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة فإذا خيمة في موضع الكعبة أي الموضع الذي به الكعبة الآن وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة أي ولها أربعة أركان بيض وفيها ثلاثة قناديل من ذهب فيها نور يلتهب من نور الجنة طولها ما بين السماء والأرض كذا في بعض الروايات ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافى ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور ووصف بأنه ياقوتة حمراء لأن سقفة كان ياقوتة حمراء لأن التعدد بعيد فليتأمل ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة وكان كرسيا لآدم يجلس عليه أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة
أقول وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند إبتداء
وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ثم قال يا آدم تخط فتخطى فإذا هو بأرض الهند فمكث هنالك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت فقيل له حج يا آدم فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة الحديث والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة
ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه إستئناسا به هذا كلامه
____________________


وفي رواية عنه أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما فليتأمل الجمع
وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة أي فعن كعب أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم فقال له يا آدم هذا بيتي أنزلته معك يطاف حوله كما يطاف ح حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي أي على ما تقدم ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت أي تلك الياقوتة عليها وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين عن تقدير صحتهما
وقد يقال في الجمع يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله فلقرب الزمن عبر بالمعية فلا ينافى ما تقدم من قوله يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فاخرج إليه وجاء إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه أي تحت إبطه وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما
وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روى عن وهب بن منبه رحمه الله أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكى ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه ثم لما بنى البيت أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل
وفي بهجة الأنوار أن الحجر الأسود كما في الإبتداء ملكا صالحا ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها ثم جعل ذلك الملك موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة فلما قدر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا ألا ترى أنه جاء في الأحاديث الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين لأنه كان في الإبتداء ملكا
أقول ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه
____________________


وقد جاء أكثروا من إستلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه إن الله عز وجل لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة أي فقد جاء ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى وجاء استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع وقد هدم مرتين ويرفع الثالثة والله أعلم
وجاء أن آدم أتى ذلك أي تلك الخيمة أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له يا آدم بر نسكك أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة وفي رواية لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعى فقالوا بر حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام
أقول وفي تاريح مكة للأزرقي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيا وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام والمأزمان موضع بين عرفة والمزدلفة قال الطبري ودون منى أيضا مأزمان والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه وجاء أنه وجد الملائكة بذى طوى وقالوا له يا آدم مازلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم وكونها لقيته بالمأزمين وكونه وجدهم بذي طوى وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام وكونهم حجوا قبله بألفى عام وبخمسين ألف عام وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل
ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو من قال سبحان الله وبحمده خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة وما جاء إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس فيه الحديث لكن في سفر السعادة الحديث المنسوب إلى أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه إنغماسة ثم يخرج فينتفض إنتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله عز وجل من كل قطرة منها ملكا لهذا الحديث طرق كثيرة ولم يصح منها شيء ولم يثبت في هذا المعنى حديث هذا لفظه والله أعلم
____________________


وعند ذلك قال آدم للملائكة فما كنتم تقولون حوله قالوا كنا نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال آدم زيدوا فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله فكان آدم إذا طاف يقولها وكان طوافه سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار أي ولما فرغ من الطواف صلى ركعتين تجاه باب الكعبة ثم أتى الملتزم أي محله فقال اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم ما في نفسي وما عندي فأغفر لي ذنبي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي الحديث
أقول قول الملائكة قد طفنا بهذا البيت لا يحسن أن يعنوا به تلك الخيمة المذكورة المعنية بقوله تعالى لآدم قد أهبطت بيتا إلى آخر ما تقدم أو كونها أهبطت مع آدم بل المراد ذلك البيت الذي هو الخيمة قبل أن تنزل
ويجوز أن يكون المراد تلك الخيمة أو نفس تلك الخيمة بناء على أنها البيت المعمور وأن الملائكة طافوا بها قبل نزولها إلى الأرض كما تقدم قال وعن وهب بن منبه قرأت في كتاب من كتب الأول ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ثم يطوف سبعا بالبيت ويصلى في جوفه ركعتين ثم يصعد
أقول يجوز أن يكون المراد بإحرامه بنية الطواف بالبيت لا إحرامه بالعمرة بدليل قوله ثم يطوف سبعا بالبيت إلى آخره
ويجوز أن يكون المراد بالبيت في كلام وهب محل تلك الخيمة ما يعم من وجد من الملائكة وبمن بعث بعد ذلك ولا يخفى أن الأول يبعده قوله حتى يستلم الحجر
وعلى الثاني يكون فيه دلالة على أن الحجر الأسود كان في تلك الخيمة يبتدأ الطواف بها منه وجاء عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهما إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء وفي رواية وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي أي على ما تقدم وهذا السياق بظاهره يوافق ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هبوط آدم كان من الجنة إلى موضع الكعبة إبتداء والله أعلم قال وجاء أن جبريل عليه الصلاة والسلام بعثه الله تعالى إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا أي قال لهما إن الله تعالى يقول لكما ابنيا لي بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى
____________________

أجابه الماء ونودى من تحته حسبك يا آدم وفي رواية حتى إذا بلغ الأرض السابعة فقذفت فيها الملائكة الصخر ما يطيق الصخرة ثلاثون رجل
وفيه أنه إن كان أمر آدم ببناء البيت بعد مجيئه إلى تلك الخيمة من الهند ماشيا خالف ظاهر ما تقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب أوحى الله تعالى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا إذ ظاهره أنه أوحى إليه بذلك وهو في الجنة إلا أن يقال المراد بالأرض في قوله اهبط إلى الأرض أرض الحرم أي اذهب إلى أرض الحرم ابن لي بيتا
ثم لا يخفى أن قوله فقذفت فيه الملائكة الصخر يقتضى أن إلقاء الملائكة للصخر كان بعد حفر آدم وهو لا يخالف ما تقدم عن كعب أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم فقال له يا آدم هذا بيتي أنزلته معك ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت عليها فيكون إلقاء الملائكة للصخر بعد حفر آدم فلما تم ذلك الأس جعل ذلك البيت فوق تلك الصخور ويكون المراد بقوله ونزل معه الملائكة أي صحبوه من أرض الهند إلى أرض الحرم
وجاء في بعض الروايات إن آدم وحواء لما أسساه نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم ونزل الركن فوضع موضعه اليوم من البيت فطاف به آدم أي كما كان يطوف به قبل ذلك وبهذا تجتمع الروايات وحينئذ لا مانع أن ينسب بناء هذا الأساس الذي وضعت الملائكة عليه تلك الخيمة لآدم وأن ينسب للملائكة
أما نسبته للملائكة فواضح وأما نسبته لآدم فلأنه السبب فيه أو لأنه كان إذا ألقت الملائكة الصخر يضع آدم بعضه على بعض وعلى نسبة بناء ذلك الأس للملائكة ولآدم يحتمل القول بأن أول من بنى الكعبة الملائكة والقول بأن أول من بنى الكعبة آدم فليتأمل
وقد جاء أن آدم بناه من لبنان جبل بالشام ومن طور زيتا جبل من جبال القدس ومن طور سينا جبل بين مصر وإيليا
وفي كلام بعضهم أنه جبل بالشام وهو الذي نودى منه موسى عليه الصلاة والسلام ومن الجودى وهو جبل بالجزيرة ومن حرا حتى استوى على وجه الأرض
أقول وفي رواية بناه من ستة أجبل من أبي قبيس ومن رضوى ومن أحد فالمتحصل من الروايتين أنه بناء من ثمانية أجبل ولا مانع من ذلك واستمر ذلك البيت
____________________

الذي هو الخيمة إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام فلما كان الغرق بعث الله تعالى سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور كما في الكشاف وكان رفعه لئلا يصيبه الماء النجس وبقيت قواعده التي هي الأس وفي العرائس ثم طافت السفينة بأهلها الأرض كلها في تسة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا
وقد رفع الله البيت الذي كان يحجه آدم صيانة له من الغرق وهو البيت المعمور أي وكون حواء أسست البيت مع آدم يخالف ما جاء أن حواء أهبطت بجدة وحرم الله عليها دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم وإلى شيء من مكة لأجل خطيئتها وأنها أرادت أن تدخل مع آدم إلى مكة فقال لها إليك عني قد خرجت من الجنة بسببك فتريدين أن أحرم هذا فكان آدم إذا أراد أن يلقاها ليلم بها خرج من الحرم كله حتى يلقاها بالحل
وذكر محمد بن جرير أن الله أهبط آدم على جبل سرنديب بالهند أي وتقدم ما فيه وحواء بحدة بالحاء المهملة وقيل بالجيم فجاء آدم في طلبها فتعارفا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك عرفة فاجتمعا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك جمع وزلفت إليه في المحل الذي قيل له بسبب ذلك مزدلفة وهذا يدل على أن جمع غير مزدلفة وهو خلاف المشهور من أن جمع هو مزدلفة إلا أن يقال كل من المحلين من جملة البقعة وأطلق كل من الإسمين على جميع تلك البقعة
وقيل سمى المحل عرفة لأن جبريل عليه الصلاة والسلام لما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام المناسك وانتهى إلى عرفة وقال له أعرفت مناسكك قال نعم فسمى عرفة أي والمراد مناسكه التي قبل عرفة وإلا فعظم المناسك بعد عرفة فليتأمل
وفي الخصائص الصغرى عن رزين أنه روى أن آدم عليه الصلاة والسلام قال إن الله أعطى أمة محمد صلى اله عليه وسلم أربع كرامات لم يعطنيها كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان الحديث وهو يدل على أن توبته كانت بسبب طوافه بالبيت ويذكر أن حواء عاشت بعد آدم سنة
وجاء أن آدم لما فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى بالمسير إلى أن يبنى بيت المقدس فسار وبناه ونسك فيه وحينئذ لا يشكل قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له أي مسجد وضع في الأرض أولا المسجد الحرام قيل ثم أي قال بيت المقدس قيل كم كان بينهما قال أربعون سنة وحينئذ لا حاجة لجواب الإمام البلقيني إن المراد أن المدة
____________________

المذكورة بين أرضيهما في الدحو أي دحيت أرض المسجد الحرام ثم بعد مضى مقدار أربعين سنة دحيت أرض بيت المقدس
وفيه أن الإمام البلقيني إنما أجاب بذلك بناء على أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الباني للمسجد الحرام والباني لمسجد بيت المقدس سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام فإن بينهما كما قيل أكثر من ألف عام وكذا لا إشكال إذا كان الباني للمسجد الحرام آدم والباني لمسجد بيت المقدس أحد أولاده كما قيل بذلك ومن ثم أجاب بعضهم بأن سليمان إنما كان مجددا لبناء بيت المقدس وأما المؤسس له فسيدنا يعقوب بن إسحاق بعد بناء جده إبراهيم للمسجد الحرام بالمدة المذكورة وأما على أن الباني لهما آدم فلا إشكال وفي رواية أن أول من بنى الكعبة أي كلها بعد أن رفعت تلك الخيمة بعد موت آدم شيث ولد آدم بناها بالطين والحجارة أي فهي أولية إضافية ثم لما جاء الطوفان انهدم وبقى محله وقيل إنه استمر ولم يبنه أحد إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وفي رواية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد بناء الكعبة جاء جبريل فضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ثم بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على ذلك الأس ويقال له القواعد أي كما تقدم وهذا الأس كما علمت لآدم أو للملائكة أو لهما وإنما قيل له أساس إبراهيم وقواعد إبراهيم لأنه بنى على ذلك ولم ينقضه
ومما يدل للقيل المذكور ما جاء في بعض الروايات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دثر مكان البيت أي بسبب الطوفان بدليل ما جاء في رواية قد درس مكان البيت بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام وكان موضعه أكمة حمراء وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض وما دعا عنده أحد إلا استجيب له
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها لم يحجه هود ولا صالح عليها الصلاة والسلام لتشاغل هود بقومه عاد وتشاغل صالح بقومه ثمود
وجاء إن بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وجاء إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا وكل نبى من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وجاء ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة
أقول ويوافق ذلك قول بضعهم إن إسمعيل دفن حيال الموضع الذي فيه الحجر
____________________

الأسود لكن جاء إن قبر إسماعيل في الحجر وذكر المحب الطبري أن البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسمعيل عليه الصلاة والسلام
وقد يقال لا منافاة بين كون هود وصالح لم يحجا البيت وبين كونهما دفنا في تلك البقعة لأنه يجوز أن يكونا ماتا قبل وصولهما إلى البيت فجىء بهما ودفنا في تلك البقعة على أن بعضهم ضعف كونهما لم يحجا أي ويدل أنه قد جاء حجه هود وصالح ومن آمن معهما وفي بضع الروايات لم يحجه بين نوح وإبراهيم أحد من الأنيباء ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم من أن كل نبي إذا كذبه قومه إلى آخره على تقدير صحتها
وقد يقال لا يحتاج إلى الجمع إلا أن يثبت أن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه على أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه إلا هود وصالح وهو يؤيد القول بأنهما لم يحجا وتقدم ضعفه وجاء في حديث راويه متروك إن نوحا حجت به السفينة فوقفت بعرفات وباتت بمزدلفة وطافت به أي بالحرم كما تقدم أن السفينة لم تجاوز الحرم وهذا لا يناسبه قوله وسعت لأن السعى بين الصفا والمروة إلا أن يراد بالسعى نفس الطواف فهو من عطف التفسير
وفي أنس الجليل ورد حديث شريف إن السفينة طافت ببيت المقدس أسبوعا واستوت على الجودى أي وجاء إن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق إنكم في حرم الله وحول بيته لا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزا ويذكر أن ولده حاما تعدى ووطىء زوجته فدعا عليه بأن يسود الله لون بنيه فأجاب الله دعاءه في أولاده فجاء ولده أسود وهو أبو السودان
وقيل في سبب دعوة نوح وسوادهم غير ذلك وقد بينت ذلك في كتاب إعلام الطراز المنقوش في فضائل الحبوش والله أعلم وقبر آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس أي بعد نقل يوسف من بحر النيل كما سنذكره
قال وقد جاء إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا فقال إبراهيم أي رب أين أبنيه فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة أي وهي ريح لها وجه كوجه الإنسان أي وقيل كوجه الهر وجناحان ولها لسان تتكلم به أي وفي الكشاف في تفسير السكينة التي كانت في التابوت الذي هو صندوق التوراة قيل هو صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه
____________________


وعن علي رضي الله تعالى عنه كان لها وجه كوجه الإنسان هذا كلام الكشاف وفي رواية بعث الله ريحا يقال لها الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكشف لإبراهيم وإسمعيل صلى الله عليهما وسلم ما حول البيت من أساس البيت الأول
وفي رواية أرسل الله سحابة فيها رأس فقال الرأس يا إبراهيم إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة فجعل ينظر إليها ويخط قدرها ثم قال الرأس له قد فعلت قال نعم فارتفعت فليتأمل الجمع بين هذه الروايات وبينها وبين ما تقدم أن جبريل ضرب بحناحه الأرض فأبرز عن أس إلى آخره وجاء إن السكينة جعلت تسير ودليله الصرد وهو الطائر المعروف أي وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها لأن له صفيرا مختلفا يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله ويقال له الصوام لأنه ورد أنه أول طائر صام عاشوراء فعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يدي صرد فقال هذا أول طير صام عاشوراء لكن قال الذهبي هو حديث منكر وقال الحاكم حديث باطل
ويذكر أن خالد بن الوليد لما قتل طليحة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقوى أمره بعد موته صلى الله عليه وسلم قال خالد لبعض أصحابه من أسلم ما كان يقول لكم طليحة من الوحي فقال كان يقول والحمام واليمام والصرد الصوام ليبلغن ملكنا العراق والشام وقد سمع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام الصرد يصوت فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون
وفي الكشاف أن ذلك صياح الهدهد ولا مانع أن يكون ذلك صياحهما وسمع طاوسا يصوت فقال يقول كما تدين تدان وسمع هدهدا يصوت فقال يقول من لا يرحم لا يرحم
ويجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن الهدهد تارة يقول استغفروا الله يامذنبون وتارة يقول من لا يرحم لا يرحم وسمع خطافا يصوت فقال يقول قدموا خيرا تجدوه وسمع ديكا يصوت فقال يقول اذكروا الله يا غافلون وسمع بلبلا يصوت فقال يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فقال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وسمع رخمة تصوت فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وقال الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله والقطاة تقول من
____________________

سكت سلم والببغا تقول ويل لمن الدنيا همه والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس
وعن سيدنا سيلمان صلوات الله وسلامه عليه ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة تقول إذا وقفت عند خربة أي الذين كانوا يتنعمون بالدنيا ويسعون فيها ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد تزودوا يا غافلون وتهيئوا لسفركم
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأينا طيرا أعمى يضرب بمنقاره على شجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدري ما يقول فقلت الله ورسوله أعلم فقال إنه يقول اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت فأقبلت جرادة فدخلت في فمه ثم ضرب بمنقاره الشجرة فقال عليه الصلاة والسلام أتدري ما يقول قلت لا قال إنه يقول من توكل على الله كفاه
ويقال لما قال سليمان للهدهد لأعذبنك عذابا شديدا قال له الهدهد اذكر يا نبي الله وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان صلوات الله وسلامه عليه ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه أي فإن الهدهد كان دليلا له على الماء فإن الهدهد يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فلما فقد سليمان الماء تفقد الهدهد فلم يجده فأرسل خلفه العقاب فرآه الهدهد مقبلا من جهة اليمن فلما رآه الهدهد منقضا عليه قال له بحق من أقدرك على إلا ما رحمتني
قيل لإبن عباس يا سبحان الله الهدهد يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الفخ فقال إذا وقع القضاء عمى البصر قيل عنى سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام بالعذاب الشديد الذي يعذب به الهدهد التفرقة بينه وبين إلفه وقيل إلزامه خدمة أقرانه وقيل صحبة الأضداد وقد قيل أضيق السجون عشرة الأضداد وقيل الزوجة العجوز قال تعالى حكاية عنه علمنا منطق الطير
قال بضعهم عبر عن أصواتها بالمنطق لما يتخيل منها من المعاني التي تدرك من النطق فسليمان صلوات الله وسلامه عليه مهما سمع من صوت طائر علم بقوته القدسية الغرض الذي أراده ذلك الطائر وهذا في طائر لم يفصح بالعبارة وإلا فقد يسمع من بعض الطيور الأفصاح بالعبارة فنوع من الغربان يفصح بقوله الله حق
____________________


وعن بعضهم قال شاهدت غرابا يقرأ سورة السجدة وإذا وصل إلى محل السجود سجد وقال سجد لك سوادى ومن آمن بك فؤادي والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة
وقد وقع لي أني دخلت منزلا لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها فإذا هي تقول لي مرحبا بالشيخ البكري وتكرر ذلك فعجبت من فصاحة عبارتها
وكان عليه السلام يعرف نطق الحيوان غير الطير فقد جاء أن سليمان عليه السلام سمع النملة وقد أحست بصوت جنود سليمان تقول للنمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فعند ذلك أمر سليمان الريح فوقفت حتى دخل النمل مساكنها ثم جاء سليمان إلى تلك النملة وقال لها حذرت النمل ظلمي قالت أما سمعت قولي وهم لا يشعرون على أني لم أرد حطم النفوس أي إهلاكها إنما أردت حطم القلوب خشية أن يشتغلن بالنظر إليك عن التسبيح أي فيمتن
فقد جاء مرفوعا آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها ويروى ما من صيد يصاد ولا شجرة تقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى وفي الحديث الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه وفي رواية إن النملة قالت له إنما خشيت أن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك فتكفر نعم الله عليها فقال لها عظيني قالت هل تدري لم جعل ملكك في فص خاتمك قال لا قالت أعلمك أن الدنيا لا تساوي قطعة من حجر
ومن عجيب صنع الله تعالى أن النملة تغتذي بشم الطعام لأنها لا جوف لها يكون به الطعام ويذكر أن هذه النملة التي خاطبت سيدنا سليمان أهدت له نبقة فوضعتها في كفه
ويحكى عنها لطيفة لا نطيل بذكرها وفي فتاوى الجلال السيوطي قال الثعالبي في زهرة الرياض لما تولى سليمان عليه الصلاة والسلام الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه فعاتبها النمل في ذلك فقال كيف أهنيه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبدا زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة وقد شغل سليمان بأمر لا يدري ما عاقبته فهو بالتعزية أولى من التهنئة
وجاء في بعض الأيام شراب من الجنة فقيل له إن شربته لم تمت فشاور جنده فكل أشار بشربه إلا القنفذ فإنه قال له لا تشربه فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا قال صدقت فأراق الشراب في البحر
قال وصار إبراهيم وإسمعيل صلوات الله وسلامه عليهما يتبعان الصرد حتى وصلا
____________________

إلى محل البيت صارت السكيتة سحابة وقالت يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه أي وفي لفظ لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس الحديث فحفر إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزوا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض فبنى إبراهيم وإسمعيل يناول الحجارة أي التي تأتي بها الملائكة كما سيأتي حتى ارتفع البناء
أقول يحتمل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أوحى الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاءا
وقد قيل في قوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله } الآية أي قائما مقام الأمة لإنفراده بعبادة الله تعالى في أرضه لأنه لم يمكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه والله أعلم
قال ثم لما ارتفع البناء جاء المقام أي وهو الحجر المعروف فقام عليه وهو يبنى وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وصار كلما ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسمعيل له رأسه لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف حال إسمعيل وهاجر فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته أي التي هي البراق ولا يزيد على السلام وإستطلاع الحال غيرة من سارة عليه من هاجر فحين اعتمد على الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية وفيه كيف يعتمد بقدمه على الصخرة وهو راكب دابته إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه مع ركوبه وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه ووقوفه عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه المام أثر قدميه فلينظر وجعل ارتفاع البيت تسعة أذرع قيل وعرضه ثلاثين ذراعا قال بعضهم وهو خلاف المعروف ولم يجعل له سقفا ولا بناء بمدر وإنما رصه رصا وجعل له بابا أي منفذا لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولم ينصب عليه بابا أي يقفل إنما جعله تبع الحميري بعد ذلك وحفر له بئرا داخله عند بابه أي على يمين الداخل منه يلقى فيها ما يهدى إليه وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم
ولما أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به ذهب إسمعيل عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام
____________________

بالحجر الأسود يتلألأ نورا أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب الحرم من كان ناحية
وفي الكشاف إنه اسود لما لمسته الحيض في الجاهلية وتقدم أنه اسود من مسح آدم به دموعه وجاء إن خطايا بني آدم سودته وأما شدة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش وثانيا في زمن عبدالله بن الزبير وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة كما تقدم وفي رواية إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال لإسمعيل يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب قال علي بذك فانطلق يأتيه بحجر فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه وقيل وضعه جبريل وبنى عليه إبراهيم وجاء إسمعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك الحجر أي أو بنى عليه فقال من أين هذا الحجر من جاءك به قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك أي وفي لفظ جاءني به من هو أنشط منك وفي لفظ إن إسمعيل جاءه بحجر من الجبل قال غير هذا فرده مرارا لا يرضى ما يأتيه به وجاء إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام وقال إذا رأيت خليلي يبنى بيتي فأخرجه له أي فلما انتهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم فقال يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت وقيل تمخض أبو قبيس فانشق عنه
أقول وفي لفظ قال يا إبراهيم يا خليل الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة ومن ثم كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع ويسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه وقيل باسم رجل من مذحج بني فيه يقال له أبو قبيس وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمى بذلك ويحتاج إلى الجمع بين ما ذكر على تقدير صحته وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده صلى الله عليه وسلم أنه أول من وضع الركن أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن نوح فكان أول من سقط عليه أي أول من علم به فوضعه في زاوية البيت فليتأمل ذلك والله أعلم أي وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال عند المقام أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الركن والمقام
____________________

يا قوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب أي من نورهما ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة
وجاء إنهما يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالوفاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه لما خلق الله الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى فكتب القلم إقرارهم ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر فهذا الإستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي كانوا أقروا به قال رضي الله تعالى عنه وكان أبي على يقول إذا استلم الحجر يقول اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء وفي كلام السهيلي إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود ولذلك يقول المستلم اللهم إيمانا بك ووفاء بعهدك وقد جاء الحجر الأسود يمين الله في الأرض
قال الإمام ابن فورك وكان ذلك سببا لإشتغالي بعلم الكلام فإني لما سمعت ذلك سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا فقيل لي سل عن ذلك فلانا من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به وهذا الذي قاله السهيلي يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه لما دخل المطاف قام عند الحجر وقال والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك فقال له علي رضي الله تعالى عنه بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال ولم قلت ذاك بكتاب الله قال وأين ذلك من كتاب الله قلت قال الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } الآية وكتب ذلك في رق وكان هذا الحجر له عينان ولسان فقاله له افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع فقال تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة فقال عمر رضي الله عنه أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
وعن قتادة قال ذكر لنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى وحراء
____________________


وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة
أقول تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان ومن طور سيناء ومن طور زيتا ومن الجودى ومن حراء إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء فليتأمل
وذكر بعضهم أنه كان له ركنان وهما اليمانيان أي لم يجعل له إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلا الركنين المذكورين فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان
وذكر الحافظ أبن حجر أن ذا القرنين الأول وهو المذكور في القرآن في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو إسكندر الرومي قدم مكة فوجد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما عن ذلك فقالا نحن عبدان مأموران فقال لهما من يشهد لكما فقامت خمسة أكبش شهدت أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسمعيل عبدان مأموران بالبناء فقال رضيت وسلمت وقال لهما صدقتما
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمكة وأقبل ذو القرنين عليهما فلما كان بالأبطح قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن فقال ذو القرنين كما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه إبراهيم واعتنقه فكان هو أول من عانق عند السلام
قال الفاكهي وأظن أن الأكبش المذكورة أي التي شهدت أحجارا ويحتمل أن تكون غنما
ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وبين عيسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بناء البيت قال يا رب قد فرغت قال أذن في الناس بالحج قال أي ورب ومن يبلغ صوتي قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ قال أي ورب كيف أقول قال قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل فوقف على المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها وجبلها وبحرها وبرها
____________________

وأنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا فقالوا لبيك اللهم لبيك وبدأ بشق اليمن وحينئذ يكون أول من أجاب أهل اليمن وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث الإيمان يمان وقال صلى الله عليه وسلم في حق أهل اليمن يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم
وروى الطبراني بإسناده عن علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أهل اليمن فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني
ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقد ذكر في تفسير قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } هو نداء إبراهيم على المقام بما ذكر
وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه أي بحيث ينسب إليه جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم
وقال القاضي تبعا للكشاف لأنه أعتق من تسلط الجباربرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى قال وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال
قال بعضهم وعن عبدالله بن عمر أنه قال إنما سميت بكة أي بالموحدة لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة ولينظر من قصده هدمه إثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما والثالث كان في أول زمان قريش أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يبنى عنده بيتا يصرف حجاج العرب إليه فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك فأقلع عن تلك النية ونوى أن يكسوا البيت وينحر عنده فانجلت الظلمة ففعل ذلك
وفيه أن هذاالذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول فإنه لما عمد إلى البيت يريد تخريبه أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه وأصابته وقومه ظلمة شديدة وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا أي يثج ثجا حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه ولم يجد عندهم فرجا فعند ذلك قال له الحبر لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت فقال نعم أردت هدمه
____________________


فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه وأمره بتعظيم حرمته ففعل فبرأ من دائه
وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في زمن نوح عليه الصلاة والسلام كذا في الكشاف وغيره وفيه نظر ظاهر لما تقدم من دثوره بالطوفان ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقفت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب بالمرة بل بقى أثره
وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل للكعبة ولكن قام حولها وبقيت هي في هواء السماء أي بناء على الكعبة هي الخيمة التي كانت على زمن آدم عليه الصلاة والسلام وتقدم عن الكشاف أنها رفعت إلى السماء الرابعة وأنها البيت المعمور وهذا كما علمت يدل على أن المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل محل تلك الخيمة ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل
وفي رواية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نادى يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج وفي لفظ إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم كرر ذلك ثلاث مرات فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك فليس حاج يحج إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن لبى تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا وفي لفظ لما نادى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من المطيعين له إلا أجاب لبيك اللهم لبيك
أقول لا يخفى أنه يحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسيأتي ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم ولعل المراد بالكتب مطلق الطلب لا خصوص الوجوب لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في السنة السادسة وقيل التاسعة وقيل العاشرة كما سيأتي وأما بقية الأمم من بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها
وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب وفي الخصائص الصغرى وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض
____________________

على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والعسل من الجنابة والحج والجهاد وهو يفيد أنه كان واجبا على الأنبياء والرسل وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية وقوله وهو الوضوء سيأتي ما في الوضوء والله أعلم أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله أي ملصقا بالبيت على يمين الداخل فكان يصلي إليه مستقبل الباب أي جهته وأول من أخره عن ذلك المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي وقد تقدم ذلك عن ابن كثير
أقول وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه
وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض أي الذي تسميه العامة المعجنة أي محل عجن الطين للكعبة وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي
ونازع في ذلك العز بن جماعة وقال لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة ورد بأن ذلك ليس بلازم والناقل ثقة وهو حجة على من لم ينقل
وذكر ابن حجر الهيتمي أن في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس وقيل صعد ثبيرا وأذن وأن أول من أجابه أهل اليمن أي لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن ولا مانع من تعدد ذلك أي وقوفه على تلك الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير ويجوز أن يكون قال في بعض تلك الأماكن مالم يقله في غيره مما تقدم فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وجاء إنه لما فرغ من دعائه ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل وعلمه المناسك أي مع إسمعيل عليهما الصلاة والسلام
ففي العرائس خرج جبريل بهما يوم التروية إلى منى فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة ثم باتا بها حتى أصبحا فصلى بهما صلاة الصبح ثم غدا بهما إلى عرفة فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثم رجع بهما إلى الموقف من عرفة فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن فلما غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة
____________________

ثم بات بهما حتى طلع الفجر ثم صلى بهما صلاة الغداة ثم وقف بهما على قزح حتى إذا أسفر أفاض بهما إلى منى فأراهما كيف رمى الجمار ثم أمرهما بالذبح وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق ثم أفاض بهما إلى البيت فليتامل ذلك فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسمعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس وجمعا تقديما بين الظهر والعصر وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك وهو مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم
ففي الخصائص الصغرى وخص بمجموع الصلوات الخمس ولم تجتمع لأحد وبالعشاء ولم يصلها أحد وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسمعيل عليها الصلاة والسلام لم يداوما على ذلك وفيه ما لا يخفى
وفي الوفاء عن وهب قال أوحى الله تعالى إلى آدم عليه الصلاة والسلام أنا الله ذو بكة أهلها جيرتي وزوارها وفدى وفي كتفي أعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجا شعثا غبرا يعجون بالتكبير عجا ويرجون بالتلبية ترجيجا ويثجون بالبكاء ثجا فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إلي ونزل بي وحق لي أن أتحفه بكرامتي أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضى على يديه عمارته وأنيط له سقايته وأريه حله وحرمه وأعلمه مشاعره ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته فمن سأل عني يومئذ فأنا من الشعث الغبر الموفين بنذورهم المقبلين على ربهم
ولما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى { وارزقهم من الثمرات } أي دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } كان على الثنية العليا ذكره السهيلي وعند ذلك نقل له الطائف من فلسطين من أرض الشام أي و ببركة دعائه عليه الصلاة والسلام يوجد بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ذكره في الكشاف
ثم لما فرغ أي من بناء البيت وحج طاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف فسلموا
____________________

عليه فقال لهم ما تقولون في طوافكم قالوا كنا نقول قبل أبيك آدم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأعلمناه بذلك فقال زيدوا ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام زيدوا فيها العلي العظيم فقالت الملائكة ذلك
وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضى من عمره مائة سنة ثم بناه العماليق ثم بنته جرهم وقيل عكسه وقد يتوقف في بناء العماليق له
أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسمعيل جرهم وإنهم بعد إسمعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت وأما في الثاني فلأن ولاية البيت كانت لخزاعة بعد جرهم كما تقدم وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه إلا أن يقال لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة بخلاف جرهم وخزاعة
ثم رأيت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن العماليق كانوا عز وكانت لهم أموال كثيرة وأن الله سلبهم ذلك لما تطاهروا بالمعاصي وسلط عليهم الذر حتى ة خرجوا من الحرم وتفرقوا وهلكوا والذر في النمل كالزنبور في النحل
وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للإستسقاء بالبيت وقيل كانوا بعرفة ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل ففي ربيع الأبرار أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين مرة لآدم ومرة لإسمعيل وعند ذلك تحولوا إلى مكة قال المقريزي لما علموا بذلك وقيل كانوا بعد جرهم ولا يصح ذلك ثم رأيت المقريزي قال وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة ولا يصح ذلك لإتفاقهم على أن ولاية العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا خزاعة
ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد وأن بناءهم له كان قبل بناء جرهم له والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام قيل وهو أول من كتب بالعربية وقيل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ثم بناه قصي جده صلى الله عليه وسلم وسقفه بخشب الروم وجريد النخل ثم بنته قريش كما تقدم ثم بناه بعد قريش عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أي ويكنى أبا خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وكنى بأبى خبيب لأن
____________________

خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك طويل الصلاة قليل الكلام أي وعبدالله رضي الله تعالى عنه كان مشابها له في ذلك فكنى به
هذا وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبدالله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث قال خبيب بن عبدالله بن الزبير ضربه عمر بن عبدالعزيز بأمر الوليد مائة سوط فمات لأنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا وفي رواية ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنوا أمية أربعين رجلا أتخذوا عباد الله تعالى خولا أي عبيدا ومال الله دولا ودين الله دغلا
وفي رواية بدل دين الله كتاب الله قال ابن كثير وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر الأربعين منقطع ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لإبن عمه عمر بن عبدالعزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل ثم برد ماء في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما فعل فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع واستعفى من ولاية المدينة فكان عمر بن عبدالعزيز إذا قيل له أبشر قال كيف أبشر وخبيب على الطريق أي عائق لي
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت عند معاوية بن أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير فدخل عليه مروان بن الحكم فكلمه في حاجته وقال اقص حاجتي يا أمير المؤمنين فوالله إن مؤنتي لعظيمة فإني أبو عسرة وعم عشرة وأخو عشرة فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباد الله تعالى خولا وكتاب الله دغلا فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة فقال ابن عباس اللهم نعم ثم ذكر مروان حاجة فرد مروان ولده عبدالملك إلى معاوية فكلمه فيها فلما أدبر عبدالملك قال معاوية أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال أبو الجبابرة الأربعة فقال ابن عباس اللهم نعم فإن أربعة من ولده ولوا الخلافة فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبدالملك صحابي إلا أن يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وفي كلام ابن كثير هذا الحديث في غرابة ونكارة شديدة
____________________


هذا وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب لأن خبيبا كان من أخس أولاده ويرده قول بعضهم يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبدالله بن الزبير وأخيه مصعب
وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن المسيب ضربه عبدالملك بن مروان مائة سوط لأنه بعث ببيعة الوليد إلى المدينة فلم يبايع سعيد فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك أي كما فعل بخبيب
ثم رأيت في تاريخ الحافظ ابن كثيرة لما عهد عبدالملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع فضربه نائب المدينة ستين سوطا وألبسه ثيابا من شعر وأركبه جملا وطاف به في المدينة ثم أودع السجن فلما بلغ ذلك عبدالملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس هذا كلامه
وفي كلام البلاذري وكان جابر بن الأسود عاملا لإبن الزبير على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا إذ لم يبايع لإبن الزبير هذا كلامه إلا أن يقال لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبدالملك والد الوليد ثم رأيت الحافظ ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة وفعل به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير وفعل به ذلك أيضا لما امتنع من البيعة للوليد
وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في ترجمة سعيد بن المسيب وضربه عبدالملك بن مروان حيث امتنع من مبايعته وألبسه المسوح ونهى الناس عن مجالسته فكان كل من جلس إليه يقول له قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه إلا أن يقال المراد امتنع من قبول مبايعة عبدالملك لولده الوليد فلا مخالفة وإنما امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون لقومه وفي رواية هو أضر على أمتي من فرعون على قومه زاد
____________________

في رواية يسد به ركن من أركان جهنم وفي لفظ زاوية من زوايا جهنم فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك قال ابن كثير وهو الوليد ابن يزيد بن عبد الملك لا الوليد بن عبدالملك الذي هو عمه
وكان سعيد بن المسييب أعبر الناس للرؤيا قال له رجل رايت كأني أبول في يدى فقال تحتك ذات محرم فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاعة وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن سعيد أخذ ابن سيرين ذلك
وعن ابن سيرين كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يعبر الرؤيا في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي حضرته وعن الزهري رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر فقال رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف قال يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة وأعيش بعدك سنتين ونصفا فكان كما عبر فقد عاش بعده صلى الله عليه وسلم سنتين وسبعة أشهر وقال له رأيتني أردفت غنما سوادا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها فقال أبوبكر يا رسول الله أما الغنم فإن العرب يسلمون ويكثرون والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لاترى العرب فيهم من كثرتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عبرها الملك سحيرا
وسبب بناء عبدالله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة لقتال أهل المدينة لما علم أنهم خرجوا عن طاعته أي وأظهروا شتمه وأعلنوا بأنه ليس له دين لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك الصلاة وأنه يلعب بالكلاب أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض الأيام وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر
وقد استفتى الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية كان من رءوس تلامذة إمام الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة وهل يجوز لعنه فأجاب
____________________

بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب وللإمام أحمد قولان أي في لعنه تلويح وتصريح وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة
ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم هذا كلامه
وسئل الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا وهل يجوز الترحم عليه فأجاب بأن من لعنه يكون فاسقا عاصيا لأنه لا يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم فقد ورد النهى عن ذلك وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك فإن إساءة الظن بالمسلم حرام وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل هو معصية وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب لأنه داخل في المؤمنين في قولنا في كل صلاة اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات هذا كلامه وكان على ما أفتى به الكيا الهراسى من جواز التصريح بلعنه أستاذنا الأعظم الشيخ محمد البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن
وقد رأيت في كلام بعض أتباع استاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه زاده الله خزيا وضعه وفي أسفل سجين وضعه
وفي كلام ابن الجوزي أجاز العلماء الورعون لعنه وصنف في إباحة لعنه مصنفا
وقال السعد التفتازاني إني لأشك في إسلامه بل في إيمانه فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين بالشخص
ولما خلعوا أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم وبني أمية حتى قال بعضهم ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم قتل فيها الجم الكثير من الصحابة والتابعين وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة منهم عبدالله بن حنظلة ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء أي ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام
____________________

في كلام بعضهم ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة من القتل والفساد العظيم والسبى وإباحة المدينة وقتل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين خلق كثيرون وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلثمائة وستة رجال ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس
وفي التنوير لابن دحية وقتل من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة ومن حملة القرآن سبعمائة وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثت بين القبر الشريف والمنبر واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره صلى الله عليه وسلم ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه ليزيد على أنهم خول أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق حتى قال له بعض أهل المدينة البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه
وروى البخاري أن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما لما أرجف أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته ولزم أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بيته أيضا فدخل عليه جمع من الجيش بيته فقالوا له من أنت أيها الشيخ فقال أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد سمعنا خبرك ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك ولكن هات المال فقال قد أخذه الذين دخلوا قبلكم على وما عندي شيء فقالوا كذبت ونتفوا لحيته
وأما جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه فخرج في يوم من تلك الأيام وهو أعمى يمشى في بعض أزقة المدينة وصار يعثر في القتلى ويقول تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له قائل من الجيش من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبي فحمل عليه جماعة من الجيش ليقتلوه فأجاره منهم مروان وأدخله بيته
قال السهيلي وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ألف وسبعمائة وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان
فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد
____________________

أخذ ما وجد عندها ثم قال لها هات الذهب وإلا قتلتك وقتلك ولدك فقالت له ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض فما خرج من البيت حتى أسود نصف وجهه وصار مثلة في الناس
قال السهيلي وأحسب هذه المرأة جدة للصبي لا أما له إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في سن من ترضع أي ولدا صغيرا لها ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف بهذه الحرة وقال ليقتلن بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي
وعن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه أنه قال لقد وجدت قصة هذه الوقعة في كتاب يهوذ بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل وأنه يقتل فيها رجال صالحون يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم وهذه الوقعة كانت سنة ثلاث وستين ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطى الناس رغبة في إستمالتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من الخلاف ولكن يأبى الله إلا ما أراد
وفي التنوير أن الله ابتلى أمير هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار ينبح منه كالكلب إلى أن مات وولى أمر الجيش بعده الحصين ابن نمير بأمر يزيد فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له إذا أشرفت على الموت أي لأنه كان مريضا بالإستسقاء فول أمر الجيش للحصين وهذا الذي وقع من يزيد فيه تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد
وقد جاء عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه لقد رأيتني ليالى الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من القبر الشريف
____________________


ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس
ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان الأشجعي رضي الله تعالى عنه روى علقمة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام مغفل بن سنان وقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح ابن مسعود
وسبب مقاتلة عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين رضي الله تعالى عنهما لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له فامتنعا من ذلك وفرا من المدينة إلى مكة
ثم لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه أي لأن الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه فأراد الذهاب إليهم فنهاه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبين له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه الحسن رضي الله تعالى عنه ونهاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم فأبى إلا أن يذهب فبكى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال واحبيباه وقال له ابن عمر أستودعك الله من قتيل وكان أخوه الحسن قال له إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص وقد تذكر ذلك ليلة قتله فترحم على أخيه الحسن ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل فبايعه من أهل الكوفة للحسين إثنا عشر ألفا وقيل أكثر من ذلك ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبدالله بن زياد عشرين الف مقاتل وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على الخير الآجل فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث إما أن يرجع من حيث جاء أو يذهب إلى بعض الثغور أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فابى فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض فحزوا رأسه ذلك يوما عاشوراء عام إحدى وستين ووضع ذلك الرأس بين يدي عبدالله بن زياد ولما جاء خبر قتل
____________________

الحسين رضي الله تعالى عنه قام ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الناس يعظم قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عن بيعته ويذكر مساوى بني أمية ويطنب في ذلك ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام وتكلم مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال لا يستحل الحرم بسببك فإن يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا وقد عملت لك غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه فقال له أنظر في أمري ثم دخل على أمه أسماء رضي الله تعالى عنها واستشارها فقالت يا بني عش كريما أو مت كريما ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك فامتنع وصار يبايع الناس سرا ثم أظهر المبايعة فاجتمع عليه أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر عبدالله وضرب بالمنجنيق نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهم أخشبا مكة فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش مبنية مدماك من خشب الساج ومدماك من حجارة كما تقدم
وذكر في الشرف أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر فأحرقت المنجنيق وأحرقت تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس
ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أنت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد جاء إنذاره صلى الله عليه وسلم بتحريق الكعبة فعن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا مرج الدين فظهرت الرغبة والرهبة وحرق البيت العتيق وفي العرائس إن أول يوم تكلم الناس في القدر ذلك اليوم فقيل إحراق الكعبة من قدر الله وقيل ليس من قدر الله والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني وقيل أبو الأسود الدؤلي وقيل غير ذلك
وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر لعل المراد أول يوم اشتهر واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر فلا يخالف ما حكى أن شخصا قال لعلي رضي الله تعالى عنه وهو بصفين يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا أكان بقضاء الله وقدره فقال
____________________

نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا قطعنا واديا ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره
والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة فقد تكلمت فيه الأمم قبلها وفي الحديث ما بعث الله نبيا إلا في امته ذرية يشوشون عليه أمر أمته ألا وإن الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا وقد جاء في ذم القدرية زيادة على ما تقدم منها القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وجاء اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية وجاء أخاف على أمتي التكذيب بالقدر
وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة لأن طائفة من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد وهؤلاء الطائفة أشبه بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من الظلمة وهم المانوية وإنما كان القدر شعبة من النصرانية لأن أكثر القدرية على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له على ذلك بل هو ناشيء عن قدرة العبد وإختياره فقد أثبتوا لله تعالى شريكا كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى فهذه الفرقة من القدرية أشبهت النصارى فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الإعتبار وقد أوضحت ذلك في تعليق المسمى ب المصباح المنير على الجامع الصغير وفيه أخر الكلام على القدر لشرار أمتي في آخر الزمان فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى إيجادا وللعبد إكتسابا
وقيل إن سبب بناء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك ولا مانع من التعدد وقد وقع أيضا إحتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش ولا مانع من تعدد ذلك كما تقدم
وعد بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن مالكا كرهه وقد روى أن مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يجمر المسجد النبوي إذا جلس عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب ومع حرق الكعبة حرق قرنا الكبش الذي فدى به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف
أقول ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تقليقهما في الميزاب فقد ذكر بعضهم جاء الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ويدل لتعليقهما في السقف ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم بعد
____________________

خروجه من البيت قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أي يكون في البيت شيء يشغل مصليا
وذكر الجلال المحلى في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قربه هابيل جاء به جبريل فذبحه السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكبرا أي وحينئذ تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله بل رفعته إلى السماء وحينئذ يكون قول بعضهم فنزلت النار فأكلته على التسمح ويدل لما ذكر الجلال ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام ما كان ذبح إبراهيم أي مذبوحه قال الذي قرب ابن آدم قال بعضهم وهذا الحديث لم يثبت قيل ووصف بأنه عظيم لأنه رعى في الجنة أربعين عاما وقيل كان الكبش إختراعا اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم فقد فدى من الموت بصورة الموت وهذا كله بناء على أن الذي قربه هابيل كان كبشا وقيل كان جملا سمينا وعليه اقتصر القاضي فلينظر الجمع على تقدير صحة كل وانصدع الحجر من تلك النار من ثلاثة أماكن وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد
ويقال إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام فنادى فيهم يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعنى يزيد فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فعل ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل فانفل الجيش وبايع عبدالله بن الزبير جماعة بالخلافة ودخلوا في طاعته ظاهرا
ويقال إن أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رءوس فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير مالك فقال إن حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم فقال تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين فقال له تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا فأذن لهم فطافوا وقال له إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني الخلافة فارحل معي إلى الشام فوالله لا يختلف عليك إثنان فلم يثق به ابن الزبير وأغلظ عليه القول فكر راجعا وهو يقول أعده بالملك وهو يعدني بالقتل ومن ثم قيل كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة منها سوء الخلق وكثرة الخلاف ودخل في طاعة ابن الزبر جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر فإن مروان بن الحكم تغلب عليها بعد موت
____________________

معاوية بن يزيد بن معاوية فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما وقيل عشرين يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لإبن الزبير بدمشق
وقد كان ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم مروان وإبنه عبدالملك إلى الشام فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة وقالوا له أنت شيخ قريش وسيدها وقد فعل معكم ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة وهو الرابع من خلفاء بني أمية وقام بالأمر بعده ولده عبدالملك وهو أول من سمى عبدالملك في الإسلام ثم عهد عبدالملك لأولاده الأربعة من بعده الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه عبدالملك فضاق عبدالملك بذلك ذرعا واستعجل أمر عمرو بدمشق فلم يزل به عبدالملك حتى قتله
وفي كلام ابن ظفر أن عبدالملك لما خرج لمقاتلة عبدالله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية وطماعيته في نقل الخلافة فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد واستأذن عبدالملك في العودة إلى دمشق فأذن له فلما عاد ودخل دمشق صعد المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبدالملك ودعا الناس إلى خلعه فأجابوه إلى ذلك وبايعوه فاستولى على دمشق وحصن سورها وبذل الرغائب وبلغ ذلك عبدالملك وهو متوجه إلى أبن الزبير فأشير على عبدالملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن الزبير لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة فهو في صورة ظالم له وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم لأنه نكث بيعته وخان أمانته وأفسد رعيته فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سيعد
ويقال إن سبب بناء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان عبدالله رضي الله تعالى عنه يطوف سباحة أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق والسيل فلما رأى عبدالله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في هدمها فهابوا هدمها وقالوا نرى أن يصلح ما وهي ولا تهدم فقال لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها
وقد حدثته خالته عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
____________________

قال لها ألم ترى قومك يعنى قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين عجزت بهم النفقة لولا حدثان قومك بالجاهلية أي قرب عهدهم بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد الجاهلية أي قريب عهدهم بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا أي بابا من خلفها أي وفي لفظ لجعلت لها بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه وفي لفظ وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وألصقت بابها الأرض أي كما كان عليه في زمن إبراهيم ولأدخلت الحجر فيها أي وفي رواية لأدخلت نحو ستة أذرع وفي رواية ستة أذرع وشيئا وفي رواية وشبرا وفي رواية قريبا من سبعة أذرع فقد اضطربت الروايات في القدر الذي أخرجته قريش وفي لفظ لأدخلت فيها ما أخرج منها وفي لفظ لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر أي ذلك ما أخرجته قريش خشى صلى الله عليه وسلم أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم فربما حصل لهم الإرتداد عن الإسلام
وقد ذكر بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة أي الحلال الحديث وهذا بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك بل الحاصل منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على ظاهره بل المراد أنه أبقاها على ذلك
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لعبدالله دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من يهدمها فلا يزال يهدم ويبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها أي رمها فقال عبدالله إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء حتى صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه
أي وقيل أول فاعل لذلك عبدالله بن الزبير نفسه رضي الله تعالى عنه وخرج ناس كثير من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأقاموا بها ثلاثا مخافة أن
____________________

يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم أنه يهدمها
وفيه أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن ووصف أيضا بأنه أصلع وفي لفظ أجلح وهو من ذهب شعر مقدم رأسه ووصف بأنه أصعل أي صغير الرأس وبأنه أصمع أي صغير الأذنين معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر
أي وقوله ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر لعله لم يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام ورفع القرآن من الصدور والمصاحف أي وورد أن أول ما يرفع رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام والقرآن وأول نعمة ترفع من الأرض العسل وقيل يكون هدمها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام
وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام فإذا جاءهم الصريخ هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها
فهدمها عبدالله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد أي التي هي الأساس قال وفي رواية كشف له عن أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل حجارة حمراء آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع وأصاب فيه قبر أم إسمعيل عليه الصلاة والسلام وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسمعيل وهو يؤيد القول بأن قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود لا في الحجر كما ذكره الطبري وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم فدعا عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس وأدخل عبدالله ابن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فتزعزت الأركان كلها فارتج جوانب البيت ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا
____________________


أقول تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر
وقد يقال لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء لأنه يجوز أن تكون حمرة تلك الاحجار ليست صافية بل هي قريبة من السواد ومن ثم وصفت بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر كما أن الأخضر غير الصافي يقال له أسود والصافي يقال له أزرق والله أعلم
وجعل عبدالله على تلك القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بنى عليها وارتفع البناء وزاد في أتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع فكانت سبعا وعشرين ذراعا زاد بعضهم وربع ذراع وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها فأدخل فيه الحجر أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على أن الحجر ليس من البيت وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع
وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريش أخرجت منها الحجر وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر
وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يبنى عليه إعتمادا على ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها على أنه سيأتي عن نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال لها فإن بدا لقومك من بعد أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع فليتأمل وجعل لها خلفا أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له
قال ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا بسبب الحريق كما تقدم فشده بالفضة ثم جعله في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه وأدخله دار الندوة فحين وصل البناء إلى محله أمر إبنه حمزة وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخفف صلاتي فإنه صلى بالناس بالمسجد إغتناما لشغلهم عن وضعه لما أحس منهم بالتناقض في ذلك أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف فلما كبر تسامع الناس بذلك فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم
____________________

وكون الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافى ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين ومائتين يزعمون أن لا غسل من الجنابة وحل الخمر وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان ويزيدون في أذانهم وأن محمد بن الحنفية رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البراري وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي طاهر فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة وكثر فساده وإستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب وكثرت أتباعه وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم
ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا وألقى القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره ثم اقتلعه وأخذه معه وقلع باب الكعبة ونزع كسوتها وسققها بين أصحابه وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود وبقى عند القرامطة أكثر من عشرين سنة أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس فأعيد الحجر إلى موضعه وجعل له طوق فضة شدد زنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهما ونصف
قال بعضهم تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر عظم الذراع
وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاء من ذلك وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك
فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران وكساها القباطي أي وهو ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر
____________________


وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبدالله بن الزبير
وأقول وبناء عبدالله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار بالمغيبات ففي نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع وتقدم أن هذا يرد قول بعضهم أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر
قال بعضهم وهذا منه صلى الله عليه وسلم تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده صلى الله عليه وسلم عند القدرة عليه والتمكن منه
وقد قال المحب الطبري وهذا الحديث يعنى حديث عائشة رضي الله تعالى عنها يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة
قال الشهاب ابن حجر الهيتمي ومن الواضح البين أن ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الإنهدام فيجوز إصلاحه بل يندب بل يجب هذا كلامه
وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة سقط به الجدار الشامي بوجهيه وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس وهدم أكثر بيوت مكة وأغرق في المسجد جملة من الناس خصوصا الأطفال فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب
وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشاه وهو الوزير الأعظم الآن أي في سنة ثلاث وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم وقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا وأعجب بها كثيرا حتى أنه دفعها لمن عبر عنها باللغة التركية وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام والثانية بناء قريش وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة والثالثة بناء عبدالله بن الزبير أي وكان بينهما نحو إثنتين وثمانين سنة أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث لم يصح وأما بناء جرهم والعمالقة وقصى فإنما كان ترميما ولم تبن
____________________

بعد هدمها جميعا إلا مرتين مرة زمن قريش ومرة زمن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه
وحينئذ يكون ما جاء في الحديث استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم الثالث من الدنيا
وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من كسا الكعبة الديباج أشهر من القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن عبدالمطلب كما سيأتي وجاز أن يكون عبدالله بن الزبير كساها أولا القباطي ثم كساها الديباج والله أعلم وكان كسوتها أي في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع فإن أول من كساها تبع الحميري كساها الأنطاع ثم كساها الثياب الحميرية أي وفي رواية كساها الوصائل وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن
وفي كلام الإمام البلقيني ويروى أن تبعا اليماني لما كساها الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت فزال ذلك عنها فكساها الوصائل فقبلتها قال والوصائل ثياب موصولة من ثياب اليمن
وفي الكشاف كان تبع الحميري مؤمنا وكان قومه كافرين ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه
وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم وعنه عليه الصلاة والسلام ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير نبي
هذا وقد نقل الشمس الحموي في كتابه المناهج الزهية والمباهج المرضية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان نبيا وقيل أول من كساها عدنان بن أدد وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال لقريش أنا أكسو الكعبة سنة وحدى وجميع قريش سنة أي وقيل كان يخرج نصف كسوة الكعبة في كل سنة ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل لأنه عدل قريشا وحده في كسوة الكعبة ويقال لبنيه بنو العدل وكانت كسوتها لا تنزع فكان كلما تجدد كسوة تجعل فوق واستمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية
____________________


وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي
وكساها معاوية الديباج والقابطي والحبرات فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان والإقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على القباطي من عطف التفسير فليتأمل
وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطي فكانت تكسى الأحمر يوم التروية والقباطي يوم هلال رجب والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة وقفهما على ذلك الملك الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة أي والآن زادت القرى على هاتين القريتين
والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة
قيل وسبب كسوة أم عمه صلى الله عليه وسلم لها الديباج أن العباس ضل وهو صبي فنذرت إن وجدته لتكسون الكعبة فوجدته فكست الكعبة الديباج أي وكانت من بيت مملكة
وقيل أول من كساها الديباج عبدالملك بن مروان أي وهو المراد بقول ابن إسحاق أول من كساها الديباج الحجاج لأن الحجاج كان من أمراء عبدالملك
وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فأجاب بجواز ذلك قال لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع السنية في الدنيا والآخرة ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فإن في ذلك المناسبة للحال المنيف هذا كلامه
أي وأول من حلى بابها بالذهب جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والعزالتين من الذهب فضرب الأسياف بابا لها وجعل في ذلك الباب الغزالتين فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم
____________________


وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبدالملك بن مروان وقيل عبدالله ابن الزبير جعل على أساطينها صفائح الذهب وجعل مفاتيحها من الذهب وجعل الوليد بن عبدالملك الذهب على الميزاب
يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين التي داخلها وعلى أركانها من داخل
وذكر أن الأمين بن هرون الرشيد أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك وجعل مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أم المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤ أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل
وقال عبدالله بن الزبير لما فرغ من بنائها من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل فإن لم يقدر فشاة ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا فلم تزل الكعبة على بناء عبدالله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة أي لأنها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويدخل إليها من باب يخرج من باب حتى قتل أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل وهو بالمسجد لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبدالملك بن مروان لقتاله
وكتب عبدالملك بن مروان إلى الحجاج أن اهدم ما زاده ابن الزبير فيها أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في الكعبة وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه وسد الباب الذي فتح أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش واترك سائرها أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه فكتب الحجاج إلى عبدالملك يخبره بأن عبدالله بن الزبير وضع البناء على أس قد نظر إليه العدول من أهل مكة أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم فكتب إليه عبدالملك لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء فنقض الحجاج ما أدخل من الحجر وسد الباب الثاني أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني ونقص من الباب الأول خمسة أذرع أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش فبنى تحته أربعة أذرع وشبرا وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم
____________________


وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبدالملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر واستأذن في رد ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية فكتب إليه عبدالملك أن يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر ففعل ذلك الحجاج فسائرها قبل وقوع هذا الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف فبنيانه على بنيان ابن الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر فإنه من بنيان الحجاج أي والبناء الذي تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة أي التي وضعها عبدالله بن الزبير أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة التي تصلح للبناء فلا ينافى ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبدالله بن الزبير
ويقال إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهي سنة ثلاث وسبعين
قيل ولما دخل عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهو محاصر حاصره الحجاج خمسة أشهر وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء رضي الله تعالى عنهما قبل قتله بعشرة أيام وهي شاكية أي مريضة فقال لها كيف تجدينك يا أمه قالت ما أجدني إلا شاكية فقال لها إن في الموت لراحة فقالت لعلك تبغيه لي ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك إما قتلت وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني ولما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد فقالت له يا بني لاتقبلن منهم خطة تخاف فيها على نفسك الذي تخافه القتل فوالله لضربة بالسيف في عز خير من ضربة سوط في ذل
ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبدالله بن الزبير وأخذ لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما
ودخل عبدالله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى
____________________

أولاده وأهله وأنه لم يبق معه إلا اليسير والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما رأيك فقالت يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعوا إلى حق فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك كم خلودك في الدنيا فدنا منها وقبل رأسها وقال والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته
وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثا أيام جاءت أمه أسماء رضي الله تعالى عنها تقاد لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة وقالت للحجاج أما آن لهذا الراكب أن ينزل فقال لها الحجاج المنافق رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن ابنك ألحد في هذا البيت وقد قال تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم
وفي كلام سبط ابن الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو محاصر إن عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها قال له عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد رجل في الحرم من قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم فلن أكون أنا
وفي رواية قال له لا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله عليه مثل نصف أوزار الناس هذا كلامه
وعندي أن المراد بعبدالله الحجاج لا ابن الزبير ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن القائل لعثمان ذلك المغيرة بن شعبة
ولما سمعت سيدتنا أسماء رضي الله تعالى عنها الحجاج يقول في ولدها المنافق قالت له كذبت والله ما كان منافقا ولكنه كان صواما قواما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به كان عاملا بكتاب الله حافظا لحرم الله يبغض أن يعصى الله عز وجل قال انصرفي فإنك عجوز قد خرفت قالت والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير
____________________


أما الكذاب فقد رأيناه تعنى المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق فإنه لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل الحسين ولما قتل ندموا على ذلك فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين من أهل الكوفة فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة وشكر الناس للمختار ذلك ثم قالت وأما المبير فأنت المبير
ولما بلغ عبدالملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك أي ومن ثم أرسل إليها الحجاج فأبت أن تأتيه فأعاد إليها الرسول وقال إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك فأبت وقالت والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها فقال يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة فقالت لست لك بأم ولكني أم المصلوب على رأس الثنية ومالي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فأنت فقال الحجاج مبير للمنافقين ومن كذب المختار أنه ادعى النبوة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك لأحبابه
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت أقوم بالسيف على رأس المختار ابن أبي عبيد فسمعته يوما يقول قام جبريل عن هذه النمرقة وفي رواية من على هذا الكرسي فأردت أن أضرب عنقه فتذكرت حديثا حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة فكففت عنه ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء لإمامنا الشافعي رضي الله عنه من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن
وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد كذب الأنبياء من قبلي لست بخير منهم
وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيدالله بن زياد المجهز للجيش لمقاتلة الحسين رضي الله تعالى عنه كما تقدم قال لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير وقتل ابن زياد فكان كما أخبر وجئ برأس ابن زياد وألقيت بين يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين ثم قتل المختار وكان قتل المختار على
____________________

يد مصعب بن الزبير جئ برأس المختار بين يدي مصعب لما ولى العراق من جانب أخيه لأبيه عبدالله بن الزبير
ومما يؤثر عن مصعب العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبدالملك بن مروان
وعن بعضهم أنه حدث عبدالملك فقال له يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يدي عبيدالله بن زياد وعبيدالله بن زياد على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيدالله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير على السرير ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير فقال عبدالملك لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها فنام فرأى قائلا يقول له في المنام ما أسرع ما أنجبت بالمبير
وفي كلام سبط بن الجوزي أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح فقال لها إن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لقذرة وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة كنت فبنت قالت والله ما فرحنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا ولا هو شيء مما ظننت ولكني استكت فأردت أن أتخلل من السواك فندم المغيرة على طلاقها فخرج فلقي يوسف بن أبي عقيل والد الحجاج فقال له هل لك إلى شيء أدعوك إليه قال وما ذاك قال إني نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة فتزوجها تنجب لك فتزوجها فولدت له الحجاج
وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وهي تنشد
____________________

** هل من سبيل إلى خمر فأشربها ** الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية
وفي مدة صلب عبدالله بن الزبير صارت أمه تقول اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبدالملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله قال غاسله كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة ذكر ذلك في الإستيعاب وقيل بعده بمائة يوم قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور وبلغت من العمر مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا منهم من سال دمه في جوف الكعبة وكان من جملة من قتل عبدالله بن صفوان بن أمية الجمحي قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبدالله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك ثم بعثوا بهما إلى عبدالملك بن مروان
ولما وضعت رأس عبدالله بن الزبير بين يدي عبدالملك سجد وقال والله كان أحب الناس إلي وأشدهم إلي إلفا ومودة ولكن الملك عقيم أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم وستأتي مدحة عبد الملك لعبدالله بن الزبير وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته
وقد كان ابن الزبير قال لعبدالله بن صفوان إني قد أقلتك بيعتي فاذهب حيث شئت فقال إنما أقاتل عن ديني وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا
ومما يدل لما تقدم من أن عبدالله بن الزبير كان عنده سوء خلق ما حكى أنه جاء إليه شخص فقال له إن الناس على باب عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيدالله يطلبون الطعام فأحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس فما أبقيا لك مكرمة فدعا شخصا وقال له انطلق إلى ابني العباس رضي الله تعالى عنهم وقل لهما يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت فخرجا إلى الطائف أي وقيل ما خرج عبدالله من مكة إلى الطائف إلا لإن الله تعالى يقول { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }
____________________


فقد قال الشيخ محي الدين بن العربي اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يرد فيه بإلحاد بظلم وكان هذا سبب سكني عبدالله بن عباس بالطائف احتياطا لنفسه لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر
قال بعضهم كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس الجمال للفضل والسخاء لعبيدالله والفقه لعبدالله
قال ولما حج عبدالملك أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث أنا أشهد لإبن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة رضي الله تعالى عنها قال أنت سمعته منها قال نعم فجعل ينكت بالمثناة فوق بقضيب كان في يده الأرض ساعة ثم قال وددت أني كنت تركته يعنى ابن الزبير وما تحمل
وفي رواية أن عبدالملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك ما أظن أنا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله تعالى عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة قال الحرث أنا سمعته منها قال عبدالملك أنت سمعته منها الحديث وكون عائشة حدثت ابن الزبير بما ذكر لا ينافى ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم
قال سمعت ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما يقول حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحديث وفي رواية أن عائشة رضي الله تعالى عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلى في البيت ركعتين فلما فتحت مكة أي وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح لها باب الكعبة ليلا فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط قال فلا تفتحها ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحجر وقال صلى ههنا فإن الحطيم أي الحجر من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة أي الحلال فأخرجوه من البيت ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة
____________________

وأظهرت قواعد الخليل وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك ولم يعش عليه الصلاة والسلام ولم تتفرغ الخلفاء لذلك
وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها أي عبدالملك وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر والبناء الذي تحت العتبة والدرجة التي في باطنها
وأما التراب الذي جعل في باطنها فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه عبدالله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج ويحتمل أنه غيره ولم أقف على بيان ذلك في كلام أحد
والشاذروان الذي أخرجه عبدالله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته
ومن العجب ما حدث به بعضهم قال كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد ابن معاوية إلى عبدالله بن الزبير بمكة فدخلت مسجد المدينة فجلست بجانب عبدالملك بن مروان فقال لي عبدالملك أنت أمير هذا الجيش قلت نعم قال ثكلتك أمك أتدري إلى من تسير تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام أي بالمدينة من أولاد المهاجرين وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ابن ذات النطاقين يعنى أسماء وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله إن جئته نهارا وجدته صائما وإن جئته ليلا وجدته قائما فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه
وذكر بعضهم أن عبدالملك بن مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى حرم الله فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له جيشك إليه أعظم
ويقال إن هذا اليهودي مر على دار مروان والد عبدالملك هذا فقال ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان وعبدالملك ابنه كان سببا لقتل عبدالله بن الزبير ووقع من الوليد بن يزيد بن عبدالملك الأمور الفظيعة
____________________


وسبب ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان رأيت في منامي أني أخذت عبدالله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه فأرسله في جيش كثيف من أهل الشام فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق ولما رمى به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة وأنا ابنها ثم قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة
قال بعضهم ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم
أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج
فإن قيل هلا أهلك الله من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة قلنا لأن من نصب المنجنيق لم يرد هدم الكعبة بخلاف أبرهة كما تقدم وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم قلت أبوه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبو بكر وجدته صفية وفي رواية عنه أنه قال أما أبوه فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام وقارئ للقرآن
ولما قتل عبدالله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته ألا إن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما روى أن عبدالله بن الزبير لما ولد نظر إليه
____________________

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو هو فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه
وفي حياة الحيوان العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في المحلل التيس المستعار
ويقال إن الحجاج بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام فرأى شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة فقال شر حال قتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتله قال الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله ورسله من قليل المراقبة لله فغضب الحجاج غضبا شديدا ثم قال أبها الشيخ أتعرف الججاج إذا رأيته قال نعم ولا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضيرا فكشف الحجاج اللثام عن وجهه وقال ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة فلما تحقق الشيخ أنه الحجاج قال إن هذا لهو العجب يا حجاج أنا فلان أصرع من الجنون في كل يوم خمس مرات فقال الحجاج اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب لأن إقدامه على القتل ومبادرته إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد
وكان يخبر عن نفسه ويقول إن أكبر لذاته سفك الدماء قال بعضهم والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب وقال اذبحوا له تيسا أسود وألعقوه من دمه واطلوا به وجهه ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه
وذكر أنه أتى إليه بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما فقال لها بعض أعوانه يكلمك الأمير وأنت معرضة فقال إني أستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه فأمر بها فقتلت وقد أحصى الذي قتل بين يديه صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف
ولما عزى سيدتنا أسماء عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهم وأمرها بالصبر قالت وما يمنعني من الصبر وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بعي من بغايا بني إسرائيل وقد جاء أن هذه البغى أول من يدخل النار=

2. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
علي بن برهان الدين الحلبي
سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044 .
ويقال إن عبدالله بن الزبير قال لأمه يوم قتل يا أمه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمى الأمرلله فإن إبنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة
وفي كون عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما تأخر موته عن ابن الزبير نظر فقد قيل إن عبدالله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر وسبب موته أن الحجاج سفه عليه فقال له عبدالله إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه فأمر الحجاج شخصا أن يسم زج رمحه ويضعه على رجل عبدالله ففعل به ذلك في الطواف فمرض من ذلك أياما ومات
ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال له قتلني الله إن لم أقتله فقال له عبدالله لست بقاتل له قال ولم قال لأنك الذي أمرته
وقول عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما للحجاج إنك سفيه مسلط يشير إلى قول أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما فإنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم أي رجموه بالحجارة خرج عضبان فصلى فسها في صلاته فلما سلم قال اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير لما مات ابن الزبير واستقر الأمر لعبدالملك ابن مروان بايعه عبدالله بن عمر ويوافقه ما في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال السلام عليك أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم
ويذكر أنه كان لعبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما مائة غلام لكل غلام منهم لغة لا يشاركه غيره فيها وكان يكلم كل واحد منهم بلغته وهذا أغرب مما استغرب وهو أن ترجمان الواثق بالله من الخلفاء بني العباس كان عارفا بألسن كثيرة حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة ويمارى فيها
وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما لا أم لك فقال
____________________

إلى تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة يعنى جدته صفية وعمته خديجة وخالته عائشة وأمه أسماء
وقال الحجاج يوما لشخص ما تقول في عبدالملك بن مروان فقال الرجل ما أقول في رجل أنت سيئة من سيئاته
وقد أطلق سليمان بن عبدالملك لما ولى الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل
وذكر أنه كان يحبس الرجال مع النساء ولم يكن لحبسه بيوت أخلية فكان الرجل يبول بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل فتبدو العورات وكان كل عشرة في سلسلة ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد
ومر يوم جمعة فسمع استغاثة فقال ما هذا فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر فقال قولوا لهم أخسئوا فيها ولا تكلمون فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة
وآخر من قتله الحجاج من التابعين سيعد بن جبير رضي الله تعالى عنه ولم يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا
وقال عمر بن عبدالعزيز لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم وقال سليمان بن عبدالملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج أبلغ الحجاج قعر جهنم فقال يا أمير المؤمنين يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبدالملك وبين أخيك هشام بن عبدالملك فضعه في النار حيث شئت
ومن غريب الإتفاق ما حكاه بعضهم قال مات رجل فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال نظرت بعيني هاتين وأهوى بيديه إلى عينيه الحجاج وعبدالملك في النار يسحبان بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان
والحجاج متأصل في الظلم فقد رأيت بعضهم حكى أنه يقال في المثل أظلم من ابن الجلندي وهو المشار إليه بقوله تعالى { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وإنه من أجداد الحجاج بينه وبينه سبعون جدا
واستحلف الحجاج رجلا في أمر قال لا والذي أنت بين يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم فقال والله إني يومئذ لذليل
وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبدالملك بن مروان وكتب
____________________

عليها { قل هو الله أحد الله الصمد } أي على أحد وجهي الدراهم { قل هو الله أحد } وعلى وجهه الثاني { الله الصمد }
ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبدالملك بن مروان وكانت الدراهم قبل ذلك رومية وكسروية وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة وكانت كل عشرة بدينار وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة
ولما دخل سليمان بن عبدالملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه سأله فقال يا أبا حازم مالنا نكره الموت فقال لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب فقال له وكيف القدوم على الله قال أما المحسن فكغائب يقدم على أهله وأما المسئ فكآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال يا ليت شعري ما لنا عندالله قال اعرض عملك على كتاب الله تعالى فقال في أي مكان أجده فقال في قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين قال فأي عبادالله أكرم قال أولو المروءة
وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبدالملك هذا فقال يا أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله فإن وراءه إن قبلته ما تحب فقال سليمان هاته يا أعرابي فقال الأعرابي إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله إنه قد أكتنفك رجال قد أساءوا الإختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه فإنهم لن يبالوا بالأمانة وأنت مسئول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس عندالله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان أنت ما أنت بأعرابي فقد سللت لسانك وهو سيفك قال أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك
ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبدالعزيز ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله تعالى ولا يسع رزقهم غيره فقال يا أمير المؤمنين
____________________

هؤلاء رعيتك اليوم وهم غدا خصماؤك عندالله فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال بالله أستعين وقال يوما لعمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه حين أعجبه ما صار إليه من الملك يا عمر كيف ترى ما نحن فيه فقال يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور ونعيم لولا أنه عديم وملل لولا أنه هلك وفرح لو لم يعقبة ترح ولذات لو لم تقترن بآفات وكرامة لو صحبتها سلامة فبكى سليمان رحمه الله حتى اخضلت دموعه لحيته
وولاية عمر بن عبدالعزيز بشر بها جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال إن من ولدي رجلا بوجهه شين و رواية علامة يملأ الأرض عدلا فكان ولده عبدالله يقول كثيرا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا وفي رواية عنه كان يقول يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضى حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر قال بعضهم فإذا هو عمر بن عبدالعزيز لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
ومما يؤثر عن سليمان رحمه الله تعالى أنه لما ولى الخلافة وقام خطيبا قال الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع ومن شاء وضع ومن شاء أعطى ومن شاء منع إن الدنيا دار غرور تضحك باكيا وتبكي ضاحكا وتخيف آمنا وتؤمن خائفا
وقال في خطبة من خطبه أيضا أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد أسمعهم الداعي وأسترد العواري واضمحل ما كان كائن لم يكن أذهب عنهم ثابت الحياة وفارقوا القصور واستبدلوا بلين الوطئ خشن التراب فهم رهناء فيه إلى يوم المآب فرحم الله عبدا مهد لنفسه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
ولما ولى الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يبني الكعبة على ما بناها ابن الزبير وشاور الناس في ذلك فقال له الإمام مالك بن أنس أنشدك الله أي بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه قال وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك ونهاه مالك هو الرشيد
____________________


أقول وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي واقتصر عليه ولأن المنصور مات محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة
وقد يقال يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة واستشار الناس في المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم وأن الرشيد أيضا أراد ذلك واستشار الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر ثم رأيت في تاريخ ابن كثير في زمن المهدى بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها أي الكعبة على الصفة التي بناها ابن الزبير فقال له إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة
ورأيت في كلام بعضهم أن المنصور حج وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت المقدس ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات غير الحجة التي مات فيها وكذا في القرى لقاصد أم القرى للطبري وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم التروية بيومين وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد
وقد ذكر الشيخ الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق فلما توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه وقال لهم حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه وكان سفيان بالمسجد الحرام رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان ابن عيينة فقيل له خوفا عليه بالله لا تشمت بنا الأعداء قم فاختف فقام ومشى حتى وقف بالملتزم وقال ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعنى مكة المنصور وكان وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره فخرج سفيان وصلى عليه هذا كلامه
وقد يقال لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة لأنه يجوز أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل أخذه وضعه الذي مات فيه وأفرط به الإسهال ودخل مكة فنزل بها وتوفى ولعل هذا
____________________

لا يخالف ما سبق لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها وأنه من إنطلاق بطنه زلقت به فرسه
قيل وآخر ما تكلم به المنصور اللهم بارك لي في لقائك ومما يؤثر عنه أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه والله أعلم
وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبنى حول الكعبة بيوتها فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قد المطاف واستمر الأمر على ذلك زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلما ولى عمر رضي الله تعالى عنه رأى أن يوسع حول الكعبة فاشترى دورا وهدمها ووسع حول الكعبة وبنى جدارا قصيرا على ذلك وجعل فيه أبوابا ثم وسعه عثمان ثم عبدالله بن الزبير
ثم إن عبدالملك بن مروان رفع الجدارن وسقفه بالساج ثم إن الوليد بن عبدالملك نقص ذلك ونقل إليه الأساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف وأزر المسجد بالرخام ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر ثم زاد فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد
وفي أيام المعتضد أدخلت داره الندوة في المسجد وتسمى مكة فاران وتسمى قرية النمل لكثرة نملها أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب القاموس بمؤلف
أقول وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة والمدينة والله أعلم
قال وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بألفي سنة كانت حشفة على الماء عليها ملكان يسبحان فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها فجعلها في وسط الأرض انتهى
وسئل الجلال السيوطي رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض
____________________


فأجاب بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم لأحدهما على الآخر واستند في ذلك لمأثور التفسير
وفي الحديث إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض الحديث وحينئذ فقوله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة معناه أظهر حرمتها & باب ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتم وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم وما وجد من ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر صفته في الكتب القديمة وما وجد فيه إسمه مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من يهود ورهبان من النصارى فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وأما الكهان من العرب فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره ولا تلقى العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره صلى الله عليه وسلم في السماء قبل وجوده
فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره ومنها ماجاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جارا من يهود بني عبدالأشهل فذكر أي عند
____________________

قوم أصحاب الأوثان القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقالوا له ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به وليود أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا فقالوا له ويحك وما آية ذلك قال نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن قالوا ومن يراه فنظر إلى وأنا من أحدثهم سنا فقال إن يستنفد أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو أي ذلك اليهودي بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به
ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله تعالى عنه قال رغبت عن آلهة قومى في الجاهلية أي ترك عبادتها قال فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء أي وهي قرية بين المدينة والشام فقلت إني امرؤ ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجى بها ويجعل أحسنها إلها يعبده ثم لعله يجد ما هو أحسن منه شكلا قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره وإذا نزل منزلا سواه ورأى ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر فدلني على خير من هذا قال يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فإذا رأيت ذلك فاتبعه فإنه يأتي بأفضل الدين فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة آتى فأسأل هل حدث حدث فيقال لا ثم قدمت مرة فسألت فقيل لي حدث رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة فسألت عنه فوجدته مستخفيا ووجدت قريشا عليه أشداء فتلطفت له حتى دخلت عليه فسألته أي شيء أنت قال نبي قلت من نباك قال الله قلت وبم أرسلك قال بعبادة الله وحده لا شريك له وبحقن الدماء وبكسر الأوثان وصلة الرحم وأمان السبيل فقلت نعم ما أرسلت به قد آمنت بك وصدقتك أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف فقال ألا ترى كراهة الناس ما جئت به فلا تستطيع أن تمكث كن في أهلك فإذا
____________________

سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني فكنت في أهلي حتى خرج صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسرت إليه فقدمت المدينة فقلت يا نبي الله أتعرفني قال نعم أنت السلمى الذي أتيتني بمكة
ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم أي يستأصلكم بالقتل فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان قدم إلينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضل منه أي لا أظن أحدا من غير المسلمين لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى قد فعل ذلك غير مرة أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر بالتحريك وبإسكان الميم الشجر الملتف والخمير إلى أرض البؤس والجوع قلنا أنت أعلم قال فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم أي ألقى عليهم ظله وهذه البلد مهاجره وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه فقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبى الذرارى والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
____________________

وحاصر بين قريظة قال لهم نفر من هدل بفتح الهاء وفتح الدال المهملة وقيل بسكونها إخوة بني قريظة وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي
قال ومن ذلك خبرالعباس بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه قال خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول أنا رسول الله أدعوكم إلى الله ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال العباس فقلت نعم قال نشدتك الله هل كان لإبن أخيك صبوة قلت لا والله ولا كذب ولا خان وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين قال هل كتب بيده فاردت أن أقول نعم فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد علي فقلت لا يكتب فوثب الحبر وترك رداءه وقال ذبحت يهود وقتلت يهود قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت قد رأيت لعلك أن تؤمن به قال لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء أي بالمد قلت ما تقول قال كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء قال العباس فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء فقلت يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال إي والله إني لأذكرها انتهى
أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو وكنت أتحدث بذلك ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه فعرفت أنه غيره قال أبو سفيان فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قلت لأمية فقال أمية أما إنه حق فاتبعه فقلت له فأنت ما يمنعك قال الحياء من نساء ثقيف إني كنت أخبرهن أني هو ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا
وأما أخبار الرهبان من النصارى فمنها ما تقدم ذكره قال ومنها خبر طلحة بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته
____________________

يقول سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحمد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه أي الذي يبعث فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال الراهب فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فسر بذلك وأسلم طلحة فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة رضي الله تعالى عنهما فشدهما في حبل واحد فلذلك سميا القرينين
أقول يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا ويحتمل أن يكون نسطورا لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره ويحتمل أن يكون غيرهما وهو أولى لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم
أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد قال لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمى أبان بن سعيد وكان يكثر السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم فأول شيء سأل عنه أن قال ما فعل محمد قال له عمي عبدالله بن سعيد هو والله أعز ما كان وأعلاه فسكت ولم يسبه كما كان يسبه ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم فقال لهم إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لم ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة أي من صومعته فنزل يوما فاجتمعوا ينظرون إليه فجئت فقلت إن لي حاجة فقال ممن الرجل فقلت إني من قريش وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله قال ما إسمه فقلت محمد قال منذ كم خرج فقلت عشرين سنة قال ألا أصفه لك قلت بلى فوصفه فما أخطأ في صفته شيئا ثم قال لي هو والله نبي هذه الأمة والله ليظهرن ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام وكان ذلك في زمن الحديبية أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرين تقريب
أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي رضي الله تعالى عنه قال دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه فقال من أي العرب أنتم من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال حكيم فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس فقال هل أنتم صادقي فيما أسألكم عنه
____________________

فقلنا نعم فقال أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه فقلنا ممن رد عليه وعاداه فسألنا عن أشياء مما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه ثم نهض واستنهضنا معه فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل فقال أتعرفون من هذه صورته قلنا لا قال هذه صورة آدم ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول أما هذا صاحبكم فنقول لا فيقول لنا هذه صورة فلان حتى فتح بابا وكشف عن صورة فقال أتعرفون هذا قلنا نعم هذا صورة محمد بن عبدالله صاحبنا قال أتدرون متى صورت هذه الصور قلنا لا قال منذ أكثر من ألف سنة وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه
ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه وأنه رأى صورة أبي بكر آخذة بعقب تلك الصورة وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر فقال من ذا الذي آخذ بعقبه قلنا نعم هو ابن أبي قحافة قال فهل تعرف الذي آخذ بعقبه قلت نعم هو عمر بن الخطاب قال أشهد أن هذا رسول الله وأن هذا هو الخليفة بعده وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا
ومنها ما حدث به سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي بفتح الجيم وتشديد الياء أي وفي لفظ من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز وفي لفظ ولدت برامهرمز وبها نشأت وأما ابي فمن أصبهان وكان أبي دهقان قريته أي كبير أهل قريته أي وفي لفظ كنت من أبناء أساورة فارس وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن أي خادمها الذي يوقدها لا يتركها تخبا أي تطفأ ساعة وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما
____________________

سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت والله هذا خير من الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أهل هذا الدين قالوا بالشام فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا قال فخافني أي خاف مني أن أهرب فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبرونى فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم ق قدمت معهم إلى الشام فلما قدمتها قلت من أجل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك قال ادخل فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا فقالوا لي وما أعلمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا وفي رواية وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا فصلبوه ورموه بالحجارة أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر وكان تقيا عن الشهوات ومن ثم قال في الفتوحات المكية أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وقالوا إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله { أنما أموالكم وأولادكم فتنة } هذا كلامه
____________________


قال الشيخ عبدالوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدخرون قوت الغد ولا يكنزون فضة ولا ذهبا
قال ورأيت شخصا قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك فلم يرض وقال النظر إلى الدنيا منهى عنه عندنا
قال ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا فقلت لهم ربط الدرهم مذموم فقالوا نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
وعند ذلك جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس أرى أنه أفضل منه أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة فقله له يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا من قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصني قال أي بني والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فلما مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبرى وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه فأقمت مع خير رجل فلما احتضر قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما احتضر أي حضرته الملائكة لقبض روحه قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان ثم إن فلانا أوصى بي إليك فإلى من توصى بي وإلى من تأمرني قال يا بني والله ما أعلم بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فلما مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال أقم عندي
____________________

فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى فلما احتضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال أي بني والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل أي أقبل قرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب
أقول وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون وفي النور أنهم بضعة عشر وأن هذا أظهر والله أعلم
قال سلمان ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه فقالوا نعم فأعطيتهموها أي أعطيتهم إياها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى وهو محل من أعمال المدينة المنورة ظلموني فباعوني من رجل يهودي فمكثت عنده فرأيت النخل فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي أي لم أتحقق ذلك فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها أي تحققتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله صلى اله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا اسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة أي وهما الأوس والخزرج لأن قيلة أمهما فقد جاء إن الله أمدنى بأشد العرب ألسنا وأدرعا بابنى قيلة الأوس والخزرج والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر وربما قيل قباة بتاء التأنيث والقصر على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي فلما سمعتها أخذتني العرواء وهي الحمى النافض أي الرعدة والبرحاء الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن
____________________

النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ما تقول فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته أي وهو محتمل لأن يكون تمرا ولأن يكون رطبا فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقر بته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة رواه مسلم
وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها ووجد صلى الله عليه وسلم تمرة فقال لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها وقال إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس وفي رواية إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه صلى الله عليه وسلم وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله وقال الثوري لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم لأن مولى القوم منهم بذلك جاء الحديث
قال سلمان ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا
وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه فقلت في نفسي هاتان ثنتان أي ومن ثم روى مسلم كان إذا أتى بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها
قال سلمان ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد وقد تبع
____________________

جنازة رجل من أصحابه أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لما قدم المدينة
وقيل هو أول من دفن به وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة وقيل أول من دفن به عثمان بن مظعون
وجمع بأن أول من دفن به من المهاجرين عثمان أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد أي وفي الوفيات لابن زبر مات كلثوم ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوال من السنة الأولى من الهجرة ودفن بالبقيع هذا كلامه ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم
وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بأيام قليلة وأول من مات من الأنصار البراء بن معرور مات قبل قدومه المدينة مهاجرا بشهر ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا ولم أقف على محل دفنه
وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر
قال سلمان وكان عليه الصلاة والسلام عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من يهود كان يعرف الفارسية والعربية فمدح سلمان النبي صلى الله عليه وسلم وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن سلمان يشتمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفارسي جاء ليؤدينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي فقال اليهودي يا محمد
____________________

إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي فقال صلى الله عليه وسلم ما كنت أعلمها من قبل والآن عملني جبريل أو كما قال فقال اليهودي يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل علم سلمان العربية فقال قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية يخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية
قال وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضى أنه تمر أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك بل هي محتملة وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية ففي بعض الروايات فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك أي على صاع أو صاعين من تمر ثم جئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه
أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان كنت عبدا لإمرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما الحديث
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس أو أن المرأة هي التي اشترته ويؤيده ما يأتي وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد قال وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب
وفي رواية احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم وفي رواية جئت بمائدة عليها بط وفي رواية عليها رطب وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث وأن المقدم فيها متحد
____________________


أقول تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا والله أعلم
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير وكان معدودا من أخصائه صلى الله عليه وسلم قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أي ودية على وزن فعيلة وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له بالتفقير بالفاء ثم القاف أي الحفر أي ومن ثم قيل للبئر الفقير أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة أي وأتعهدها إلى أن تثمر والودية والفسيلة هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر لكن في كلام بعضهم إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية ثم فسيلة ثم إشاءة فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان
وفي الحديث إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بستين والرجل بعشرين ودية والرجل بخمسة عشر والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلثمائة ودية قال وفي رواية أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسائة فسيلة أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية
قال سلمان فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا سلمان ففقر أي بالفاء وفي رواية فنقر أي بالنون أي احفر لها فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودى فيضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ما مات منها ودية واحدة فأديت النخل وبقى على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة فاختلف فيها التشبيه فقال صلى الله عليه وسلم
____________________

ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان أي تكون بعضا مما عليك
وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله
وقد أشار صلى الله عليه وسلم للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفى به الله عنك جميع ما عليك حيث قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم أي وبقى عندي مثل ما أعطيتهم قال وهذا أي سؤال سلمان وجوابه صلى الله عليه وسلم كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة
وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وأين تقع هذه مما علي فقلبها صلى الله عليه وسلم على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها
وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما علي وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء فقالا على أربعين أوقية من ذهب وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ووفى قدر بيضة من نضار ** دين سلمان حين حان الوفاء ** ** كان يدعى قنا فأعتق لما ** أينعت من نخيله الأقناء ** ** أفلا تعذرون سلمان لما ** أن عرته من ذكره العرواء **
أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين وتقدم أنه وفي دينه منها وبقى عنده منها قدر ما أعطاهم
وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا أي أرق بالباطل كما تقدم فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها أي غرست له أفلا ترون لسلمان عذرا
____________________

يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره صلى الله عليه وسلم قال سلمان وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد
وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى سلمان أبي كان سببا لشرائه أن مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فاطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها قالوا عمر فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأطعمت من عامها
وذكر البخاري أن سلمان رضي الله تعالى عنه غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان قال ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى
أقول وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت وقد آل إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي
ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرق حقيقة وقد تقدم ذلك وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق وأمره صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل
فإن قيل إذا رق حقيقة كيف جاز له صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية بل وعند باقي الأئمة
قلنا يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته وفي كلام السهيلي وذكر أو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه وأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم رقه حينئذ لأن الأصل في الناس الحرية ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجئ مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان
وفي كلام السهيلي أن في خبر سلمان من الفقه قبول الهدية وترك سؤال المهدي
____________________

وكذلك الصدقة وفي الحديث من قدم إليه الطعام فليأكل ولا يسأل والله أعلم
وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بالقصة المتقدمة زاد أن صاحب عمورية قال له أئت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلى فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى بن مريم والغيضة الشجر الملتف
قال السهيلى هذا الحديث مقطوع وفيه رجل مجهول ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه
فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه الصلاة والسلام نزل بعد ما رفع وأمه وأمرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان فقالا عليك فقال إني لم أقتل ولم أصلب ولكن الله رفعني وكرمني وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين أي قال لأمه ولتك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لانعلم أنه هو أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح هذا كلامه
ويروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن ويولد له ولدان يسمى أحدهما
____________________

محمدا والآخر موسى يمكث أربعين سنة وقيل خمسا وأربعين وقيل سبع سنين كما في مسلم وقيل ثمان سنين وقيل تسعا وقيل خمسا أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة أي وما بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم قال وقيل في حجرته صلى الله عليه وسلم أي عند قبره الشريف وقيل في بيت المقدس أنتهى أي وقيل يدفن معه صلى الله عليه وسلم في قبره ويؤيده ما ورد ويدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر
أقول وكما يقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الخنزير يقتل الدجال فقد جاء ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال ونزوله يكون عند صلاة الفجر فيصلى خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله فيقول له تقدم فقد أقيمت لك وفي رواية ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة فيرجع المهدي القهقري ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتيفيه ويقول له تقدم فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لد الشرقي وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال وقد جاء أن المهدي من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة قيل من ولد الحسين وقيل من ولد الحسن وقيل من ولد عمه العباس
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أمه أم الفضل مرت به صلى الله عليه وسلم فقال إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت فلما ولدته أتيته به فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه أي أسقاه اللبأ من ريقه وسماه عبدالله وقال اذهبي بأبي الخلفاء فأخبرت العباس فأتاه فذكر له فقال هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة وهو أبو الرشيد بدليل قوله حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبدالله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد وفي رواية إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة وقيل أربعون سنة ووجهه كوكب درى على خده الأيمن خال أسود يخرج
____________________

في زمان الدجال وينزل في زمانه عيسى ابن مريم وأما ما ورد لا مهدي إلا عيسى بن مريم فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام
فقد جاء لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها وعن العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنظر هل ترى في السماء من شيء قلت نعم قال ما ترى قلت الثريا قال أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك أي وقد اختلف الناس في عددها المرئى فقيل سبعة أنجم وقيل تسعة
وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئى لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم وأما المرئى له صلى الله عليه وسلم فقيل كان يرى أحد عشر نجما وقيل أثني عشر نجما
وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر والثاني على ما إذا أمعن النظر وحينئذ يقتضى هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر
وعن سعيد بن جبير سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد ويحتمل أن يكون المنتظر
وروى أبو نعيم بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم خرج فتلقاه العباس فقال ألا أسرك يا أبا الفضل قال بلى يا رسول الله قال إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه وفي رواية ويختمه بولدك
وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه الفواصل عن الفتن القواصم
وقد رويت قصة سلمان رضي الله تعالى عنه على غير هذا الوجه الذي تقدم فعنه قال كان لي أخ أكبر مني وكان يتقنع بثوبه ويضعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا فقلت له أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك قال أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء فقلت لا تخف قال إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة ويزعمون أنا على غير دين قلت فاذهب بي معك إليهم قال
____________________

حتى أستامرهم فاستأمرهم فقالوا جئ به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم قالوا ولد بغير ذكر وبعثه الله رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموت وخلق الطير وإبراء الأعمى والأبرص فكفر به قوم وتبعه قوم ثم قالوا يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده فقلت ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل فلما دخلوا حفوا بهم ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به فقال لهم أين كنتم فأخبروه فقال ما هذا الغلام معكم فأثنوا علي خيرا وأخبروه بإتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى بن مريم ثم وعظهم وقال اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا يخالف بكم ثم أراد أن يقوم فقلت ما أنا بمفارقك فقال يا غلام إنك لا تستطيع ان تكون معي إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد قلت ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه فقلت ما أنا بمفارقك فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلى وكان فيما يقول لي يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه فقلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال وإن أمرك ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد فقال له ناولني
____________________

يدك فناوله يده فقال له قم باسم الله فقام كانما نشط من عقال فقال لي المقعد يا غلام احمل على ثيابي حتى أنطلق فحملت عليه ثيابه فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما سألت عنه قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره وحملني عليه فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني فاشترتني إمرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها أي بستان وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائط ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه فقال ماهذا قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو ثم لبثت ما شاء الله ثم أخذت مثل ذلك ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه فقال ما هذا فقلت هدية قال بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من آياته ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما
وفي الدر المنثور أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها بينما هو يوما يرعى إذ أتاه صاحب له فقال له أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي فقال له سلمان أقم في الغنم حتى آتيك فهبط سلمان إلى المدينة فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به فقال ما هذا قال سلمان هذه صدقة قال لا حاجة لي بها فأخرجها فأكلها أصحابه ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قال هذه هدية قال فاقعد فكل فقعد وأكلا جميعا منها فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وهذه الرواية تخالف ما تقدم فليتأمل ولينظر كيف الجمع
ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مائتين وخمسين سنية وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا وكان يأخذ من بيت المال في كل سنة خمسة آلاف وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها
قال بعضهم دخلت عليه وهو أمير على المدائن وهو يعمل الخوص فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجرى عليك رزق فقال إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشتري اللحم وطبخه ودعا المجذومين فأكلوا معه
____________________


وأول مشاهدة الخندق كما تقدم قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق أي وهو مكاتب فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه والله أعلم
وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة منها ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم وفي أيام رضاعه
قال ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال والله لقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث فقيل له وكيف ذاك قال فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا فقال الكاهن أقسم بالسماء ذات الإبراج والأرض ذات الأدراج والريح ذات العجاج إن هذا لا مراج لعله من أجيج النار وهو التهابها ولقاح ذي نتاج قالوا وما نتاجه قال نتاجه ظهور نبي صادق بكتاب ناطق وحسام فالق قالوا وأين يظهر وإلى ماذا يدعو قال يظهر بصلاح ويدعو إلى فلاح ويعطل القداح وينهى عن الراح والسفاح وعن كل أمر قباح قالوا ممن هو قال من ولد الشيخ الأكرم حافر زمزم وعزه سرمد وخصمه مكمد انتهى
ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي وهو أول من قال البينة على المدعى واليمين على من أنكر وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة
وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر داود عليه الصلاة والسلام وأن ذلك فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي قالوا كلنا يا رسول الله نعرفه قال فما فعل قالوا هلك قال ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول أيها الناس اجمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا إن الله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فقاموا أم تركوا هناك فناموا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يروى شعره فأنشدوه عليه الصلاة والسلام
____________________

** في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر ** ** لما رأيت مواردا ** للموت ليس لها مصادر ** ** ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأصاغر والأكابر ** ** لا يرجع الماضي إلى ** ولا من الباقين غابر ** ** أيقنت أنى لا محا ** لة حيث صار القوم صائر **
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم الجارود ابن عبدالله وكان سيدا في قومه وقيل له الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم أي أخذ جميع أموالهم وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر ** ودسناهم بالخيل من كل جانب ** كما جرد الجارود بكر بن وائل **
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا جارود هل في جماعة وفد عبدالقيس من يعرف لنا قسا قالوا كلنا نعرفه يا رسول الله قال الجارود وأنا بين يدي القوم كنت أقفو أي أتبع أثره كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم شيخا عمر سبعمائة سنة أي وقيل ستمائة سنة أدرك من الحواريين سمعان فهو أول من تأله أي تعبد من العرب أي ترك عبادة الأصنام وأول من قال أما بعد أي وقيل أول من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم وقيل سحبان بن وائل وقيل يعقوب وقيل يعرب بن قحطان وقيل داود وهو فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته أي وبعد لفظة عربية وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة أي وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال البينة على المدعى واليمين على من أنكر وتقدم ما فيه وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية ولغيره إضافية فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته وقس أول من كتب من فلان إلى فلان قال الجارود كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله ثم أنشأ يقول ** هاج للقلب من جواه ادكار ** وليال خلالهن نهار ** ** وجبال شوامخ راسيات ** وبحار مياههن غزار ** ** ونجوم تلوح في ظلم الليل ** تراها في كل يوم يوم تدار ** ** والذي قد ذكرت دل على الله ** نفوسا لها هدى واعتبار **
____________________


فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك يا جارود والرسل بكسر الراء التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف كان سوقا لثقيف وقيس عيلان كما تقدم على جمل أورق أي يضرب لونه إلى السواء وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه وفي لفظ تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن فقال أبو بكر يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت أت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات بعد آيات إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ليل داج أي مظلم وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قس فسما حاتما لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيا قد حان حينه وأظلكم زمانه فطوبى لمن آمن به فهداه وويل لمن خالفه فعصاه ثم قال تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية يامعشر إياد هي قبيلة من اليمن أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد وأين الفراعنه الشداد أين من بنى وشيد وزخرف ونجد أي من زين وطول وغره المال والولد أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالا وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا طحنهم التراب بكلكله أي بصدره ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة
أي وفي رواية لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي قالوا هلك يا رسول الله قال لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب موفق لا أجدني أحفظه الآن فقام امرؤ أعرابي من أقاصي القوم فقال أنا أحفظه يا رسول الله فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان يقول يا معشر الناس اجتمعوا فكل من مات فات وكل شيء آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج وبحر عجاج نجوم تزهر وجبال مرسية وأنهار مجرية الحديث
____________________


وفي رواية أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر ألفين ثم كان ذلك كلمحة عين
قال وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ فقال سيأتيكم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى نحو مكة قالوا له وما هذا الحق قال رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان فإذا دعاكم فأجيبوه ولو علمت أني أعيش إلى ة مبعثه لكنت أول من يسعى إليه وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة
قال الحافظ ابن كثير هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة وقال الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث كلها ضعيفة وهو يرد قول ابن الجوزي في موضوعاته حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل
أقول ذكر في النور أن في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين مرة حفظ صلى الله عليه وسلم كلامه وكان قس على جمل أحمر والثانية التى لم يحفظ فيها كلامه كان قس على جمل أورق قال لكن لا أدري أي المرتين كانت أولا هذا كلامه
وقد يقال النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم نسى كلام قس بعد الإخبار به أولا ويدل لذلك قوله لا أظن أني أحفظه الآن أو قبل الإخبار به فيكون خبره صلى الله عليه وسلم متأخرا عن خبر أبي بكر فلا دلالة في ذلك التعدد ووصف الجمل بأنه أحمر ووصفه بأنه أورق لا يدل على التعدد لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق فأخبر عنه مرة بأنه أحمر ومرة بأنه أورق وهذا السياق يدل على تعدد مجئ وفد عبدالقيس مرة جاءوا وحدهم ومرة جاءوا مع سيدهم الجارود وقد جاء رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم والله أعلم
ومن ذلك خبر نافع الجرشي نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من حمير تسمى به بلدهم أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب جاءوا إلى كاهنهم واجتمعوا
____________________

إليه في أسفل جبل فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا وأصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل
وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا
منها خبر سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه وكان يتكهن في الجاهلية وكان شاعرا ثم أسلم فعن محمد بن كعب القرظي قال بينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذات يوم جالسا إذ مر به رجل فقيل له يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار قال ومن هذا قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه أي تابعه من الجن الذي يتراءى له أتاه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن قال عمر رضي الله تعالى عنه على المنبر أي منبر النبي صلى الله عليه وسلم أيها الناس أفيكم سواد بن قارب فلم يجبه أحد فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك كان في زمن المجئ للزيارة من الآفاق قال أيها الناس أفيكم سواد بن قارب قال بعضهم يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب قال إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا قال البراء فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب فارسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال له أنت سواد بن قارب قال نعم قال أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم قال فأنت على ما كنت عليه من كهانتك فغضب سواد بن قارب وقال ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين فقال له سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أي من عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك أي وفي رواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام والأوثان حتى أكرمنا الله برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام
أقول وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة بعد الإسلام لا قبلها بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت وجواب سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته للكهانة قبل الإسلام فلذلك قال سبحان الله متعجبا منه
وفي كلام السهيلي أن عمر رضي الله تعالى عنه مازح سوادا رضي الله تعالى عنه فقال له ما فعلت كهانتك يا سواد فغضب وقال له سواد رضي الله تعالى عنه قد كنت أنا وأنت
____________________

على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات أفتعيرني بأمر قد تبت منه فقال عمر رضي الله تعالى عنه اللهم غفرا فليتأمل والله أعلم ثم قال لسواد أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية قال يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان قال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيى فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤى بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتطلابها ** وشدها العيس بأقتابها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما صادق الجن ككذابها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** ليس قدماها كأذنابها **
فقلت دعنى أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتخبارها ** وشدها العيس بأكوارها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما مؤمن الجن ككفارها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** بين روابيها وأحجارها **
فقلت دعنى أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتحساسها ** وشدها العيس بأحلاسها ** ** تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما خير الجن كأنحاسها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** وارم بعينيك إلى راسها **
فقمت فقلت قد امتحن الله قلبي فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة وفي رواية حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي أقرب إلى الصحة من الأولى أي لأن الجن إنما جاءت إليه صلى الله عليه وسلم للإيمان به في مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله وفي لفظ والناس حوله وفي لفظ والناس عليه كعرف الفرس فلما
____________________

رآني قال مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ماجاء بك قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمع مقالتي يا رسول الله فقال هات فأنشأت أي ابتدأت أقول أتاني نجي بعد هدء ورقدة وفي لفظ ** أتاني رئيى بعد ليل وهجعة ** ولم يك فيما قد تلوت بكاذب ** ** ثلاث ليال قوله كل ليلة ** أتاك رسول من لؤى بن غالب **
فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ عن ساقي الإزار ** ووسطت بي الذعلب الوجناء بين الساسب ** ** فأشهد أن الله لا رب غيره ** وأنك مأمون على كل غائب ** ** وأنك أدنى المرسلين وسلية ** إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب ** ** فمرنا بما يأتيك ياخير مرسل ** وإن كان فيما جاء شيب الذوائب ** ** وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** سواك بمغن عن سواد بن قارب **
وفي رواية ** وكن لي شفيعا يوم لا ذوا قرابة ** بمغن فتيلا عن سواد بن قارب **
قال ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى الفرح في وجوههم أي وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال أفلحت يا سواد فرأيت عمر رضي الله تعالى عنه التزمه وقال لقد كنت اشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم قال منذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا عمر لم يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره سواد
ولما مات صلى الله عليه وسلم وخشى سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال يا معشر دوس من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية ولست أدري لعله يكون للناس جولة فإن لم تكن فالسلامة منها الأناة والله يحبها فأحبوها فأجابه القوم بالسمع والطاعة
أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة كان لها تابع من الجن
____________________

فجاءها يوما فوقف على جدارها فقالت له مالك لا تدخل تحدثنا ونحدثك فقال إنه قد بعث نبي بمكة يحرم الزنا فحدثت بذلك فكان أول من خبر تحدث به المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا
فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم خبر عباس بن مرداس قال كان لمرداس السلمى وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة فلما حضرت مرداسا الوفاة قال لعباس ولده أي بني أعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول ** من للقبائل من سليم كلها ** أودى ضمار وعاش أهل المسجد ** ** إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد ** ** أودى ضمار وكان يعبد مدة ** قبل الكتاب إلى النبي محمد **
فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها وأن الحرب قد حرقت أنفاسها وأن الخيل وضعت أحلاسها وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصواء فقال عباس فراعني ذلك فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به فإذا صائح يصيح من جوفه ** قل للقبائل من قريش كلها ** هلك الضمار وفاز أهل المسجد ** ** هلك الضمار وكان يعبد مدة ** قبل الصلاة على النبي محمد ** ** إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد **
قال عباس فخرجت مع قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال يا عباس كيف إسلامك فقصصت عليه القصة فقال صدقت وأسلمت أنا وقومي
ومن ذلك خبر مازن بن الغضونة قال كنت أسدن أي أخدم صنما بقرية بعمان أي بالتخفيف تدعى سمائل وسمال يقال له بادر وفي لفظ باحر بالحاء المهملة فعترنا
____________________

ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا وقيل في رجب خاصة فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر قال مازن ففزعت لذلك وقلت إن هذا لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم فسمعت صوتا من الصنم يقول ** أقبل إلى أقبل ** تسمع مالا تجهل ** ** هذا نبي مرسل ** جاء بحق منزل ** ** آمن به كي تعدل ** عن حر نار تشعل ** ** وقودها بالجندل **
فقلت إن هذا لعجب وإنه لخير يراد بي
أقول ورأيت في بعض السير تقديم هذه الأبيات على ما قبلها وأن مازنا قال ثم سمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول يا مازن اسمع إلى آخره والله أعلم
قال مازن فينا نحن كذلك إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له ما الخبر وراءك قال قد ظهر رجل يقال له أحمد يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله فقلت هذا نبأ ما سمعته فنزلت إلى الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام وأسلمت وقلت ** كسرت بادرا جذاذا وكان لنا ** ربا نطيف به ضلا بتضلال ** ** بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ** ولم يكن دينه شيئا على بالي ** ** يا راكبا عمرا وإخوتها ** أنى لما قال ربي بادر قالى **
عنى بعمرو وإخوتها بين خطامة وهي بطن من طيئ وهذه الأبيات ساقطة في أسد الغابة قال مازن فقلت يا رسول الله إني مولع بالطرب أي مغرم به وبشرب الخمر وبالهلوك أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها وقيل الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها وألحت أي دامت علينا سنون أي أعوام القحط والجدب فذهبن بالأموال وهزلن الذرارى والعيال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا ويهب لي ولدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالخمر ريا لا إثم فيه وبالعهر أي الزناعفة
____________________

الفرج وأته بالحيا أي المطر وهب له ولدا قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده وتعلمت شطر القرآن وحججت حجيجا وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان يعني ولده وأنشأت أقول ** إليك رسول الله حنت مطيتي ** تجوب الفيافي من عمان إلى العرج ** ** لتشفع لي يا خير من وطئ الحصا ** فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلج ** أي بالفوز والظفر المطلوب ** إلى معشر خالفت في الله دينهم ** ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي ** أي بالشين والجيم أي لا شكلهم شكلي و لا طريقهم طريقي ** وكنت أمرأ بالعهر والخمر مولعا ** شبابي حتى آذن الجسم بالنهج ** أي البلاء ** فبدلني بالخمر خوفا وخشية ** وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي ** ** فأصبحت همى في الجهاد وينتي ونيتي ** فلله ما صومي ولله ما حجي **
قال مازن فلما رجعت إلى قومي أنبوني أي عنفوني ولاموني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني فقلت إن هجوتهم فإنما أهجوا نفسي وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه وكان لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفى ثم إن القوم ندموا وطلبوا مني الرجوع إليهم فأسلموا كلهم وضعف هذا الحديث
وأما ما سمع من أجواف الذبائح فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله أي والمراد بالذريح العجل الذي ذبح لأنه ملطخ بالدم الأحمر لقولهم أحمر ذريحى أي شديد الحمرة والذي في البخاري يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله والمراد بالجليح العجل المذبوح أيضا لأنه قد جلح أي كشف عنه جلده
وأما ما سمع من الهواتف ولم يجئ على ألسنة الكهان ولا سمع من جوف
____________________

الأصنام ولا من جوف الذبائح فكثير من ذلك ما حدث به بعضهم وذكره النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله لقد رأيت من قس عجبا خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل أي أدبر وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول ** يا أيها الراقد في الليل الأحم ** أي بالحاء المهملة يعنى الأسود ** قد بعث الله نبيا بالحرم ** ** من هاشم أهل الوفاء والكرم ** يجلو دجنات الليالي والبهم ** أي الظلمات والأمور المشكلة فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول ** يا أيها الهاتف في داجى الظلم ** أهلا وسهلا بك من طيف ألم ** ** بين هداك الله في لحن الكلم ** من ذا الذي تدعو إليه يغتنم **
فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول ظهر النور وبطل الزور وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور أي السرور صاحب النجيب الأحمر أي الكريم من الإبل والتاج والمغفر والوجه الأزهر أي الأبيض المشرب بالحمرة والحاجب أي الجبين الأقمر أي الأبيض والطرف الأحور أي شديد سواده صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر أهل المدر والوبر أي العجم والعرب ثم أنشأ يقول ** الحمد لله الذي ** لم يخلق الخلق عبث ** ** أرسل فينا أحمدا ** خير نبي قد بعث ** ** صلى الله عليه ما ** حج له ركب وحث **
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أي أظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الجميلة في صورة الغناء الذي تألفه النفس ولا تصبر منها عند سماعه فتسمع لغيره حتى أطرب الإنس ذاك الغناء الذي سمعوه من الجن قال فلاح الصباح وإذا بالفنيق يشقشق والفنيق بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف الفحل الكريم من الإبل ويشقشق بشينين معجمتين وقافين أي يهدر إلى النوق فملكت خطامه وعلوت سنامه حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة أي تعب فنزل في روضة خضراء فإذا أنا بقس بن
____________________

ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض والنكت بالمثناة فوق وهو يقول ** يا ناعي الموت والملحود في جدث ** أي قبر ** ** علهيم من بقايا بزهم خرق ** أي والبز الثياب ** ** دعهم فإن لهم يوما يصاح به ** فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا ** أي خافوا حتى يعودا بحال غير حالهم ** خلقا جديدا كما من قبله خلقوا ** ** منهم عراة ومنهم في ثيابهم ** منها الجديد ومنها المنهج الخالق **
والمنهج من الثياب الذي أخذ في البلى قال فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام فإذا بعين خرارة أي لمائها خرير أي صوت في الأرض خوارة أي ضعيفة ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده وقال ارجع ثكلتك أمك أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع ثم ورد بعده فقلت له ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان فأدركهما الموت فقبرتهما وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما ثم نظر إليهما وأنشد أبيانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله قسا إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم وقد أشار إلى ذلك صاحب الأصل بقوله ** وعنه أخبر قس قومه فلقد ** حلى مسامعهم من ذكره شنفا ** ولما مات قس قبر عندهما وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين من أعمال حلب وعليها بناء والناس يزورونهم وعليهم وقف ولهم خدام
ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذا سمعوا هاتفا يهتف ويقول ** يا أيها الناس ذوو الأجسام ** ومسندو الحكم إلى الأصنام ** ** أما ترون ماأرى أمامي ** من ساطع يجلو دجى الظلام ** ** ذاك نبي سيد الأنام ** من هاشم في ذروة السنام ** **
____________________

** مستعلن بالبلد الحرام ** جاء يهد الكفر بالإسلام ** أكرمه الرحمن من إمام **
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم يمض بهم ثالثهم حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة أي جاءهم ذلك بغتة فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم
وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال كان لبني عذرة وهي قبيلة من اليمن صنم يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه وكان في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء وكان سادنه أي خادمه رجلا يقال له طارق قال في النور لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما وكانوا يعترون أي يذبحون الذبائح عنده فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول يا بني هند بن حرام ظهر الحق وأودى خمام أي هلك ورفع الشرك الإسلام قال زمل ففزعنا لذلك وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا يقول يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صدعة بأرض تهامة لناصريه السلامة ولخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة فوقع الصنم لوجهه
فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله هذا الوداع مني إلى يوم القيامة فهو من غير هذا النوع وإن لم يكن فهو من هذا النوع قال زمل فابتعت أي اشتريت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته إليك يا رسول الله أعلمت نصها النص هو الغاية في السير
** أكلفها حزنا وقوزا من الرمل ** والحزن ما ارتفع من الأرض ** والقوز بالقاف والزاي التل الصغير
** لأنصر خير الناس نصرا موزرا ** أي قويا وأعقد حبلا من حبالك في حبلي ** والحبل العهد الميثاق
** وأشهد أن الله لا شيء غيره ** أدين له أي أخضع وأضيع ما أثقلت قدمي نعلي **
ومن هذا النوع خبر تميم الداري أي ويكنى أبارقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة مع الدجال على المنبر فقال حدثني تميم الداري وذكر القصة قال بعضهم وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار
____________________


وقد يكون من ذلك ما ذكر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر يوما على ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها فقال هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء كان يعلمناه وذكر أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول لو كان على أحدكم جبل دين ذهبا قضاه الله عنه قال نعم يقول اللهم فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال كان علي دين وكنت له كارها فقلته فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته
قال تميم الداري رضي الله تعالى عنه كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجاتي فأدركني الليل فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا اراه عذ بالله فإن الجن لا تجير أحدا على الله فقلت أيم تقوله وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما أي أيما شيء تقول فقال قد خرج رسول الأميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا خلفه بالحجون أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا وأتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأسلم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبه وأخبرته فقال صدقوك نجده يخرج من الحرم أي مكة ومهاجره الحرم أي المدينة وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه قال تميم فطلبت الشخوص أي الذهاب حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت
أقول وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل الهجرة فهو مما الكلام فيه بل رأيت في تتمة الخبر فسرت إلى مكة فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستخفيا فآمنت به
ورأيت بعضهم قال وهذه الرواية غلط لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من الهجرة والله أعلم
قال ومن ذلك ما حدث به سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه قال إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي فقلت أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي فانتبهت فزعا
____________________

فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا فقلت هذا حلم ثم عدت فتعوذت فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب فالتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي وبينهما نزاع
فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جارى الإنسى فقام الفتى وأخذ منها ثورا وانصرف ثم التفت إلى الشيخ وقال يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي و لاتعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها فقلت له ومن محمد قال نبي عربي لا شرقي ولا غربي فقلت أين مسكنه قال يثرب ذات النخل فركبت ناقتي وحثثت السير حتى أتيت المدينة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا ودعاني إلى الإسلام فأسلمت وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه
ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال خرجت في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي فتوسدت ناقتي وقلت أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول ** ويحك عذ بالله ذي الجلال ** منزل الحرام والحلال ** ** ووحد الله ولا تبال ** ما كيد ذي الجن من الأهوال ** ** إذ يذكر الله على الأحوال ** وفي سهول الأرض والجبال ** ** وصار كيد الجن في سفال ** إلا النبي وصالح الأعمال ** ** فقلت له يا أيها القائل ما تقول ** أرشد عندك أم تضليل ** ** فقال هذا رسول الله ذو الخيرات ** جاء بيس وحاميمات ** ** وسور بعد مفصلات ** يأمر بالصلاة والزكاة ** ** ويزجر الأقوام عن هنات ** قد كن في الإسلام منكرات **
فقلت أما لو كان من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال إذا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وفي رواية فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة فإني أنيخ راحلتي إذ خرج إلى أبو ذر فقال لي
____________________

يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل فدخلت فلما رآني قال ما فعل الرجل وفي لفظ ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك أما إنه قد أداها سالمة وقد قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الناس قبل بعثته من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله سبحانه وتعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال } أي يستغيذون برجال من الجن أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه { فزادوهم رهقا } أي زادوا الجن أي ساداتهم بإستعاذتهم بهم طغيانا فيقولون سدنا الإنس والجن
أي ومن ذلك ما حكاه وائل بن حجر الحضرمي ويكنى أبا هنيدة كان قيلا من أقيال حضرموت وكان أبوه من ملوكهم قال وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بشر أصحابه بقدومي فقال يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله عز وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال بشرنا بك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومك بثلاث فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط لي رداءه فاجلسني عليه وقال اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده ثم صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم فمن الله علي أن رفضت ذلك كله وآثرت دين الله قال صدقت اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده
قال وسبب وفودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة إذ سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه وإذا قائل يقول ** واعجبا لوائل بن حجر ** يخال يدرى وهو ليس يدرى ** ** ماذا يرجى من نحيت صخري ** ليس بذي نفع ولا ذي ضر ** ** لو كان ذا حجر أطاع أمري **
قال فقلت أسمعت أيها الهاتف الناصح فماذا تأمرني فقال
____________________

** ارحل إلى يثرب ذات النخل ** تدين دين الصائم المصلى ** ** محمد النبي خير الرسل **
ثم خر الصنم لوجهه فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث
وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع ولوائل هذا حديث مع معاوية تركناه لطوله
وأما ما سمع من بعض الوحوش فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس فقال الذئب ألا أخبرك بأعجب مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين
وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق وفي لفظ يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الراعي إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها كما تقدم وعذبة سوطه أي طرفه وقيل أحد سيوره ويخبره بما فعل أهله أي وفي لفظ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودى بالصلاة جامعة ثم خرج فقال للأعرابي أخبرهم فأخبرهم
وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا وفي رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب فتصير في جنود الله تعالى فقال له الراعي من لي بغنمي فقال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع فأسلم إليه غنمه ومضى إليه صلى الله عليه وسلم وأسلم وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك وذبح للذئب شاة منها وفيه أن هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه
____________________


قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه قال وكلم الذئب غير واحد فانظرهم في تعليقي على البخاري
أقول ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبدالبر كلم الذئب من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثلاثة رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع ووهبان بن أوس
وأما ما سمع من بعض الأشجار فقد روى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم بينا أنا قاعد في ظل شجرة في الجاهلية إذ تدلى على غصن من أغصانها حتى صار على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول ما هذا فسمعت صوتا من الشجرة هذا النبي يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به والله أعلم
وأما تساقط النجوم وطرد الجن بها عن استراق السمع فقد قال ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك لأمر حدث من الله في العباد يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا { وأنا لمسنا السماء } أي طلبنا استراق السمع منها { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها { وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } لخلوها عن الحرس والشهب { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له ليرمى به أي ومن يخطف الخطفة منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن يلقيها إلى الكاهن وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة نزوله وبعد انقضائه وموته صلى الله عليه وسلم لئلا تدخل الشبهة على ضعفاء العقول فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع وأن أمر رسالته صلى الله عليه وسلم تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته ومن ثم قال لا كهانة بعد اليوم
وقد حدث بعضهم قال إن أول العرب فزع للرمى بالنجوم حين رمى بها ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا أي أدهاها رأيا وكان ضريرا وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له يا عمرو ألم تر أي تعلم ما حدث في السماء من الرمى بهذه النجوم فقال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي
____________________

النجوم المشهورة التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء هي التي يرمى بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا الخلق أي والنوء وبالنون والهمز هنا ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما وحقيقة النوء سقوط النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها فتقول مطرنا بنوء كذا وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية
وفي لفظ فأمر أراد الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك لا يقال قد رجمت الشياطين بالنجوم قبل ذلك وذلك عند مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول المراد رجمت الآن بأكثر مما كان قبل ذلك أو صارت تصيب ولا تخطئ
ومن ثم حدث بعضهم قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل فأتوا عبد ياليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم فقال لهم لا تعجلوا وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف أي وهي التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء فهي عند فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهي من حدث فنظروا فإذا نجوم لا تعرف فقالوا هذا من حدث
أي وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمته لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم
وفي لفظ فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال ظهر محمد بن عبدالله يدعى أنه نبي مرسل
وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب ولا مانع من تكرر سؤال ثقيف مرة لعمرو بن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو وأن كلا منهما كان أعمى ويحتمل إتحاد الواقعة
____________________


ووقع الإختلاف في اسم الذي سألوه فسماه بعضهم عمرو بن أمية وبعضهم سماه عبد ياليل بن عمرو هذا كما ترى إنما كان عند المبعث وبه يعلم ما في قول الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره
وسببه أي رمى النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكوكب قبل مولده ففزع أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال انظروا البروج الإثنى عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم فإنه يقتضى أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده لما علمت أن هذا أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته ومنه خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف قال حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن مالك قال في النور لا أعرف له ترجمة ولا إسلاما وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا له يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير أم ضرر أم لأمن أو حذر قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه جمع وصب كجمل وجمال فالهمزة بدل من الواو خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايله جوابه أي زال عنه جوابه يا ويله ما حاله بلبله بلباله البلبال الغم عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله ثم أمسك طويلا ثم قال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسم بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان أي الخدام قد منع السمع عتاة الجان بثاقب كون ذا سلطان من أجل مبعوث عظيم الشان يبعث بالتنزيل والفرقان وبالهدى
____________________

وفاضل القرآن تبطل به عبادة الأوثان قال فقلنا له ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك فقال ** أرى لقومي ما أرى لنفسي ** أن يتبعوا خير نبي الإنس ** ** برهانه مثل شعاع الشمس ** يبعث في مكة دار الحمس ** بمحكم التنزيل غير اللبس **
والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين المهملة هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم فإن قريشا من بين قبائل العرب دانوا بالتحمس ولذلك تركوا الغزو لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة ومن ثم يقال قريش الحمس سموا بذلك لتشددهم في دينهم لأن الحماسة هي الشدة فقلنا له يا خطر ومن هو فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه طيش أي عدول عن الحق من قولهم طاش السهم عن الهدف إذا عدل عنه ولا في خلقه هيش أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش وآل قحطان هم الأنصار قال صلى الله عليه وسلم رحى الإيمان دائرة في ولد قحطان وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى أبيهم أيش شخص من كبير الجن وقيل أراد بهم المهاجرين أي ومن المهاجرين الذين يقال فيهم أيش لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته وروى بدل أيش ريش فقلنا له بين لنا من أي قريش فقال والبيت ذي الدعائم يعنى الكعبة والركن يعني الحجر الأسود والأحائم يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم وهو الماء في البئر وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم ففيه قلب مكاني الأصل فواعل فصار أفاعل والحوائم هي الطير التي تحوم على الماء والمراد حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم يعني الحروب وقتل كل ظالم ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر ثم سكن وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده أي مقام جماعة كما تقدم في نظيره
____________________


قال ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نفر من الأنصام قالوا بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية أي قبل البعث قالوا يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا برمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك كذلك ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته حمله العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض لم سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان أي يكون في الأرض فيهبط به من سماء إلى سماء أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم وإختلاس ثم يأتون به إلى الكهان فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
أي وفي البخاري إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمى بها إلى صاحبه فيحرقه الحديث وقولهم قال الحق أي ثم يذكرونه لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا ولما يأتي وقوله صلى الله عليه وسلم يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمى بالنجوم للحراسة في زمن الفترة بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه الصلاة والسلام قبل مولده صلى الله عليه وسلم ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال إنهم ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا قال تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
أي وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الملائكة تتحدث في العنان أي الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن فيزيدونها مائة كذبة
____________________


وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد ياليل الحديث

أقول وهذا يفيد أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة فلا يخالف ما تقدم وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل وهو الموافق لقول الزهري الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان أي في زمن الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل لقول الكشاف وقول بعضهم ظاهر الأخبار يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل وهو كذلك وعليه أكثر المفسرين حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول أي وهو زمن الفترات بين الرسل فكانوا يسترقون السمع في مقاعد لهم ويلقون ما يسمعون للكهان أي لأن الله تعالى ذكر فائدتين في خلق النجوم فقال تعالى { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } وقال تعالى { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد
وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ومنه زمن ولادته
ويوافق ذلك قول ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين وقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس فقال بعث أي لعله بعث نبي عليكم بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمى بالنجوم علامة على بعث الأنبياء فذهبوا ثم رجعوا فقالوا ليس بها أحد فخرج إبليس يطلبه بمكة أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال بعث أحمد ومعه جبريل وفي رواية إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء إن هذا لحدث حدث في الأرض فائتوني من تربة كل أرض
____________________

فأتوه بذلك فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ههنا الحدث فمضوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث
أقول قد يقال لا منافاة بين الروايتين لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه صلى الله عليه وسلم لما وجدوه فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للإستيقان وهذا يفيد أن الرمى بالنجوم إنما كان عند مبعثه أي عند تقارب زمنه لا قبل ذلك الذي منه زمن ولادته
وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده عند مولده صلى الله عليه وسلم ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض الرواة وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على الشياطين علامة على مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والرواية التي قبلها تدل على ذلك كما علمت وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله والله أعلم وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه صلى الله عليه وسلم بقوله ** بعث الله عند مبعثه الشهب ** حراسا وضاق عنها الفضاء ** ** تطرد الجن عن مقاعد للسم ** مع كما يطرد الذئاب الرعاء ** ** فمحت آية الكهانة آيا ** ت من الوحي مالهن إنمحاء **
أي أرسل الله زمن إرساله صلى الله عليه وسلم الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء منهم ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن أمكنة قريبة يقعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما سيقع في الأرض من المغيبات وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها فبسبب ذلك الطرد البالغ للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار بالأمور المغيبة ما لتلك الآيات من الوحي إنمحاء أي ذهاب بل هي باقية إلى يوم القيامة وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمى بالنجوم حفظ الوحى أن ذلك لا يكون إلا عند مبعثه صلى الله عليه وسلم ولا يكون قبل ذلك الذي منه وقت ولادته وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع العرب منه عند مبعثه
وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمى بها حفظ الوحى فلا ينافى وجود ذلك قبل عند ولادته إرهاصا وتخويفا
____________________


وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبي بن كعب على دعوى أنه لم يرم بالنجوم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها ومن ثم قال فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد ياليل ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمى بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمى بها قبله إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمى بها بعد المبعث كان من كل جانب وقيل كان من جانب واحد وإما لأن الرمى بها صار لا يخطئ أبدا وقبل ذلك كان يخطئ تارة ويصيب أخرى فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله أي يصيره غولا يضل الناس في البراري وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك لم يكن من كل جانب ولم يكثر ويخطئ فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع ويلقى ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بالمرة بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه صلى الله عليه وسلم وعند مبعثه انقطعت بالمرة ومن ثم قال لا كهانة اليوم وهذا كله على تسليم رواية ابن عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته صلى الله عليه وسلم وحفظ الوحي بالرمى بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة وسيأتي عن الينبوع عن ابن جرير ما نزل جبريل بوحى قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه إلى أوليائهم
وعن بعضهم قال سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني فلما قدمت من السفر لم تفرح بي ولم تتهيأ لي وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيا العروس فقلت لها في ذلك فقالت إنك لم تغب فبينما أنا كذلك وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك فاختر إما أن يكون لك الليل ولي النهار أو لك النهار ولي الليل فراعني ذلك ثم اخترت النهار فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال بت الليلة عند أهلك فقد حضرت نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت أنت تسترق السمع فقال نعم هل لك أن تكون معي قلت نعم فلما جاء الليل أتاني وقال حول وجهك فحولت وجهي فإذا هو في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير فقال لي استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا
____________________

تفارقني تهلك ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي فلما كان الليل جاء فقلتهن فاضطرب فلم أزل أقولهن حتى صار رمادا وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة بشيء فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جنى فيشك بأن الله تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين فليتأمل
وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله والذي نفسي بيده إن لا حول ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء أدناها الهم والغم والحزن وفرق بين الغم والهم بأن الغم يعرض منه السهر والهم يعرض منه النوم
وفي حكمة آل داود العافية ملك خفى وهم ساعة هرم سنة وقال الأطباء الهم يوهن القلب وفيه ذهاب الحياة كما أن في الحزن ذهاب البصر وفي الحديث من كثر همه سقم بدنه فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمى بها قبل الولادة وبعدها إلى البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها وعند البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد بخلاف الكثرة ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة أو أنها قبل البعث كانت ترمى من جانب دون آخر وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه الإشارة بقوله تعالى { ويقذفون من كل جانب دحورا } فكان ذلك سببا للفزع والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة وإلا فمجرد الرمى من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة ولما انقطعت الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب أيها الناس أمسكوا على أموالكم فإنه لم يمت من في السماء ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر كذا في كلام بعضهم ولعله لا يخالف ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له
____________________

عمرو بن أمية ولرجل آخر يقال له عبدياليل لجواز أن يكون ما ذكر هنا صدر من بعضهم لبعض ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم
وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمى به الشياطين المسترقون نفس النجم وإنه المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح والشهاب وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب ويكون معنى { وجعلناها رجوما } جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب ومعنى كونها حفظا بإعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب
وقالت الفلاسفة إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند إرتفاع الأبخرة المتصاعدة وإتصالها بالنار التي دون الفلك وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود فقد حكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف
ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل بالمساجد مخلوقة من نور إنها معلقة بأيدي ملائكة ويعضد هذا القول قوله تعالى { إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت } أن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة وقيل إن هذا ثقب في السماء وقد وقع في سنة تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد ودام ذلك إلى الفجر وأفزع الخلق فلجئوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول قد وقع نظير ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث ماجت النجوم في السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل كان أمرا مزعجا لم ير مثله ووقع في سنة ثلثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق والله أعلم
وأما ما جاء من ذكره صلى الله عليه وسلم أي ذكر اسمه وصفته أمته في الكتب القديمة أي كالتوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام لست ليال خلون من رمضان اتفاقا والإنجيل المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام لثنتى عشرة خلت من رمضان وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة والزبور المنزل على داود عليه الصلاة والسلام لثنتي عشرة وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة وقيل في ست خلت من رمضان
____________________

وصحف شعياء ويقال له أشعياء أو مزامير داود وصحف شيث فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة وقيل ستون وصحف إبراهيم فقد أنزل عليه عشرون صحيفة وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان اتفاقا وفي كتاب شعيب ولم يذكر صحف إدريس وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة
وذكر بعضهم أن موسى عليه الصلاة والسلام أنزل عليه قبل التوراة عشرون صحيفة وقيل عشر صحائف وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب
وفي كلام بعضهم أتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان
وعن أبي قلابة أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان وحينئذ يكون من حكى الإتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به فقد أشار إلى ذكره صلى الله عليه وسلم في جميع الكتب المنزلة الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وفي كل كتب الله نعتك قد أتى ** يقص علينا ملة بعد ملة **
وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم ** ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ** به زبور وتوراة وإنجيل **
وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت بشارتهما به صلى الله عليه وسلم وأما الزبور فلا ندرى ولا نقول إلا ما نعلم ويرده ما ذكره الإمام السبكي وسنده قوله تعالى { وإنه لفي زبر الأولين } أي كتبهم فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم وسيأتي أيضا التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء إن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء والأرض كما تقدم
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } أن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فأنزل الله الآية وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا وقيل أي يحمى الحرم من الحرام واسمه في التوراة أيضا قدمايا أي الأول السابق واسمه فيها أيضا ينديند واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد أي يمنع نار جهنم عن أمته واسمه فيها أيضا طاب طاب أي طيب واسمه فيها ايضا كما
____________________

في الشفاء محمد حبيب الرحمن ووصف فيها بالضحوك أي طيب النفس وفيها محمد بن عبدالله ولده بمكة ومهاجرة إلى طابة وملكه بالشام والتوراة أي على فرض أن تكون اسما عربيا مأخوذة من التورية وهو كتمان السر بالتعريض لأن أكثرها معاريض من غير تصريح واسمه في الإنجيل المنحمنا والمنحمنا بالسريانية محمد
أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة قال كنت يتيما في حجر عمي فأخذت الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد صلى الله عليه وسلم فجاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال مالك وفتح هذه الورقة وقراءتها فقلت فيها وصف النبي أحمد فقال إنه لم يأت بعد أي الآن
أي وفي الإنجيل اسمه حبنطا أي يفرق بين الحق والباطل ووصفه بأنه صاحب المدرعة وهي الدرع وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير وسيأتي أن راكب الحمار عيسى عليه الصلاة والسلام وراكب الجمل محمد صلى الله عليه وسلم وسيأتي الجواب وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي وأنا أطلب إلى ربي فيعطيكم بارقليط والبارقليط لا يجيئكم مالم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه ما يسمع يكلمهم به ويسوسهم بالحق ويخبرهم بالحوادث والغيوب أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب إلا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والبارقليط أو الفارقليط الحكيم والرسول قيل والإنجيل أي على فرض أن يكون إسما عربيا مأخوذ من النجل وهو الخروج ومن ثم سمى الولد نجلا لخروجه أو مشتق من النجل وهو الأصل يقال لعن الله أناجيله أي أصوله فسمى هذا الكتاب بهذا الإسم لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم أي لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم
ومن ذلك ما جاء عن عطاء بن يسار قال لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك بالمتوكل ليس بفظ أي سيء الخلق ولا غليظ أي شديد القول ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق أي لا يصبح فيها وفي الحديث أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب
____________________

في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجها عن إستقامتها بأن يقول لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا أي لا تفهم كأنها في غلاف قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه فسألته فما أخطأ في حرف
أقول لكن في رواية كعب وأعطى المفاتيح ليبصرن الله به أعينا عورا وليسمع به آذانا صما ويقيم به ألسنة معوجة يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف وفيها وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما
وعن بعض أحبار اليهود أنه قال على جميع ما وصف به صلى الله عليه وسلم في التوراة وقفت إلا هذين الوصفين وكنت أشتهي الوقوف عليها فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به وذكر له أنه لم يكن عنده ما يعينه به فقلت هذه دنانير ندفعها له وتكون على كذا من التمر ليوم كذا ففعل فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت ألا تقضيني يامحمد في حقي إنكم يا بني عبدالمطلب مطل فقال لي عمر أي عدو الله تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وهم بي فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة أي المطالبة أذهب وأوفه حقه وزده عشرين صاعا مكان مارعته أي خفته فأسلم اليهودي وذكر القصة
وفي التوراة لا يزال الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم أي لا يزال أمرهم ظاهرا إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم أي المرسل إليهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه المرسل لجميع الأمم
وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص التوراة في محل آخر إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي وقد قال لي إنه سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم وأجعل كلمتي في فيه وأيما إنسان لم يطع كلامه أنتقم منه لأن قوله مثلي أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع وذكر المبدإ والمعاد لأن يوشع لم يكن له كتاب بل كان متابعا لسنة موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل خاصة وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم فلو كان يوشع لقال منكم
____________________


وما زعمه النصارى إنه المسيح رد عليهم بنصوص الإنجيل التي منها إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم لأنه من نسل داود ففي زبور داود سيولد ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسمعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ
وفي الإنجيل جاء الله من طور سينا وظهر بساعير وأعلن بفارن أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم لأن ظهور نبوة موسى كان في طور سينا وتقدم أنه جبل بالشام قيل هو الذي بين مصر وإيليا وأنزلت التوراة عليه فيه وظهور نبوة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة وبإسمها سمى من اتبعه وأنزل عليه الإنجيل بها وظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان في فاران وهي مكة وأنزل عليه القرآن بها
وفي التوراة أن إسمعيل أقام بقرية فاران وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده ومن ثم قيل لها صحف وإطلاق الكتب عليها مجاز ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور
وقد قيل في تفسير قوله تعالى { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } إنهم يجدون نعته { يأمرهم بالمعروف } وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام { وينهاهم عن المنكر } وهو الشرك { ويحل لهم الطيبات } وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي حرمتها الجاهلية { ويحرم عليهم الخبائث } التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير { ويضع عنهم إصرهم } من تحريم العمل يوم السبت وعدم قبول دية المقتول وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم
____________________


ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي رضي الله تعالى عنه وكان من أحبار يهود باليمن قال لما سمعت بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه وسألته عن أشياء ثم قلت له إن أبي كان يختم على سفر ويقول لاتقرأه على يهود حتى تسمع بنيى قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه أنت خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وإسمك أحمد صلى الله عليه وسلم وأمتك الحمادون أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد وأناجيلهم في صدورهم أي يحفظون كتابهم لا يحضرون قتالا إلا جبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه ثم قال لي يعني أباه إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يانعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ثم قال أشهد أني رسول الله
أقول والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة وقطعه عضوا عضوا وهو يقول إن محمدا رسول الله وإنك كذاب مفتر على الله ثم حرقه بالنار أي ولم يحترق كما وقع للخيل
وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه فقال عمر الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل وهذا السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم للكفار بل ظاهره كل قتال صدر حتى من جميع الأمة وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة لا يلقون أي أمته عدوا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح
وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم زيادة على ما سبق يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم
وقد جاء ائتزوا كما رأيت الملائكة أي ليلة الإسراء تأتزر أي مؤتزرة عند ربها إلى أنصاف سوقها
____________________


وقد جاء عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة وكلاهما أي الإتزار وأرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة
وقد جاء إن العمائم تيجان المسلمين وفي رواية من سيما المسلمين أي علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم
ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضئون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضئون ويوافقه قول الحافظ ابن حجر إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا يقول الله تبارك وتعالى افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء أي أن يكونوا طاهرين أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا في فتح مكة كما سيأتي
ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال هذا وضوء الأمم قبلكم ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلى فإن هذا يفيد أن الوضوء كان للأمم السابقة لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا وعليه فالخاص بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها بالغرة والتحجيل
وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم
وفي كلام ابن عبدالبر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون ولا أعرفه من وجه صحيح وفي كلام ابن حجر والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة والتحجيل هذا كلامه وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من خصائصنا غير مقطوع به بل الأمر فيه على الإحتمال
ولا يخفى أن الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوء الأمم يدل على الترتيب فقد أستدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتبا باتفاق أصحابه ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين وما اعترض به على دعوى الإتفاق
____________________

بأنه جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم فتوضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه أجيب عنه بضعف هذه الرواية
وعلى تقدير صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم أعاد غسل رجليه والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه
وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم دويهم في مساجدهم كدوي النحل وفي رواية أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل رهبان بالليل ليوث بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر أي وهوالقرآن
وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى يا عيسى إني باعث من بعدك نبيا أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون صبروا وأحتسبوا ولا حلم ولا علم قال كيف يكون ذلك لهم ولاحلم ولاعلم قال أعطيهم من حلمي وعلمي وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم كامل وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه ويدل لذلك ما ذكره بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما شهد به حديث إن الله قسم بينكم أخلاقكم قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه وجاء أنهم مسمون في التوارة صفوة الرحمن وفي الإنجيل حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء
وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار كيف تجدني يعني في التوراة قال خليفة قرن من حديد أمير شديد لا تخاف في الله لومة لائم وزاد عن جواب السؤال قوله ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع البلاء بعد
وفي صحف شعياء اسمه صلى الله عليه وسلم ركن المتواضعين وفيها إني باعث نبيا أميا أفتح به آذنا صما وقلوبا غلفا وأعينا عميا مولده بمكة ومهاجرته بطيبة وملكه بالشام رحيما بالمؤمنين يبكى للبهيمة المثقلة ويبكى لليتيم في حجر الأرملة لو يمر إلى
____________________

جنب السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه إلى آخر الرواية فإن فيها طولا وقد ساقها الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام
ولما نهى بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها
وكان من جملة الرسل الذين عناهم الله تعالى بقوله { وقفينا من بعده } أي موسى { بالرسل } وهم سبعة وهو ثالث تلك الرسل السبعة أي وهو المبشر بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما وسلم فقال يخاطب بيت المقدس لما شكا له الخراب وإلقاء الجيف فيه أبشر يأتيك راكب الحمار يعني عيسى وبعده راكب الجمل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وتقدم في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه يركب الحمار والبعير
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يركبهما هذا تارة وهذا أخرى فليتأمل ومن جملتهم أرمياء قيل وهو الخضر والله أعلم
واسمه صلى الله عليه وسلم في الزبور حاط حاط والفلاح الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق أي يفرق بين الحق والباطل وهو كما تقدم معنى فارقليط أو بارقليط بالفاء في الأول والموحدة في الثاني
وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية وفي الينبوع ومن الألفاظ التي رضوها لأنفسهم يعنى النصارى وترجموها على إختيارهم أن المسيح عليه الصلاة والسلام قال إني أسأل الله أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء ويفسر لكم الأسرار وهو يشهد لي كما شهدت له ويكون خاتم النبيين ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر صاحب الدر المنظم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه يا عمر أتدري من أنا أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى وفي الإنجيل لعيسى وفي الزبور لداود ولا فخر أي لا أقول ذلك على سبيل الإفتخار بل على
____________________

سبيل التحدث بالنعمة يا عمر أتدري من أنا أنا اسمي في التوراة أحيد وفي الإنجيل البارقليط وفي الزبور حمياطا وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر
وذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره أن من فضائله صلى الله عليه وسلم ما رواه مقاتل بن سليمان قال وجدت مكتوبا في زبور داود إني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي ووصف في مزامير داود بأنه يقوى الضعيف الذي لاناصر له ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت ويدوم ذكره إلى الأبد وبالجبار ففيها تقلد أيها الجبار سيفك
فإن قيل قال الله تعالى { وما أنت عليهم بجبار } أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق والثاني هو المتكبر وفيها يا دواد سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي على فرض وقوع ذلك الذنب والمراد به خلاف الأولى من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعد سيئة بالنسبة لمقام المقربين لعلو مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء
وفي بعض مزامير داود إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا وصهيون اسم مكة والإكليل الإمام الرئيس وهو محمد صلى الله عليه وسلم
وفي صحف شيث أخوناخ ومعناه صحيح الإسلام وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة مختلفة بالزيادة والنقص
وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ وقيل إن ذلك في التوراة ولا مانع من وجوده فيهما وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب ولا مانع من وجود الوصفين في تلك الصحف
وفي كتاب شعيب عليه السلام عبدي الذي يثبت شأنه أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي لا يضحك أي مع رفع الصوت ومن ثم قال ولا يسمع صوته في الأصوات لأن ضحكه كان ابتسم يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيى القلوب الغلف وما لا أعطيه أحدا وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة أي زاهي يحمدالله حمدا جديدا أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد يأتي من أقصى
____________________

الأرض لعل المراد به مكة به تفرح البرية وسكانها وهو ركن المتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفأ سلطانه على كتفه وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب والمراد بسلطانه على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته
أي وذكر ابن ظفر أن في بعض كتب الله المنزلة إني باعث رسولا من الأميين أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم وأجعل الحكمة منطقه والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والإسلام ملته أرفع به من الوضيعة وأهدى به من الضلالة وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة وأجعل أمته خير الأمم
وأما ما جاء مما يدل على وجوه اسمه الشريف أعنى لفظ محمد مكتوبا في الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير
من ذلك ما جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله قال المراد فص خاتمه
فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن فص خاتم سليمان بن داوود كان سماويا أي من السماء ألقى إليه فوضعه في خاتمه أي وكان به انتظام ملكه وكان نقشه أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي وحينئذ يكون ما تقدم عن حابر وما يأتي يجوز أن يكون روى بالمعنى وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا جامع وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه
وفي أنس الجليل كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح وسيد أمين وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة محمد
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يارب أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا غفرت لي قال وكيف عرفت محمدا وفي لفظ كما في الوفاء وما محمد ومن محمد قال لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق
____________________

إليك قال صدقت يا آدم ولولا محمد لما خلقتك أي وفي لفظ كما في الشفاء قال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع أسمك فأوحى الله تعالى إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك
وفي الوفاء عن ميسرة قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء وكتب اسمي أي موصوفا بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد أي قبل أن تدخل الروح جسده فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا بإسمي إليه أي فقد وصف صلى الله عليه وسلم بالنبوة قبل وجود آدم
وفي أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد آدم أي الخلق أكرم على الله تعالى فقال بعضهم آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وقال آخرون بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله عز وجل فذكروا ذلك ذلك لآدم فقال لما نفخ في الروح لم تبلغ قدمي حتى استويت جالسا فبرق لي العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله عز وجل قيل وكان يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا وتقدم أنه يكنى بأبي محمد في الجنة
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أخبرنا عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده قال نعم يا أمير المؤمنين قرأت أن إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني والثاني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي طوبى لمن آمن به واتبعه والثالث أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي ولينظر الرابع
أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلب منها الجبال وفرت منها الوحوش فظن الناس أن القيامة قد قامت وابتهلوا إلى الله تعالى فنظروا فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال
____________________

ثم تأملوا الوحوش فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها ثلاثة أسطر سطر فيه لا إله إلا أنا فاعبدون وسطر فيه محمد رسول الله القرشي وسطر ثالث فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة والقيامة قد أزفت أي قربت
وجاء أن آدم عليه الصلاة والسلام قال طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا عليه ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه ولقد رأيت اسمه صلى الله عليه وسلم على نحور الحور العين وورق آجام الجنة وشجرة طوبي وسدرة المنهى والحجب وبين أعين الملائكة وهذا الحديث قد حكم بعض الحفاظ بوضعه
أي وقد قيل إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ بسم الله الرحمن الرحيم إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر على نعمائي ورضي بحكمي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة من الصديقين وفي روية مكتوب في صدر اللوح المحفوظ لا إله إلا الله دينه الإسلام محمد عبده ورسوله فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة
وفي رواية لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن آدم عليه الصلاة والسلام قال وجدت اسم محمد صلى الله عليه وسلم على ورق شجرة طوبى وعلى ورق سدرة المنتهى أي وعلى ورق قصب آجام الجنة ومن ثم قال السيوطي في الخصائص الكبرى من خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف مع اسم الله تعالى على العرش وفيها ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن ومكتوب اسمه صلى الله عليه وسلم على سائر ما في الملكوت أي من السموات والجنان وما فيهن
____________________


وفي الخصائص الصغرى له أيضا ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت
أقول ولا يخالف هذا أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان الله أكبر الله أكبر مرتين أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين قال آدم من محمد قال جبريل هو أخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون آدم عليه السلام أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر بأنه آخر الأنبياء من ذريته وأنه لولا ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذا الحديث مجاهيل
وذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي ولا رفعت هذه الخضراء لا بسطت هذه الغبراء وفي رواية عنه ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا
وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه صلى الله عليه وسلم ** لولاه ما كان لا فلك ولا فلك ** كلا ولا بان تحريم وتحليل **
بأن قوله لولاه ما كان لافلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك فيقال له بل جاء في السنة ما يدل على ذلك والله أعلم
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال غزونا الهند فوقعت في غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض لا إله إلا الله محمد رسول الله
وعن بعضهم رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته في الورقة ثلاثة أسطر الأول لا إله إلا الله والثاني محمد رسول الله والثالث إن الدين عند الله الإسلام
وعن بعض آخر قال دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود ينفتح عن وردة كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة
____________________

كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها شيء كثير وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة
ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر الهند فأرسينا في جزيرة فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه بالأصفر براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم لا إله إلا الله محمد رسول الله
أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال رأيت في بلاد الهند شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة لا إله إلا الله محمد وسول الله كتابة جلية وهم يتبركون بتلك الشجرة ويستسقون بها إذا منعوا الغيث هذا وفي مزيل الخفاء الإقتصار على لا إله إلا الله أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا
أي ومن ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها فخرج من حول الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول اله فصاروا يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجل الطيب
ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب فيها بخط بارع بلون أسود محمد ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمكة مكتوب على جنبها الأيمن لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله قال فلما رأيتها ألقيتها في النهر إحتراما لها
وعن بعض آخر قال ركبت بحر الغرب ومعنا غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء فنظرنا فإذا مكتوب بالأسود على أذنها الواحد لا إله إلا الله وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى محمد رسول الله فقذفناها
وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء وإذا على قفاها مكتوب بالأسود لا إله إلا الله محمد رسول الله
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فيها دودة
____________________

خضراء مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا يقرون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وحصل منهم افتتان ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة شديدة البياض فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين وأحالت بين السماء والبلد فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح لا إله إلا الله محمد وسول الله فلم تزل كذلك إلى وقت العصر فتاب كل من كان افتتن وأسلم أكثر من كان بالبلد من اليهود والنصارى
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بلغني في قول الله تعالى { وكان تحته كنز لهما } قال كان ولوحا من ذهب وقيل لوح من رخام مكتوب فيه عجبا لمن أيقن بالموت أي بأنه يموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالحساب اي أنه يحاسب كيف يغفل عجبا لمن أيقن بالقضاء أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك عجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي لفظ لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي
وفي تفسير القاضي البيضاوي عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
أقول قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح وما ذكر ثانيا في الوجة الثاني أو أن بعض الرواة زاد وبعضهم نقص وبعضهم روى بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما
وقد قال محمد بن المنكدر إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله وستره
ويذكر أن بعض العلوية هم هرون الرشيد بقتله فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله
____________________


فقيل له بماذا دعوت حتى نجاك الله فقال قلت يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي كذا في العرائس والله أعلم
ومن ذلك ما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين
أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا على أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدى أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة وفيها مكتوب محمد بخط في غاية الحسن والبيان
وما حكاه بعضهم قال شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة محمد رسول الله
وذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوة وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهي على الجبين لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق يهدى به من يشاء يهدي به من يشاء قال الشيخ عبدالوهاب وتكرير ذلك لحكمة فإن الله لا يسهو هذا كلامه وقد يقال لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية
وعن الزهري قال شخصت إلى هشام بن عبدالملك فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية فأرشدت إلى شيخ يقرؤه فلما قرأه ضحك وقال أمر عجيب مكتوب عليه باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران
____________________

& باب سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه
عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبلي أن أبعث إني لأعرفه الآن قال جاء في بعض الروايات أن هذا الحجر هو الحجر الأسود أي وقيل غيره وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق الحجر أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق ذكر أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ عليه بمرفقه وهوالذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر الأصابع
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أي لحاجة الإنسان أبعد حتى لا يرى ببناء ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال الصلاة والسلام عليك يا رسول الله وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا هو إلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** لم يبق من حجر صلب ولا شجر ** إلا وسلم بل هناه ما وهبا **
وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله ** والجمادات أفصحت بالذي أخ ** رس عنه لأحمد الفصحاء **
أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه أي بالشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم الكفار من قريش وغيرهم
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله
أقول وإلى تسليم الحجر قبل البعثة يشير الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وما جزت بالأحجار إلا وسلمت ** عليك بنطق شاهد قبل بعثة **
____________________


وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوحى إلى جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له صلى الله عليه وسلم بمكة من يشهد أنك رسول الله قال تلك الشجرة ثم قال لها من أنا فقالت رسول الله فليس من المترجم له
وفي الخصائص الصغرى وخص بتسليم الحجر وبكلام الشجر وبشهادتهما له بالنبوة وإجابتهما دعوته
وفي كلام السهيلي يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم وعلى كل هو علم من أعلام النبوة
وفي كلام الشيخ محيى الدين ابن العربي أكثر العقلاء بل كلهم يقولون عن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا جاءهم عن نبي أو ولي أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم
وقد ورد أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من علم وأطال في ذلك وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك إندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله عز وجل ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك والله أعلم & باب بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمه للعالمين وكافة للناس أجمعين وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم أي فهم وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن السبكى
____________________


فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين قال وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير والعلم بالأثر وقيل بزيادة يوم وقيل بزيادة عشرة أيام وقيل بزيادة شهرين وقيل بزيادة سنتين وهو شاذ وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين وما قيل إنه بزيادة خمس سنين قال بعضهم والأربعون هي سن الكمال ونهاية بعث الرسل أي لا يرسلون دونها ومن ثم قال في الكشاف ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة هذا كلام الكشاف وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل ذلك فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى أ هـأي وعليه جرى غير واحد من المفسرين بل قال في ينبوع الحياة لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه
وفي الهدى وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنه فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه هذا كلامه ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في العرائس ولما تمت له يعنى عيسى عليه الصلاة والسلام ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز لناس ويدعوهم ويضرب الأمثال لهم ويداوي المرضى والزمني والعميان والمجانين ويقمع الشياطين ويذلهم ويدحرهم ففعل ما أمر به وأظهر المعجزات فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة ايام من موته
وعبارة الجلال المحلي في قطعة التفسير أحيا عيسى عليه الصلاة والسلام أربعة عازر صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح هذا كلامه وذكر البغوي قصة كل واحد فراجعه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يمشى على الماء ومكث في الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزى وأما حديث وما من نبي إلا نبي بعد الأربعين فموضوع لأن عيسى عليه الصلاة والسلام نبئ ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة أي نبيء وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بل قيل نبىء وهو طفل فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء هذا كلامة أي وفيه أن هذا بمجرده لا يدل على وضع الحديث ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي ونبىء نوح وهو ابن خمسين سنة وقيل
____________________

أربعين ويوافقه أيضا قول بعضهم ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة وقصة سيدنا يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى { وآتيناه الحكم صبيا } النبوة لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك بل أحكم إليه عقله في صباه واستنبأه قيل كان ابن سنتين أو ثلاث
ولما ولى الخلافة المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولى الأمر وهو غير بالغ واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ وذكر فيه كل من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان قال بعضهم وهو كتاب حسن فيه فوائد كثيرة
وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة
ومما يدل على ما تقدم عن الهدى أي من إنكار أن عيسى عليه الصلاة والسلام رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قوله بعضهم الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته لإبنته فاطمة رضي الله تعالى عنها أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذل كان قبله وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين وفي الجامع الصغير ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنيباء عمرا ومن ثم قيل له كبير الأنبياء وشيخ المرسلين وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله وقال العماد بن كثير إنه غريب جدا وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلى فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه أي ينتظرون فراغه من الصلاة لأن نزول { والله يعصمك من الناس } كان قبل هذا حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي زاد في رواية لا أقولهن فخرا أما أولاهن فأرسلت إلى الناس كلهم عامة أي من في زمنه وغيرهم ممن تقدم أو تأخر أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي وكان من قبلي وفي لفظ وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة ومن الأول نوح فإنه كان مرسلا لجميع من
____________________

كان في زمنه من أهل الأرض ولما أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين أربعين رجلا وأربعين امرأة
وفي عوارف المعارف أصحاب السفينة كانوا أربعمائة وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة دعا على من عدا من ذكر بإستئصال العذاب لهم فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن ولو لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام لقوله تعالى { وما كنا معذبين } أي حتى في الدنيا { حتى نبعث رسولا }
وقد ثبت أن نوحا أول الرسل أي لمن يعبد الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم وأرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه وذكر بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة لأن الله تعالى أمره أن يأمرها وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه بقوله تعالى { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } وذلك عين الإرسال كما ادعاه بعضهم
فعلم أن عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام لجيمع أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد الطوفان إلا مؤمن فصارت رسالة نوح عليه الصلاة والسلام عامة ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قيل كان بين الدعوة والطوفان مائة عام وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به إلا أن الإشراك به وعبادة الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده
وأما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني إنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل وإنه صادق ففاسد لأنهم إذا سلموا أنه رسول الله وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض لأنه ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله لكل الناس
أقول قال بعضهم ولا ينافيه قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه }
____________________

لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه أولا ثم يبلغ الشاهد الغائب ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسل إليهم فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مبعوثين لبني إسرائيل بكتابيهما العبراني أي وهو التوراة والسرياني وهو الإنجيل مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام فإن لغتهم اليونانية والله أعلم
وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر أي أمامه وخلفه بملأ مني رعبا أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه صلى الله عليه وسلم وجعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أي المحاربين له أكثر من شهر
أي وجاء أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ذهب هو وجنده من الإنس والجن وغيرهما إلى الحرم وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ قال لمن حضر من أشراف جنده هذا مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم ثم قالوا فبأي دين يا نبي الله يدين قال بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به قالوا كم بين خروجه وزماننا قال مقدار ألف عام
وأشار إلى الثالثة بقوله وأحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي أي من أمر الجهاد منهم يعطونها ويحرمونها أي لأنهم كانوا يجمعونها أي والمراد ما عدا الحيوانات من الأمتعة والأطعمة والأموال فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء ولا يجوز للإنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء وجاء في بعض الروايات وأطعمت أمتك الفىء ولم أحله لأمة قبلها أي والمراد بالفيء ما يعم الغنيمة كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء هذا وفي بعض الروايات وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجىء النار أي نار بيضاء مع السماء فتأكله أي حيث لا غلول وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي وفي تكملة تفسير الجلال السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد فلا يخالف ما سبق
____________________


وأشار إلى الرابعة بقوله وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت أي تيممت حيث لا ماء وصليت فلا يختص السجود منها بموضع دون غيره وكان من قبلي لا يعطون ذلك أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم أي ولم يكن أحد منهم يتيمم لأن التيمم من خصائصنا وفي رواية جابر ولم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه
وجاء في تفسير قوله تعالى { واختار موسى قومه } الآيات من المأثور أن الله تعالى قال لموسى أجعل لكم الأرض مسجدا فقال لهم موسى إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا قالوا لا نريد أن نصلى إلا في كنائسنا فعند ذلك قال الله تعالى { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } إلى قوله { المفلحون } أي وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه أنه قيل إن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسيح في الأرض يصلى حيث أدركته الصلاة ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين ما تقدم من قوله لم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه إلا أن يقال لا يصلى مع أمته إلا في محرابه
وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فخص بأنه كان يصلى حيث أدركته الصلاة وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك
وأشار إلى الخامسة بقوله قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله وهي لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد أي إخراج من ذكر من النار لأن شفاعة غيره صلى الله عليه وسلم تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي عياض
أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم الله عز وجل وقد جاء إن أول شافع جبريل ثم إبراهيم ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعد أحد فيما يشفع فيه
وفي الحديث آتى تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي يا رب أمتى فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان وفي لفظ حبة من خردل وفي لفظ أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه أي من النار فانطلق فأفعل أي أخرجه من النار وأدخله الجنة
____________________


وله صلى الله عليه وسلم شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة الصراط ففي الحديث فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا فيأذن الله لي في حمده وتمجيده ثم يقول ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه فأقول يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة فيأذن الله تعالى في الشفاعة إلى آخر ما تقدم
ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من النار إنما تكون منه صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة فما تقدم من قوله آتى تحت العرش فأخر ساجدا إلى آخره إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء فهذا خلط من بعض الرواه أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل القضاء بالشفاعة بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار والشفاعة في فصل القضاء هي المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم وأعطيت الشفاعة فقد قال ابن دقيق العيد الأقرب أن اللام فيها للعهد والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون المعنى بقوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه تجمع الناس في صعيد واحد فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك ولك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت
وقد هاجب فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية أعنى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة معناه أن يجلسه الله تعالى على عرشه وقال غيرهم بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء فدام الخصام إلى أن اقتتلوا فقتل كثيرون
وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم لي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن
وفي كلام بعضهم له صلى الله عليه وسلم تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء جرى في إختصاصه ببعضها خلاف وهي الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا عقاب قال النووي وجماعة هي مختصة به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها قال القاضي عياض وغيره ويشترك فيها من يشاء
____________________

الله تعالى والشفاعة في أخراج من أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من ذرة من إيمان ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون وظاهر هذا السياق أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من الأمم وهو يخالف قول بعضهم جاء في الصحيح فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله أي ومات على ذلك قال ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله
ولا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي وفي رواية ثلثي أمتي الجنة أي بلا حساب ولا عذاب وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم
لأنا نقول المراد بالذين تنالهم شفاعته صلى الله عليه وسلم ممن مات لا يشرك بالله شيئا خصوص أمته وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وجوز النووي إختصاصها به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي لهب في كل إثنين بالنسبة لأبي لهب والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة ولعل المراد أنه لا يحاسب
قد أوصل ابن القيم شفاعاته صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من عشرين شفاعة وفي رواية أعطيت مالم يعطه أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض أي وفي لفظ وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي ولا منافاة لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة بعد أن أعطيه مناما وسميت أحمد أي ومحمدا أي لأن أحد من الأنبياء لم يسم بذلك فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأنبياء كذا في الخصائص الصغرى وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس وفي وصفه صلى الله عليه وسلم نفسه بما ذكر وقول عيسى عليه الصلاة والسلام إني عبدالله الآية وقول سليمان عليه الصلاة والسلام { علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في كتبهم وهذا مأخوذ من قوله تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث } ومن قوله صلى الله عليه وسلم
____________________


التحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر قال الله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
صعد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المنبر فقال الحمدلله الذي صيرني ليس فوقي أحد ثم نزل فقيل له فقال في ذلك فقال إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر
وعن سفيان الثوري رحمه الله من لم يتحدث ينعمة الله فقد عرضها للزوال
والحق في ذلك التفصيل وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين وأحمد الحامدين ويوم القيامة يحمده الأولون والآخرون لشفاعته لهم فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد وتقدم أن هذا يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول
وقد جاء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وجعلت أمتي خير الأمم
قال القاضي البيضاوي وفي التسمية بالأسماء العربية تنويه إلى تعظيم المسمى هذا كلامه وفي رواية لما أسرى بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى قيل لي قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم أي بوقوفهم على أخبارهم ولا أفضحهم عند الأمم أي لتأخرها عنهم وعليه فالضمير في دنا يعود إليه صلى الله عليه وسلم فالضمير في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف وفي رواية نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وفي رواية نحن آخر الأمم وأول من يحاسب تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضى غرا محجلين من أثر الطهور وفي رواية من آثار الوضوء فتقول الأمم كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها هذا وفي رواية غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء وفي رواية فضلت على الأنبياء بست أي ولا مخالفة بين ذكر الخميس أولا وبين ذكر الست هنا لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي هذا على اعتبار مفهوم العدد ثم أشار إلى بيان الست بقوله صلى الله
____________________

عليه وسلم أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر
قال الجلال السيوطي وهذا القول أي إرساله للملائكة رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه أيضا البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات وأزيد على ذلك أنه أرسل إلى نفسه
وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع ومشيت عليه في شرح التقريب وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي وعليه فيكون قوله صلى الله عليه وسلم أرسلت للخلق كافة وقوله تعالى { ليكون للعالمين نذيرا } من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص
ولا يشكل عليه حديث سلمان إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده لأنه يجوز أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم ولا يشكل عليه ما ورد بعثت إلى الأحمر والأسود لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم وفي الشفاء وقيل الحمر الإنس والسود الجان واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله تعالى { ومن يقل منهم } أي من الملائكة { إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } فهي إنذار للملائكة على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم الذي أنزل عليه فثبت بذلك إرساله إليهم ودعوى الإجماع منازع فيها فهي دعوى غير مسموعة ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الإستدلال وهو واضح وذكر تسعة أدلة أيضا وهي لا تثبت المدعى الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها
فعلم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم لأن الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم فنبوته ورسالته أعم وأشمل وتكون شريعته في تلك
____________________

الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم لأن الأحكام والشرائع تختلف بإختلاف الأشخاص والأوقات قاله السبكي أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه الصلاة والسلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني
وأخرج أحمد وغيره عن عبدالله بن ثابت قال جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين
وفي النهر لأبي حيان إن عبدالله بن سلام أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأمن التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته صلى الله عليه وسلم فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد البعثة على ما تقدم ويأتي وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمه حتى للكفار بتأخير العذاب عنهم ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة وحتى للملائكة قال تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
وقد ذكر في الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل هل أصابك من هذه الرحمة شيء قال نعم كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن بقوله عز وجل { ذي قوة عند ذي العرش مكين }
قال الجلال السيوطي إن هذا الحديث لم نقف له على إسناد فهو صلى الله عليه وسلم أفضل ما سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين وفي لفظ آخر فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأحلت لي الغنائم وجعلت أمتي خير الأمم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الكوثر ونصرت بالرعب والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه وفي رواية فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج وإن معي لواء الحمد أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتى باب الجنة الحديث
____________________


أقول قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج وقال لي شبهة إن أزلتموها أسلمت فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام فقال له النصراني والناس يسمعون أي أفضل عندكم المتفق عليه أو المختلف فيه فقال له الشيخ عز الدين المتفق عليه فقال له النصراني قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى أرتج المجلس واضطرب أهله ثم رفع الشيخ رأسه وقال عيسى قال لبني إسرائيل { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } فيلزمك أن تتبعه فيما قال وتؤمن بأحمد الذي بشر به فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء به ومما جاء به وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية محمد وموسى أيهما أفضل فقال محمد فقيل له ما الدليل على ذلك فقال إنه تعالى أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى { واصطنعتك لنفسي } وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فقرق بين من أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم
وفي رواية إذا كان يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم وفي لفظ ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة أي حلق بابها فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر أي وفي رواية آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح أي بتحريك حلقة الباب أوقرعه بها لا بصوت فيقول الخازن أي وهو رضوان من أنت فأقول محمد وفي رواية أنا محمد فيقول بك أمرت لا أفتح وفي رواية أن لا أفتح لأحد قبلك زاد في رواية ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له فمن خصائصه صلى
____________________

الله عليه وسلم أن رضوان لايفتح إلا له ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري وكون الفاتح له صلى الله عليه وسلم الخازن لا ينافى ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي
وفي رواية أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتى فآخذ بحلقة الجنة فيقال من هذا فأقول محمد فيفتح لي فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له ساجدا أي فالكلام في يوم القيامة فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة مترتب على فتح الباب غالبا لأن ذلك قبل يوم القيامة وفي يوم القيامة يخرج إلى الموقف فيكون مع أمته للحساب ولا ينافيه ماجاء أول من يقرع باب الجنة بلال من حمامة على تقدير صحته لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصلي لا حلقه أو الأول من الأمة والله أعلم
وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحى إليه المعراج الذي أشار إليه قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه الأمة ليس مرادا
وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء على أنه لابد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار ولا بعد في ذلك لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم هذه الأمة فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار ودخل الجنة
وجاء إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا لا حساب عليهم وذلك معارض لقوله صلى الله عليه وسلم أنا أول من يدخل الجنة إلا أن يقال أول من يدخل الجنة من الباب وهؤلاء السبعون ألفا ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة
____________________


ولا يعارض ذلك ما جاء أول من يدخل الجنة أبو بكر لأن المراد أول من يدخلها من رجال هذه الأمة غير الموالي
ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال رضي الله تعالى عنه أنه أول من يقرع باب الجنة لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول فالمراد من الموالي
ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء أول من يدخل الجنة بنتى فاطمة كما لا يخفى لأن المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية
وجاء لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر وعن أنس رض الله تعالى عنه فضلت على الناس بأربع بالسخاء والشجاعة وقوة البطش وكثرة الجماع أي فعن سلمى مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال هذا أطهر وأطيب
ومما يدل على قوة بطشه صلى الله عليه وسلم ما وقع له مع ركانة كما سيأتي وفي الخصائص الصغرى وكان أفرس العالمين فهو صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة
قال ابن عبدالسلام من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أخبره بالمغفرة أي لما تقدم وتأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك أي ولأنه لو وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله بل ومما اختص به صلى الله عليه وسلم وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما اختص به عن الأنبياء وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر أي ولا ينافى ذلك قوله تعالى في حق داود { فغفرنا له ذلك } لأنه غفران لذنب واحد قال ابن عبد السلام بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران ذنوبهم بدليل قولهم في الموقف نفسي نفسي لأني إلى آخره وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به
أقول والذي في مسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي
____________________

أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أي من سمع بنبينا صلى الله عليه وسلم ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار أي ومن جملة ما أرسل به أنه أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر تنبيها على غيرها لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا كتاب له كالمجوسي أولى لأن اليهود كتابهم التوراة والنصارى كتابهم الإنجيل لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى عليه الصلاة والسلام { إنا هدنا إليك } أي رجعنا إليك فمن كان على دين موسى يسمى يهوديا وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية أخذا من قول عيسى عليه الصلاة والسلام { من أنصاري إلى الله } فمن كان على دين عيسى يسمى نصرانيا وكان القياس أن يقال له أنصاري وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية من قرى الشام نزل بها عيسى عليه الصلاة والسلام كما تقدم ولا مانع من رعاية الأمرين في ذلك وجاء في رواية وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة أي والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته وإن أمته صلى الله عليه وسلم حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه الذي أشارت إليه خواتيم سورة البقرة وإن شيطانه صلى الله عليه وسلم أسلم وفي الخصائص الصغرى وأسلم قرينه ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة قال الحافظ ابن حجر ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع
وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى أنه عد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة أي ومن ذلك أي مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو الإسلام على القول الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي رحمه الله
____________________

& باب بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق أي وفي لفظ كفرق الصبح أي كضيائه وإثارته فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره وفي لفظ فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان أي وجد في اليقظة كما رأى فالمراد بالصالحة الصادقة وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير أي ولا يخفى أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد
قال القاضي وغيره وإنما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبوة أي الرسالة فلا تتحملها القوى البشرية أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صوته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة فكانت الرؤيا تأنيسا له صلى الله عليه وسلم والمراد بالملك جبريل لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم
وعن علقمة بن قيس أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي اه أي في اليقظة لأن رؤيا الأنيباء وحي وصدق وحق لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان إذ لا سبيل له عليهم لأن قلوبهم نورانية فما يرونه في المنام له حكم اليقظة فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا ومن ثم جاء نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
قول وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم اجتماع أنواع الوحي الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام وعد منها الكلام من غير واسطة وبواسطة جبريل نظر لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل
____________________

وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول وهو مولده صلى الله عليه وسلم ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره
وجاء في الحديث الرؤيا الصادقة وفي البخاري الرؤيا الحسنة أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة قال بعضهم معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين يوحى إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته صلى الله عليه وسلم وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال كانت الرؤيا ستة أشهر ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا هذا كلامه وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزءا من نبوتي ولا يخفى أن هذا لا يناسب الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح إذ هو يقتضى أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره فليتأمل ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم في هاتين المدتين وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا
ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته صلى الله عليه وسلم ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا
ففي رواية أنها جزء من سبعين جزءا وفي رواية من أربعة وأربعين وفي رواية أنها جزء من خمسين جزءا من النبوة وفي رواية من تسعة وأربعين وفي أخرى أنها جزء من ستة وسبعين وفي أخرى من خمسة وعشرين جزءا وفي أخرى من ستة وعشرين جزءا وفي أخرى من أربعة وعشرين جزءا فإن ذلك بإعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا
وذكر الحافظ أبن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزءا
فعلم أن الرؤية المذكورة جزءمن مطلق النبوة أي كجزء منها من جهة الإطلاع على بعض الغيب فلا ينافى انقطاع النبوة بموته صلى الله عليه وسلم
ومن ثم جاء ذهبت النبوة أي لا توجد بعدي وبقيت المبشرات أي المرائى
____________________

التي كانت مبشرات الأنبياء بالنبوة بدليل ما في رواية لم يبق بعدي من المبشرات أي مبشرات النبوة إلا الرؤيا أي مجرد الرؤيا الخالية عن شي من مبشرات النبوة بدليل ما في لفظ لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أي لنفسه أو ترى له
لا يقال الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم لأنا نقول لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا وفيه أنها واقعة وظاهر سياق الحديث الحصر وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير لأن النذارة ربما قادت إلى الخير
وفي الإتقان ومن المجاز تسمية الشيء بإسم ضده نحو { فبشرهم بعذاب أليم } اه أي وهي في هذه الآية للتهكم
وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا الحسنة من الله والسيئة من الشيطان فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره
وفي رواية إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان كأن يقول أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره زاد في رواية وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه زاد في أخرى وليقم فليصل أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه
وفي البخاري إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها أي ولا يخبر بها إلا من يحب وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان أي لا حقيقة لها وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره وفي الأذكار ثم ليقل اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام وفي الحديث الرؤيا من الله والحلم من الشيطان
قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه بخلاف صاحب الحلم
____________________

فإنه يراه على خلاف ماهو عليه فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد إذا فسد والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم وإذا ذهب النوم عن أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها أي أثرها عن قرب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين
والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضى أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل
وأما الإعلام بالخير فإن يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وهذا جرى على ما هو الغالب وإلا فقد قيل لجعفر الصادق كم تتأخر الرؤيا فقال رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة
وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد وفي رواية أرى نورا أي يقظة لا مناما وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا أمر وفي رواية والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان وإني لأخشى أن أكون كاهنا أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها وتخاطب سدنتها والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية وأخشى أن يكون بي جنون أي لمة من الجن فقالت كلا يا بن عم ماكان الله ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وفي رواية إن خلقك لكريم أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل استدلت رضي الله تعالى عنها بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا لأن من كان كذلك لا يجزي إلا خيرا
ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل عليه السلام بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه
وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول الأمر ويدل لذلك ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم مكث
____________________

خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي إثنان وعشرون سنة وهذا الشي الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو والله أعلم
وبعد ذلك حبب الله إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والإنقطاع عن الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى فيصفوا وتشرق عليه أنوار المعرفة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره أهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد ويروى أولات العدد أي مع أيامها وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة قال بعضهم وأبهم العدد لإختلافه بالنسبة إلى المدد فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهر رمضان أو غيره
وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر وكذا قول بعضهم فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهرا ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر قال السراج البلقيني في شرح البخاري لم يجىء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا
ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة فيمكث جميع الشهر الذي يختلي فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب أدمهم اللبن واللحم وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة
____________________


الأول أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت
الثاني أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا
الثالث أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع بخلاف اللبن واللحم ومن ثم جاء ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وقوله ائتدموا من هذه الشجرة المباركة أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس حتى فجأه الحق وهو في غار حراء أي في اليوم والشهر المتقدم ذكره
وعن عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية أي المتألهين منهم أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب فقد قال ابن الأثير أول من تحنث بحراء عبدالمطلب كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية ابن المغيرة وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله ** ألف النسك والعبادة والخل ** وة طفلا وهكذا النجباء ** ** وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء **
أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا ومثل هذا الشأن العلي شأن الكرام وإنما كان هذا شأن الكرام لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة
فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافى قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن
____________________

تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر يطعم من جاءه من المساكين أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الإنقطاع عن الناس وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره
وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الإنقطاع عن الناس أي لا سيما إن كانوا على باطل لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية ومن ثم قيل الخلوة صفوة الصفوة
وقول بعضهم كان يتعبد بالتفكر أي مع الإنقطاع عما ذكرنا وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في سفر السعادة وقيل بغير ذلك
ومن ذلك الغير أنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ماشاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان وقيل شهر ربيع الأول وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر وقيل رابع عشريه وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول أي وقيل ليلة ثالثة
____________________


قال بعضهم القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه أي أول يوم هبط فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الإثنين ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الإثنين فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفوتك صوم يوم الإثنين لأني ولدت فيه ونبئت فيه فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبيء في اليوم لأن السحر قد يلحق بالليل
وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة منهم الإمام الصرصري حيث قال ** وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان **
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط وهو ضرب من البسط وفي رواية جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب أي كتابة فقال اقرأ فقلت ما أقرأ أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا فغطني أو فغتني بالتاء بدل من الطاء به أي غمني بذلك النمط بأن جعله على فمه وأنفه قال حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي أي وفي رواية فقلت والله ما قرأت
____________________

شيئا قط وما أدري شيئا أقرؤه أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فقرأتها فانصرف عني وهببت أي استيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا
أقول أي أستقر ذلك في قلبي وحفظته ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له يوم الإثنين محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد وسحر يوم الإثنين وهو نائم لا يقظة لقوله ثم هببت من نومي
ولا ينافي ذلك قوله ثم ظهر له بالرسالة أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو اقرأ الحاصل في اليقظة وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في إستقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية ما قرأت شيئا لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلى ولا يبعده أيضا قوله ما أدري ما أقرأ لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الإستقرار التكرر فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى
وفي سيرة الشامي أن مجىء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء وهذا السياق يدل على أنه كان بعده
وفي سفر السعادة ما يقتضى أنه جاء بالنمط يقظة في حرا ونصه فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حرا إذ ظهر له شخص وقال أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال اقرأ قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها قال فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة ثم قال اقرأ باسم ربك هذا كلامه فليتأمل والله أعلم قال فخرجت أي من الغار أي وذلك قبل مجىء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق حتى إذا كنت في شط من الجبل أي في جانب منه سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فإذا جبريل على
____________________

صورة رجل صاف قدميه أي وفي رواية واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء أي نواحيها يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وأنصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة أي في الغار فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها فقال يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
أقول وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حرا وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم
وقد يخالف ذلك ما روى أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده فشق ذلك عليها فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحرا
وقد يقال يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحرا فلم تجده وأن الرسل أخطئوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حرا ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء لإحتمال عوده إليه ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء فإرسالها تكرر مرتين مع إختلاف محلها ويكون قوله وانصرفت راجعا إلى أهلي أي بمكة لا بحراء لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة
هذا على مقتضى الجمع وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا وهويدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي فخرج مرة أخرى إلى حراء قال فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا إلى آخره فليتأمل والله أعلم
قال ثم حدثتها بالذي رأيت أي من سماع الصوت ورؤية جبريل وقوله له
____________________

يا محمد أنت رسول الله فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها أي التي تتجمل بها عند الخروج
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جيريل فقال ورقة قدوس قدوس بالضم والفتح والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له يثبت والقدوس الطاهر المنزه عن العيوب وهذا يقال للتعجب أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان جبريل أمين الله بينه وبين رسله أي لأن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف أي فرغ ما تزوده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر لأن ذلك كان قبل أن يجئ إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته
فعند ذلك صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه و لتقاتلنه ولتخرجنه بهاء السكت ولا تكون إلا ساكنة ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه أي وسط رأسه لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الراس إذا استد وقيل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس وتارة قال سبوح سبوح أو جمع بين ذلك في وقت واحد وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا عتيق إذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أي بعد أن أخبرته بما
____________________

أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة وذهب به إلى ورقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجئ إليه بالقرآن وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات الأولى علي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وذلك قبل أن يرى جبريل والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به وذلك عند إجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف والثالثة التي بعد مجئ جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور من أنه أول ما نزل وذلك على يد خديجة ولاينافى ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد لأن مراده قصة مجئ جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه
وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم ياابن أخي قيل لأنه يجتمع مع عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصي فكان عبدالله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا أي لأن نبوة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيج واتحد به فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد
أقول وفيه أن في رواية وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى وفي الإقتصار على موسى دون الإقتصار على عيسى ما علمت ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح
____________________

الإقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الإقتصار على كل منهما
ولا ينافى ذلك أي مجئ جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي بل في بعض الأحيان وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل هذا كلامه فليتأمل وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر هذا فرعون هذه الأمة والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها جاءه الملك سحرا أي سحر يوم الإثنين يقظة لا مناما أي بغير نمط فقال له اقرأ قال ما أنا بقارئ أي لا أوجد القراءة قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني وفي لفظ فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة أي لا أحفظ شيئا أقرؤه فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي أي شيء أقرؤه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ أو ماذا أقرأ إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الإستفهام خصوصا وقد قدمه قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
أقول فقولنا أي بغير نمط هو ظاهر الروايات ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك فكأنما كتب في قلبي كتابا وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم حوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة
____________________

وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق أي في الحال أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ
وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول والثالث معناه الإستفهام عن أي شيء أن يقرؤه وفيه ماعلمت
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ وحينئذ يكون بمعنى الثاني فيكون تأكيدا له أي الغرض منهما شيء واحد
قال بعضهم وجه المناسة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي تعلم العلم
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الإستهلال وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان قال فيه من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لإبن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات
وذكر السهيلي أن في ذلك أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه
____________________

وسلم الشعب والتضييق عليه والثانية اتفاقهم على الإجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل اقرأ الحديث فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الإمام البخاري وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال اقرأ باسم ربك قال الحافظ ابن كثير هذا الأثر غريب في إسناده ضعف وإنقطاع أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق هذا كلامه والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائض اي وفي رواية فؤاده أي قلبه ولا مانع من إجتماع الأمرين لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال زملوني زملوني أي غطوني بالثياب فزملوه حتى ذهب عنه الروع بفتح الراء أي الفزع ثم أخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي وفي رواية على عقلي كما في الإمتاع قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا أي لا يفضحك إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك وتكسب المعدوم بضم التاء والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو لأن المعدوم أي الشخص المعدوم لا يكسب أي لا يعطى الكسب وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق أي
____________________

على حوادثه فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها أي عم اسمع من ابن أخيك أي وقولها أي عم صوابه ابن عم لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم
قال ابن حجر وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين قالت في مرة أي عم وفي مرة أي ابن عم قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل علي موسى أي صاحب سر الوحي وهو جبريل يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله أي إظهاره الذي جاء به وأنذر أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوى قلبت الواو ياء وأدغمت قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودى أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضى الإخراج فلا يحسن أن يكون علامة عليه وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه
وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل وقال في جواب قوله إنه يخرج أو مخرجي هم إستفهاما إنكاريا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه قال ورقة وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي شديدا قويا من الأزر وهو الشدة الذي في الحديث الصحيح وإن يدركني يومك وسيأتي في بعض الروايات وإن يدركني ذلك قال السهيلي وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي هذا كلامه
____________________


أي وفي بعض الروايات أنه قال لها إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة وفي لفظ إنه لنبي هذه الأمة أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة ولكنه لعله خشى أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل
وفي كلام الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذه الخشية على أثني عشر قولا وأولاها بالصواب وأسلمها من الإرتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه فليتأمل مع رواية خشيت على عقلي
قال وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام فقالت له يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل أي فإن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم فقال عداس قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم فقالت أخبرني بعلمك فيه قال هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى عليهما الصلاة والسلام اه
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر وأن خديجة قالت له أنعم صباحا يا عداس فقال كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش قالت أجل قال أدنى منى فقد ثقل سمعي فدنت منه ثم قالت له ما تقدم وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره وأنهما اشتركا في الإسم والبلد والدين أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة
ففي كلام ابن دحية عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه خديحة تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك
____________________


وفي رواية أن عداسا هذا قال لها يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي امض معي إلى عداس فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول قدوس قدوس أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ و لا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنابقارئ إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول
وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل فقال لها قدوس قدوس يا سيد نساء قريش أنى لك بهذا الإسم فقالت بعلى وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه فقال إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وهذه العبارة أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي وزاد ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فلما مضت ثلاث سنين رن بنبوته جبريل وفي لفظ عنه فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الفيء إلى آخره وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا
____________________


وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك وذلك لا يعرف لغير جبريل ولا ينافى ذلك مجئ غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان
ولك أن تقول إن كان المراد بالمجيء إليه بوحى من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل كان يأتيه بوحي في تلك المدة وجواب الحافظ السيوطي بقتضى أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة ولا يخرجه ذلك عن الإختصاص باسم السفير وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه فأجاب بنعم وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفيه التصريح بأنه يوحى إليه قال والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول
قال وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحى إلهام ساقط قال وحديث لا وحى بعدي باطل أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم جبريل ملك عظيم ورسول كريم مقرب عند الله أمين على وحيه وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم وسماه روح القدس والروح الأمين واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين
قال ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد والله أعلم
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه لما سمع النداء يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } حتى فرغ من السورة أي فلما
____________________

بلغ { ولا الضالين } فقال قل آمين فقال آمين كما في رواية عن وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة وفي الجامع الصغير آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه رد وعدم قبول ومن ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو قال قد وجب إن ختم بآيمن
فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم فإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
أقول هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول { اقرأ باسم ربك } ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول هذا مرسل ورجاله ثقات فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر أي والمدثر نزلت بعد يا أيها المزمل
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول أي القول بأنه اقرأ وأماالذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول هذا كلامه
ثم رأيت الإمام النووي قال القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة ففي تفسير وكيع عن مجاهد فاتحة الكتاب مدنية وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش وفيها عنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } قالت قريش رض الله فاك وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة فهي مكية مدنية هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال وقد صح أنها مكية وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما أي نزلت
____________________

بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة
قال في الإتقان والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني قال ولا دليل لهذا القول هذا كلامه
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية وفيها { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وهي الفاتحة فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
وقد حكى بعضهم الإتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة ويرد دعوى الإتفاق قول الجلال السيوطي وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسع الطوال
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصاحبة بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل { ولقد آتيناك } أي أعطيناك { سبعا من المثاني } مكان سبع قوافل ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية { ولا تحزن عليهم } أي على أصحابك { واخفض جناحك } له فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا
وفي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء وفي لفظ فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن فليتأمل ولها إثنان وعشرون إسما
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين إسما وذكرها الأستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط قال السهيلي ويكره أن يقال لها أم الكتاب أي لما ورد لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب قال الحافظ السيوطي رحمه الله ولا أصل له
____________________

في شيء من كتب الحديث وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى وتارة جوزوا الأمرين معا وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي
ثم رأيت في الإتقان قال قال الزركشي في البرهان ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد عن هذا كلامه ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة قال في أسباب النزول وهذا مما لا تقبله العقول أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب وفي رواية لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب والمراد في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت إلى أن قال ثم اصنع ذلك أي القراءة بأم القرآن في كل ركعة وجاء على شرط الشيخين أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول { يا أيها المدثر } ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي
وقد يقال لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة يدل على أنه نزلت بالمدينة
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم
____________________

فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحدى آياتها
وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمدلله رب العالمين فقيل له إنما هي ست آيات فقال بسم الله الرحمن الرحيم آية وقيل لها السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وقيل المثاني كل القرآن لأنه يثنى فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد
قال بعضهم والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال أي كما أنها المراد بقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } على ما تقدم وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة يونس وقيل براءة وقيل الكهف
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عد البسملة آية من الفاتحة وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين آية فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها
منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيتها فيقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } وفي رواية عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والإستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضى أن البسملة ليست آية من { اقرأ باسم ربك }
____________________

ومن ثم قال الحافظ الدمياطي نزول اقرأ بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة واستدل به أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم هو قول قدماء الحنفية
قال وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة أي سورة اقرأ
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضى سلب القرآنية عنها ورد هذا الرد بأن الإمام الكافيجي قال المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله أي وفي الفتوحات البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة
وفي كلام أبي بكر بن العربي وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد فإنه لم يعدها أحد آية من سائر السور
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور فعن الربيع قال سمعت الشافعي يقول أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة ألم قال بعضهم وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور فإنها ليست آية من أولها بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي وسيأتي ما فيه
____________________


قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة ورده في الفتوحات بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بسم الله الرحم الرحيم فقال كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله { ألم يجدك يتيما } وليس كذلك لأن تلك حال إغتامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال إنشراح الصدر وتطييب القلب فكيف يجتمعان هذا كلامه
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفى كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز ويؤيده قول بعضهم كانوا يخفون البسملة
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن لا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبدالله بن مغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا فقال ذلك وكذا يقال فيما روى
____________________


كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فيقول عبدي اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها
قال أبو بكر بن العربي المالكي فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة والثاني أنها إن صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها وأطال في ذلك وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بإسم اللهم موافقة للجاهلية قيل كتب ذلك في أربعة كتب وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت فلما نزل { بسم الله مجراها ومرساها } كتب بسم الله ثم لما نزل { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كتب بسم الله الرحمن الرحيم كذا نقل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور ويؤيده قول السهيلي ثم كان بعد ذلك أي بعد نزل { وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة أي تمييزا لها عن غيرها وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك هذا كلامه فليتأمل ما فيه فإنه قد يدل للقول بأن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل فقد علمت أن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم
____________________


وفي الإتقان عن الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم على نبي بعد سليمان غيري يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال قال السهيلي إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود وقد كان الجبال تسبح مع داود والله أعلم
ثم لم يلبث ورقة أن توفى قال سبط ابن الجوزي وهو آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون فلم يكن مسلما ويؤيده ما جاء في الرواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ما ت على نصرانيته وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدق بنبوته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما بل من أهل الفترة فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب حرير أي والقس بكسر القاف رئيس النصارى وبفتحها تتبع الشي
هذا وفي القاموس القس مثلث القاف تتبع الشيء وطلبه كالتقسس وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها ورئيس النصارى في العلم وفي رواية أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وفي رواية قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا وأحسبه أي أظنه لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض
أقول صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة فقد تعددت الرؤية وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير فلا دلالة في ذلك على التعدد والله أعلم وفي رواية لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني أي قبل الدعوة التي هي الرسالة وحينئذ يكون معنى قوله له جنة أو جنتين هيئت له جنة أو جنتين ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وجزم ابن كثير بإسلامه
____________________


قال بعضهم وهو الراجح عند جهابذة الأئمة أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق وعن كتاب الخميس وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأنه آمن بي وصدقني واضحا لكن ينازع في ذلك قوله وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة وعن يحيى بن بكير قال سألت جابر بن عبدالله يعني عن ابتداء الوحي فقال لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاودة بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض أي وفي رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي زاد في رواية متربعا عليه وفي لفظ على عرش بين السماء والأرض فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني أي وفي رواية زملوني زملوني وصبوا على ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية { يا أيها المدثر } أي الملتف بثيابه { قم فأنذر وربك فكبر } ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل أي قبل اقرأ وأن النبوة والرسالة مقترنان
قال الإمام النووي والقول بأن أول ما نزل { يا أيها المدثر } ضعيف باطل وإنما نزلت بعد فترة الوحي أي ومما يدل على ذلك قوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي فما تقدم من قول بعضهم يعني عن إبتداء الوحي فيه نظر وكذا في قول الراوي عن جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان واحدة في ابتداء الوحي وأخرى في فترة الوحي وبعض الرواة خلط فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي وعجزها يدل على أن ذلك كان في فترة الوحي
____________________


هذا ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان وكان ذلك في مدة فترة الوحي وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنه قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن أي بشيء منه وهو { اقرأ باسم ربك } بناء على أنه أول ما نزل ولا ينافي ذلك قولها هذا الذي يأتيك إذا جاءك لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل قد جاءني أي قد رأيته لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة قالت قم ياابن عمي فاجلس على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا قالت يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذى اللب في الأمور ارتياء ** ** فأماطت عنها الخمار لتدرى ** أهو الوحي أم هو الإغماء ** ** فاختفى عند كشفها الرأس حبري ** ل فما عاد أو أعيد الغطاء ** ** فاستبانت خديجة أنه الكن ** ز الذي حاولته والكيمياء **
أي وأتاه قال ابن حجر أي بعد البعثة أي النبوة واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم عليهم الصلاة والسلام
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي وسيأتي
____________________

أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه أي من الإغماء إلى آخره فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه فاستبانت علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي أي لا الجني لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما
أقول وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم وقبل اجتماعه به
وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى فإذا رآه فتحسري فإن لم يكن من عند الله لا يراه أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت قالت فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره فرجعت فأخبرت ورقة فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي ومخالف أيضا لقول الذهبي الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة أي بناء على تأخرها ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة يا ليتني فيها جذع فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن من وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم وحينئذ يكون صحابيا
____________________


ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها وأنه يفرق بينه وبين بحيرا بأن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر والتعريف السابق يشمله هذا كلامه
وتعريفه السابق للصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا وعبارة شرح النخبة هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا
ولا يخفى عليك أن ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة فإنه يقتضى أن البعثة عبارة عن النبوة لا عن الرسالة وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة
وروى ابن إسحاق عن شيوخه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه ويغط كغطيط البكر فقالت له خديجة أوجه إليك من يرقيك قال أما الآن فلا ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة يعنى أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءها الملك وقال لها قولي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك
وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله إن ابني جفعر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقى لهما قال نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جنى فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم فقد يقال خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه
____________________

جبريل وأنه يتكلم عن الله تعالى كا خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحى إليه هو الله
وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدو من شياطين الجن يقال له الأبيض كان يأتيه في صورة جبريل واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي
وأجيب عنه بمثل ما هنا وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم
وفي كلام ابن العماد وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض والأنبياء معصومون منه وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة وهو المعنى بقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } هذا كلامه والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان من الأنبياء من يسمع الصوت أي ولا يرى مصوتا فيكون بذلك نبيا قال بعضهم يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو أي ليس من جنس الكلام وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا
قال صلى الله عليه وسلم وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب أي وفي رواية كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكى فتحها أو على صورة غيره ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر وورد ما جاءني يعني جبريل في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة
____________________


وفي صحيح ابن حبان والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرته هذه وما عرفته حتى ولى وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام حيث قال في تائيته ** ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية ** فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة
فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو يصير ميتا
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لم يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة علي رضي الله تعالى عنه وأولاده أي الأئمة الإثنى عشر وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم على الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد على التقي والحادي عشر حسن العسكري والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه فقد قال عبدالله بن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أنت يعني أنت الإله فنفاه على إلى المدائن وقال لا تساكني في بلد أبدا وكان عبدالله بن سبأ هذا يهوديا كان من أهل صنعاء وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء وكان أول من أظهر سب الشيخين ونسبهما للإفتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك فقال علي معاذ الله أنى أضمر لهما ذلك لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان وقيل في أول خلافة عمر وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله
____________________


وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في علي وكان يقول في علي إنه حي لم يقتل وإن فيه الجزء الإلهي وإنه يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى وأظهر أمر الوصية أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم
ومنهم من قال بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عزوجل في صورة آدم ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه وجاءوا إلى القعلة التي كان متحصنا بها فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقى حيا بها من أتباعه
والقول بالإتحاد كفر فقد قال العز بن عبدالسلام من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف وأنه لا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين
____________________


وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله وأنا ربي الأعلى وقوله أنا الحق وهو أنا وأنا هو ليس من دعوى الحلول في شيء وإنما قوله سبحاني إني أنا الله محمول على الحكاية أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى بحيث استغرق في بحر التوحيد بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى وترك الإرادة منه والإختيار
فالعارف إذا إلى هذا المقام وصل ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالإتحاد ولا مشاحة في الإصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فقد فنى عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا لله ولا يبغض إلالله ولا يوالى إلالله ولا يعادي إلالله ولا يعطى إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا لله ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي كلام سيدي علي رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالإتحاد في كلام القوم في الصوفية فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر { ولله المثل الأعلى } هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين
فقد قال بعض العلماء حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب والعبد في حال فناء العبد فيكون موجودا في آن واحد ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين ومن لم يشهد ذلك أنكره ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه
____________________


وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة قال وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبدالقادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به
فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولى الله الشيخ عبدالقادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما قال فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان
وقد قيل في الأبدال إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ويقال عالم المثال كما تقدم فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح فهو الطف من عالم الاجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال قال وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض أولياء في غير مكانها وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبدالقادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم ولعل مجئ جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي لك عندي فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون
____________________

تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة إلا أن يدعى أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة أي لا بالوعيد والزجر فليتأمل
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقى القرآن طريقان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل أي لأن الأنبياء يحصل لهم الإنسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير إكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر
والثاني أن الملك من الملكية البشرية إلى حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك أو حفظه جبريل من اللوح المحفوط ونزل به
واعلم أن من حالات الوحي النفث أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس أي المخلوق من الطهارة يعنى جبريل نفث أي ألقى
والنفث في الأصل النفخ اللطيف الذي لا ريق معه في روعي بضم الراء أي قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أي عاملوا بالجميل في طلبكم وتتمته ولا يحملنكم إستبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله أي كالكذب فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته
وفي كلام ابن عطاء الله الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى وشاهد حسن إختياره إذا منع ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه
____________________


ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة وفي حديث ضعيف اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجرى بالمقادير
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة
أقول روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه وهو أخو أبو جهل لأبويه وكان يضرب به المثل في السودد حتى قال الشاعر ** أحسبت أن أباك حين تسبنى ** في المجد كان الحارث بن هشام ** ** أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام **
أسلم يوم الفتح وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد علي قتله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وحسن إسلامه وشهد حنينا وكان من المؤلفة كما سيأتي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي أي حامله الذي هو جبريل قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيقصم بالفاء أي يقلع عني وقد وعيت ما قال وفي رواية يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا أي يتصور بصورة الرجل وفي رواية في صورة الفتي فيكلمني فأعي ما يقول وروى أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى
ونص هذا الرواية كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده فلا يثبت فيما ألقى إليه بخلافه في الحالة الثانية لأن سماع مثل هذاالصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي واضطر إلى التثبيت في ذلك وقولنا أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال وقول بعضهم الصلصلة المذكورة
____________________

هي صوت الملك بالوحي وقوله يأتيني أحيانا له كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ومرة وقع فخذه على فخذي فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت
أي وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
وفي رواية فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك
وجاء ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تقبض منه وعن أسماء بنت عميس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه وفي رواية يصير كهيئة السكران
أقول أي يقرب من حال المغشى عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران أي مع بقاء عقله وتمييزه
ولا ينافى ذلك قول بعضهم ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا ينتقض وضوؤه
ثم رأيت صاحب الوفاء قال فإن قال قائل ما كان يجرى عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتقض وضوؤه
والجواب لا لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه تنام عيناه ولا ينام قلبه فإن كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه وما ذكرناه أولى لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل
وفي كلام الشيخ محيى الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي
____________________

من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقى على ظهره حيث قال سبب أضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب فقد جاء اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضى الوحي وفي لفظ كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرب لذلك وتربد له وجهه وغمض عينيه وربما غط كغطيط البكر
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس أي المتقدم ذكرها لأن سماع الدوى بالنسبة للحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالراوي شبه بدوي النحل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس أي فالمراد بهما شيء واحد والله أعلم
ومن حالاته أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح
أقول فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله
____________________

عليها إلا مرتين حين سأله أن يريه نفسه فقال وددت أني رأيتك في صورتك أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } وبقوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } طلع جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه الحديث والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } وسيأتي الكلام على ذلك
وفي الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه فليتأمل
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا وساطة ملك بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا وذلك ليلة المعراج واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية والثاني بناء على القول بالرؤية وحينئذ لا يناسب عد ذلك نوعين كما فعل الشامي ومن ثم نسب ابن القيم هذاالنوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج وعلى هذا جاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }
____________________


وقول ابن القيم السادسة أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك وهذا يحتمل لأن يكون من غير حجاب وأن يكون من وراء الحجاب فهي لم تخرج عما تقدم
وكذا قوله السابعة أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى أي من وراء حجاب فهي لم تخرج عما تقدم وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الإعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر والجواب عنه وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى والله أعلم
قال الحافظ السيوطي وليس في القرآن من هذاالنوع أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة أي آمن الرسول إلى آخر الآيات لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين
وروى الديلمي قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك قال آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم قال آية الكرسي أعظم وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا افضل القرآن البقرة وأفضل آية الكرسي وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي وفي الجامع الصغير آية الكرسي ربع القرآن
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى وبعض سورة ألم نشرح قال صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي انتهى
____________________


أقول قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله فقال يا محمد ألم أجدك إلى آخره ليس هذا نص التلاوة وإن هذا ظاهر في أن المتلو الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك وأن هذا تذكير به والله أعلم
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ أتاني ربي وفي لفظ رأيت ربي في أحسن صورة أي خلقة فقال فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديى فعلمت ما في السماء والأرض أي وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه وفي رواية فعلمت علم الأولين والآخرين أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم قال صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي كما تقدم
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الإجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك وبذلك فارق النفث في الروع
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعلم أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبي أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له
وفي ينبوع الحياة عن ابن جرير مانزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب الذي يوحيه إليه فيلقوه إلى أوليائهم ثم رأيته في الإتقان ذكر أن من القرآن ما نزل معه ملائكة مع جبريل تشيعه من ذلك سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } شيعها عشرون ألف ملك ولعل هذا لا ينافى ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من إستراقه في الأرض وبين السماء والأرض
____________________


وعن النخعي إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك }
قال الإمام النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف هذا كلامه ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن أي أول آيات أنزلت فلا ينافى ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر ما يقتضى أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } لأن المراد بذلك أول سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ وهذا الجمع تقدم الوعد به أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مانزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة فإن هذاالسياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة { قل هو الله أحد } ويخالفه ما في الإتقان أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر وسورة تبت وسورة لم يكن وسورة النصر والمرسلات والأنعام لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روى بسند فيه ضعف قال ولم أر له إسنادا صحيحا
وقد روى ما يخالفه ولم يذكر في الإتقان مما نزل جملة سورة براءة وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إلا آية آية وحرفا حرفا أي كلمة والمراد بها ما قابل السورة وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل آية وبعض آية فقد صح نزول { غير أولي الضرر } منفردة وهي بعض آية
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال أول ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة أقرأ { باسم ربك } ثم { ن والقلم } ثم { يا أيها المزمل } ثم { يا أيها المدثر } ثم الفاتحة إلى آخر ما ذكر
ثم قال قلت هذا السياق غريب وفي هذا الترتيب نظر وجابر بن زيد من علماء التابعين هذا كلامه وذكر بعض المفسرين أن سورة التين أول ما نزل من القرآن والله أعلم وما تقدم من أن نزول { يا أيها المدثر } كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي لأنه كان بعد نزول جبريل عليه باقرأ باسم ربك مكث مدة لا يرى جبريل
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوف إلى العود
____________________

ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما وافى بذروة كي يلقى نفسه منها تبدي له جبريل عليه السلام فقال يامحمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه أي قلبه وتقر نفسه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك قال وفي رواية أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقى نفسه منه فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقى نفسه تبدي له جبريل فقال يا محمد أنت رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك وكانت تلك المدة أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما وقيل اثنى عشر يوما وقيل ثلاثة أيام قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى
أقول ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي والله أعلم وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة
أقول في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين والله أعلم
قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة أي وفي كلام الحافظ ابن حجر وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة أي وتقدم ما فيه قال قال بعض الحفاظ والظاهر والله أعلم أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و { يا أيها المدثر } هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى
أقول ويوافق ذلك ما في الإستيعاب لإبن عبد البر أن الشعبي قال أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك
وفي الأصل عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن أي شيء منه على لسانه ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال قال بعض العلماء وقرن به إسرافيل ثم قرن به جبريل وهو
____________________

ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة ويؤيده قوله ويأتيه بالكلمة من الوحي ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة فيوافق ما تقدم عن الماوردي لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه إلا أن يقال لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا وقال لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل أي بعد النبوة ويحتمل مطلقا قال بعضهم ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة وخبر الشعبي مرسل أو معضل فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم هذا كلامه
لا يقال قد وجد الدليل فقد جاء بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا أي هده من السماء فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط على ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل فقال أنا رسول ربك الحديث
ومن ثم عد السيوطى من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به
هذا وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجئ إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث وهو بظاهره يرد ما في سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل
____________________


وعن يحيى بن بكير قال ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم
ثم رأيت في فتح الباري ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجئ جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه أي فكان جبريل يأتى إليه بغير قرآن بعد مجيئة إليه باقرأ ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا ثم جاءه بيا أيها المدثر فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق وسنتين ونصفا كا يقول السهيلي وسنتين كما يقول الحافظ السيوطى وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس لأن تلك الأيام هي التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقى نفسه من رءوس شواهق الجبال وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله { اقرأ باسم ربك } وأرسله بقوله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات
وقيل النبوة والرسالة مقترنان ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } فليتأمل
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمى المخاطب بإسم مشتق من الحالة التي هو عليها فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها المدثر } فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد نام وترب جنبه قم يا أبا تراب وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الإسفار قم يا نومان
____________________


وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي في قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } أعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة وانفتحت تلك المام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتحلل الجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى { وثيابك فطهر } أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس فقلت يا رسول الله وما ثيابي قال إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة قال ففهمت حينئذ قوله تعالى { وثيابك فطهر }
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك & باب ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة
أي أول الإرسال إليه باقرأ
أقول في المواهب أنه روى أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال له يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله
____________________

الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة الحديث
وقوله فعلمه الوضوء يحتمل أن يكون بفعله المذكور ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك ويدل للأول ما سيأتي
وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له { اقرأ باسم ربك } ولعله من تصرف بعض الرواة والله أعلم
فعن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور أي الوضوء للصلاة أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين كما في بعض الروايات أي وفي رواية فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثم غسل يديه إلى المرفقين ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه
أقول وبهذه الرواية يرد قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والإستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويداومون على المضمضة والإستنشاق والسواك والله أعلم
ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس ويحتمل أنها كانت بالعشي أي قبل غروب الشمس وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشي أي قبل غروب الشمس ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والعشى هو العصر
ففي كلام بعض أهل اللغة العصر والعشاء والعصران الغداة والعشى وكانت صلاته
____________________

صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة كما سيأتي أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام أي بينه وبين بيت المقدس أي صخرته إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل قال جبريل هكذا الصلاة يا محمد ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها فغشي عليها من الفرح فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه حبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام
وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب { اقرأ باسم ربك } حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الإثنين ويوافقه ظاهر ما جاء أتاني جبريل في أول ما أوحى إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكر أو لا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج
وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعض الإستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذى فرجه حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بلللا قدر أنه من ذلك الماء ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم علمني جبريل الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل
____________________


وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينضح سراويله حتى يبلها وما جاء أنه لما أقرأه باسم ربك قا له جبريل انزل عن الجبل فنزل معه إلى قرار الأرض قال فأجلسني عن درنوك بالدال المهملة والراء والنون أي وهو نوع من البسط ذو خمل ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل الحديث فمشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ وهو مخالف لقول ابن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة
ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء قال وهذا مما لا يجهله عالم هذا كلامه إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية
ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله { لعلكم تشكرون } فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض مدني بالتلاوة
قال والحكمة في ذلك أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه
وقوله مع فرض الصلاة يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس أي ليلة الإسراء وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة هذا كلامه وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل
وقول صاحب المواهب ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية إذ يحتمل أي يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب
____________________


وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية فانزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضى أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء فقد جاء عنه كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة قال بعض فقهائنا رواه أبو داود ولم يضعفه وهو إما صحيح أو حسن قال ذلك البعض ويجوز أن يكون المراد بها أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالنصب فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين أي ركع ركعتين مواجهة البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبرل يفعله هذا كلامه وفيه نظر لأن أكثر الروايات وغسل رجليه كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه وإنما جر للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح
وفي كلام الشيخ محيى الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب قال ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل فيكون من الألفاظ المترادفة وفتح أرجلكم لايخرجها عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو المعية
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة أي عملا بظاهر قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته
____________________

يا عمر أي للإشارة إلى جواز الإقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة ويوافقه قول بعضهم قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ هذا كلامه أي ويؤيده ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة قيل لهم كيف تصنعون أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث أي فوجب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا فصار الوضوء بدلا عنه ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضى أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة في حق الأمة ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لكل صلاة خرج الوضوء بالسنة أي بماتقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلى الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد وبقى التيمم على مقتضى الآية فقد وقع النسخ أولا بالنسبة للأمة ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو بإجتهاد
ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضى وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف وأن التقدير { إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } { فاغسلوا وجوهكم } الآية والله أعلم
____________________


وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشى أي قبل غروب الشمس
أقول إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه بأقرأ يرد ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشي ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته
منها قوله صلى الله عليه وسلم أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس
وفي الإمتاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلى صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى أي فيصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس هذا كلامه وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم ثم فرضت الخمس ليلة المعراج
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد أي بقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } أي صلوا
أقول وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم بل قالوا أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء
____________________


قال بعضهم وإنما قال ذلك لأن أصل الصلاة في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي
وفي كلام ابن حجر الهيتمي لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس ثم لم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه
ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة هذا كلامه وينبغى حمله على الصلوات الخمس وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا وقد تقدم ذلك والله أعلم & باب ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم
أي بعد البعثة أي الرسالة وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة
لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا وابتعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله تعالى عنها
أقول نقل الثعلبي المفسر إتفاق العلماء عليه وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وقال ابن الأثير خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة
وفيه أن بناته الأربع كن موجودا عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن أخذا مما يأتي
____________________


وعن ابن إسحاق أن خدجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها فأخبرها به
ثم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وجاء أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وإنه لأول صحابي إسلاما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه كان سنه ثمان سنين وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه وأخذه العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي خصائص العشرة للزمخشري أن النبي صل الله عليه وسلم تولى تسميته بعلي وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنها أنا قالت لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام قالت فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام فكان كذلك ما شاء الله عز وجل هذا كلامه فليتأمل
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعلي فتقوس في بطنها فمنعها من ذلك وكان علي رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين وبين جعفر وبين أخيه عقيل كذلك وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك
____________________


وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترضا عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك فقال له لأذهبن إلى رجل هو أوصل إلى منك فذهب إلى معاوية فأعطاه مائة ألف درهم ثم قال له معاوية اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل هذا أبو يزيد يعنى عقيلا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وأسأل الله تعالى خاتمه الخير توفى عقيل في خلافة معاوية
قال وسبب إسلام على كرم الله وجهه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا فقال ماهذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا فمكث ليلته ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم اه
أقول وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الإثنين وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم
وفي أسد الغابة أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله الله تعالى عنه صل جناح ابن عمك فصلى عن يساره وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل قال بعضهم وإنما صح إسلام علي أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم أي ومن ثم نقل عنه أنه قال
____________________

** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** صغيرا ما بلغت أوان حملي **
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز
هذا وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا وقيل لم يقل إلا بيتين أي ولعل أحدهما ما تقدم ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله ** تلكم قريش تمنانى لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ** ** فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقى ولا تذر ** وذات ودقين هي الداهية
وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة سنة
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سن الزبير حين أسلم ست عشرة سنة وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سل سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر أسلم علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وهما ابنا ثمان سنين وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين أي بناء على أن سن إمكان الإحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه فولدت ولدا حسنا ويرد القول بأن سنه إذا ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة
أقول قال بعض متأخري أصحابنا وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع وأما
____________________

على بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده يتبعه في جميع أموره فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم هذا كلامه فليتأمل فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له أدعوك إلى الله وحده إلى آخره
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في الإمتاع وهو ثلاثة ما كفروا بالله قط مؤمن آل يس وعلي بن أبي طالب وآسية أمرأة فرعون
والذي في العرائس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية أي لم يأت بها أبا بكر الصديق وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ورباب بن البراء وأسعد بن كريب الحميري وقس بن ساعدة الإيادي وأبا قيس ابن صرمة ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها لكن في كلام السبكي الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة هذا كلامه وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم
وفي كلام الحافظ ابن كثير الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد وكذا يتأمل قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن
وعن ابن إسحاق ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
____________________

حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على مستخفيا من قومه فيصليان فيهما فإذا أمسيا رجعا كذلك ثم إن أبا طالب عثر أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان أي بنخلة المحل المعروف فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به فقال هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه وفي رواية انه قال له ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا تعلوني أستى أبدا وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لإبنه جعفر صل جناح ابن عمك وصل على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا علي يمينه لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك فقال تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فقال ما هذا الفعل الذي أرى فلما أخبرناه قال هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا إني لا أحب أن تعلوني أستى فلما تذكرت الآن قوله ضحكت وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا
وذكر أن أبا طالب قال لعلي أي بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت آمنت بالله ورسوله وصدقت ما جاء به ودخلت معه واتبعته فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
أي ويذكر أنه كان يقول إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لأتبعته
وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال كنت امرأ تاجرا قدمت للحج وأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبع الوضوء أي أكمله ثم قام يصلى أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات ثم خرج غلام مراهق أي قارب البلوع فتوضأ ثم قام إلى جنبه
____________________

يصلي ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين فقال هذا دين محمد بن عبدالله أخي يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب وهذه امرأته خديجة قال عفيف بعد أن أسلم يا ليتني كنت رابعا أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه بعد إسلام علي وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي ويؤيده ما قيل أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكن في الإستيعاب لإبن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع قال يصلى وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام
وفيه أن عليا قال لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة
وقوله في هذا الحديث فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط
أقول قد يقال لامخالفة لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه والجماعة في ذلك جائزة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النفل المطلق وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك وفي مكة كانت مباحة لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة وفيه أن القهر إنما ينافى إظهار الجماعة لا فعلها إلا أن يقال تركت حسما للباب وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل والله أعلم
____________________


ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل
وقال ابن هشام شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع أي وعمره ثمان سنين فإنه أسر من عند أخواله طى وعليه اقتصر السهيلي
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه أي وقيل اشتراه من سوق حباشنة بأربعمائة درهم ويقال بستمائة درهم فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي
أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنه جاء إلى خديجة فقال رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه ولو كان لي ثمنه لأشتريته قالت وكم ثمنه قال سبعمائة درهم قالت خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها وقال إنه لو كان لي لأعتقته قالت هو لك فأعتقه وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن أسمه زيدا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جده قصي حين تبناه
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه وقال من أنت يا غلام قال غلام من أهل مكة قال من أنفسهم قال لا قال فحر أنت أم مملوك قال مملوك قال عربي أنت أم أعجمي قال بل عربي قال من أهلك قال من كلب قال من أي كلب قال من بني عبد ود قال ويحك ابن من أنت قال ابن حارثة بن شرحبيل قال وأين أصبت قال في أخوالي قال ومن أخوالك قال طي قال ما اسم أمك قال سعدى فالتزمه وقال ابن حارثة
____________________

ودعا أباه فقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال كيف صنع مولاك إليك قال يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت فركب معه أبوه وعمه وأخوه
وفي رواية أن ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه فجاء أبوه وعمه
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون إجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس فلما جاء أهله في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر أنهم لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أي وفي لفظ لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا يابن عبدالمطلب يا بن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير العاني وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك فقال وما ذاك قال زيد بن حارثة فقال أو غير ذلك قالوا وما هو قال ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء فقالوا زدت على النصف وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال تعرف هؤلاء قال نعم أبي وعمي ولعل سكوته عن أخيه لإستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه على أن أكثر الروايات الإقتصار على مجئ أبيه وعمه
وفي كلام السهيلي أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان فقال هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا كعب بن شرحبيل عمي فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو أخترهما فقال زيد ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك قال نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر أي الذي هو محل جلوس قريش فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا
وفي كلام ابن عبدالبر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة ثمان
____________________

سنين وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول هذا ابني وارثا وموروثا ويشهدهم على ذلك وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف أي من حالفه فنسخ ذلك وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي وأن ذلك كان قبل مجئ أبيه وعمه وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجئ أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم وفي كلام بعضهم لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد بإسمه إلا هو كما سيأتي قال ابن الجوزي إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد بإسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار إسمه يتلى في المحاريب
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي ولم تذكر في القرآن امرأة بإسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسن منه
سئل جبلة من أكبر أنت أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال بعضهم في سبب إسلامه إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم فكان متوقعا لذلك فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل موسى فانسل أبو بكر حتى أتى رسول
____________________

الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره فقص قصته المتضمنة لمجئ الوحي له بالرسالة فقال صدقت بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فيقال إنه سماه يومئذ الصديق وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزل { يا أيها المدثر } بعد فترة الوحي بناء على ما تقدم وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافى ما سيأتي أنه سمى بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ
وقد جاء في تفسير قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر قال ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر خرجت وعليها خمار أحمر فقالت الحمدلله الذي هداك يابن أبي قحافة واسمه عبدالله أي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ولقبه عتيق لحسن وجهه أو لأنه عتق من الذم والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار فهو أول لقب وجد في الإسلام
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة وأنه غلب عليه من يومئذ قال وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلامه السهيلي
وقيل وسمى عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان من أعف الناس كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال محببا في قومه حسن المجالسة وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذاالعلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعلم الناس بأنساب العرب
____________________


فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر وكان لا يعد مساويهم فمن ثم كان محببا فيهم بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فإنه كان بعد أبي بكر أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم
وفي كلام بعضهم كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد
قال الزمخشري ولعله كنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة وكان نقش خاتمه نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظا يا عمر وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصا وكان نقش خاتم علي الملك لله وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمد لله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عند كبوة أي وقفة وتأخر وتردد إلا ما كان من أبي بكر
وفي رواية ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه أي ومن ثم كان أسد الصحابة رأيا وأكملهم عقلا لخبر تمام أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد جاء إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء أثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر وفي حديث رواته ثقات إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر وفي رواية إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن مجلس أبي فقال مجلس أبيك والله لا مجلس ابي فأجلسه في حجره وبكى فقال علي والله ما هذا عن رأيى فقال والله ما اتهمتك
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين فإنه قال له
____________________

وهو يخطب انزل عن منبر أبي فقال له منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال له ما أمره بهذا أحد ثم قال للحسين لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي صدق منبر أبيه
قال وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وبراهين صدق دعوته قبل دعوته ولرؤيا رآها قبل ذلك رآى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره فقصها على بعض أهل الكتاب فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه وأنه يكون أسعد الناس به ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا فقال له إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته وخليفته بعد مماته
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أي علم أنه النبي المنتظر لما مر عن بحيرا الراهب ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن فقال له أحسبك حرميا فقال أبو بكر نعم فقال له أحسبك قرشيا قال نعم فقال له أحسبك تيميا قال نعم قال له بقيت لي فيك واحدة قال وما هي قال له تكشف لي عن بطنك فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك فقال أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى كهل فأما الفتى فخواص غمرات ودفاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت فيك الصفة أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفى علي فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سواداء فوق سرتي أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر فقال أنت هو ورب الكعبة قال أبو بكر فلما قضيت أربى من اليمن أتيته لأودعه فقال أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي قلت نعم فذكرله أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا إنتظارك ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية
____________________

والكفاية أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إلي وقال لي يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله فقلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذي أفادك الأبيات فقلت ومن أخبرك بهذا يا حبيبي قال الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلى قلت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وفي لفظ اشد سرورا مني بإسلامي ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه ** وأول الناس منهم صدق الرسلا ** وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره بل قال صدقت بإحسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة
وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة ثم مولاه زيد بن حارثة لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أي غير الموالي أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة وهذا وما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ وإلا فلا حاجة لزيادة ليس من الموالي تأمل
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام أي في إظهار الإسلام لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف علي فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقني إلى أربع وعد منها إظهار الإسلام قال وأنا أخفيته ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي فالأولية في إظهار الإسلام إضافية
قال ابن كثير وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال أنا أول من أسلم
____________________

ولا يصح إسناد ذلك إليه قال وقد روى في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان فالأولية إضافية
ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه لاتكن ممن يرجو بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل يحب الصاليحن ولا يعلم بأعمالهم البشاشة فخ المودة والصبر قبر العيوب والغالب بالظلم مغلوب العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي وهو يرد القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر وذلك نافع له في الآخرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفى ورقة لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني إلى آخر ما تقدم
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها بل يكفي ولو قبل ذلك فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى أي محكوما بإيمانه
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي والمراد بالرسالة نزول { يا أيها المدثر } لاإظهارها ونزول قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } بناء على تأخر الرسالة
____________________

وحين أسلم ابو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك وجاء لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان ابن عفان
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر وقيل عبد الكعبة وقيل عبدالحارث فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن قال وكان أمية بن خلف لي صديقا فقال لي يوما أرغبت عن اسم سماك به أبوك فقلت نعم فقال لي إني لاأعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله فكان يناديني بذلك
قال وسبب إسلام عبدالرحمن بن عوف ما حدث به قال سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف أنت أمين في أهل الأرض أمين في أهل السماء وجاء أنه وصفه بالصادق الصالح البار
وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص أي فإن أبا بكر لمادعاه إلى الإسلام لم يبعد وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبره به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه سعد خالي فليرني امرؤ خاله
____________________


وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها فقالت له ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحم وبر الولدين قال فقلت نعم فقالت والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد أي وتمس إسافا ونائلة فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب فأنزل الله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوم وليلة لا تأكل ولا تشرب قال سعد فلما رأيت ذلك قلت لها تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج فسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث فرجعت من حيث جئت وقلت لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا ثم أرسلت إلى أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول هي البر لا يفارق دينه ولا يكون تابعا فلما أسلم عامر لقى منها مالم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت ما شأن الناس فقالوا هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا وهي تعطى الله عهدا لا يظلها نخل و لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته فقلت لها والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئى مقعدك من النار
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبدالرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عند الحارث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس فقال والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء قال نعم فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال وهذا استدل
____________________

به على إسلام الحارث بن كلدة لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك فهو معدود من الصحابة وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام فأخذهما نوفل بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ولذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اكفنا شر ابن العدوية
أقول سبب إسلام طلحة بن عبيدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حدث قالوا نعم محمد بن عبدالله الأمين يدعو إلى الله وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فسر بذلك وأسلم طلحة
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه وهو طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الذي نزل فيه قوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه } الآية لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة وفي لفظ يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزلت الآية
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة أجل مقاما من أن يصدر عنه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في إسمه وإسم أبيه ونسبه هذا كلامه
____________________


والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان وطلحة بن عبيدالله ويقال له طلحة الفياض وطلحة الجود والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بزازا وكان الزبير جزارا وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل والله أعلم ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبدالله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به قال كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل عندك لبن فقلت نعم ولكني مؤتمن قال هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا كذا في الأصل وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها أي لا لبن لها ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين فمسح ضرعها وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع أي محل اللبن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني ثم شرب ثم قال للضرع اقلص فرجع كما كان أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** ورب عناق مانزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرت **
قال ابن سمعود فما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يارسول الله علمني فسمح رأسي وقال بارك الله فيك فإنك غلام معلم
أقول فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كان جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه
قلنا قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
____________________

وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها التي لا يعد قاصدها مسافرا ولعله لا ينافى ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه ولم إليهما وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له
وكان عبدالله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عبدالله في الميزان أثقل من أحد وقال صلى الله عليه وسلم في حقه رضيت لأمتي ما رضى لها ابن ام عبد وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد
وقوله لرجل عبدالله في الميزان يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويلبسه نعليه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين أسلم قديما بمكة لما مر به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره يدل على أنه أسلم حينئذ ومما يؤثر عنه الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح والله أعلم
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال وسبب إسلامه ما حدث به قال صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره فلما جاء أنيس قلت له ما عندك فقال والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر وفي رواية رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق قلت فما يقول الناس فيه قال يقولون شاعر كاهن ساحر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون فقلت اكفني حتى أذهب فانظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فحملت جرابا وعصا ثم
____________________

أقبلت حتى أتيت مكة فجعت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على بطني سحنة جوع والسحنة بالتحريك قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاءا فطافا بالبيت ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته أتيته فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الإستبشار في وجهه ثم قال من الرجل قلت من غفار بكسر المعجمة قال متى كنت قال كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سحنة جوع قال مبارك إنها طعام طعم وشفاء سقم أي وجاء ماء زمزم لما شرب له إن شربته لتشفى شفاك الله وإن شربته لتشبع أشبعك الله وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسمعيل وجاء التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وجاء آية ما بيننا وبين المنافق أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظلت الخضراء أي السماء ولا أقلت الغبراء أي الأرض أصدق من أبي ذر وقال صلى الله عليه وسلم في حقه أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم وفي الحديث أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر واستمر بها إلى أن ولى عثمان فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة فكان بها حتى مات فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي رضي الله تعالى عنه وأنه قال له ما أقدمك هذه البلدة فقال له أبو ذر إن كتمت علي أخبرتك وفي رواية إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك ففعل قال أبو ذر فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت
____________________


وفي الإمتاع أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره ثم في الثالث قال له ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال له بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وفي لفظ كأني أريق الماء فامض أنت قال أبو ذر فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني الحديث
وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له من كان يطعمك وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله ماكان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال يا رسول لله ائذن لي في إطعامه الليلة قال أبو ذر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب
ويمكن التوفيق بين الروايتين أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم ورواية إجتماعه به في الطواف فأسلم بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين وعذره في عدم إجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف كما يرشد لذلك قوله ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما
ويبعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له من الرجل إلى آخره ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم قال وكنت في أول الإسلام خامسا وفي رواية رابعا ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فضربت
____________________

لأموت وفي لفظ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب علي العباس ثم قال لهم ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم عليهم فخلوا عني قال فجئت زمزم فغسلت عني الدماء فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك فصنع بي مثل ما صنع وأدركني العباس وكان منه كالأمس فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت فقلت قد أسلمت وصدقت فقال ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما لي رغبة عن دينكما فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر إني وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم وجاءت أسلم القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فأكتنفه الناس فقال لهم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا فقالوا بلى فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون فخذوا ما يصلحكم قالوا وما يصلحنا قال حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي لله تعالى عنه قيل كان حين أسلم رابعا وقيل خامسا وهو أول من أسلم من إخوته ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد أول من أسلم أبي أي من إخوته
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمر مهولا ورأى أنه على شفيرها وأن أباه يريد أن يلقيه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها فقام من نومه فزعا وقال أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فذكر له ذلك فقال له أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو قال أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
____________________

ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع فأسلم خالد
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ثم أصاب مكة كلها ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى اليسر في النخل فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه فقال يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وعلم أبوه بذلك أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش كان إذا أعتم لم يعتم قرشي إعظاما له ومن ثم قال فيه القائل ** أبا أجيحة من يعتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد **
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم فقال والله تبعته على ما جاء به فغضب أبوه وقال أذهب يالكع حيث شئت وقال والله لأمنعنك القوت قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ويغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فكان خالد أول من هاجر إليها
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا فقال خالد عند ذلك اللهم لا ترفعه فتوفى في مرضه ذلك وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى
____________________

رأى البسر فيها فقص رؤياه فقيل له هذه بئر بني عبدالمطلب وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه وتقدم قريبا أن هذا الرؤيا وقعت لخالد فكانت سبب إسلامه وأنه قصه على أخيه عمرو المذكورة فهو من خلط بعض الرواة إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو وأنها كانت سببا لإسلامهما وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله
أي ومن السابقين للإسلام صهيب كان أبوه عاملا لكسرى أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ في الروم حتى كبر ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاءوا به إلى سوق عكاظ فابتاعه منهم بعض أهل مكة أي وهو عبداله بن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مر صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار بن ياسر فقال له عمار بن ياسر أين تريد يا صهيب قال أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه قال عمار وأنا أريد ذلك فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما بالجلوس فجلسا وعرض عليهما الإسلام وتلا عليهما ما حفظ من القرآن فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله فقالوا له كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبها فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أوسعوا للشيخ وعمران وولده في الصحابة فقال حصين ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها فقال يا حصين كم تعبد من إله قال سبعة في الأرض وواحد في السماء فقال فإذا أصابك الضر لمن تدعو قال الذي في السماء قال فإذا هلك المال من تدعو قال الذي في السماء قال فيستجيب له وحده وتشرك معه أرضيته في الشرك يا حصين أسلم تسلم فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه فبكى
____________________

صلى الله عليه وسلم وقال بكيت من صنع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيعوه إلى منزله فلما خرج من سدة الباب أي عتبته رأته قريش قالوا قد صبا وتفرقوا عنه & باب استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلى بينهم وبينه وما لقى هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول { يا أيها المدثر } ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفى بصلاته من المشركين أي كما تقدم فبينما سعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذا ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليه ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا أشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهرون الرشيد ولا يعرف أمرأة ولدت خليفتين إلا هذه وولادة جارية عبدالملك بن مروان فإنه أم الوليد وسليمان
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله
____________________

تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقى الله وقاه كل شيء
فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين
أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور فلا منافاة وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } وبقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع وادع إلى الله تعالى ولا تبال بالمشركين وخوف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي قال بعضهم آية { فاصدع بما تؤمر } اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها
وقال بعضهم إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم قال ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا أي عجز عن إحتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أن شاك أي مريض فدخلن عليه عائدات فقال صلى الله عليه وسلم ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } فأريد أن اجمع بني عبدالمطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن فادعهم ولا تجعل عبدالعزى فيهم يعنين عمه أبا لهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم أي وكنى عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضاره لونه كأنه وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا
قال وفي الإتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبدالعزى أي الصنم لأنه حرام شرعا هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا إستعماله
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الإستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش
____________________


وفي كلام القاضي وإنما كناه والكنية تكرمه أي بالعدول عن الإسم إليها لإشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبدالعزى هو الصنم فاستكره ذكره ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة فهي كنية تفيد الذم
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها
قال فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبدالمطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره قال تبا لك ألهذا جمعتنا أي وأخذ حجرا ليرميه به وقال له ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى
أي وفي الإمتاع أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد واترك الصبأة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنوا أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به وعند ذلك أنزل الله تعالى { تبت } أي خسرت وهلكت { يدا أبي لهب وتب } أي خسر وهلك بجملته أي والمراد بالأول جملته عبر عنها باليدين مجازا والمراد به الدعاء وبالثاني الخبر على حد قولهم أهلكه الله وقد هلك
أي ولما قال أبو لهب عند نزول { تبت يدا أبي لهب وتب } إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي وأولاده لأن الولد من كسب أبيه أي وفي رواية وهي في الصحيحين أنه دعا قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشريته الأقربين ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد زهرة أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يافاطمة أنقذي نفسك من النار يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من
____________________

الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله أي لا تبقوا على كفركم إتكالا على قرابتكم مني فهو حث لهم على صالح الأعمال وترك الإتكال غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها أي أصلها بالدعاء أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن وبل رحمه إذا وصلها وبلوا أرحامكم ندوها بالصلة وفي الحديث بلوا أرحامكم ولو بالسلام أي وصلوها أي وقد ذكر أئمتنا صابط الصلة
وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن وقيل أصغر بناته رقية وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة يا عائشة بنت أبي بكر يا حفصة بنت عمر
عندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل
ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا والله يابني عبدالمطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال يا بني عبدالمطلب هذه والله السوأة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ أي أصل عبدالمطلب نبي فهو هو قال هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال إن أخبرتكم
____________________

أن خيلا تخرج من سنح بالنون والحاء المهملة أي أصل وفي لفظ سفح بالفاء والحاء المهملة هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني قالوا ما جربنا عليك كذبا فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد أي وفي لفظ إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم
ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم أنا النذير العريان أي الذي ظهر صدقه من قولهم عرى الأمر إذا ظهر وقولهم الحق عار أي ظاهر وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل
واختلفت الروايات في محل وقوفه ففي رواية وقف على الصفا كما تقدم وفي رواية وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا الحديث وفي رواية صاح على ابي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير وروى أنه لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم علي طعاما أي رجل شاة مع مد من البر وصاعا من لبن فقدمت فهم الجفنة وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا وفي رواية حتى رووا وفي رواية قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجزع منه ثم ناولهم وكان الرجل منهم يأكل الجذعة وفي رواية يشرب العس من الشراب في مقعد واحد فقهرهم ذلك فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أبولهب بالكلام فقال لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما وفي رواية محمد وفي رواية ما رأينا كالسحر اليوم فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب قال علي ففعلت ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم يا بني عبدالمطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان شهادة أن لا إله
____________________

إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني أي يعاونني على القيام به قال علي أنا يا رسول الله وأنا أحدثهم سنا وسكت القوم زاد بعضهم في الرواية يكن أخي ووزيرا وورثى وخليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقام علي وقال أنا يا رسول الله قال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا فقام علي وقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيى ووارثي وخليفتي من بعدي
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك وقد رواه أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه وقال أحمد إنه ليس بثقة عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني كان يضع الحديث وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له طعاما ثم قال لي ادع لي بني عبدالمطلب فدعوت أربعين رجلا الحديث ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون علي فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه أي وفي رواية صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فانزل الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم وجاءوا إلى أبي طالب وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا أي عقولنا ينسبنا إلى قلة العقل وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء وإلى أشار صاحب الهمزية بقوله
____________________

** ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء ** ** أمما أشربت قلوبهم الكف ** ر فداء الضلال فيهم عياء **
أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر فقدجاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وإمتناعا عن اتباعه اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره وبسبب ذلك صار داء الضلال أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيى الأطباء مداواته وحصول شفائه ثم شرى الأمر أي الشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه بالذال المعجمة وحض أي حث بعضهم بعضا على حربه وعداوته ومقاطعته ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا أي عقولنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم أنصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها ** والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا **
وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به والقمر النير الممحو واليسار أليق به
____________________

وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا تعمل لي عملا فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد أي أشد وأقوى فتى في قريش وأحمله فخذه لك ولدا أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل فقال لهم أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مماتكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكن قد أجمعت أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم أي معاونتهم علي فاصنع ما بدالك أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه غلى ذلك غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه
فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال لله علي إن رأيت محمد ساجدا أن أطأ عنقه فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط وقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } حتى بلغ شأن أبي جهل كلا
____________________

{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى أن بلغ آخر السورة سجد فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم هذا محمد قد سجد فأقبل إليه ثم نكص راجعا فقيل له ذلك فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى لقد سد أفق السماء علي وفي رواية رأيت بيني وبينه خندقا من نار وسيأتي أن قوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة نزل في أبي جهل
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجلس له يعنى النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدالهم قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس فكان يصلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي وقامت إليه رجال من قريش وقالوا مالك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك جبريل لودنا لأخذه وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله ** وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ** ل إليه كأنه العنقاء **
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن هم أن يلقى الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الدهية العظيمة أي فرجع عن ذلك الرمى بذلك الحجر أي وفي رواية أن أبا جهل قال رأيت بيني وبينه كخندق من نار ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا
____________________


وذكر في سبب نزول قوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها رافعون رءوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقى هذا الحجر عليه فذهب إليه صلى الله عليه وسلم فلما قرب منه عمى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إليهم فأخبرهم بذلك
وعن الحكم بن أبي العاص أي ابن مروان بن الحكم أن ابنته قالت له ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية فقال لها لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم فلما رأيناه يصلى ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقى بتهامة جبل إلاتفتت علينا أي ظننا أنه يتفتت وأنه يقع علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى فحالتا بيننا وبينه ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لودعا ناديه لأخذته زبانية الله أي قال يوما ولقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم فأنزل الله تعالى فيه { ذق إنك أنت العزيز الكريم } كذا قاله الواحدي أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال لما أنزل الله تعالى سورة { تبت يدا أبي لهب }
____________________

جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل وإسمها العوراء وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلما رآها قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها امرأة بذية أي تأتي بالفحش من القول فلو قمت لتؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني أي وفي لفظ ما شأن صاحبك ينشد في الشعر قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه وفي لفظ لا ورب هذا البيت ماهجاك والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر أي لا يحسن إنشاءه قال له أنت عندي تصدق وانصرفت أي وهي تقول ما علمت قريش أني بنت سيدها أي تعني عبد مناف جد أبيها ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه قلت يا رسول الله لم لم ترك قال لم يزل ملك يسترني بجناحه أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر قل لها هل ترين عندي أحدا فسألها أبو بكر فقالت أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا
أقول وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالت أين صاحبك قال وما تصنعين به قالت بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه ويحك إنه ليس بشاعر فقالت إني لا أكلمك يابن الخطاب أي لما تعلمه من شدته ثم أقبلت على أبي بكر لما تعلمه من لينه وتواضعه فقالت والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك فقال إنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول ** مذمما أبينا ** ودينه قلينا ** وأمره عصينا **
فقالت أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين
____________________

الفهرين قال أبو بكر فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك قالت والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة فقلت يارسول الله إنها لم ترك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد
وفي الدر المنثور أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ماهجاك إلا الله قالت رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد وهذا مما يؤيد ماقاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة يقال فلان يحطب على أي ينم لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتغرى زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم
وعن عروة بن الزبير مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء ** ** ثم جاءت غضبى تقول أفى مثلي من أحمد يقال الهجاء ** ** وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء **
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر ولقبت بذلك كانت تحتطب أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من إجتماع الأوصاف الثلاثة لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تبت يدا أبي لهب نقول أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته وكيف ترى الشمس عين عمياء
____________________


أقول في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة { تبت يدا أبي لهب } جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة أي منحرقة غضبى فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت هل قتلته فقال لها يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كان ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه
ولما نزلت هذه السورة التي هي { تبت يدا أبي لهب } قال أبو لهب لأبنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد يعني رقية رضي الله تعالى عنها فإنه كان تزوجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل
وكان أخوه عتبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ولم يدخل بها فقال أي وقد أراد الذهاب إلى الشام لآتين محمدا فلأوذينه في ربه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط وفي رواية الله ابعث عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب وقال ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير فقال لهم إن هذه الأرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي فقالوا أجل يا أبا لهب فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لإبني عليه ثم افرشوا حوله ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله وفي رواية فضخ رأسه وفي رواية ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه وفي رواية فضغمه ضغمة فكانت إياها فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات فقال أبوه قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد أقول وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على ذلك كان بعد الإسراء والمعراج
____________________


ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق قيل له هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة فقال لذلك القائل هل علقت من قوله بشيء قال نعم قال فأنشد ** صلبنا كمو زيدا على رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب ** ** وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من علي وأطيب **
فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم فسمى باسم الكلب لملازمته للحراسة ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان
وقد جاء أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف وحمار العزير وناقة صالح والله أعلم
ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلى وقد نحر جزور وبقى فرثه أي روثه في كرشه فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد أي وفي رواية قال قائل ألا تنظرون إلى هذا المرائى أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه وفي رواية أيكم يأخذ سلى جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد فقام شخص من المشركين وفي لفظ أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك قال ابن مسعود فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقى عليه ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم
____________________

فسمعته يقول وهو قائم يصلى اللهم اشدد وطأتك أي عقابك الشديد على مضر سنين كسنى يوسف اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وعقبة ابن أبي معيط وأمية بن خلف زاد بعضهم وشيبة بن أبي ربيعة والوليد بن عبتة بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم
فقد اتفق العلماء على أنه غلط لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم
أقول والذي في المواهب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام إلى آخر ماتقدم ذكره وفي الإمتاع فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام الحديث وإن ابن مسعود قال والله لقد رأيتهم وفي رواية رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود رأيتهم أي رأيت أكثرهم
وقد يقال لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلى وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم
والمراد بسنى يوسف بتخفيف الياء ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة القحط والجدب أي فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان قالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فاطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة
____________________


وجاء أنهم قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي لا نعود لما كنا عليه فلما كشف عنهم ذلك عادوا أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وسيأتي ما فيه
وقد يقال لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال قال البيهقي قد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة ولعله كان مرتين أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري لما استعصمت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر وفي رواية فيه أيضا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة حصت كل شيء الحديث وفي رواية اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________

عليه فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فدنوت منه حتى وسطته أي جعلته وسطا فكان صلى الله عليه وسلم بين وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ذلك ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه أي قاموا له صلى الله عليه وسلم ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدره فوقع على أسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر
أقول ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم
وفي رواية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان
أي وفي رواية دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ
____________________

بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر طائفا بالبيت فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثالثة فلمزوه فوقف عليهم وقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك وما بقى رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائرا واقع فصاروا يقولون يا أبا القاسم انصرف فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر وأما معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا يعني عيب آلهتم ودينهم فقال نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال بلى فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال ويلكم { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه
____________________

وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه قالت بنته أسماء فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وجاء أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره فقام أبو بكر دونه وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي وهو يبكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت اجتمعت مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له أي قالت له وهي تبكي تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اسكتي وفي لفظ لا تبكي ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا فاخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص ابن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق ولم يسلم ممن ذكر إلى الحكم وكان في إسلامه شيء وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف وأنه سيأتي السبب في نفيه وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظان أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره وحلمه وإحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله ** لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء ** ** كل أمر ناب النبيين فالشدة ** فيه محمودة والرخاء ** ** لو يسمى النضار هو من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء **
____________________


أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم لأن كل أمر من الأمور العظيمة أصاب النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة لأنه لرفع الدرجات والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما أختير له العرض على النار فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة
قال ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية ما ذكره بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبدالله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور أي الخروج إلى المسجد فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد وقام أبوبكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر ابن الخطاب أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم وهي تخفى إسلامها فأساليها عنه فخرجت إليها وقالت لها إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فقال لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت لها تريدين أن أخرج معك قالت نعم فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله
____________________

منهم فقال لها أبو بكر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له هذه أمك تسمع قال فلا عين عليك منها ألا أنها لا تفشي سرك قالت سالم فقال أين هو فقال في دار الأرقم فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن ينقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى
هذا وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة خصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل فإن تعدد الواقعة بعيد
ومما وقع لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما فقال والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا فقال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنا فقالوا نخشى عليك منهم إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم فقال دعوني فإن الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال { بسم الله الرحمن الرحيم } رافعا صوته { الرحمن علم القرآن } واستمر فيها فتأملته قريش وقالوا ما بال ابن أم عبد فقال بعضهم يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه فقال له أصحابه هذا الذي خشينا عليك منه فقال والله ما رأيت أعداء الله أهون على مثل اليوم ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة من يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لأنهم تواصوا { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم
____________________


ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وهو ما حدث به ابن إسحاق قال حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا أي وقيل عند الحجون فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه أي وقيل إنه صب التراب على رأسه أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه راجعا من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر أي فقالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام تعني أبا جهل وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبدالمطلب قالت له إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الذي تقولين قالت نعم
وفي رواية فلما رجع من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما لو علم ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته فالتفت إليهما فقال ماذاك قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على ذلك إن استطعت
أي وفي لفظ أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا قال ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقامت رجال من بني مخزوم أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلا قد صبأت فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله
____________________

وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني إن كنت صادقين فقال لهم أبو جهل دعوا أبا عمارة أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه أي استمر أي بعد أن وسوس له الشيطان فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك الموت خير لك مما صنعت ثم قال اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياابن أخي إن قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك لصادق فأظهر يابن أخي دينك
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني حمزة { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعنى أبا جهل وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرأ لأنه كان أعز فتى في قريش واشدهم شكيمة أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم أي لا ناصر لهم فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك كالحارث بن ربيعة بن الأسود وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة وعلى بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا
____________________

لأمية بن خلف فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد بالرفع والتنوين أو بغير تنوين أي الله أحد أو يا أحد فهو إشارة لعدم الإشراك وقد أثر الحبل ف عنقه
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوصع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول أحد أحد أي أنا لا أشرك بالله شيئا أنا كافر باللات والعزى
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة وكان لعبدالله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة أي خوف إسلامهم فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكن فشعرت به قريش فشكوه إلى عبدالله وقالوا له أصبوت قال ومثلي يقال له هذا فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال فكانوا يعذبونه بما تقدم أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه وما يأتي من أن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال ثم أتى إلى أمية وقال له والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما لأنه من أهل الجنة وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة وتقدم ما فيه فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان
وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله
____________________

عليه وسلم وهو في خيبر أي صاروا يقولون غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء وعلى ظهره تلك الصخرة فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين حتى متى تعذبه قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى قال أبو بكر عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أي على دينك أعطيكه به قال قبلت قال هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به هذا كلامه
وفي الإمتاع لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال قال أمية لأصحابه لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد ثم تضاحك وقال له أعطني عبدك قسطاس فقال أبو بكر إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار فقال أبو بكر رضي الله عنه أنت رجل لا تستحي من الكذب قال لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلن فقال هي لك فأخذه هذا كلامه
وقيل اشتراه بتسع وقيل بخمس أواق أي ذهبا أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة وفي رواية برطل من ذهب
ويروى أن سيده قال لأبي بكر لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه فقال لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها
ولما قال المشركون إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده ليكافئه بها انزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه والأشقى أمية بن خلف
قال الإمام فخر الدين أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب
____________________

الشيعة إلى أن المراد به علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } لأن هذا الوصف لا يصدق على علي رضي الله تعالى عنه لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها أي نعمة دنيوية لأنها التي يجازى عليها بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازي عليها قال الله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لأن الله تعالى يقول { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم هوالأفضل وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما على فلا يمكن حمل الآية على علي لما تقدم فتعين حملها على أبي بكر
وذكر بعض أهل المعاني أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن الراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل فهو عام في أمية ابن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا والذي بخل واستغنى المراد به أبوسفيان لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا وقيل المراد به أمية بن خلف
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر فقال قد أعتقته يا رسول الله أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه
هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر أي ملكه له فاعتقه فليتأمل الجمع بين هذا وماتقدم
وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله منهم حمامة أم بلال ومنهم عامر بن فهيرة فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدرى ما يقول وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية أسلم حين أسلم بلال فمر به أبوبكر رضي الله تعالى عنه وقد
____________________

أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء فوضع على بطنه صخرة فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة عذبت في الله تعالى حتى عميت قال لها يوما أب جهل إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين فقالت له كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها فقالت قريش إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها أي وكذا ابنتها
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة أمة لبني زهرة كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها وكذا النهدية وابنتها وكانتا للوليد بن المغيرة وكذا امرأة يقال لها لطيفة وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى مل قبل أن يسلم ثم قال لها إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم فاشتراها منه وأعتقها
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب وكان يقال لها لبينة فجملة هؤلاء تسعة
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرت بالمثناة فوق فإنه سبى في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدية وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم انصر خبابا فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها
____________________


وفي البخاري عن خباب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه فقال إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذاالأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه
قال وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري أي دهنه
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يعذب بالنار وفي كلام ابن الجوزي كان صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب بالنار فيمر يده على رأسه ويقول يانار كونى بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم هذا كلامه
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص أي صار أثر النار أبيض كالبرص ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسر وأخاه عبدالله وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم صبرا آل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة أي وفي رواية صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت فمات يا سر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت أي بعد أن قال لها إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها فهي أو شهيدة في الإسلام اه
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف فنزل قوله تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
وجاء أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بلغ منا العذاب
____________________

كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان ثم قال اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار
قال بعضهم وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمناه إلا هو أي من المهاجرين فلا ينافى أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان
ومما أوذى به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لما ابتلى المسلمون بأذى المشركين أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال أي وفي رواية حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون وهو سيد القارة اي وهو اسمه الحارث والقارة قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوة الرمى ومن ثم قيل لهم رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة والقارة أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها قال له أي تريد يا أبا بكر قال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن ملثلك يا أبا بكر قال ابو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش وقال لهم إن ابا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم 6 ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق وهو في جواري فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة أي لم يرد جواره وقالوا لإبن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه فمكث ايو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فكانت نساء قريش يزدحمن عليه فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش أي مع المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا اجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة
____________________

والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل وإن رأى أن يعلن بذلك فاسأله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك أي نزل خفارتك أي ننقض جوارك ونبطل عهدك فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له فقال له أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى قال ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر عليه بعض كبراء قريش من المشركين فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ألا ترى ما صنع هذا السفيه فقال له أنت فعلت بنفسك فصارأبو بكر يقول رب ما أحلمك قال ذلك ثلاثا انتهى
أي وفي كلام بعضهم وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدعنة أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب اسلامه فإن هذا منهم اعتراف أي اعتراف بإن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا أن يجحد شيئا منها وإلا لبادوا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه صنائع المعروف تقي مصارع السوء ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر
____________________

باب عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به ومن حديث الزبيدي وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا مطاعا في قريش قال يوما وهو جالس في نادي قريش أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا قالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه قال وفي رواية أخرى أن نفرا من قريش اجتمعوا وفي أخرى أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يريد فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة انتهى
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم قال زاد بعضهم أنه قال أيضا أنت خير أم عبدالله أنت خير أم عبدالمطلب أي فسكت إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا
____________________

ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى انتهى فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا أي فيصير لك الأمر والنهى فهو أخص ما قبله وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال لقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل قال { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدالكم قال وفي رواية أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره فقص عليهم القصة فقال والله الذي
____________________

تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب فقالوا له ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ماقال قال والله ما سمعت مثله والله ما هو بالشعر إلى آخر ماتقدم فقالوا والله سحرك يا أبا الوليد قال هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم اه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا أي أشرافهم وشيختهم منهم الأسود بن زمعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل
وفي الينبوع أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بإشكائهم ما يشكون منه أي أن يزيل شكواهم منه ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح فأحضره وقال يا بن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم الحديث أي قالوا له يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسببت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك
وفي رواية أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك فقال صلى الله عليه وسلم ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعت قريش النبي صلى الله
____________________

عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء فقد ذكر أن عتبة بن ربيعة قال له إن كان أن ما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا وقالوا له ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك وقالوا له إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال وماهي قال تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كما قد أخذنا منه بحظنا فقال لهم حتى أنظر ما يأتي من ربي فجاء الوحي بقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم } السورة
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة فنزلت اي لا أعبد ما تعبدون يوما ولا أنتم عابدون ما أعبد شهرا ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن لو قال امرؤ القيس ** قفا نبك من ذكري حبيب منزل ** وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا فكيف وقع في القرآن { قل يا أيها الكافرون } السورة وهي مثل ذلك وقوله { لكم دينكم ولي دين } نسخ بآية القتال وبقوله تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن قالوا أئت بقرآن غير هذا فأنزل الله تعالى { ولو تقول علينا } الآيات
وقد يقال المناسب للرد عليهم قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } الآية ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها نزل قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله } الآية
قال وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل
____________________

ابن هشام وعتبة بن ربيعة أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة فقال لهم أليس حسنا ما جئت به فيقولون بلى والله وفي لفظ هل ترون بما أقول بأسا فيقولون لا فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين وهوممن أسلم بمكة قديما والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم فصار يقول يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه انتهى
أي وفي رواية أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه فكفه القائد فدفعه ابن أم مكتوم فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك } السورة أي والمجئ مع الأعمى ينشأ عن مزيد من الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجئ ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه قال وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر ابن العربي هنا انتهى
أقول لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ وإلا لم يسمعه بالإسم المشتق من العمر دون الإسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد وليم يقل استدنني يا رسول الله ولعل في قوله تعالى { لعله يزكى } ما يعطى الترجى والإنتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والإنتظار للتزكي هذا كلامه
وعن الشعبي قال دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه فقيل لها في ذلك فقالت ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وفي فتاوي الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه فأجاب عنها بأنها باطلة أن أبا جهل قال يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب
____________________

ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوتة ورجلاه من جوهر فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية
أي رواية عن ابن عباس اجتمع المشركون اي بمنى منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب وكانت ليلة أربعة عشر أي ليلة البدر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فانشق القمر نصفا على ابي قبيس ونصفا على قعيقعان وفي لفظ فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق والتي كانت دون الجبل كانت جهة المغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ولا منافاة بين الروايتين ولا بينهما وبين ما جاء في رواية فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب أي ثم إن كان الإنشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل وسيأتي عن زين المعمر أنه عاد بعد غروبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي فقال إنه انشق مرتين لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال فقد قال ابن القيم كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الإنشقاق إلا مرة واحدة وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه لأن وهب بن عبد مناف
____________________

ابن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة أو هو من قبل مرضعته حليمة لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم فقال حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا معظما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين ومستفاد الغارمين أخذني الموت غصبا وقد أعيى الجبابرة قيل قال صلى الله عليه وسلم كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه لأن أبا أم جده عبدالمطلب كان يدعى أبا كبشة وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا
وقيل الذي عبد الشعرى وترك الأصنام رجل من خزاعة فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذا الآية للنوع المسمى بالتنكيت وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبدالشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه وكبشة ليس مؤنث كبش لأن مؤنث كبش ليس من لفظه فقال رجل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها أي جميع أهل الأرض وفي رواية لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فاسألوه من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك وفي رواية أن أبا جهل قال هذا سحر فسألوا أهل الآفاق وفي لفظ انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا فأخبروا أهل الآفاق وفي لفظ فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر أي مطرد فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات وفي لفظ قالوا هذا سحر أسحر
____________________

السحرة فأنزل الله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي مطرد كما تقدم أو محكم أو قوي شديد أو مار ذاهب لا يبقى وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة بل جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع إنشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام
وفي فتح الباري حنين الجذع وإنشقاق القمر نقل كلا منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث
أقول وإلى إنشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله ** شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء **
أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر وإنما شق له صلى الله عليه وسلم لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وبدر الدياجى انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية **
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم إنشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الإمتناع أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها
وفي الإصابة عن بعضهم قال وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة فلما رأونا رحبوا بنا فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة فسألناهم فقالوا في هذا
____________________

الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال لك فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع فقال سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل فعلمت حاله فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة فلما وضعته عند إبله نظر إلي ودعا لي ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن ألتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فتعجبنا من ذلك غاية العجب ولم نعرف لذلك سببا فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك فاشتقت إلى رؤياه فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه وأتيت إلى منزله واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه فلما سلمت عليه نظر إلي وتبسم وقال ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب وصار يناولني إلى أن ناولني ست رطبات ثم نظر إلي وتبسم وقال لي ألم تعرفني قلت لا فقال ألم تحملني في عام كذا في السيل ثم قال امدد يدك فصافحني وقال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقلت ذلك فسر أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك قال ذلك ست مرات فبارك الله لي عمري بكل دعوه مائة سنة فعمري اليوم ستمائة سنة أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل
____________________


وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث وهو الحديث الذي رواه معمر الذي يزعم أنه صحابي وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين وبقية الصحابة بغلق واحد فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات وقال له عمرك الله يا معمر فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة وقال له بعد أن صافحه من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار هل هو صحيح أم كذب وإفتراء لا تجوز روايته فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد وقد قال أهل الحديث وغيرهم إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل مات سنة عشر ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم واتفق عليه العلماء فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم قال إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل قال زاد في رواية فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت لكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به اه
ثم قالوا له واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك أي وفي لفظ قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك وقال آخر يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا أي وفي لفظ قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل ويمشي في الأسواق ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن فلا يجوز
____________________

أن يمتاز عنا بالنبوة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } ثم قالوا وأسقط السماء علينا كسفا أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله { قل هو } أي الرحمن { ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها وقال له عبدالله بن عمته عاتكة بنت عبدالمطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وأيم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب لأن الله تعالى يقول { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
وعن محمد بن كعب ما حاصله أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل فقال له إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم إنشقاق القمر
وفي رواية أتاه جبريل فقال يامحمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إن شئت
____________________

أن يصبح لهم الصفا ذهبا فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت لا تصير الصفا ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة فقال لا بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة
وفي رواية وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم بل حتى يتوب تائبهم وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل وهي إمتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل ليكون إيمانهم عن نظر وإستدلال فيحصل الثواب لمن فعل ذلك ويحصل العقاب لمن أعرض عنه إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري فلا يحتاج إلى إرسال الرسل ويفوت الإيمان بالغيب
وأيضا لو يسألوا من تلك الآيات إلا تعنتا وإستهزاء لا على جهة الإسترشاد ودفع الشك وإلى سؤالهم تلك الآيات وإرتيابهم في القرآن وقولهم فيه إنه سحر وإفتراء أي سحر يأثره أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل يفرق به بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته { إن هذا إلا قول البشر } من قول أبي اليسر وهوعبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا تزاحمنا نحن وبنو عبدالمطلب الشرف حتى صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزل قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ** عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء ** ** والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وإرتقاء **
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه إهتداء للعقول وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن ** أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء ** ** أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء ** ** كل يوم يهدى إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء ** ** تتحلى به المسامع والأفواه ** فهو الحلى والحلواء ** **
____________________

رق لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء ** ** وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء ** ** إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء ** ** سور منه أشبهت صورا منا ** ومثل النظائر النظراء ** ** والأقاويل عندهم كالتماثيل ** فلا يوهمنك الخطباء ** ** كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء ** ** فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء ** ** فأطالوا فيه التردد والريب فقالوا سحر وقالوا افتراء ** وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء ** ** وإذا ضلت العقول على علم ** فماذا تقوله الفصحاء **
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة أعجز الإنس والجن آية منه فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة كل وقت يهدى قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه ولذلك تتحلى بسماعه المسامع من التحلية التي هي لبس الحلي وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلى والحلواء حسن من جهة اللفظ وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى فأرتنارقة من زلاله وصفاء من ذلك الزلال خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لا خفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآة وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا من حيث إشتمال كل صورة منا على عقل وفهم وخلق لا يشاركه فيه غيره والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي كالحب الذي يلقيه الزارع والنوى الذي يلقيه الغارس أعجب الزراع والغراس منها أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا وإذا ضلت العقول
____________________

عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء أي وقال الوليد ابن المغيرة يوما أينزل القرآن على محمد وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدنا ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين أي مكة والطائف فأنزل الله تعالة { وقالوا لولا } أي هلا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم بقوله { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية
وفي لفظ قال بعضهم كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما اسالاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول أي التوراة لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود أي قالا لهم أتيناكم لأمر حدث فينا منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الله وفي لفظ رسول الرحمن قالوا صفوا لنا صفته فوصفوا قالوا فمن يتبعه منكم قالوا سفلتنا فضحك حبر منهم وقالوا هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة
قالت لهم أحبار اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي فإذا أخبركم بذلك أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم عليه الصلاة والسلام أخبركم غدا ولم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن محمدا قلاه ربه وتركه أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب قالت له ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك أي تركك
____________________

وبغضك وفي رواية قالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه وشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف
ويروى أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل ويحجون البيت وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة
وفي لفظ كان له شبه القرنين في رأسه وقيل غديرتان من شعر وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها أي بلغ قطرى المشرق والمغرب وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيى ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيى وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس والقرن زمان مائة سنة وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح وكان من الملوك العادلة وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر وقيل كان نبيا قاله الضحاك
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء وهو أن الروح من أمر الله أي قل لهم الروح من أمر ربي أي من علمه لا يعلمه إلا هو أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات سلوه عن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك إلا أن يقال المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى
ويوافقه ما في مأثور التفسير { من أمر ربي } من علم ربي لا علم لي به وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم من الله تعالى فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور أي مأمور
____________________

من مأموراته وخلق من خلقه لا أنها جزء منه والله أعلم أي وهذا يدل على أن المسئول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان حيواني وهي التي تسميه الأطباء المزاج وهو جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة ويقال لها اللطيفة الربانية ويقال لها العقل ويقال لها الروح ويقال لها القلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعلق بقوى النفس الحيواني وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت هذا كلامه
وفي كلام بعضهم والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبره أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اه
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين فسأل عن العلماء فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي فقال له الهندي ما تعبدون قالوا نعبد الله بالغيب قال من أنبأكم قالوا محمد صلى الله عليه وسلم قال فما الذي قال في الروح قال هو من أمر ربي فقال صدقتم فأسلم وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل قال بعضهم قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه أي مشركو مكة عن الروح وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة أي من اليهود هذا كلامه
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب حيث تعقب قول بعضهم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله قلت السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة
____________________


وفي الإتقان قد يعدل عن الجواب اصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } قال صاحب الإفصاح إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالإشتراك على روح الانسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم فبأي مسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم وفي سورة الكهف أيضا { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله فإذا نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول قال جمع منهم حسن مادام في المجلس أي وظاهره وإن طال الفصل
وفي الخصائص الكبرى أن هذا أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد منا أن يستثني أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه
أقول كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره لأن مساق الآية في الإخبار لافي الحلف
فإن قيل هي علامة في الخبر ة الحلف قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أنا نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو مشهور وقيل لإنه كان في بيته كلب وفي لفظ كان تحت سريره جرو ميت فقد جاء أنه لما صلى الله عليه وسلم عاتب جبريل في احتباسه قال أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أي أنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني قالت فقلت في نفسي لو كنست البيت فأهوبت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو الميت
أقول قال ابن كثير قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا وهو
____________________

إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة وأن لا يكتب عمله
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل الملائكة ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح والله أعلم
وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله آتاكم الله من فضله أي ربما سكت فقد روى الشيخان ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا قال الحافظ بن حجر المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده شيئ أعطاه وإلا سكت وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط أي ما شافهه بالرد
وقد حكى بعضهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله استغفر لي فسكت فقلت يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت ولعل هذا في غير رمضان
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان اطلق كل أسير وأعطى كل سائل وبين الشيخ ابن الجوزي فبي النشر سبب إلحاح هذا السائل فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه فهم أن يأكل منه فجاءه سائل فقال أطعموني مما رزقكم الله فسلم إليه ذلك القطف فلقيه بعض أصحابه فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل فسأله فانتهره وقال إنك ملح قال وهذا سياق غريب جدا وهو معضل
وقيل سبب ذلك غير ذلك من ذلك الغير أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم ما حبسك في قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم و لا تنقون براجمكم ولا تأخذون شعوركم و لا تستاكون
أقول واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة ولا ينافيه قوله ونزلت أي سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمداقلاه ربه وتركه وهي
____________________

{ ما ودعك ربك وما قلى } أي ما قطعك قطع المودع وما أبغضك لأنه لا يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه
ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وتارة بقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك } كما يأتي قريبا وكما سيأتي في قصة الإفك لكن فال الحافظ بن حجر قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية أي { ما ودعك ربك وما قلى } غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه
أقول ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة مافي بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما ومارواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت السرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله مادريت به فأمر به فأخرج فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي زيادة الجامع الصغير أتاني جبريل فقال لي إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن وأمر بالكلب فأخرج ومعلوم أن مجئ جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما تقدم فليتأمل
لما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعو حتى نزل { وأما بنعمة ربك فحدث } فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن
____________________

وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر
هذا وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آحر سورة الضحى إلى آخر { قل أعوذ برب الناس } والأتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال قرأت على اسماعيل بن عبد ربه فلما بلغت الضحى قال كبر فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة فلما بلغت والضحى قال لي كبر حتى تختم وأخبري ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك أخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك قال بعضهم حديث غريب
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى باسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال إنما نزلت سورة ألم نشرح عقب قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك
وعن ابن اسحاق ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا وفي لفظ ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال له جبريل { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } أي لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار بل كان ذلك لحمكة رآها
____________________


وأما حديث الزبيدي فقد حدث بعضهم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال له صلى الله عليه وسلم ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاث أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي فظلمني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين جمالك قال هذه هي بالحزورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسانا فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم فقالوا له ذللت في يد محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه فقال لهم لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيته رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
ونظير ذلك أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فمشى معه إليه ورد عليه ماله فقيل له في ذلك فقال خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني
وأما حديث المستهزئين فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل أي بعد أن وقف على ناديهم فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل وقد غلبي على حقي فقالوا له أترى ذلك
____________________

الرجل يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فهو يعينك عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له حاله مع أبي جهل أي قال له يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك فخذ حقي منه يرحمك الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير وصار كلون النقع الذي هو التراب وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم فقال له أعط هذا حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدفعه إليه قال ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقد والله أخذ لي بحقي وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت قال رأيت عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه فعند ذلك قالوا لأبي جهل ويلك ما رأينا مثل ما صنعت قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط لو أبيت أو تأخرت لأكلني وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء ** ** ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء ** ** هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء **
أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين كثير النجاء وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم لكن ما على مثله فضلا عنه يعد الخطأ لأن خطأه لا ينحصر
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الأوقات سار
____________________

خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات
قال ابن عبدالبر وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم
ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ومر يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك فأخذه وطرحه على رأسه فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقى القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقد قال صلى الله عليه وسلم كنت بين شر جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي كما تقدم
ومن استهزائه أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فقال ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة فأتى إليه وقال يا عقبة صبوت قال والله ما صبوت ولكن دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي فقال له أبي وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فقال له عقبة لك ذلك ثم إن عقبة لقى النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم فعاد بصاقه برصا في وجهه أي صار
____________________

كالبرص وأنزل الله تعالى في حقه { ويوم يعض الظالم على يديه } أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا
ومن استهزاء الحكم بن العاص أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشى ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة أي وقيل بمدرى في يده والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس وقال من عذيرى من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ولعنه وما ولد وغربه عن المدينة إلى وج الطائف فلم يزل حتى ولى ابن أخيه عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك فقال لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر لما ولى الخلافة فقال له مثل ذلك ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك فقال أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده أي أني أرده ولا ينافى ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله وسيأتي ذلك في جملة أمور نقمها عليه الصحابة
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالحكم فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال اللهم اجعل به وزغا فرجف وأرتعش مكانه والوزغ الإرتعاش وفي رواية فما قام حتى ارتعش
وعن الواقدي استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منه وقليل ما هم ذو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى إليه بمروان لما ولد فقال هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه لأنه يحتمل أنه أتى به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه وربما يدل ذلك قوله هو الوزغ إلى آخره
____________________


وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفى أبوه إلى الطائف أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي ومن ثم قال البخاري مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } وقالت له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية إنهم الشجرة الملعونة في القرآن ولى مروان الخلافة تسعة أشهر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حيث قال لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبدالرحمن بل سنة هرقل وقيصر وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية فقال له مروان أنت الذي أنزل الله فيك { والذي قال لوالديه أف لكما } فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ثم قالت له أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه
وعن جبير بن مطعم كنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا قال بعضهم وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده
وعن حمران بن جابر الجعفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لبني أمية ثلاث مرات أي وقد ولى منهم الخلافة أربعة عشر رجلا أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد وكان مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة وهي ألف شهر وقال بعضهم لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما قال ابن كثير وهذا غريب جدا وفيه نظر لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث
____________________


أي ومن استهزائه أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة أي حدادا يعمل السيوف وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها فقال له يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد قال خباب بلى قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عندالله مني ولا أعظم حظا في ذلك
وفي لفظ أن العاص قال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله تعالى فيه { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وفي البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفربه حتى يميتك الله ثم يبعثك
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على إحتمال كفر لأنه ينافى عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث ولا ينافيه قوله حتى لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أي لكن أبواه
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الإختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعد منهم الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى
____________________

وقيصر أي لأن الصحابة كانوا متقشفين ثيابهم رثة وعيشهم خشن ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه هذا القول
وعد منهم الأسود بن عبدالمطلب ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم
وعد منهم النضر بن الحارث فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء
أقول والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي { إنا كفيناك المستهزئين } الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل فإنه كان من عظماء قريش وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة كان يطعم الناس أيام منى حيسا وينهى أن توقد نار لأجل طعام غير ناره وينفق على الحاج نفقة واسعه وكان الأعراب تثنى عليه كانت له البساتين من مكة إلى الطائف وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر وكان المقدم في قريش فصاحة وكان يقال له ريحانة قريش ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة قال بعضهم بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة وفي لفظ ابن الطلاطلة في اللغة الداهية قال بعضهم وهو إشتباه لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة وذكره ابن عبدالبر في الصحابة قال في أسد الغابة لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر والصحيح أنه كان من المستهزئين وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي لما يروى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أي يطوف بالبيت وقال له أمرت أن أكفيكهم فلما مر الوليد بن المغيرة قال له يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته ومر العاص بن وائل فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأشار إلى أخمصه وقال كفيته ثم مر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى عينه وقال كفيته ثم مر الأسود بن عبد يغوث
____________________

فقال كيف تجد هذا يامحمد قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال كفيته ثم مر الحارث بن عيطلة فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى بطنه وقال كفيته وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة ** والله أعلم
قال وروى الزهري أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فاصابته السموم فاسود وجهه فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه وف يكلام البلاذري عن عكرمة أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالي خالي أي لأنه كما تقدم ابن خاله فهو إما على حذف المضاف أو لأجل مراعاة أبيه أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي فقال جبريل يا محمد دعه وفي رواية قال له جبريل خل عنك ثم حثاه حتى قتله وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه
والمناسب لذلك ما ذكره بعضه أنه امتخض رأسه قيحا ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات وكذا الحارث بن عيطلة أي وفي كلام القاضي حارث ابن قيس
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس فقد أكل حوتا مملحا فلم يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا
وأما الأسود بن المطلب فقد عمى بصره فقد ذكر أنه خرج ليستقبل ولده وقد قدم من الشام فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فنجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمى فجعل يستغيث بغلامه فقال له غلامه لا أحد يصنع بك شيئا أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك فسالت حدقتاه وصار يقول ها هو ذا طعن بالشوك في عيني فيقال له ما نرى شيئا وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمى بصره
____________________

في الحال لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب وفي رواية أنه كان يقول دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمى وفقد أولاده فعجل له العمى وفقد أولاده ببدر وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات وأما العاص بن وائل فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أشار صاحب الهمزية بقوله ** وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء ** ** خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء ** ** فدهى الأسود بن مطلب ** أي عمى ميت به الأحياء ** ** ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الردى استسقاء ** ** وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء ** ** وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فلله النقعة الشوكاء ** ** وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء ** ** خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء **
أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم والهلاك من جملة جنوده الأمراض
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه ودهى أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء أي سمها وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله فلله هذا النقعة الخشنة اللمس وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سال رأسه وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه
____________________

لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه خمسة طهرت بهلاكهم الأرض فكف الأذى بهم شلاء فاقدة الحركة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } كما ذكرنا وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافى عد منبه ونبيه ابنى الحجاج منهم
فقد قيل كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يليقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعمله أهل الكتاب ما يأتي به ولا ينافي عد أبي جهل وغيره منهم كما تقدم
وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذي يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم
أي وفي رواية أن بعض قريش وكان شديدا قوي البأس بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه قال له أنا أكفيك سبعة عشر واكفوني أنتم إثنين ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة وقال له يامحمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه اليب صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن
أي وفي رواية أن أبا جهل قال أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا { للذين كفروا } الآيات أي بأن يقولوا ما ذكر أو يقولوا لم كانوا تسعة عشرة وماذا أراد الله بهذا العدد أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع
وقد جاء في وصف تلك الملائكة أن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصى
____________________

أي القرون ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وفي رواية ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين نزعت الرحمة منهم
وأخرج العتبى في عيون الأخبار عن طاوس إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها وهؤلاء التسعة عشرة هم الرؤساء ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي وهؤلاء الأتباع منهم
وأخرج هناد عن كعب قال يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها
وفي كلام بعضهم لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى { عليها تسعة عشر } وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار لقوله تعالى قبل ذلك { سأصليه سقر } وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر قيل وبسم الله الرحمن الرحيم عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحد منهم
أقول ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق يا معشر يخوفنا محمد بشجرة الزقوم يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم والنار تأكل الشجر إنما الزقوم التمر والزبد
وفي لفظ العجوة تترب بالزبد هاتوا تمرا وزبدا تزقموا فأنزل الله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النر ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها
وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر وثمر تلك الشجرة مر له زفرة وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون
____________________

طعامه أي وقال يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد فأنزلها الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فكف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير { إنا كفيناك المستهزئين } قيل نزلت في جماعة مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة
وقد يدعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر لأنهم المستهزئون ذلك الوقت أي فقد تكرر نزول الآية والله أعلم
قال ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحدثهم عن ملوك فارس لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول ما حديث محمد إلا أساطير الأولين
ويقال إنه الذي { قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فانتهى أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال في الينبوع والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات وقال ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر فليتأمل ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين فأنزل الله تعالى تكذيبا له { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا له
وجاء أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى سمعوا قراءته فأرسلوا
____________________

الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت فإذا الصوت من خلفهم فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين فانزل الله تعالى قوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وتقدم في سبب نزولها غير ذلك ويمكن أن يدعى أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل
وجاء أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فاغتاله فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقى أبا جهل فقال من أين فأخبره النضر الخبر فقال أبو جهل هذا بعض سحره
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي وقودها وحصب بالزنجية حطب أي حطب جهنم وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك { أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } شق على كفار قريش وقالوا لعبدالله بن الزبعري قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعوه له فقال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال بل لكل من عبد من عبد دون الله فقال ابن الزبعري أخصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنوا مليح الملائكة فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } يعنى عيسى وعزيرا والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب الهجرة الأولى
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم & باب الهجرة الاولى الى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر اليها من المسلمين الى مكة واسلام عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالى الاذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه قال لهم تفرقوا فى الارض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا الى أين نذهب قال هاهنا وأشار بيده الى جهة أرض الحبشة قال وفى رواية قال لهم أخرجوا الى جهة أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد اي وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه انتهى أى ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته فقد جاء فى الحديث من فر بدينه من أرض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهاجر اليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة وفرارا الى الله تعالى بدينهم ومنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم وكان أول خارج وقيل أول من هاجر الى الحبشة حاطب بن أبي عمرو وقيل سليط بن عمرو ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم ان عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط أى حيث قال انى مهاجر الى ربى فهاجر الى عمه ابراهيم الخليل ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران ثم هاجرا الى أن نزل ابراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة
____________________


ووجه عدم المنافى أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم وكانت رقية رضى الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضى الله تعالى عنه ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن ** أحسن شىء قد يرى انسان ** رقية وبعدها عثمان **
ومن ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا الى عثمان ورقية رضى الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول فلما جاء اليه قال له صلى الله عليه وسلم ان شئت أخبرتك ما حبسك قال نعم قال وقفت تنظر الى عثمان ورقية تعجب من حسنهما أى ومعلوم أن ذلك كان قبل اية الحجاب
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون اليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا وقد جاء فى وصف حسن عثمان رضى الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم قال لى جبريل ان أردت أن تنظر من أهل الارض شبيه يوسف الصديق فانظر الى عثمان بن عفان وسيأتى ذلك مع زيادة
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة أى وقيل هو أول من هاجر بأهله وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله ويمكن أن تكون الاوليه فيه اضافية فلا ينافى ما سبق عن عثمان
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى أى وعنها رضى الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من أشد الناس علينا فى اسلامنا فلما ركبت بعيرى أريد أن أتوجه الى أرض الحبشة اذا أنا بعمر بن الخطاب فقال لى الى أين يا أم عبدالله فقلت قد اذيتمونا في ديننا نذهب فى أرض الله حيث لا نؤذى فقال صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجى عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال ترجين أن يسلم عمر والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب أى استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الاسلام وهذا دليل على أن اسلام عمر كان بعد الهجرة الاولى للحبشة وهو كذلك أى خلافا لمن قال انه كان تمام الاربعين من المسلمين أى ممن أسلم
وفيه أن المهاجرين الى أرض الحبشه كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم اللهم الا أن يقال انه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين الى أرض الحبشة وربما يدل لذلك قول عائشة رضى الله تعالى عنها فى قصة الصديق وفى ضرب قريش له رضى الله تعالى عنه
____________________

لما قام خطيبا في المسجد الحرام وقد تقدمت حيث قالت وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا لكن فى الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبدالمطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل
وفى لفظ عن أم عبد الله زوج عام قالت انا لنرحل الى أرض الحبشة وقد ذهب عامر تعنى زوجها الى بعض حاجته اذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على وكنا نتقى منه الاذى والبلاء والشدة علينا فقال انه لخروج يا أم عبدالله فقلت والله لنخرجن الى أرض فقد اذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا وقلت لعامر يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم
وممن هاجر أبو سبرة وهو أخو أبى سلمة رضى اله تعالى عنهما لامه أمهما برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر ومعه امرأته أم كلثوم
وممن هاجر بنفسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنهما أى وكان أميرا عليهم كما قيل وجزم به ابن المحدث فى سيرته وقال الزهرى لم يكن لهم أمير وسهيل بن البيضاء أى والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود رضى الله تعالى عنهم وقيل انما كان عبدالله بن مسعود فى الهجرة الثانية فخرجوا سرا أى متسللين منهم الراكب ومنهم الماشى حتى انتهوا الى البحر فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار أى وفى المواهب وخرجوا مشاة الى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار هذا كلامه فليتأمل
وكان مخرجهم فى رجب من السنة الخامسة من النبوة فخرجت قريش فى اثارهم حتى جاءوا الى البحر لم يجدوا أحدا منهم ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة فلما وصلوا الى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار فمكثوا فى أرض الحبشة بقية رجب وشعبان الى رمضان فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين سورة { والنجم إذا هوى } أى وقد أنزلت عليه فى ذلك الوقت ففى كلام بعضهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين وأنزل الله تعالى عليه سورة { والنجم إذا هوى } فقرأها عليهم حتى اذا بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }
____________________

وسوس اليه الشيطان بكلمتين فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحى اليه وهما تلك الغرانيق العلى أى الاصنام وان شفاعتهن لترتجى وفى لفظ لهى التى ترتجى شبهت الاصنام بالغرانيق التى هى طير الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمه واسكان الراء ثم نون مفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا أو غرنوق بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركى أو يشبهه ووجه الشبه بين الاصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع فى السماء فالاصنام شبهت بها فى علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا أى المسلمون والمشركون
أقول قال بعضهم ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان وانما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم الهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير ايمان
قال بعضهم والنجم هى أول سورة نزل فيها سجدة أى أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافى أن { اقرأ باسم ربك } سورة نزلت فيها سجدة لان النازل منها أوائلها كما علمت
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما { اقرأ باسم ربك } فسجد في اخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رءوسهم يصفقون
وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم أى غير سجدته المتقدمة التى سجد معه المشركون ومجموع ذلك يرد حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد فى شىء من المفصل قبل أن يتحول الى المدينة لان سورة النجم من المفصل لان عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة
لا يقال لعل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل لانا نقول { اقرأ باسم ربك } من المفصل اتفاقا وعلى ما قال أئمتنا يكون فى المفصل ثلاث سجدات في النجم والانشقاق { اقرأ باسم ربك } وهى أى النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وذكر الحافظ الدمياطى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه أى تركا وعدم تعرض له فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لم ينزل على شىء ينفرهم عنى وفى رواية تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على اسلامهم وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الاندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } الى اخر ما تقدم والله أعلم
____________________

ومن جملة من كان مع المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا الى جبهته فسجد عليه لانه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود
وقيل الذى فعل ذلك سعيد بن العاص ويقال كلاهما فعل ذلك وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح وقيل عتبة بن ربيعة وقيل أبو لهب وقيل المطلب
وقد يقال لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا بعضهم فعل ذلك تكبرا وبعضهم فعل ذلك عجزا وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب فقد جاء وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبى لهب فانه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفى هذا
ولا يخالف ذلك مانقل عن ابن مسعود ولقد رأيت الرجل أى الفاعل لذلك قتل كافرا لانه يجوز أن يكون المراد بقتل مات فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم قد عرفنا أن الله تعالى يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما اذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى البيت
وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على اسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطى الا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل وقال له ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك فى قولنا فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها فقال له جبريل ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل أى فكبر عليه ذلك فأوحى الله تعالى اليه ما فى سورة الاسراء { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } بموافقتك لهم على مدح الهتهم بما لم نرسل به اليك { وإذا } لو فعلت أى دمت عليه { لاتخذوك خليلا } الى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أى مانعا يمنع العذاب عنك وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى اليه
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على اقامته بالمدينة لئن كنت نبيا فالحق بالشام لانها أرض الانبياء حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه فخرج برحله فنزلت فرجع أى بدليل ما بعدها وقيل ان التى بعدها نزلت فى أهل مكة
____________________

وقيل ان اية { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } نزلت في ثقيف قالوا لاندخل فى أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت ذلك فقل ان الله أمرنى
وقيل نزلت فى قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بالهتنا وتمسها بيدك
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله والقاضى البيضاوى اقتصر على ما عدا الاول والله أعلم
قال وقيل ان هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الاخرى فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم فظنهما النبى صلى الله عليه وسلم كما فى شرح المواقف ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى قال قلت على الله ما لم يقل وتباشر بذلك المشركون وقالوا ان محمدا قد رجع الى ديننا أى دين قومه حتى ذكر أن الهتنا لتشفع لنا وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أى قراءته ما ليس من القران أى مما يرضاه المرسل اليهم وفى البخارى اذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فينسخ الله ما يلقى الشيطان يبطله ثم يحكم الله اياته أى يثبتها والله عليم بالقاء الشيطان ما ذكر حكيم فى تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الايمان من المتزلزل فيه ولم أقف على بيان أحد من الانبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشىء من الوحى ومن ثم قيل هذه القصة طعن فى صحتها جمع وقالوا انها باطلة وضعها الزنادقة أى ومن ثم أسقطها القاضى البيضاوى ومن جملة المنكرين لها القاضى عياض فقد قال هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وانما أولع به المفسرون المؤرخون المولعون بكل غريب أى وقال البيهقى رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم وقال الامام النووى نقلا عنه
____________________

وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شىء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لان مدح اله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك أى وألا يلزم عدم الوثوق بالوحى
وقال الفخر الرازى هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } أى الشيطان لايجترىء أن ينطق بشىء من الوحى وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر وقال رد عياض لافائدة فيه ولا يعول عليه هذا كلامه وفشا أمر تلك السجدة فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة أى عضماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص
وفى كلام بعضهم والناقل لاسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع معهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة فظنوا صحة ذلك فقال المهاجرون بها من بقي بمكة اذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب الينا فخرجوا أى خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين الى مكة أى وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا منهم عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون وذلك فى شوال حتى اذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش فقال الركب ذكر محمد الهتهم بخير فتابعه الملاء ثم عاد لشتم الهتهم وعادوا له بالشر وتركناهم على ذلك فائتمر القوم فى الرجوع الى أرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل ننظر مافيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة أى بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا
قال فى الامتاع ويقال ان رجوع من كان مهاجرا بالحبشة الى مكة كان بعد الخروج من الشعب هذا كلامه وفيه نظر ظاهر ويرشد اليه التبرى لانهم مكثوا فى الشعب ثلاث سنين او سنتين ومكث هؤلاء عند النجاشى حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت وأيضا الهجرة الثانية للحبشة انما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتى
____________________

قال فى الاصل ولم يدخل أحد مهم الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الى أرض الحبشة
أى وهذا من صاحب الاصل تصريح بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى وهو موافق فى ذلك لشيخه الحافظ الدمياطى لكن الحافظ الدمياطى جزم بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى ولم يحك خلافا وصاحب الاصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها وبه جزم ابن اسحاق حيث قال ان ابن مسعود انما كان فى الهجرة الثانية فكان ينبغى للاصل أن يقول على ما تقدم
هذا وفى كلام بعضهم فلم يدخل أحد منهم مكة الا مستخفيا ولكهم دخلوا مكة الا عبدالله بن مسعود فانه رجع الى أرض الحبشة
وقد يقال لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها فلا ينافى ما سبق ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين فلا يخالف ماسبق أيضا ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا
قال وممن دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزوجل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت فقال لبيد وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا
____________________

تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك انتهى فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الاخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول لا يقال لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الاخرة لما تشوش من الرد عليه لانا نقول يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت
على أن هذا السياق دال على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل اسلامه ويؤيده ما قيل أكثر أهل الاخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم وبه يرد ما فى الاستيعاب أن هذا أى قوله أ لا كل شىء الى اخره شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله فى الاسلام وكذلك قوله ** وكل امرىء يوما سيعلم سعيه ** اذا كشفت عند الاله المحاصل **
وقد يقال لا يلزم من قوله المذكور الذى لا يصدر غالبا الا عن مسلم أن يكون قاله فى حال اسلامه كما وقع لامية بن أبى الصلت حيث قال فى شعره ما لايقوله الا مسلم مع كفره ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه امن شعره وكفر قلبه وفى رواية كاد يسلم
وذكر محيى الدين بن العربى فى قوله صلى الله عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب وفى رواية أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل
اعلم أن الموجودات كلها وان وصفت بالباطل فهى حق من حيث الوجود ولكن سلطان المقام اذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث انه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل أى كالباطل لان العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل والعارف اذا وصل الى مقامات القرب فى بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق لا أنها زالت من الوجود بالكلية ثم اذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى
____________________

والخلق معا فى ان واحد وما كل أحد يصل الى هذا المقام فان غالب الناس ان شهد الحق لم يشهد الخلق وان شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها الا من أدرك اجتماع الضدين ولعل من المشهد الاول قول الاستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى رضى الله تعالى عنه أستغفر الله مما سوى الله لان الباطل يستغفر من اثبات وجوده لذاته
ويوافق قول أكثر أهل الاخبار قول السهيلى وأسلم لبيد وحسن اسلامه وعاش فى الاسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر فسأله عمر رضى الله تعالى عنه أى فى خلافته عن تركه للشعر فقال ما كنت لاقول شعرا بعد أن علمنى الله تعالى البقرة وال عمران فزاده عمر فى عطائه خمسمائة من أجل هذا القول فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة وقيل انه قال بيتا واحدا فى الاسلام وهو ** الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى ** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا ** قال وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الاسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم فانه دخل فى جوار خاله أبى طالب ولما أجاره مشى اليه رجال من بنى مخزوم فقالوا يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا فقال انه استجار بى وهو ابن أختى وأنا ان لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى فقام أبو لهب على أولئك الرجال وقال لهم يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ فى جواره من قومه والله لتنتهن أو لاقومن معه فى كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة أى لانه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى وطمع أبو طالب فى أبى لهب حيث سمعه يقول ما ذكر ورجا أن يقوم معه فى شأنه صلى الله عليه وسلم وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم
وممن أوذى فى الله بعد اسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضى الله عنه عمر بن الخطاب
وسبب اسلامه على ما حدث به بعضهم قال قال لنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء اسلامى أى ابتداؤه والسبب فيه قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا فى يوم حار شديد الحر بالهاجرة فى بعض طرق مكة اذ لقينى رجل من قريش أى وهو نعيم بن عبدالله
____________________

النحام بالحاء المهملة قيل له ذلك لانه صلى الله عليه وسلم قال فيه لقد سمعت نحمته فى الجنة أى صوته وحسه كان يخفى اسلامه خوفا من قومه وأخبرنى أن أختى يعنى أم جميل واسمها فاطمة كما تقدم وقيل زينب وقيل امنة قد صبئت أى أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن عم عمر وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر فرجعت مغضبا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين اذا أسلما عند الرجل به قوة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم الى زوج أختى رجلين ممن أسلم أى أحدهما خباب بن الارت بالمثناة فوق والاخر لم أقف على اسمه
وفى السيرة الهشامية الاقتصار على خباب وأنه كان يختلف اليهما ليعلمهما القران فجئت حتى قرعت الباب فقيل لى من بالباب قلت ابن الخطاب وكان القوم جلوسا يقرءون صحيفة معهم فلما سمعوا صوتى تبادروا أى واستخفوا ونسوا الصحيفة فقامت المراة يعنى أخته ففتحت لى فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك قد صبوت وضربتها بشىء كان فى يدى فسال الدم فلما رات الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت فدخلت وجلست على السرير فنظرت فاذا بالصحيفة فى ناحية من البيت فقلت ما هذا الكتاب اعطينيه أى فان عمر كان كاتبا فقالت لا أعطيكه لست من أهله أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تتطهر وهذا لا يمسه الا المطهرون فلم أزل حتى أعطتنيه أى بعد أن اغتسل كما فى بعض الروايات وفي بعض الروايات قالت له يا أخى انك نجس على شركك فانه لا يمسه الا المطهرون وقولها لا تغتسل من الجنابة ربما يخالف قول بعضهم ان أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة وكون عمر كان يخالفهم فى ذلك من البعيد وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتد به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفى لفظ قالت له انا نخشاك عليها قال لا تخافى وحلف لها بالهته ليردنها اذا قرأها فدفعتها له أى وطمعت فى اسلامه فاذا فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } قال فلما مررت على { بسم الله الرحمن الرحيم } ذعرت أى فزعت ورميت الصحيفة من يدى ثم رجعت الى نفسى فأخذتها فاذا فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكلما مررت باسم من أسمائه عزوجل ذعرت أى فألقيها ثم ترجع الى نفسى
____________________

فاخذها حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله } الى قوله تعالى { إن كنتم مؤمنين } فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى وحمدوا الله عزوجل ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أعز الاسلام وفى لفظ أيد الاسلام بأحد الرجلين اما بأبي جهل بن هشام واما بعمر بن الخطاب أى وفى لفظ بأحب هذين الرجلين اليك أبى الحكم عمرو بن هشام يعنى أبا جهل وعمر بن الخطاب أى وفى غير ما رواية بعمر ابن الخطاب من غير ذكر أبى جهل
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت انما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أعز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر فليتأمل وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس قال عمر رضى الله تعالى عنه فلما عرفوا منى الصدق قلت لهم أخبرونى بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا هو فى بيت بأسفل الصفا ووصفوه أى وهى دار الارقم فخرجت وفى رواية أن عمر قال ياخباب انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر لما قرعت الباب قيل من هذا قلت ابن الخطاب فما اجترأ أحد أن يفتح لى الباب لما عرفوه من شدتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا اسلامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فان يرد الله به خيرا يهده وفى لفظ يهديه باثبات الياء وهى لغة ففتحوا لى أى والذى أذن فى دخوله حمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فان اسلام عمر كان بعد اسلام حمزة بثلاثة أيام وقيل بثلاثة أشهر وكان اسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة قال وأخذ رجلان بعضدى حى دنوت من النبى صلى الله عليه وسلم فقال أرسلوه فارسلونى فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فاخذ بمجامع قميصى فجذبني اليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكة
أى وفى الاوسط للطبرانى ورواه الحاكم باسناد حسن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم
____________________

أخرج ما فى صدر عمر من غل وأبدله ايمانا أى ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه والا لبشرا باسلام عمر
وفى رواية لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فراه متوشحا سيفه أى ولم ير معه خبابا ولا سعيدا فرجع الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه نعوذ بالله من شره فقال حمزه بن عبدالمطلب فائذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلنا له وان كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
وفى لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ان جاء بخير قبلناه وان جاء بشر قتلناه وفى لفظ ان يرد بعمر خير يسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى صحن الدار فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال ما جاء بك يا بان الخطاب فو الله ما أدرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة وفى لفظ أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منته ياعمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة أى أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فقال يارسول الله جئت لأومن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله وفى رواية ( أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره عرفت وفى رواية سمعها أهل المسجد
وفى رواية لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب فقال بلال من هذا فقال عمر بن الخطاب فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله عمر بالباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرد الله به خيرا أدخله فى الدين فقال لبلال افتح له وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه
وفى رواية أخذ ساعده وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس وفى لفظ أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم الله اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب ما الذى تريد وما الذى جئت له فقال عمر اعرض على الذى تدعو اليه
____________________

فقال تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من اسلامه واتيانه بالشهادتين فى بيت اخته قبل خروجه اليه صلى الله عليه وسلم وقوله ولم يعلموا اسلامى لانه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لاظهر ايمانى عندك وعند أصحابك وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم يا ابن الخطاب الى اخره وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم اعرض على الذى تدعو اليه يجوز أن يكون عمر جوز أن الذى يدعو اليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين والله أعلم قال عمر وأحببت أن يظهر اسلامى وأن يصيبنى ما يصيب من أسلم من الضرر والاهانة فذهبت الى خالى وكان شريفا فى قريش وأعلمته أنى صبوت أى وهو أبو جهل
وقد جاء فى بعض الروايات قال عمر لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى اتيه فأخبره أنى قد أسلمت فذكرت أبا جهل فجئت له فدققت عليه الباب فقال من بالباب قلت عمر بن الخطاب فخرج الى فقال مرحبا وأهلا يا ابن أختى ما جاء بك قلت جئت لاخبرك وفى لفظ لابشرك ببشارة فقال أبو جهل وما هى يا ابن أختى فقلت انى قد امنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدقت ما جاء به فضرب الباب فى وجهى أى أغلقه وهو بمعنى أجاف الباب كما فى بعض الروايات وقال قبحك الله وقبح ما جئت به أى وانما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قيل لان أم عمر أخت أبى جهل وقيل لان أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبى جهل فأبو جهل خال أم عمر وقيل ان أم عمر بنت عم أبى جهل وصححه ابن عبد البر وعصبة الام أخوال الابن قال عمر وجئت رجلا اخر من عظماء قريش وأعلمته أنى صبوت فم يصبنى منها شىء فقال لى رجل تحب أن يعلم اسلامك قلت نعم قال اذا جلس الناس يعنى قريشا فى الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضى الله عنه أسلم يوم الفتح وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حنينا وكان يسمى ذا القلبين وفيه نزلت { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ومات فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وحزن عليه عمر حزنا شديدا فقل له فيما بينك وبينه اني قد صبوت قال فلما اجتمعت الناس فى الحجر جئت الرجل فدنوت منه واخبرته فرفع صوته بأعلاه فقال
____________________

الا ان عمر بن الخطاب قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقام خالى يعنى أباجهل على الحجر فأشار بكمه وقال ألا انى أجرت ابن اختى فانكشف الناس عنى فصرت أى بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب فقلت ما هذا بشىء حتى يصيبنى ما يصيب المسلمين فأمهلت حتى جلس الناس فى الحجر وصلت الى خالى وقلت له جوارك عليك رد فقال لا تفعل يا ابن أختى فقلت بل هو ذاك فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام
أى وفى السيرة الهشامية بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم اذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليه أى وهو العاص بن وائل فقال ويلكم ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بنى عدى بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه
أى وفى البخارى لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر فبينما عمر في داره خائفا اذ جاءه العاص بن وائل فقال له مالك قال زعم قومك أنهم سيقتلونى ان أسلمت أى اذ أسلمت قال أمنت لا سبيل اليك فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادى فقال أين تريدون فقالوا نريد هذا عمر بن الخطاب الذى صبأ قال لا سبيل اليه فأنا له جار فكسر الناس وتصدعوا عنه أى ويذكر أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فالقاه عمر الى الارض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه فجعل عتبة يصيح وصار لا يدنو منه أحد الا أخذ بشرا سيفه وهى أطراف أضلاعه
وعن عمر رضى الله تعالى عنه فى سبب اسلامه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح بسورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القران فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } قال قلت كاهن علم ما فى نفسى فقرأ { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } الى اخر السورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع
أى ومن ذلك ما فى السيرة الهشامية عن عمر رضى الله تعالى عنه قال جئت المسجد
____________________

أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وكان اذا صلى استقبل الشام أى صخرة بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين الشام فكان مصلاه بين الركن الاسود والركن اليمانى أى لانه لايكون مستقبلا لبيت المقدس الا حينئذ كما تقدم قال فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول قال فقلت لئن دنوت منه أستمع لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعنى الكعبة فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه الا ثياب الكعبة فلما سمعت القران رق له قلبى فبكيت ودخلنى الاسلام فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسى عرفنى وظن أنما تبعته لاوذيه فنهمنى أى زجرني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله وفى رواية ضرب أختى المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت فى أستار الكعبة فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ماشاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا قلت عمر قال ياعمر ماتدعنى لا ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو على فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فقال يا عمر أتسره قلت لا والذى بعثك بالحق لاعلننه كما أعلنت الشرك فحمد الله تعالى ثم قال هداك الله يا عمر ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته
أى ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمى قال ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل اسلامه هذا كلامه ليتأمل مافيه
قال ومن ذلك أى مما كان سببا لاسلام عمر أن أبا جهل بن هشام قال يا مشعر قريش ان محمدا قد شتم الهتكم وسفه أحلامكم وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون فى النار ألا ومن قتل محمدا فله على مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة أى وفى لفظ جعلوا لم يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب وكذا كذا أوقية من الفضة وكذا كذا نافجة من المسك وكذا كذا ثوبا وغير ذلك فقال عمر أنا لها فقالوا له أنت لها ياعمر وتعاهد معهم على ذلك قال عمر فخرجت متقلدا سيفى متنكبا كنانتى
____________________

أى جعلتها فى منكبى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل يذبح فسمعت من جوفه صوتا يقول يا ال ذريح صائح يصيح بلسان فصيح يدعو الى شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فقلت فى نفسى ان هذا الامر لا يراد به الا أنت وذريح اسم للعجل المذبوح وقيل له ذلك من أجل الدم لان الذريح شديد الحمرة يقال أحمر ذريحى أى شديد الحمرة ثم مر برجل أسلم وكان يكتم اسلامه خوفا من قومه يقال له نعيم أى ابن عبدالله النحام كما تقدم فقال له أين تذهب يا ابن الخطاب فقال أريد هذا الصابى الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وسب الهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبدمناف تاركيك تمشى على وجه الارض وقد قتلت محمدا فلا ترجع الى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتى قال ختنك أى زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك وانما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الذى لقيه سعد بن أبى وقاص فقال له أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال له أنت أصغر وأحقر من ذلك تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبدمناف أن تمشى على الارض فقال له عمر ما أراك الا وقد صبأت فأبدأ بك فاقتلك فقال سعد أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فسل عمر سيفه وسل سعد سيفه وشد كل منهما على الاخر حتى كاد أن يختلطا ثم قال سعد لعمر مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك فقال صبا قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل أخته أى ولا مانع أن يكون لقى كلا من نعيم وسعد بن أبى وقاس وقال له كل منهما ماذكر
وفى هذه الرواية وجد عندهم خباب بن الارت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم وانه دق عليهم الباب فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب أى وترك الصحيفة فلما دخل قال لاخته ما هذه الهينمة التى سمعت قالت له ماسمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما يخاطب أخته وزوجها بايعتما محمدا على دينه وبطش بزوج أخته فألقاه الى الارض وجلس على صدره وأخذ بلحيته فقامت اليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها أى فلما رأت الدم قالت له ياعدو الله أتضربنى على أن أوحد الله تعالى لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لاخته أعطنى هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذى جاء
____________________

به محمد وكان عمر كاتبا قالت أخشاك عليها فحلف ليردنها اذا قرأها اليها فقالت له يا أخى أنت نجس ولا يمسه الا الطاهر فقام واغتسل أى وفى لفظ فذهب يغتسل فخرج اليها خباب وقال أتدفعين كتاب الله تعالى الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو أن يهدى الله أخى ورجع خباب الى محله ودخل عمر فأعطته تلك الصحيفة فلما قرأها عمر وبلغ { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } قال أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أه أى وفى رواية أنه لما قرأ الصحيفة قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه أى وقيل انه لما انتهى الى قوله تعالى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } قال ينبغى لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره فلما سمع ذلك خباب خرج اليه فقال يا عمر انى لارجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فانى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك دلنى يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم أى عنده وعند أصحابه فلا ينافى ما فى الرواية الاولى أنه أسلم فقال له خباب هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فعمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
أقول ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وباخته ما ذكر وأنه فى الرواية الاولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت واحدة فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض } والثانية فيها طه اقتصر فى الرواية الاولى على احداهما وهى التى فيها { سبح لله } وفى الرواية الثانية على الاخرى التى فيها { طه } وانه في الرواية الاولى أسلم وفى الرواية الثانية سكت عن ذلك والله أعلم
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه قال المشركون لقد انتصف القوم منا
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد استبشر أهل السماء باسلام عمر
قال وروى البخارى عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مازلنا أعزة منذ أسلم
____________________

عمر اه وزاد بعضهم عن ابن مسعود والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالكعبة أى عندها ظاهرين امنين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا أى وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرءون الا سرا كما تقدم وعن صهيب لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا
وفى كلام ابن الاثير مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا فى دار الارقم ومن معه من المسلمين الى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب وعند ذلك خرجوا وتقدم ما فى ذلك
ومما يؤثر عن عمر رضى الله تعالى عنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه السيد هو الجواد حين يسأل الحليم حين يستجهل أشقى الولاة من شقيت به رعيته أعدل الناس أعذرهم للناس
وفى مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمى أن عمر أول من قال أطال الله تعالى بقاءك وأيدك الله قال ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو أول من استقضى القضاة فى الامصار
ويروى أن الارقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلى فى بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له ما يخرجك أى من المدينة حاجة أم تجارة قال لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى ولكن أريد الصلاة فى بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام فجلس الارقم ولم يذهب لبيت المقدس
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص فلما مات كان سعد بالعقيق فقال مروان يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد وصلى على الارقم
أى وقيل لعمر رضى الله عنه ما سبب تسمية النبى صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على
____________________

الحق ان متنا وان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم فقلت ففيم الاختفاء والذى بعثك بالحق ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر الا أظهرت فيه الاسلام غير هائب ولا خائف والذى بعثك بالحق لنخرجن فخرجنا فى صفين حمزة فى أحدهما وأنا فى الاخر له أى لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أى لذلك الجمع غبار ثائر من الارض لشدة وطء الاقدام لان الكديد التراب الناعم اذا وطىء ثار غباره قال حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش الى والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها أى فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه الى دار الارقم فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق فرق الله بى بين الحق والباطل
أى وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الاخر لهم كديد ككديد الطحين
وفى رواية أن عمر رضى الله تعالى عنه قال له يارسول الله لا ينبغى أن تكتم هذا الدين أظهر دينك وفى رواية والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيفه يناى لا اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعا لقريش كل من تحرك منكم لامكنن سيفى منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرءوا القران جهرا وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن
وفى المنتقى على ما نقله بعضهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنهما حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دار الارقم
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ الا أن يقال المزاد بصلاة الظهر الصلاة التى وقعت فى ذلك الوقت أى ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما فى وقت الظهر
وعن عمر رضى الله عنه وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول الله
____________________

ان نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت أى وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم يا عمر أما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ومنع رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على عبدالله بن أبى بن سلول
وفى البخارئ لما توفى عبدالله بن أبى جاء ولده عبدالله رضى الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه وهذا لا يخالف مافى تفسير القاضى البيضاوى من أن ابن أبى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذى يلى جسده الشريف ويصلى عليه فلما ما أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه لانه يجوز أن يكون ارساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه
قال فى الكشاف فان قلت كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه فى قميصه
قلت كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكا رجلا طوالا فكساه عبدالله قميصه أى ولأن الضنة بارساله القميص سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم وقال له المشركون يوم الحديبية انا لانأذن لمحمد ولكن نأذن لك فقال لا ان لى فى رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك واكراما لابنه
وفى هذا تصريح بأن ابن أبى كان مع المسلمين فى بدر وفى الحديبية ثم ان ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقال له أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الاعداء أى وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما تقدم عن القاضى البيضاوى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فقام عمر رضى الله تعالى عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خيرت فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين وفى رواية أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعد عليه
____________________

قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى ياعمر فلما أكثرت عليه قال انى خيرت لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الى قوله { وهم فاسقون } ولينظر ما معنى التخيير فى الاية وما الجمع بين قوله سازيد علة السبعين وقوله ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى وجه التخيير وقوله سأزيد على السبعين انه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لانه الاصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أى الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله فى الاية الاخرى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فان هذا مقتض لعدم الصلاة عليه لا للصلاة عليه فليتأمل وقد قال على رضى الله تعالى عنه ان فى القران لقرانا من رأى عمر وما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر الا جاء القران بنحو ما يقول عمر
وقد أوصل بعضهم موافقاته أى الذى نزل القران على وفق ما قال وما أراد الى أكثر من عشرين أى وقد أفردها بعضهم بالتأليف وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما
قال عبدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر الا نزل القران على نحو ما قال عمر
وعن مجاهد كان عمر يرى الرأى فينزل به القران وقد قال صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن موافقاته ما سيأتى فى أسارى بدر
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت كذلك
ومنها أن بعض اليهود قال له ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا فقال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } فنزلت كذلك واستأذن رضى الله تعالى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال يا أخى
____________________

لا تنسنا من دعائك أى وفى رواية يا أخى أشركنا فى صالح دعائك ولا تنسنا قال عمر ما أحب أن لى بقوله يا أخى ما طلعت عليه الشمس وجاء أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه وجاء ان الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وجاء لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب وممن نزل القران على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضى الله تعالى عنه كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل فصار يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فنزلت = باب اجتماع المشركين على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب ابنى عبدمناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا وقالوا لقومه خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم فأبى قومه فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب واخراجهم من مكة الى شعب أبى طالب
فيه تصريح بأن شعب أبى طالب كان خارجا عن مكة والتضييق عليهم بمنع حضور الاسواق وأن لا يناكحوهم وأن لايقبلوا لهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل أى وفى لفظ لا تنكحوهم ولا تنكحوا اليهم ولا تبيعوهم شيئا ولا تبتاعوا منهم شيئا ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة أى توكيدا على أنفسهم وقيل كانت عند خالة أبى جهل
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق فى الكعبة على أنه سيأتى أنه يجوز أن الصحيفة تعددت وكان اجتماعهم وتخالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلى مكى عند المقابر فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب الا أبا لهب فانه ظاهر عليهم قريشا وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة وفى الصحيح أنهم فى الشعب جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر
وفى كلام السهيلى كانوا اذا قدمت العير مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من
____________________

الطعام يقتاته فيقوم أبو لهب فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم فقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس فى يده شىء يعللهم به فيغدو التجار على أبى لهب فيربحهم هذا كلامه
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق اذا جاءت العير بالميرة الى مكة وكونهم منعوا من الاسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا الى الحبشة
أقول وفى رواية أن خروج بنى هاشم وبنى المطلب الى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم وانما خرجوا اليه لان قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشى خائبا وردت معه هديتهم وفقد صاحبه الذى هو عمارة بن الوليد وبلغهم اكرام النجاشى لجعفر ومن معه من المسلمين أى كما سيأتى وظهور الاسلام فى القبائل كبر ذلك عليهم واشتد أذاهم على المسلمين واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بنى هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب ويمنعوه ففعلوا فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا لم يفترقوا حتى دخلوا معهم فى الشعب وانخزل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير اجل **
وقال فى قصيدة أخرئ ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما **
فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم الحديث
وفيه أنه سيأتى أن خروج عمرو بن العاص الى الحبشة انما كان بعد الهجرة الثانية وهى بعد دخول بنى هاشم والمطلب الى الشعب والله أعلم
____________________

= باب الهجرة الثانية الى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ماذكر انطلق الى الحبشة عامة من امن بالله ورسوله أى غالبهم فكانوا عند النجاشى ثلاثة وثمانين رجلا وثمانى عشرة امراة وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم وقد اختلف فى ذلك وكلام الاصل يميل الى ذلك وكان من الرجال جعفر ابن ابى طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس والمقداد بن الاسود وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان فتنصر هناك ثم مات على النصرانية أى وبقيت أم حبيبة رضى الله تعالى عنها على اسلامها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سياتى
وعن أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت رأيت فى المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجى بأسواء حال وتغيرت صورته فاذا هو يقول حين أصبح يا أم حبيبة انى نظرت فى هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية وقد كنت دنت بها ثم دخلت فى دين محمد ثم خرجت الى دين النصرانية قالت فقلت والله ماخير لك وأخبرته بما رأيته له لم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات فرأيت فى المنام كأن اتيا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى فكان كذلك
أى وذكر ابن اسحاق ان أبا موسى الاشعرى هاجر الى الحبشة ومراده أنه هاجر اليها من اليمن لامن مكة كما فهم الواقدى فاعترض عليه في ذلك فعن أبى موسى أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن فخرج هو ونحو خمسين رجلا فى سفينة مهاجرين اليه صلى الله عليه وسلم فألقتهم السفينة الى النجاشى بالحبشة فوجدوا جعفرا وأصحابه فأمرهم جعفر بالاقامة واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتى
وبهذا يندفع قول بعضهم ما ذكره ابن اسحق من أن أبا موسى الاشعرى هاجر من مكة الى الحبشة من الغريب جدا ولعله مدرج من بعض الرواة فأقاموا بخير دار عند خير جار فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التى أرادت قريش دفعه لابى طالب ليكون بدلا عن النبى صلى الله عليه وسلم اذا قتلوه بهدية
____________________

الى النجاشى والهدية فرس وجبة ديياج أى وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء اليه من المسلمين فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد عن يمينه والاخر عن شماله
وفى كلام بعضهم فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما فقالا ان نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن الهتنا أى ولم يدخلوا فى دينكم بل جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم اليهم قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل فى طلبهم أى وقال له عظماء الحبشة ادفعهم اليهما فهما أعرف بحالهم فقال لا والله حتى أعلم على أى شىء هم فقال عمرو هم لا يسجدون للملك أى وفى لفظ لايخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس اذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم فلما جاءوا قال لهم جعفر رضى الله تعالى عنه أنا خطيبكم اليوم أى فانه لما جاءهم رسول النجاشى يطلبهم اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه قال جعفر ما ذكر وقال انما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع يكون ما يكون وقد كان النجاشى دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر وقال جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله فقال النجاشى نعم يدخل بأمان الله وذمته فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم فقال له الملك مالك لا تسجد
وفى لفظ ان عمرا قال لعمارة ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به وان عمرا قال للنجاشى ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك فقال النجاشى ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيونى بتحيتى التى أحيى بها فقال جعفر انا لا نسجد الا لله عزوجل قال ولم ذلك قال لان الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد الا لله عز وجل وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذى يحيى به بعضنا بعضا أى وعرف النجاشى ذلك لانه كذلك فى الانجيل كما قيل أى وأمرنا بالصلاة أى غير الخمس لانها لم تكن فرضت بل التى هى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى أى ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها على ما تقدم والزكاة أى مطلق الصدقة لازكاة المال لانها انما فرضت بالمدينة أى فى السنة الثانية ومراده بالزكاة الطهارة قال عمرو بن العاص للنجاشى فانهم يخالفونك فى ابن مريم ولا يقولون انه ابن الله عز وجل وعلا قال فما تقولون فى ابن مريم وأمه قال نقول كما قال الله عز وجل
____________________

روح الله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء أى البكر البتول أى المنقطعة عن الازواج التى لم يمسها بشر ولم يفرضها أى يشقها ويخرج منها ولد أى غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فقال النجاشى يامعشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى فى الانجيل أى ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخه روح القدس الذى هو جبريل ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان أى حصل فى حال القول
وفى لفظ أن النجاشى قال لمن عنده من القسيسين والرهبان أنشدكم الله الذى أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا أى صفته ما ذكر هؤلاء فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال من امن به فقد امن بى ومن كفر به فقد كفر بى فعند ذلك قال النجاشى والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعله وأوضئه أى أغسل يديه وقال للمسلمين انزلوا حيث شئتم سيوم بأرضى أى امنون بها وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر الى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصانى
وفى لفظ ثم قال اذهبوا فأنتم امنون من سبكم غرم قالها ثلاثا أى أربع دراهم وضعفها كما جاء فى بعض الروايات وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما
وفى لفظ أن النجاشى قال ما أحب أن يكون لى ديرا من ذهب أى جبلا وأن أوذى رجلا منكم ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله تعالى منى الرشوة حين رد على ملكى فاخذ الرشوة وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه
وكان النجاشى أعلم النصارى بما أنزل على عيسى وكان قيصر يرسل اليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم
أى وقد بينت عائشة رضى الله تعالى عنها السبب فى قول النجاشى ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى وهو أن والد النجاشى كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذى هو عم النجاشى فنشأ النجاشى فى حجر عمه لبيبا حازما وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك فلما رأت الحبشة نجابة النجاشى خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لابيه فمشوا لعمه فى قتله فأبى وأخرجه وباعه ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات فلما رأت الحبشة أن لا يصلح امرها الا النجاشى ذهبوا
____________________

وجاءوا به من عند الذي اشتراه وعقدوا له التاج وملكوه عليهم فسار فيهم سيرة حسنة
وفى رواية ما يقتضى أن الذى اشتراه رجل من العرب وأنه ذهب به الى بلاده ومكث عنده مدة ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ماهم فيه خرجوا فى طلبه وأتوا به من عند سيده ويدل لذلك ما سيأتى عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه فاذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك انا نجد فى الانجيل أن الله سبحانه وتعالى اذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وان الله تعالى قد أحدث الينا واليكم نعمة عظيمة هى أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الاراك كنت أرعى فيه الغنم لسيدى وهو من بنى ضمرة وان الله تعالى قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه
وذكر السهيلى أن بكاءه عند ما تليت عليه سورة مريم أى كما سيأتى حتى أخضل لحيته يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب مافهم به تلك السورة
قال وعن جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية أى هيئوا له هدية ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج لانه يجوز أن يكون بعض الادم ضم الى تلك الفرس والجبة للملك وبقية الادم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده والاقتصار على الفرس والجبة فى الرواية السابقة لان ذلك خاص بالملك ثم بعثوا عمارة بن الويد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشى أن يسلمنا لهم أى قبل أن يكلمنا وحسن له بطارقته ذلك لانهما لما أوصلا هداياهم اليهم قالوا لهم اذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم أى موافقة لما وصت عليه قريش فقد ذكر أنهم قالوا لهما ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشى فيهم ثم قدما للنجاشى هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم فلما جاءا الى الملك
____________________

قالا له أيها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت أى جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا الا السفهاء وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم اليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم الى بلادهم وقومهم فغضب النجاشى وقال لا ها الله أى لا والله لا أسلمهم ولا يكاد قوم يجاورونى ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فان كان كما يقولان سلمتهم اليهما والا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى ثم أرسل لنا ودعانا فلما دخلنا سلمنا فقال من حضره مالكم لا تسجدون للملك قلنا لانسجد الا لله عز وجل فقال النجاشى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى دينى ولا فى دين أحد من الملل فقلنا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار ويأكل القوى الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل الى من قبلنا وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع أى نترك ما كان يعبد اباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده وأمرنا بالصلاة أى ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والزكاة أى مطلق الصدقة والصيام أى ثلاثة أيام من كل شهر أى وهى البيض أو أى ثلاثة على الخلاف فى ذلك وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء أى ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا ليردونا الى عبادة الاصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورجوناك أن لانظلم عندك يا أيها الملك فقال النجاشى لجعفر هل عندك مما جاء به شىء قلت نعم قال فقرأه على فقرأت عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشى حتى أخضل أى بل لحيته وبكت أساقفته وفى لفظ هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شىء فقال جعفر نعم قال فاقرأه على قال البغوى فقرأ عليه سورة
____________________

العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشى هذا والله الذى جاء به موسى أى وفى رواية ان هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة أى وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى وفى رواية بدل موسى عيسى ويؤيده ما فى لفظ أنه قال ما زاد هذا على ما فى الانجيل الا هذا العود لعود كان فى يده أخذه من الارض
وفى لفظ أن جعفرا قال للنجاشى سلهما أعبيد نحن أم أحرار فان كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا اليهم فقال عمروا بل أحرار فقال جعفر سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه فقال عمروا لا فقال النجاشى لعمرو وعمارة هل لكما عليهما دين قالا لا قال انطلقا فو الله لا أسلمهم اليكما أبدا زاد فى رواية ولو أعطيتمونى ديرا من ذهب أى جبلا من ذهب ثم غدا عمرو الى النجاشى أى أتى اليه فى غد ذلك اليوم وقال له انهم يقولون فى عيسى قولا عظيما أى يقولون انه عبد الله أى وانه ليس ابن الله
أى وفى لفظ أن عمرا قال للنجاشى أيها الملك انهم يشتمون عيسى وأمه فى كتابهم فاسألهم فذكر له جعفر ما تقدم فى الرواية الاولى
هذا وعن عروة بن الزبير انما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان وهو حصر عجيب فليتأمل
وروى الطبرانى عن أبى موسى الاشعرى بسند فيه رجال الصحيح أن عمرو ابن العاص مكر بعمارة بن الوليد أى للعداوة التى وقعت بينه وبينه فى سفرهما أى من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكا قصيرا دميما وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته فنزل هو واياه فى السفينة فقال له عمارة مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحى فأخذ عمارة عمرا ورمى به فى البحر فجعل عمرو يصيح وينادى أصحاب السفينة ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته قبلى ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو فقال أنت رجل جميل والنساءيحببن الجمال فتعرض لزوجه النجاشى لعلها أن تشفع لنا عنده ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت اليه
____________________

من عطرها أى ودخل عندها فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشى وأخبره بذلك أى فقال له ان صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك وهو عندها الان فاعلم علم ذلك فبعث النجاشى فاذا عمارة عند امرأته فقال لولا أنه جارى لقتلته ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل فدعا بساحر فنفخ فى احليله نفخة طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش فى الجبال الى أن مات على تلك الحال اه
أى ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد ** اذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما ** ** قضى وطرا منه وغادر سبة ** اذا ذكرت أمثالها تملا الفما ** ولا زال عمارة مع الوحوش الى أن كان موته فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وان بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبى ربيعة فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قد استأذنه فى المسير اليه لعله يجده فأذن له عمر رضى الله تعالى عنه فسار عبدالله الى أرض الحبشة وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه فى جبل يرد مع الوحوش اذا وردت ويصدر معها اذا صدرت فجاء اليه ومسكه فجعل يقول له أرسلنى والا أموت الساعة فلم يرسله فمات من ساعته وسيأتى بد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشى عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبى ربيعة
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وأبوه ربيعة الذى هو أبو عبدالله كان يقال له ذو الرمحين وأم عبدالله هى أم أبى جهل بن هشام فهو أخو أبى جهل لامه أرسلوهما اليه ليدفع لها من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن ارسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبى ربيعة ومعهما عمارة بن الويد في الهجرة الاولى للحبشة وانما كان عمرو وعمارة فى الهجرة الثانية وابن أبى ربيعة انما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت وان كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبى ربيعة أرسلته قريش مرتين الا أنه بعيد
ويرده قول بعضهم ان قريشا أرسلت فى أمر من هاجر الى الحبشة مرتين الاولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة فليتأمل
____________________

ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين فى أشد ما يكون من البلاء وضيق العيش وولد عبدالله بن عباس فى الشعب فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقالوا انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة أى من شلل يده كما تقدم وصار لا يقدر أحد أن يوصل اليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهى معه فى الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام الى بنى هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فقال له أبو البخترى بن هشام مالك وماله فقال أبو جهل انما يحمل الطعام لبنى هاشم فقال أبو البحترى طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البحترى لحى بعير أى العظم الذى تنبت عليه الاسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وأبو البحترى بالحاء المهملة وفى مختصر أسد الغابة بالخاء المعجمة ممن قتل ببدر كافرا وحتى ان هاشم بن عمرو بن الحارث العامرى رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أدخل عليهم فى ليلة ثلاثة أجمال طعاما فعلمت بذلك قريش فمشوا اليه حين أصبح وكلموه فى ذلك فقال انى غير عائد لشىء خالفكم ثم أدخل عليه ثانيا جملا وقيل جملين فعلمت به قريش فغالظته أى أغلظت له القول وهمت به فقال أبو سفيان بن حرب دعوه وصل رحمه أما انى أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا وكان أبو طالب فى كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى فراشه ويضطجع به فاذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أى من اخوته أو بنى عمه ان يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء أى وفى الشعب ولد عبدالله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الارضة أى وهى سوسة تأكل الخشب اذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما وهى التى دلت الجن على موت سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما فى الصحيفة من ميثاق وعهد أى الالفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم ولم تدع فيها اسما لله تعالى الا أثبتته فيها وفى رواية ولم تترك الارضة فى الصحيفة اسما لله عز وجل الا لحسته وبقى ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم أى والرواية الاولى أثبت من الثانية
قال وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الارضة من بعض النسخ اسم
____________________

الله تعالى وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى أى والتى علقت فى الكعبة هى التى لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى كما يدل عليه ما يأتى فذكر ذلك لعمه أبة طالب فقال له عمه والثواقب أى النجوم لانها تثقب الشياطين وقيل التى تضىء لانها تثقب الظلام بضوئها وقيل الثريا خاصة لانها أشد النجوم ضوءا ما كذبتنى قط أى ما حدثتنى كذبا وفى رواية أنه قال له أربك أخبرك بهذا الخبر قال نعم فانطلق فى عصابة أى جماعة من قومه أى من بنى هاشم وبنى المطلب
أى وفى رواية أن أبا طالب لما ذكر لاهله قالوا له فما ترى قال أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا الى قريش فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل فتكلم معهم أبو طالب وقال جرت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح أى مخرج يكون سببا للصلح وانما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن ياتوا بها أى فلا يأتون بها فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع اليهم أى لانه الذى وقعت عليه العهود والمواثيق فوضعوها بينهم وقالوا لابى طالب أى توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم فقال أبو طالب انما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم ان ابن أخى أخبرنى أن هذه الصحيفة التى فى أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى الا لحستة وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم
أقول هذه على الرواية الثانية وأما على الرواية الاولى التى هى أثبت فيكون قوله لم تترك اسما الا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم
ثم رأيت ابن الجوزى ذكر ذلك فقال ان أبا طالب قال ان ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الارضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى فيها كل ما ذكر به الله تعالى
وفى الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة ان صحيفتكم هذه صحيفة اثم وقطيعة
____________________

رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله
____________________

** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال
____________________

من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم
____________________

حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي
____________________

= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد
____________________

ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك
____________________

يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم
____________________

قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________

عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم
____________________

إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك
____________________

وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا
____________________

ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى
____________________

أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة
____________________

الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان
____________________

وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك
____________________

ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه
____________________

على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما
____________________

عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________

من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
____________________

وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم
____________________

فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى
____________________

قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن
____________________

المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا
____________________

يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة
____________________

ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى
____________________

ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى
____________________

عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله
____________________

فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب
____________________

عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج7.السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون علي بن برهان الدين الحلبي سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044.

  7. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون علي بن برهان الدين الحلبي سنة الولادة 975/ سنة الوفاة 1044 . وفي زمن خلافة عمر رضي الله...